المقدمة

 

إنّ ما يجري الآن في حوزاتنا العلمية من البحث عن دور الزمان والمكان في الاجتهاد يمثـّل نهضة علمية تتعطش إلى إثبات: أنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وأنـّه يبقى ثابتاً لا تحرّكه تيّارات الشكوك ولا تعجزه الظواهر المعقّدة في الحياة البشريّة ولا تخضعه تقلّبات قضايا المجتمع الإنساني.

 

والّذي شقّ الطّريق لهذه النهضة العلمية المباركة هو الإمام الخميني(قدس سره) إذ قام في هذا المجال بتأسيس نظريّة علميّة؛ هي أنّ موضوع الحكم يتغير بتبدل الزمان والمكان، وهذه النظريّة تتـّسم بالسّمات التالية:

 

أولا: إن للنظريّة جذوراً تكمن في مدرسة أهل البيت(ع).

 

ثانياً: إنّ النظريّة تبتنى على دعائم تستقرّ في أعماق الفكر الأصولي لدى الإماميّة.

 

ثالثاً: إنّ النظريّة تعتبر بحقّ مفتاح العلاج العلمي لما يستجدّ من القضايا في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

 

ولذلك ارتأينا في هذا المقال أن نتصدى لتحليل هذه النظرية واستعراض بعض الجوانب العلمية المتعلقة بها، والّتي يتم في ضوئها تبيين سمات النظرية وإثبات صحتها.

 

ونودّ القول: بأنـّا نستقبل برحابة صدر كل نقد بناء حول ما سنذكره لإثبات النظريّة، إذ نؤمن بأن هذه المسألة حساسة إلى درجة يتطلـّب من الباحثين أن يعمّقوا دراساتهم حولها أكثر فأكثر. ونبدأ بذكر كلام الإمام الخميني(قدس سره) في تأسيس النظرية.

 

قال الإمام الخميني(قده سره):

 

إنّ لعنصري الزمان والمكان دوراً حاسماً في الاجتهاد؛ فالمسألة الّتي كان لها سابقاً حكم خاص يصبح لها حكم جديد فيما لو وقع في ظلّ مجموعة من العلاقات الحاكمة على السياسة والاجتماع والاقتصاد في نظام ما، بمعنى أنـّه بالمعرفة الدقيقة بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يعلم أنّ الموضوع الحالي – الّذي يبدو وكأنـّه لا يختلف عن الموضوع الأوّل – هو موضوع آخر، وتبعا لذلك فهو يتطلب حكماً جديداً(1).

 

تحليل النظرية

 

يتم تحليلنا لهذه النظريّة من خلال استعراض بعض النقاط:

 

النقطة الأولى: موقف النظريّة إزاء المنهج الاجتهادي:

 

المقصود من هذا البحث هو أن نرى موقف هذه النظريّة إزاء المنهج الاجتهادي السائد في الحوزات العلمية.

 

ويتم تحديد هذا الموقف من خلال عدة مطالب:

 

1ـ أنواع المواقف إزاء المنهج الاجتهادي:

 

كل حركة تدعو إلى التجديد لا يخرج موقفها إزاء المنهج الاجتهادي الّذي يسود الآن في الحوزات العلمية عن صور ثلاث:

 

الصورة الأولى: أن ترفض المنهج الاجتهادي وتقترح إحلال منهج جديد مكانه.

 

الصورة الثانية: أن تدعو إلى عقد تركيب بين المنهج الاجتهادي وبين منهج جديد يحدّد إطاره العلم والتجربة البشرية.

 

الصورة الثالثة: أن تقوم بتوسعة وتطوير المنهج الاجتهادي بـإضافة قاعدة أو قواعد إليه تتناسق مع أسس المنهج وأطره.

 

إن الصورة الثانية (أي الّتي يتم فيها عقد تركيب بين القديم والجديد) تشترك مع كل من الصورة الأولى والصورة الثالثة في موارد، كما تختلف عن كل منهما في موارد أخرى.

 

موارد الاشتراك أو الافتراق بين الصورة الثانية والأولى:

 

أـ تشترك الصورتان في الاشتمال على عنصر رفض المنهج الاجتهادي، غير أنّ الرفض في الصورة الأولى يتم بصورة كاملة، كالمنهج الّذي تبنـّاه بعض المستغربين أو الذين ليس لهم فهم فقهي في إيران. بينما يتم الرفض في الصورة الثانية بالنسبة إلى عناصر خاصّة من المنهج الاجتهادي، أو إلى قيود يتقيّد بها عنصر خاص من هذا المنهج.

 

ولا يتم هذا الرفض في الصورة الثانية إلا كنتيجة تستدعيها عملية التلفيق بين القديم والجديد؛ وكمثال على الرفض الّذي يتم في الصورة الثانية ما اقترحه أحد الكتاب من أن نوسّع دائرة الإجماع (الّذي يعدّ عنصراً من عناصر المنهج الاجتهادي) بصورة تجعله ينطبق على التصويت الّذي يتمّ من قبل عامة الناس، حتى يصبح هذا الإجماع مصدراً في مجال السياسة والحكومة لإنشاء الحكم الّذي يجب أن ينـزل عليه كل المسلمين(2).

 

ب – تشترك الصورتان (أي الأولى والثانية) في ادعاء تبنّي لزوم الرجوع إلى العلم والتجربة لتأسيس منهج جديد، غير أنّ هذا المنهج يكون في الصورة الثانية تركيباً من المنهج السابق وما يضاف إليه كمنهج جديد.

 

موارد الاشتراك والافتراق بين الصورة الثانية والثالثة:

 

أ ـ تتبنّى الصورتان (أي الثانية والثالثة) عدم كفاية الاجتهاد الدارج لدى الحوزات العلميّة.

 

ب – تتبنّى الصورتان لزوم إضافة شيء إلى المنهج الاجتهادي ليتدارك به بعض ما فقده هذا المنهج في مواجهة بعض الأحداث، غير أنّ الصورة الثانية تدعو إلى أن يكون ما يضاف إليه عناصر تتكوّن على ضوء العلم والتجربة، بينما تدعو الصورة الثالثة إلى أن يكون ما يضاف إلى المنهج الاجتهادي مأخوذاً من نفس الأسس والمواد التي أخذت منها العناصر والقواعد في المنهج التقليدي.

 

ففي الحقيقة تؤدي الصورة الثانية إلى إضافة العلم والتجربة كمصدرين جديدين إلى المصادر المعروفة للاجتهاد، ولكنّ الصورة الثالثة تحافظ على هذه المصادر ولا تضيف إليها أي مصدر جديد.

 

2- الإمام الخميني (قدس سره) يدعو إلى الحفاظ على المنهج التقليدي:

 

والآن ننتقل إلى استعراض جانبٍ من الموقف الّذي اتّخذه الإمام (قدس سره) إزاء المنهج التقليدي، فنقول:

 

لم تستهدف نظرية الإمام الخميني (قدس سره) إعطاء طريقة تستبطن شيئاً من رفض المنهج التقليدي، بل نجده يصرّ على حفظ هذا المنهج، حيث يقول (قد سره):

 

يجب عليكم السعي لحفظ الفقه التقليدي الّذي هو تراث السلف الصالح(3).

 

ويصل الإمام «قدس سره» في مبلغ حصره على المنهج التقليدي إلى حدّ يجعل الخروج عنه سبباً لضعف أركان التحقيق والتدقيق(4).

 

لو وقفنا عند هذا الكلام وقفة تأمّل لوجدنا أنّ الإمام (قدس سره) كان يريد – بهذا الكلام – الإشارة إلى أن الخروج عن الفقه التقليدي يؤدّي إلى انهيار صرح الفقاهة، باعتبار أن هذا الصرح الشامخ لا يقوم إلا على أساس التحقيق والتدقيق وما لهما من أركان؛ تلك الأركان الّتي جرى الفقه الجواهري (أي الاجتهاد على طريقة صاحب الجواهر) على أساسها.

 

والحقيقة أنّ هذا التركيز الشديد على حفظ التدقيق الفقهي يمثل امتداداً لتركيز الفقهاء على أن يكون همّهم الأول هو استعمال الدقة للاجتناب عن الوقوع في مغبّة فقه جديد؛ إذ نجد أنـّهم كانوا يصفون كل رأي لم يتم على أساس الدقة المعهودة بينهم بأنه فقه جديد.

 

ومن هنا يعلم أنّ الإمام الخميني (قدس سره) لم تكن دعوته إلى التجديد قائمة على انتهاج إحدى الصورتين (الأولى والثانية)، إذ إنّ هاتين الصورتين تستلزمان رفض المنهج الاجتهادي: إما كلّه (كما في الصورة الأولى) أو بعضه (كما في الثانية).

 

من هذا المنطلق لا يرى الإمام (قدس سره) أية قيمة للمحاولات الّتي تستهدف الوصول إلى أحكام الإسلام من دون الركون إلى الاجتهاد، بل يعتبرها أعمالاً كيفية قد تجعل من يمارسها يساند فكرة الرأسمالية أو المدارس المنحرفة الأخرى(5).

 

3- الإمام الخميني (قدس سره) يرى الفقه التقليدي مرناً متحركاً بذاته:

 

هنا نستعرض جانباً آخر من موقف الإمام (قدس سره) إزاء المنهج التقليدي في الاجتهاد، يتبين من خلاله أنّ دعوته إلى التجديد تقوم على انتهاج الصورة الثالثة.

 

لمعرفة هذا الجانب يكفي أن نذكر نصيّن للإمام (قدس سره).

 

أ ـ إنّ الاجتهاد المصطلح لا يكفي لإدارة المجتمع(6).

 

ب ـ أنا اعتقد بالفقه التقليدي والاجتهاد الجواهري ولا أرى جواز مخالفته، فالاجتهاد يصح بذاك الأسلوب، بيد أنّ ذلك لا يعني أنّ الفقه الإسلامي ليس مرناً متحركا بذاته(7).

 

وبانضمام أحد هذين النصّين إلى الآخر تعلم صحة ما ادّعيناه من أنّ الإمام (قدس سره) كان يدعو إلى ما تتضمنّه الصورة الثالثة، إذ إنّ هذه الصورة تقوم على أمرين أحدهما: إنّ الاجتهاد السائد في الحوزات العلمية لا يكفي لحل مسائل الزّمان المستجدة. والآخر: إنـّه تجب إضافة شيء إليه مأخوذاً من تلك المواد الّتي أخذ منها نفس المنهج.

 

فنظريّة تغيّر موضوع الحكم بتبدّل الزمان والمكان جاءت لكي تضيف إلى المنهج التقليدي قاعدة تنسجم مع أركان هذا المنهج.

 

أمّا أنّ هذه القاعدة ماذا تعني؟ وكيف تنسجم مع المنهج التقليدي؟ فالإجابة عليهما ستأتي في البحوث القادمة.

 

النقطة الثانية: انسجام النظريّة مع أركان المنهج التقليدي:

 

والمقصود من هذا المطلب إثبات أنّ نظرية «تغيّر موضوع الحكم بتبدّل الزمان والمكان» لم تتبنَّ شيئاً يغاير المتبنيات الّتي نشأ في أحضانها المنهج الاجتهادي.

 

ولذلك نشير إلى هذه المتبنيات، ونستعرض مدى انسجام النظرية مع كل منها.

 

فنقول: هذه المتبنيات ثلاثة:

 

1ـ خلود الشريعة الإسلامية:

 

من المعلوم أنّ المجتهد لو لا إيمانه بهذا المبدأ لما بذل جهده في سبيل فهم النصوص بصدد أخذ أحكام القضايا منها، ولو فقد يوماً إيمانه هذا لما اجتهد بعد ذلك أصلاً.

 

وهذا يكفي لأن يجعلنا نذعن بأنّ الإيمان بهذا المبدأ كان له دور فاعل في تكوين الأرضية لتحقيق الاجتهاد ومنهجه.

 

إنّ هذا المبدأ قد تبنّته النظرية(أي نظريّة تغير الموضوع) بجدّية، بل هو يشكّل في الواقع فلسفة تأسيس هذه النظريّة، حيث إنّ الهدف المنشود للنظريّة هو أن تعكس مظاهر خلود الشريعة الإسلامية.

 

يقول الإمام الخميني (قدس سره) مخاطباً بعض المجتهدين:

 

«إنكم في نفس الوقت الّذي يجب أن تسعوا فيه للحيلولة دون ارتكاب ما يخالف الشّرع يجب عليكم أيضا أن تبذلوا تمام جهدكم لكي لا يتهم الإسلام بالعجز عن إدارة العالم في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكريّة المعقّدة»(8).

 

2- لزوم أخذ أحكام القضايا المستجدة من الشريعة نفسها.

 

إنّ كلمة القضايا المستجدّة عنوان لا يختلف مفهومه بحسب اختلاف العصور، ولكن تختلف مصاديقه باختلافها، فلكلّ عصر مصاديق خاصة من القضايا المستجدة.

 

إزاء هذا المتبنّى لا تصرّ النظرية على أكثر من دعوى أنّ معظم قضايا هذا العصر قضايا معقّدة، تختلف عن قضايا العصور السابقة، وأنه يجب السّعي لاكتشاف أحكامها من الإسلام، وأنّ اكتشاف أحكامها يتطلّب سعياً خاصاً واستعداداً مضاعفاً؛ يقول الإمام الخميني(قدس سره):

 

«على المجتهد أن يحيط بمسائل زمانه علماً» (9).

 

3- استفادة الأحكام من القواعد التي يؤيدها الشرع والعقل والعرف إنّ هذا المبدأ سبّب نشوء علم الأصول، باعتباره علماً يتكفّل إعطاء هذه القواعد.

 

إنّ نظريّة تغير الموضوع لم تذهب باتـّجاه نفي هذا المبدأ، بل، أنها تقوّمت على أساسه، ونشأت ضمن النطاق الأصولي، غير أنـّها أضافت إلى تلك القواعد قاعدة أخرى ليست هي بمعزل عنها (أي القواعد الأصولية) وهي أنّ العلاقات التي قد تبرز لبعض القضايا مع بعضها الآخر في ظل تطور الزمن قد تغيّر واقع القضيّة من حيث كونها موضوعاً للحكم الشرعي، وتجعلها موضوعاً آخر.

 

ونفس هذه الإضافة لا بأس بها مادام الذي أضيف كان منسجماً مع التفكير الأصولي، أي ليست هناك مشكلة علمية في نفس الإضافة بما أنـّها إضافة؛ يقول الإمام الخميني (قدس سره) مخاطباً الحوزات العملية:

 

من الواجب على المجتهدين السعي لتعميق روح الدقة والبحث والنظر والابتكار يوما فيوم وإضافة الدراسات إلى الدراسات السالفة(10).

 

وهذه الإضافة قد تصبح ضرورة مؤكّدة يجب السعي إليها وذلك في مثل مسألة حل مسائل الزمان المتجددة، حيث إنّ المنهج الاجتهادي يعتبر شيئاً أعدّه العلماء في ظل الشرع والعقل والعرف، ومعلوم أنـّهم لم يعدّوا إلا القدر الّذي كانوا يحتاجون إليه في الاستنباط، والّذي كان يتناسب مع تلك القضايا الموجودة في أزمانهم ويفي بمتطلباتها، ولكن الآن بما أنّ القضايا أصبحت معقّدة فالمجتهد – انطلاقاً من ذلك الارتكاز القائل بلزوم الاجتهاد – يشعر بأنّ عليه أن يفحص عن طريق يتلاءم مع المنهج الاجتهادي لاستنباط أحكام هذه القضايا من النّصوص.

 

والّذي يهمّنا هو أن نرى هل تنسجم النظرية مع التفكير الأصولي أم لا؟ أي هل لها جذور في علم الأصول أم لا؟ وكذلك هل يمكن إثبات النظرية أم لا؟

 

النقطة الثالثة: جذور النظرية في علم الأصول:

 

نقصد بالجذور الفكرية الأصولية للنظرية هي تلك المرتكزات والأفكار والأصولية التي لولاها لما تقوّمت هذه النظريّة.

 

وهذه الجذور لو ثبت وجودها تثبت أنّ هذه النظريّة لم تكن بمعزل عن التفكير الأصولي. وهذه الجذور هي:

 

1ـ عدم خلوّ الواقعة من الحكم: وهذا مبدأ يقبله الأصوليون؛ وسرّ جعلنا ذلك من مرتكزات النظريّة هو أنّ النظريّة تفترض أنّ الموضوع إذا تبدل فله حكم لا محالة في الإسلام، معلوم أنّه لولا مبدأ عدم خلوّ الواقعة من الحكم لا يستقيم الاعتقاد بوجود حكم شرعيّ للموضوع، بعد أن تغير في ظل تبدل الزمان أو المكان، ومع عدم استقامة هذا الاعتقاد تصبح النظرية رامية إلى أن يجعل الموضوع بعد تبدّله بلا حكم.

 

2- عدم جواز تعميم حكم الموضوع إلى موضوع آخر إلاّ بالدليل: وهذا مبدأ يتـّفق عليه كافة علماء المسلمين ، وإن كان بينهما اختلاف في سعة وضيق دائرة التعميم المقبول تبعاً لاختلافهم حول الأدلة على التعميم؛ فإن البعض يرى أن للقياس اعتباراً في الشرع، ذاهباً لذلك إلى دائرة أوسع للتعميم، بينما لا يقبل الإمامية هذا الاعتبار الشرعيّ للقياس إلاّ في بعض الموارد، مثل ما نصّ فيه على العلّة أو أحرز فيه المناط للحكم. والسرّ في اعتبار هذا المبدأ من مرتكزات هذه النظرية هو أنـّه إذا كان المفروض تبدّل الموضوع بحسب تغير الزمان أو المكان إلى موضوع آخر، فلا يمكننا تعميم حكم ما قبل التبدّل إلى ما بعد التبدّل.

 

3- صلاحية الموضوع لان يكون موطنا للتدقيقات الأصولية:

 

إنّ الأصوليين فطنوا من خلال دراساتهم الأصولية إلى أن الموضوع يكون ميداناً رحباً لأن تجول فيه الآراء وتعمل فيه التدقيقات الأصولية، وأنـّه أرض خصبة تنمو فيها النظريات التي قد تنبثق منها الإبداعات الأصولية.

 

إنّ الكثير من الروائع الأصولية نشأت حول البحث في الموضوع؛ فمثلاً إنّ لمصطلحي الحكومة والورود صلة بدائرة الموضوع سعة وضيقاً، إذ إنّ الحكومة تعني أن يأتي دليل ويوسّع، بلحاظ كون لسانه شارحاً دائرة موضوع الحكم في دليل آخر، أو يضيقها؛ ومثال الأول: (لحمة الرضاع كلحمة النسب) فإنّ هذا يوسّع موضوع أحكام النسب؛ ومثال الثاني: (لاشكّ لكثير الشك)، فإنه يضيّق دائرة الشك الّذي جعل موضوعاً في أدلّة فيها أحكام الشك(11). وإنّ الورود يعني أن يأتي دليل ويعدم بوروده هذا موضوع دليل آخر، كدليل (حرمة دخول الجنب في المسجد الّذي يرفع موضوع صحّة جواز مكث الجنب في المسجد)(12).

 

وفي ظلّ هذه العناية في النظر إلى الموضوع اندفع الإمام الخميني (قدس سره) إلى التركيز على الموضوع، ممّا جعله يتمكن من تأسيس هذه النظرية.

 

4- اتـّجاه الشارع إلى تكثير الموضوعات:

 

إنّ معرفتنا بالإسلام تهدينا إلى أنّ الاسم قد يحسب لعروض حالة في موضوع أو زوالها عنه حساباً جديّاً، بحيث قد يتكون من جرّاء هذا العروض أو الزوال موضوع شرعي، ولذا توجد في الاسم فروع كثيرة. ولا يخفى أنّ هذه النكتة تنفع في تقريب الأذهان إلى وجود الموضوعات الكثيرة في الإسلام، فلا يمكن أن نحكم على أساس ذلك بعد كل عروض أو زوال بتكوّن موضوع ما، أي تنفع في مقام الثبوت لا في مقام الإثبات. وهذه الحقيقة سادت الفكر الأصولي مما جعله يميل إلى أن يعتبر للأشياء والوقائع حدوداً يتميز بها البعض عن الآخر.

 

وهذه الفكرة نشأت في ظل مدرسة أهل البيت(ع) إذ إنـّهم كانوا يصرّون على إپداء هذه الحقيقة، لكي يتبيّن بطلان القياس الذي يتطلّب نفي الحدود الواقعية للأشياء، واثبات حدود ظنيّة لها. وكنموذج على ذلك نذكر الرواية الواردة عن (الإمام الصادق) (ع) : ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلا وله حد كحدود داري هذه، ما كان منها من الطريق فهو من الطريق وما كان من الدار فهو من الدار، حتى ارش الخدش فما سواه والجلدة ونصف الجلدة(13).

 

5- انقلاب الموضوع:

 

والمثال المعروف لانقلاب الموضوع هو انقلاب الخمر خلا. ولم يختلف أحد حول مسألة انقلاب الموضوع في أنّ حكم الموضوع بعد الانقلاب غير حكمه قبله، لان الانقلاب يجعله موضوعاً جديدا. وهذه المسألة لعبت دوراً مهما في إيجاد الأرضية لتأسيس هذه النظرية، بل يمكن القول: بأن نظرية تغيّر الموضوع تعد في الحقيقة تعليقاً على قضية انقلاب الموضوع المسلم بها، معنى أنّ النظرية تقول: بأن تبدل الموضوع لا ينحصر بهذا المورد (انقلاب الموضوع) بل يمكن أن يتم بصورة أخرى وهي تبدله في ظل تغير الزمان والمكان.

 

هذه جملة من الأفكار الأصولية التي هيأت الأرضية في الذهنية الأصولية للإمام الخميني (قدس سره) لتأسيس نظريته هذه.

 

النقطة الرابعة: إثبات النظرية

 

إن على عاتق الحوزات العلمية القيام بما يلي:

 

1ـ إدراج هذه النظرية المباركة في عداد المسائل الأصولية، واختيار موضع مناسب لها.

 

2- تأسيس فروع حولها.

 

3- تعميق الاستدلال في إثباتها.

 

1ـ إثبات النظرية على أساس تنقيح المناط:

 

فيما يلي تقريب على أساس تنقيح المناط لإثبات النظرية:

 

إن شدّة تأثير الزمان والمكان في إيجاد آثار مستحدثة لموضوع ما قد يجعل الفقيه يحرز أنـّه حدث في الموضوع مناط آخر للحكم. ولتوضيح ذلك نقول: إنّ التطورات الزمنية قد تعطي لشدة عمقها للموضوع آثاراً جديدة، تتبلور في نوعية التعامل الذي يحصل بينه وبين سائر الموضوعات.

 

ولو ألقينا نظرة تعمقيه إلى الظواهر الاجتماعية لوجدنا أن هناك كثيراً من الموضوعات كانت لها آثار حسنة وبناءة في الماضي، فجاء الشارع لها بأحكام متناسبة معها من الحل والجواز وغير أنّ هذه الموضوعات أصبحت الآن ذات آثار سيئة في بعض جوانبها.

 

فالفقيه الفطن والعالم بأمور الزمان لا يسمح لنفسه أن يغمض عينيه عن تلك الآثار السيئة، والتي قد تؤدّي إلى محق المعنوية الدينية أو الإضرار باقتصاد المجتمع أو أهدافه السياسية.

 

فمثلاً إنّ الملكية التي كانت لها أحكام في الإسلام أصبحت لها الآن آثار جديدة، فيما إذا بلغ اتـّساع دائرتها إلى حد الرأسمالية، تلك الآثار التي تشكّل أعظم وأوسع خطر على الإنسانية وعلى تطبيق الأحكام الشرعية وتحقيق أهدافها السامية.

 

فهنا (أي إذا ما بلغت الملكية حد الرأسمالية) لا يمكن القول بأنّ مناط الحكم لم يتغير، وجدير بالذكر أنّ هذا لا يعني أن نحكم بصورة مطلقة على أنّ الملكية بكل مراتبها في هذا الزمان أصبحت موضوعاً جديداً، بل البالغ منها حداً يتغير المناط فيه هو موضوع جديد.

 

إشكال وجواب:

 

لو قيل: كيف يمكن الركون إلى هذا مع أنـّا نجد حكما لعنوان الموضوع في لسان الدليل الشرعي؟ فإذا لم يتغير هذا العنوان – والمفروض أنـّه لم يتغيّر، إذ الواقع هو الـّذي يتغيّر حسب النظرية – فعلم الأصول يرشدنا إلى الأخذ بـإطلاقه والحكم بعدم تبدّله.

 

وفي الإجابة نقول: صحيح أنّ الأصوليين يعتنون بعنوان الموضوع وإطلاقه وعمومه، غير أنّ هناك أصلا اتفقوا عليه، وهو أنـّه ينبغي أن لا يعتني بالحدود الظاهرية الثابتة لما جعل في دليل شرعي موضوعاً للحكم، وهذا إنما يكون فيما لو أحرز أنّ الحكم قد رُتـّب على هذا الموضوع بلحاظ وجود مناط خاص فيه، وهذا ما يعبّر عنه بتنقيح المناط.

 

ومعنى عدم الاعتناء بالحدود الظاهرية للموضوع هو أنّ الموضوع في الواقع هو هذا المناط مع ماله من حدود، ولذا لو وجد هذا المناط في مورد آخر فيحكم له بذلك الحكم استناداً إلى نفس الدليل.

 

ونشير هنا إلى أمرين:

 

الأول: لا ينبغي أن يتصوَّر أن تنقيح المناط لا يمكن أن نجعل لَه هذا الدور الأساس الواسع النطاق مع أنّ الأصوليين قلّما يتفق أن يعملوه، إذ إنّ سرّ ضيق دائرة إعماله في الماضي كان يكمن في ضيق مجاله، بيد أنّ مجاله أصبح الآن متّسعاً في ظل التطورات الزمنية، فيجب إعماله وتنشيطه وإحياؤه بصورة تتناسب مع الظروف الراهنة.

 

والثاني: إن الحكم بتبدل الموضوع ليس أمرا يتسامح فيه، بل هو يدور مدار إحراز حدوث مناط جديد فيه. ومن هنا نقول: إنّ هذا الحكم بالتبدل يعد جزءاً من عملية الاجتهاد، فلا يجوز لكل احد القيام به.

 

2- لزوم محاولة معرفة الموضوع:

 

إن المجتهد إذا لم يكن في السابق مجبوراً على بذل محاولة لمعرفة الموضوعات فنظرية تبدل الموضوعات تحكم: بان المجتهد الآن لابد من أن يكون له نوعان من الجهد: جهد يبذله في سبيل معرفة الحكم، وجهد يبذله في سبيل معرفة الموضوع؛ لأنه إذا لم يكن يعرف الموضوع، فكيف بـإمكانه أن يحرز: هل تغير المناط فيه أم لا؟

 

3- احتياج الاجتهاد إلى العلوم:

 

وهنا يظهر لنا أنّ عملية الاجتهاد اليوم بحاجة إلى بعض العلوم الحديثة لمعرفة الموضوعات، وليس معنى ذلك لزوم أن يكون المجتهد عالماً بهذه العلوم، بل يمكنه التشاور مع الأخصائيين في هذه الموارد، ولكن الحكم بعد هذا التشاور في أن المناط هل تغير في الموضوع أم لا يختصِّ بالمجتهد فقط.

 

وغنّي عن البيان أنّ الاحتياج إلى بعض العلوم في عملية الاجتهاد لا يعني أن هذه العلوم تتدخّل في عملية الاستنباط، إذ إنـّها لا تخضع للعلوم ومقتضياتها أصلا، بل الحاجة إلى هذه العلوم تأتي – كما قلنا – في إطار معرفة الموضوع فحسب، إذن فقد تلعب هذه العلوم ذلك الدور الّذي قد يلعبه العرف.

 

النقطة الخامسة: النظرية ومشكلة الثبات والتغير

 

والبحث في هذا الموضوع يتمّ من خلال التعرّض إلى أمور:

 

1ـ تحديد مجالات المتغير والثابت:

 

إن كل نظرية تستهدف إثبات المرونة في الإسلام لم يكن لها بدّ من أن تحسب للتغيّر حساباً إلى جانب الثبات؛ بمعنى أن ترفع اليد عن الثوابت لصالح المتغيرات في بعض المجالات، غير أنّ تحديد هذه المجالات هي النقطة الحساسة في تأسيس النظرية، إذ قد يغيب عمّن يمارس عملية التنظير العلم بالحدود الواقعية لكل من الثبات والتغير، بحيث قد يجعل الثابت في مجال المتغير والمتغير في مجال الثابت، أو قد يوسّع أو يضيّق دائرة كل منهما أكثر مما له، أو قد لا يصل إلى معرفة كيفية جعل الإسلام المتغيرات تحت سيطرة الثوابت.

 

والنظريات الّتي تقع فيها مثل هذه الأخطاء تترك آثاراً سيئة جداً على الفهم الإسلامي؛ فمثلاً توسعة دائرة المتغيرات أكثر مما لها يمكن أن تنتهي إلى ما يجعل جوهر الدين في معرض الزوال، أو يجعله خاضعاً للتطورات. كما أن تضييق دائرتها يمكن أن يجعلنا نتعامل مع الدين تعاملاً يجمده عن الحركة، ويمنعه عن مواكبة المسيرة الإنسانية.

 

2- المعرفة بالتطورات الزمنية الحادثة

 

ينبغي أن لا يفسح المجال في تأسيس مثل هذه النظريات إلاّ لمن له معرفة بالتطورات الزمنيّة التي أحدثها العلم والتجربة البشرية، وإلاّ فإنّ العالم الذي لا يعير لتغير الزمن والأحداث والظروف أهميّة، لا ينقدح في ذهنه البحث عن مسألة الثابت والمتغير، ولو واجه بحثاً كهذا لا ينظر إليه بعين الاعتبار.

 

وبما أنّ نقطة انبثاق النظرية من الحركات الفكرية – أي أنّ النتائج قد تتكيّف وفق الأفكار الأوّلية التي انطلق الباحث منها – فإنّ من يحاول تأسيس نظرية ما لا يكون مأموناً من خطر تحكيم رؤاه فيها، تلك الرؤى التي أخذها من العلم والتجربة، كما وقع ذلك لكثير من الباحثين.

 

ولذلك فان الخطر الذي يسميه الشهيد الصدر (قدس سره) خطر العنصر الذاتي الذي يحف بعملية الاكتشاف شيئا يبدو أنه خطر جدي، ذلك الذي يعني «أن أضاف الممارس خلال عملية الاكتشاف شيئا من ذاته، وساهم في العطاء فإنّ البحث يفقد أمانته الموضوعية وطابعه الاكتشافي الحقيقي»(14).

 

3- مجالات الثبات والتغير:

 

والّذي بـإمكانه أن يمنع من تسرّب هذا الخطر إلى النظرية هو تقيد من يمارس عملية الاكتشاف بضوابط وحدود المنهج الاجتهادي الأصولي، فإنّ من ليست له معرفة أو إلمام بمعالم أو خطوط هذا المنهج فسوف يقع في انحراف كبير خلال ممارسته لعملية الاكتشاف هذه.

 

إنّ موطن المتغير حسب نظرية تبدل الموضوع عبارة عن موضوع الحكم فيما إذا تأثر بالزّمان وفي ضوء الالتفات إلى ذلك يمكن القول بأن للثبات مجالات ثلاثة، كما أن للتغير مجالين.

 

أما الثبات فمجالاته ما يلي:

 

أ ـ الحكم: إنه لا مجال للتغيّر والتبدل في الحكم الشرعي في أي زمان أو مكان، وبما أنّ النظرية لا تعتبر الحكم متغيّراً فإنـّها تتّسم بميزة مهمة وهي: عدم تنافيها مع الحديث القائل: بأن: حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة؛ إذ إنـّها لا تعتبر للزمان والمكان حقّاً في تغيير الحكم حتى تكون من ناحية داعية إلى التشريع، بل تعتبر لهما الحقّ في تغيير الموضوعات، وهذا شيء خارج عن التشريع.

 

ومن ناحية أخرى فهي غير قائلة: بأن الإسلام لا يفي بمتطلبات العصر، بل ترى النظام التشريعي الإسلامي متمكناً من مواكبة الأعصار.

 

قال الإمام الخميني (قدس سره):

 

إنّ القوانين الإسلامية تصلح بصورة دائمية لأن تطبَّق على كل الظروف الزمانية والمكانية، فليس هناك حكم إسلامي يكون مفيداً في زمان ومضراً في زمان آخر. نعم في بعض الأزمنة لا يتحقق موضوع حكم ما فيؤدي إلى أن يترك ذلك الحكم(15).

 

ب – الموضوعات الثابتة على كل حال، مثل موضوعات الحدود الشرعية، أو الكثير من الموضوعات الأخلاقية.

 

ج – الموضوعات القابلة للتبدل إلى غيرها بحسب تغيّر الزمان أو المكان، غير أنـّها لا تقع بعد في ظروف تجعلها عرضة للتأثـّر بأحدهما.

 

وهذا يملي علينا أن نذعن بأن صرف القابلية للتأثر بالزمان أو المكان لا يكفي للحكم بتبدل الموضوع، بل يجب إحراز أن هذا التأثير قدتمّ بالنسبة إلى هذا الموضوع.

 

أمّا التغير فكلا مجاليه يتمّ في دائرة الموضوع، وهما:

 

أولاً: انقلاب الموضوع من حالة إلى حالة أخرى. والتغيير الذي يتم هنا يكون في كل من الظاهر والواقع، كانقلاب الخمر خلا. يتفق جميع العلماء هنا على أنّ الموضوع يصبح بالانقلاب موضوعاً جديداً، فيأتي له حكم آخر. وهذا القسم من التغيير خارج عمّا كانت النظرية بصدده.

 

ثانيا: حصول حالة التفاعل لموضوع ما مع الموضوعات الأخرى في ظل مجموعة من العلاقات. وهذا هو الذي كانت النظرية بصدد بيانه وإثباته. والتغيير الذي يتم هنا يحصل في الواقع وان لم ير في الظاهر.

 

يقول الإمام الخميني (قدس سره) : إنّ الموضوع (الواقع في ظل العلاقات الجديدة) يبدو انه نفس الموضوع الأول ظاهراً مع أنه موضوع جديد(16).

 

إنّ نظرية تبدّل الموضوع – ومن خلال تناولها هذا القسم من التغيير في الموضوع – تمكنت من إدراج كل ما يمكن أن يحصل في ظل حركة الزمن أو تغير المكان من التطوّر في هذه المنطقة (منطقة الموضوع). فبحسب هذه النظرية يستوعب الفقه أيَّ تطور أو تغير، ويتصدّى لبيان حكمه. فالنظرية تملي على الفقيه أن لا يتردد أمام أيّ تطور من جانب، ومن جانب آخر أن يبحث في الشريعة الإسلامية عن حكم كل موضوع يظهر إلى ساحة الواقع المعاش.

 

ــــــــــــــــــ

 

1- صحيفة النور، 21/ 98.

 

2 - انظر مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية 1: 43 - 42.

 

3 - الوصية السياسية الإلهية للإمام الخميني: 22.

 

4 - المصدر نفسه.

 

5 - المصدر نفسه: 34.

 

6 - صحيفة النور 21: 10.

 

7 - المصدر نفسه: 98.

 

8 - المصدر نفسه 31: 61 .

 

9 - المصدر نفسه 21: 98 .

 

10 - الوصية السياسية الإلهية للإمام الخميني: 22.

 

11 - أصول الفقه للمظفر 2: 197.

 

12 - دروس في علم الأصول الحلقة 2: 33.

 

13 - بحار الأنوار 2: 170.

 

14 - اقتصادنا: 43، 44.

 

15 - صحيفة النور 3: 2.

 

16 - المصدر نفسه 21: 98 .