الصيام سلّم إلى التقوى

 قال الله الحكيم في كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾* أي أن الصيام سلّم إلى التقوى، ووسيلة لتأمين ذلك في وجودكم وقلوبكم.

والتقوى هي أن يكون الإنسان في جميع أعماله وأفعاله في حالة مراقبة، ليرى هل أن هذا العمل موافق لرضى الله والأوامر الإلهية أو لا.

هذه الحالة من المراقبة والاحتراز والحذر الدائم اسمها التقوى. وما يقابلها هو الغفلة وعدم اليقظة والعمل دون بصيرة.

 

إنّ الله تعالى لا يرضى بغفلة المؤمن وفقدانه للبصيرة في شؤون الحياة، ويجب على المؤمن أن يتملك نظراً ثاقباً وقلباً يقظاً في جميع أمور الحياة.

 

إنّ هذا النظر الثاقب، والقلب اليقظ والواعي ينبهان الإنسان المؤمن إلى ضرورة أن لا تكون الأعمال التي يقوم بها مخالفة لإرادة الله، وطريقة الدين وأحكامه.. وفائدة الصيام تكمن في تحقيق هذا الأمر.

 

إنّ شعباً أو فرداً يتمتع بملكة التقوى سوف ينعم بجميع خيرات والتقوى هي أن يكون الإنسان في جميع أعماله وأفعاله في حالة مراقبة، ليرى هل أن هذا العمل موافق لرضى الله والأوامر الإلهية أو لا.

 

هذه الحالة من المراقبة والاحتراز والحذر الدائم اسمها التقوى، وما يقابلها هو الغفلة وعدم اليقظة والعمل دون بصيرة.

 

الدنيا والآخرة. إنّ فائدة التقوى ليست فقط في كسب رضى الله ونيل الجنان يوم القيامة؛ المتّقي يرى فائدة التقوى في الدنيا أيضاً. إنّ المجتمع المتّقي، المجتمع الذي يختار طريق الله ويعبره بدقة، يتنعم بالعطايا الإلهية في الدنيا وينال العزة فيها، ويمنحه الله تعالى العلم والمعرفة بشؤونها أيضاً.

 

إنّ التقوى هي الوصية الأولى والأخيرة للأنبياء. ونحن نقرأ في سورة مختلفة من القرآن أن أول كلام نقله الأنبياء إلى الناس كان الوصية بالتقوى. إنّ التقوى إذا توفرت، وجدت معها الهداية الإلهية كذلك. والصوم هذا مقدمة التقوى.[1]

 

 طريق الله قريب المسافة

 

إنّ حياة الإنسان تمضي دوماً على طريقين متوازيين. أحد هذين الطريقين هو الذي يواصل العابرون عليه سلوكهم نحو الكمال، والآخر هو الذي يتسافل العابرون عليه ويتجهون نحو السقوط، نحو جهنم.

 

هذان الطريقان هما طريقان متلازمان ومتوازيان، وخط سيرهما متشابه بالكامل. أولئك الذين يتسافلون، يبتعدون عن نفس ذلك المقصد الذي يقترب منه سالكو الطريق الآخر: إنهم يبتعدون عن الله تعالى ويقتربون من الشيطان والجحيم. وأولئك الذين يتكاملون، ويتجهون نحو النور، نحو الله، نحو النزاهة الأخلاقية والتوحيد وطهارة الروح، يبتعدون عن نفس ذلك المقصد عينه الذي تسقط نحوه تلك الفئة الأخرى.

 

إنّ هذين الطريقين متجاوران طوال رحلة المسير، والانتقال من أحدهما إلى الثاني في منتهى السهولة. فلو أننا لا سمح الله كنا نسافر على الطريق الثاني ونتسافل على الصعيد الأخلاقي، ونتجه نحو السقوط، ثم أردنا أن ندخل إلى الطريق الآخر ونبدأ رحلة التكامل، فإن مثل هذا العمل ميسر في كل آن: وأن الراحل إليك قريب المسافة.

 

إنّ الشخص الذي يريد أن يسافر إلى الله طريقه قريبة، والمسافة التي عليه أن يقطعها كذلك.

 

إنكم بمجرد أن تخطوا خطوة واحدة، تنتقلون من على تلك الطريق التي يتسافل أهلها، وتدخلون إلى تلك الطريق التي يسرع أهلها نحو السعادة الأبدية، نحو النور، نحو منازل الصدّيقين والملأ الأعلى.[2]

 

 السيطرة على الأهواء النفسية أسهل في شهر رمضان

 

في تلك اللحظة التي نعقد العزم فيها على مخالفة أهوائنا النفسية، وهذا العجب والغرور والتبعية لشيطان النفس ـ وهي (الأمور) التي كان إمامنا العظيم يحذرنا منها دائماً طوال هذه السنوات العشر أو ما زاد، حيث كان في جميع المواقف يقول لنا ولكل الشعب الإيراني، خصوصاً نحن المسؤولين: انتبهوا كي لا تقعوا أسرى هذه الأمور ـ في نفس تلك اللحظة، نكون قد وضعنا القدم ومن هذه المسافة القريبة،" حيث أن الراحل إليك قريب المسافة"، على تلك الطريق ـ طريق الصلاح والخير ـ  وبدأنا التكامل. ومثل هذا الأمر قابل للتحقق في شهر رمضان. فالسيطرة على الأهواء النفسية أسهل من أي وقت مضى خلال شهر رمضان.[3]

 

 ببركة الدعاء ينشط المجتمع

 

اغتنموا شهر رمضان. أحيوا أيامه بالصيام ولياليه بالذكر والدعاء. إنّ رابطة الدعاء هي رابطتكم القلبية مع الله. الدعاء معناه الطلب والمناجاة، والطلب معناه الأمل. فما لم تمتلكوا الأمل. لن تطلبوا من الله شيئاً. إنّ الإنسان اليائس هو الذي لا يطلب شيئاً.

 

إذاً، الدعاء يعني الأمل، الأمل بالإجابة، وهذا الأمل بالإجابة هو الذي يشغل القلوب وينوّرها. وببركة الدعاء ينشط المجتمع.[4]

 

 شهر رمضان فرصة عروج روح الإنسان وتكاملها

 

إنّ النقطة الأساسية في صوم رمضان هي أن ينال الإنسان ـ الذي قد حاصرته دواعي الغفلة عن الله وقطعت عليه طريقه، والذي تشده دوافع مختلفة نحو التسافل والسقوط ـ أن ينال فرصة يستطيع معها أن يسوق الروح ـ التي تميل إلى العروج والتكامل ـ إلى حيث الكمال، ويتقرب من الله، ويتخلّق بالأخلاق الإلهية. إنّ شهر رمضان هو فرصة من هذا القبيل.

 

بالطبع، توجد فرص أخرى غير فرصة شهر رمضان. فمثلاً، هذه الصلوات الخمس اليومية هي فرص نستطيع بالاستفادة منها أن نعرج إلى الله، وأن نصلح أنفسنا، وأن نبعد عنها الصدأ والإهتراء والغفلة والأمراض المعنوية، وشرط حصول ذلك هو أن تتنبهوا إلى ما تفعلونه أو تقولونه حال الصلاة.[5]

 

 أدعية شهر رمضان تمنح الإنسان نورانية مضاعفة

 

خلال هذه التسعة وعشرين يوماً أو الثلاثين يوماً، وبالإضافة إلى الصلوات الخمس المفروضة والنوافل التي يستطيع الإنسان دائماً أن يأتي بها، توجد أدعية تتضاعف بتلاوتها نورانية الإنسان. ولقد وضع أهل البيت(ع) هذه الأدعية في متناولنا، وعلّمونا كيفية الحديث والمناجاة مع الله.

 

إنّ جوهر القضية يكمن في أننا قادرون على تحقيق هذا السير إلى الله في شهر رمضان. وقد أشرتُ في السابق إلى أنني كنت أحياناً أتشرف بزيارة الإمام (قدس سره) بعد انتهاء شهر رمضان، فكنتُ المس بشكل واضح أنه قد ازداد نورانية، وأن كلامه ونظراته وإشاراته وحركات يده، وآراءه قد اختلفت عما كانت عليه قبل بداية شهر رمضان، وإنه لمن الملفت أن يكون لدورة شهر رمضان بالنسبة إلى إنسان مؤمن عالي المقام كالإمام، كل هذا الأثر![6].

 

 فلنسعَ كي نحيي روح العبودية في نفوسنا

 

إنّ روح العبادة هي العبودية لله ـ أيها الأخوة والأخوات، يجب علينا أن نسعى لإحياء روح العبودية في نفوسنا، والعبودية تعني التسليم لله، وتعني كسر ذلك الصنم الموجود في نفوسنا.

 

إنّ ضمنا الباطني ـ أي الأنا ـ يُظهر نفسه في كثير من الأوقات والظروف. فعندما تقع منافعك في خطر، ولا يقبل شخص ما كلامك، ويحدث أمر يوافق رغبتك ـ ولو خلافاً للشرع ـ أو تقف على مفترق طريقين ـ مصالحك الشخصية من جهة التكليف من جهة أخرى ـ في مثل تلك المضائق والمزالق، تعلو تلك الأنا الباطنية برأسها وتظهر نفسها.

 

ولو تمكنا أن نروّض بالكامل هذه الأنا، هذا الهوى النفسي، هذا الفرعون الباطني، هذا الشيطان الموجود في داخلنا ـ أو أن نروّضه ولو بمقدار ما ـ فإن جميع الأمور سوف تصلح. وقبل أي شيء آخر، سوف نتحول إلى بشر حقيقيين، ونصل إلى الفلاح.

 

إنّ شهر رمضان هو مقدمة لهذا الغرض. فالصوم، والصلاة مع التوجه، والإنفاق، وحتى الجهاد في سبيل الله، هو لأجل الوصول إلى دنيا يكون الناس فيها عباداً لله[7].

 

 إنّ حصلّتم ثمرة ما في شهر رمضان فاحفظوها

 

يجب على المسلمين في يوم العيد أن يمعنوا النظر إلى نفوسهم، ويتلمسوا الاستفادات التي قد حققوها من الضيافة الإلهية في شهر رمضان المبارك، فشهر رمضان هو شهر بناء النفس والتقوى. هل استطعنا عن طريق الصيام والعبادة في ذلك الشهر الشريف أن نضيف شيئاً ما إلى ذواتنا، وأن نبني أنفسنا، أم لا؟ قوموا بهذه المحاسبة في هذا اليوم، وإن وجدتم أنكم قد حصلتم ثمرة ما، فاسعوا كي تحافظوا عليها طوال العام[8].

 

 شهر رمضان فرصة استثنائية

 

نحن نعتقد ـ وهذا جزء من بديهيات الإسلام بل بديهيات جميع الأديان ـ أن الإنسان يستطيع أن يتكامل فقط في ظل الارتباط والاتصال بالحق تعالى. بالطبع، تعد فرصة شهر رمضان فرصة استثنائية، إذ ليس هو بالأمر البسيط أن يقول تعالى في القرآن: ﴿ليلة القدر خير من ألف شهر﴾.

 

 

فهي ليلة من ليالي شهر رمضان تفوق في فضلها وفضيلتها ألف شهر، وتعدّ أشد تأثيراً(من غيرها) في إحداث تقدم الإنسان. وإنه ليس بالأمر البسيط أن يعتبر الرسول الأكرم(ص) هذا الشهر شهر الضيافة الإلهية. أفمن الممكن أن يفيد الإنسان على مائدة الكريم فيخرج من عنده محروماً؟... إن المحروم الواقعي والحقيقي هو ذلك الشخص الذي لم يستطع في شهر رمضان أن ينال الغفران الإلهي[9].

 

 المناجاة الشعبانية

 

إنّ الدعاء هو وسيلة المؤمن وملجأ المضطر، ورابطة الإنسان الضعيف والجاهل بالمنبع الفياض للعلم والقدرة. فالإنسان الذي يفقد الرابطة الروحية مع الله، ولا يتوجه إلى الغني بالذات لطلب حاجته منه، هو إنسان حائر وعاجز وضائع: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾[10].

 

وإنّ أفضل الأدعية على الإطلاق هو ذلك الدعاء الذي ينشأ من عمق المعرفة الوالهة بالله، ومن البصيرة العارفة بحاجات الإنسان؛ وهذا ما مما يمكن أن يبحث عنه فقط في دين نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين ـ الذين هم أوعية علم النبي(صلى الله عليه وآله) وورثة حكمته ومعرفته ـ ونحن بحمد الله نمتلك ذخيرة لا تنضب من الأدعية المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام)، والتي يمنح الأنس بها الصفاء والمعرفة والكمال والمحبة، ويطهر الإنسان من الكدورات.

 

إنّ المناجاة الشعبانية المأثورة ـ والتي قد روي أن أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يدامون عليها ـ هي أحد الأدعية التي لا يمكن إيجاد نظير لمعانيها العرفانية ولسانها البليغ ولمضامينها العالية جداً، المليئة بالمعارف الرفيعة، على الألسنة الجارية وفي المحاورات العادية، بل ليس ممكناً أصلاً أن تنشأ بمثل تلك الألسنة.

 

إنّ هذه المناجاة هي النموذج الكامل من تضرّع أكثر عباد الله الصالحين قرباً واصطفاء، بين يدي معبوده ومحبوبه، والذات الربوبية المقدسة. إنها من جهة درس من المعارف، وهي أيضاً أسوة في كيفية إظهار الحاجة وطلب الإنسان المؤمن من الله.[11]

 

 اغتنموا أيام شهر رمضان وأحكموا عقدكم مع الله

 

إنّ هذا الشهر هو شهرُ الصيام، شهرُ نزول القرآن والأنس به، شهرُ العبادة والدعاء والمناجاة ـ إذ الدعاء مخ العبادة وروحها ـ شهرُ الاستغفار والتوبة والرجوع عما لا يرضي الله تعالى ورعاية التقوى، شهرُ الجهاد ـ حيث حدثت في هذا الشهر المبارك غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة، وفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، كما وقعت غزوة حنين في نفس هذا العام أيضاً ـ شهرُ الجهاد مع النفس والجهاد مع الشيطان والجهاد مع أعداء الله، شهرُ التجهز، شهرُ التزود بالتقوى، شهرُ صلة الرحم والصدق وبر الأخوان، والتعلم، والتدبر في القرآن، وبالإجمال شهرُ التزود بالذخيرة المعنوية لعام كامل.. فاغتنموا هذه الأيام وأحكموا عقدكم مع الله[12].

 

 شهر رمضان

 

أعزائي! إنّ شهر رمضان على الأبواب، وبعد أيام قلائل سيجلس المؤمنون ـ من لهم الجدارة لذلك ـ على مائدة الضيافة الإلهية، والصيام بحد ذاته والتوجه إلى الله تعالى والأذكار والأدعية التي غالباً ما تستهوي الأفئدة وتجتذبها في هذا الشهر جزء من الضيافة الإلهية، فاغتنموا هذه المائدة بأقصى مداها وأعدوا أنفسكم. فشهرا رجب وشعبان شهراً تأهب قلب الإنسان لدخول شهر رمضان، ولم يبق من شهر شعبان إلا أيام معدوات، فيا أعزائي! ويا أبنائي! أيها الشباب الأعزاء! اغتنموا هذه الأيام القلائل. سلوا الله تعالى، ويمموا قلوبكم النقية نحوه وكلموه. وليس من لغة خاصة للحديث مع الله جل وعلا، غير أن أئمتنا المعصومين الذين ارتقوا مراتب القرب إلى الله واحدة تلو الأخرى قد كلّموا الله بألسنة متميزة وعلّمونا سبيل التكلم معه الله سبحانه، وهذه المناجاة الشعبانية والأدعية الواردة في شهري رجب وشعبان بمضامينها الراقية، وهذه المعارف الرقيقة والنورانية والتعبير الرائعة الإعجازية، هذه كلها وسيلة لنا لغرض الدعاء. وإنني أدعوكم جميعاً أيها الأعزاء إلى التوجه خلال هذه الأيام نحو الدعاء والصلاة، والإقبال على الصيام، واغتنام أيام شهر رمضان ولياليه[13].

 

 بناء الذات أعظم درس في شهر رمضان

 

لعل من أفضل النعم الإلهية أن يوفقنا الله جميعاً للمحافظة على أسباب الرحمة الإلهية في أنفسنا حتى شهر رمضان القادام. والرحمة الإلهية التي تتنزل في شهر رمضان المبارك إنما منشؤها الأعمال الحسنة التي حالفكم التوفيق لأدائها في هذا الشهر المبارك. ففي شهر رمضان يكون التوجه نحو الله سبحانه والإحسان للفقراء وصلة الرحم ومداراة الضعفاء والطهارة والورع، وفيه استرضاء من نأيتم عنهم والنصف لمن عاديتم. إنه شهر الرأفة والتوجه إلى الله، إذ ترقّ فيه القلوب وتستنير النفوس بنور الله وفضله ورحمته، ويبلغ الإنسان التوفيق لأداء الأعمال الحسنة، فواظبوا على ذلك حتى العام المقبل، ولنستلهم الدرس من شهر رمضان لمدة سنة كاملة، وهذا هو الجزاء الإلهي الأكبر، حيث يمن علينا بمثل هذا التوفيق، فلنطلب من الله الرضا ولارحمة والقبول والعفو والعافية، فإن ذلك هو العيد الحقيقي.

 

ما أود قوله.. هو أن أعظم درس في شهر رمضان هو بناء الذات، والخطوة الأولى والمهمة في طريق بناء الذات هي أن ينظر المرء إلى نفسه وأخلاقه وسلوكه نظرة انتقاد فيرى عيوبه بدقة ووضوح، ثم يسعى للخلاص منها؛ وهذا أمر يمكننا إنجازه، فهو تكليف ملقى على عواتقنا.

 

تراحموا فيما بينكم كي يرحمكم الله، وعلى من كانت أيديهم مبسوطة أن لا يمدوها عدواناً على مصالح وثروات الآخرين، ولا يستغلنّ من توفرت لديهم الفطنة والذكاء والإمكانيات والقوة والمسؤولية وشتى القدرات.. للعدوان على من سواهم. لنجعل من أنفسنا عبيداً لله مكلفين بمداراة عباد الله والإحسان إليهم، والبرّ بهم والتزام الإنصاف إزاءهم، وحينها سيغمرنا الباري بوابل رحمته وفضله فيطهرنا، وتنهمر علينا مواهبه، وهذا ـ بطبيعة الحال ـ تكليفنا جميعاً، بيد أن مسؤولية أصحاب القدرة والمنصب والثروة وذوي الكلمة النافذة بين الناس تفوق من سواهم في قبال هذا العبء الثقيل، عبء بناء النفس وكبح جماح الشهوات عن التعدي على الآخرين[14].

 

عيد الفطر والجهاد الأكبر

 

عيد الفطر هو اليوم الذي يستطيع فيه الإنسان أن ينتهج صراط الله المستقيم ويعرض عن الطرق الأخرى التي تؤدي إلى الضلال، وذلك بالاستعانة بما حققه من المكاسب في شهر رمضان.

 

لقد انصبت همة الأنبياء والأولياء والصالحين والصديقين وتضافرت جهودهم في سبيل أن يعرف الإنسان حقيقة نفسه الأمارة بالسوء، فيتقي شرها. وهذا السر الكبير في وصول الإنسان إلى المراتب المعنوية والإلهية السامية، ووصوله إلى درجات القرب الرفيعة.

 

إنّ الذين اجتازوا هذا الشهر المبارك بنجاح واستفادوا من الضيافة الإلهية ومن المائدة الربانية المبسوطة، لاشك في أنهم حصلوا على الزاد وعادوا بحصيلة كبيرة في شهر رمضان، فلنسع جميعاً ـ ومنذ اليوم ـ لنخلص أنفسنا من عيوبها، وبالاستعانة بتلك الحصيلة وذلك الزاد الذي خرجنا به من شهر رمضان.

 

إنّ تحقيق ذلك ليس متعذراً، بل هو بمقدورنا وتحت إرادتنا: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ أي أن المجاهدة بالدرجة الأولى تعود بالمنفعة علينا. فلنكتشف الصفات والطبائع السيئة والقبيحة الكامنة في أنفسنا؛ وبالطبع فإن هذا العمل ليس سهلاً، بل هو صعب مستصعب.

 

ففيما يتعلق بذواتنا، ينبغي أن لا نصاب بالعجب والزهو. علينا أن نشخص عيوبنا ونستحضرها دائماً في أذهاننا، ونسعى للتخلص منها بما تزودنا به في شهر رمضان من رقة قلب، وإرادة، وصفاء نية، وإخلاص، وطاعات مقبولة.. لنبدأ انطلاقة جديدة نحو الله تعالى.

 

واعلموا أن الله يأخذ بيد كل من يجاهد في هذا الطريق، وأنه عزّ شأنه سوف لن يترككم وحدكم في مسيرتكم الجهادية نحو الكمال.

 

وبالطبع فإنكم ستكونون أول من يقطف الثمار الجنية لمجاهدتكم هذه، ولكن المنافع المترتبة على عملية إصلاح النفس ومجاهدتها في سبيل الله ـ والتي تدعى بالجهاد الأكبر ـ لن تنحصر بكم، وإنما ستعمّ خيراتها وبركاتها المجتمع، والدولة، والناس، وتؤثر إيجابياً على الأوضاع السياسية ومجريات الأمور، وتورث العزة على النطاق العالمي، وتزيد الناس تألقاً وشموخاً، وتحسن أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية وبالتالي تصلح دنياهم وآخرتهم[15].

 

 الصوم نعمة إلهية

 

قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾. تتحدث الآية الشريفة عن مسألة الصوم، وأن هذه الفريضة الإلهية كُتبت أيضاً على الأمم التي سبقت الأمة الإسلامية. هذا الصوم الذي نتحدث عنه بصفته تكليفاً إلهياً، يعتبر في الحقيقة نعمة إلهية وفرصة ثمينة جداً لمن يوفقون للصوم، وهو لا يخلو من المصاعب طبعاً، بل إن جميع الأعمال المباركة والمفيدة لا تخلو من المصاعب؛ والإنسان بدون تحمل المصاعب لا يصل إلى الغاية المنشودة. وهذا القدر من المصاعب التي تواجه الإنسان أثناء الصيام لا تكاد تمثل شيئاً ذا بال في مقابل ما يعود عليه بالنفع؛ وذلك لأنه ينفق القليل ويحصل على الكثير.

 

ذكروا للصوم ثلاث مراتب وكلها مفيدة لمن هم أهل لها.. الأولى منها هي مرتبة الصوم العام بما يعنيه من الامتناع عن الطعام والشراب وسائر المفطرات. ولو كان الصوم لا يعني إلا الإمساك عن هذه الأمور، لكانت فيه منافع كثيرة؛ لأنه بمثابة تعليم لنا، ولنا فيه درس وتمرين وممارسة واختبار، وهو بمثابة رياضة تفوق في فائدتها الرياضة الجسمية. وقد وردت عن الأئمة عليهم السلام روايات تتحدث عن هذه المرتبة عن الصيام.

 

فهناك رواية منقولة عن الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام يعلل فيها الصوم بقوله: «ليستوي به الغني والفقير»؛ على اعتبار أن الفقير لا يستطيع الحصول على كل ما تشتهيه نفسه من الأطعمة والأشربة طوال اليوم، بينما الغني يستطيع الحصول على كل ما لذّ وطاب. ومن الطبيعي أن الغني لا يدرك حالة الفقير وعدم قدرته على توفير كل ما تشتهيه نفسه. أما عند الصوم فيصبح وإياه على حد سواء ويتحرر كلاهما من المشتهيات النفسية باختيارهما.

 

ووردت عن الإمام الرضا (عليه السلام) رواية أخرى يشير فيها إلى نكتة أخرى، حيث يقول: «لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش فيستدلوا على فقر الآخرة»؛ إذ أن من جملة الابتلاءات التي يواجهها الإنسان في يوم القيامة هي الجوع والعطش. وهكذا يجب عليه مكابدة جوع وعطش شهر رمضان ليعرف حالة يوم القيامة ويتنبه إلى صعوبة تلك اللحظة العسيرة.

 

وهناك أيضاً رواية عن الإمام الرضا (عليه السلام) تعنى ببعد آخر من أبعاد الصيام وهو بعد الجوع والعطش، يقول (عليه السلام) فيها: «صابراً لما أصابه من الجوع والعطش»؛ أي أن الصوم يمنح الإنسان القدرة على الصبر على تحمل الجوع والعطش. فالأشخاص الذين يتربون في ظل حياة مترفة لا يذوقون فيها الجوع والعطش ليس لديهم قدرة على الصبر والتحمل، ويهزمون سريعاً في الكثير من الميادين، وتسحقهم عجلة الحياة وشدائدها وتجاربها بكل سهولة؛ أما الإنسان الذي ذاق طعم الجوع والعطش فهو يعرف معنى هذه الأمور ويتحلى بالقدرة على تحمل الشدائد التي قد تعرض له عن هذا الطريق. وشهر رمضان يمنح الجميع هذا الصبر وهذه القدرة على التحمل.

 

ووردت في هذا الميدان أيضاً رواية أخرى عن الإمام الرضا (عليه الصلاة والسلام)، ولعل هذه الجمل تشكل عدة فقرات من حيث واحد، فهو يقول في وصف شهر رمضان: «ورائضاً لهم على أداء ما كلفّهم»؛ أي أن تحمل الجوع والعطش في شهر رمضان يعدّ نوعاً من الرياضة التي تجعل الإنسان قادراً على تأدية شتى تكاليف الحياة. والمراد هنا طبعاً هو الرياضة الشرعية والرياضة الإلهية والرياضة الاختيارية؛ إذ أن من جملة الأمور التي تمكّن الإنسان من طي السبل العسيرة في الحياة هي الرياضة الروحية التي يلتجئ إليها الكثيرون وهي رياضة شرعية طبعاً.

 

وعلى هذا، نفهم من الأحاديث الآنف ذكرها أن هذه المرتبة من الصيام، أي مرتبة تحمل الجوع والعطش، تخلق لدى الأغنياء شعوراً بالمساواة مع الفقراء، وتذكّر الإنسان بجوع يوم القيامة، وتعودّه على الصبر وتحمل الشدائد، كما أن الصوم بصفته رياضة إلهية يعلّم الإنسان الصبر على أداء التكاليف. هذه الفوائد موجودة كلها في هذه المرتبة. علاوة على أن خلّو البطن من الطعام واجتناب الأعمال المباحة في سائر الأيام يزود الإنسان بنورانية وصفاء ونقاء، وهو ما ينبغي اغتنامه.

 

المرتبة الثانية من مراتب الصوم هي الورع عن المحارم، أي أن يحفظ الإنسان أذنه وعينه ولسانه وقلبه وحتى جلده وشعره ـ كما جاء في بعض الروايات ـ عن اقتراف المآثم. فقد روى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال «الصيام اجتناب المحارم كما يمتنع الرجل من الطعام والشراب». وهذه مرتبة أخرى منت مراتب الصوم أكثر رفعة من الأولى. إذاً، فرصة شهر رمضان ثمينة يجب اغتنامها للتمرين على ترك المآثم.. كثيراً ما يطلب مني بعض الشباب أثناء مراجعتهم لي أن أدعو لهم لكي يستطيعوا جبّ أنفسهم عن المعاصي. ولاشك في أن الدعاء أمر جيد ولازم، بيدّ أن التورع عن اقتراف الذنوب يستلزم إرادة لدى الإنسان، حيث يجب عليه أن يعزم على ترك الذنب، وحينما يعزم المرء يصبح هذا العمل سهلاً جداً؛ فاجتناب المعاصي يبدو أمام نظر الإنسان وكأنه جبل، ولكنه يبدو بعد العزم وكأنه أرض منبسطة. وشهر رمضان أفضل فرصة للتمرن على هذا العمل.

 

وردت في هذا المجال رواية أخرى منقولة عن فاطمة الزهراء سلام الله عليها، وهي أنها قالت: «ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه؟!».

 

ويرى أن امرأة أهانت خادمتها، ويبدو أنهما كانتا تجاوران الرسول صلى الله عليه وآله أو كانتا معه في سفر. وكان بيد الرسول (صلى الله عليه وآله) طعام، فقدمه لها وقال لها: (كُلي)، قالت: أنا صائمة، فقال لها: «كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك؟! إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب، وإنما جعل الله ذلك حجاباً عن سواهما من الفواحش من الفعل والقول».

 

أي أن الله تعالى أراد من الإنسان اجتناب الذنوب والمعاصي والآثام.. ومن جملة الآثام هي التي يقترفها اللسان وإهانة الآخرين والإساءة إليهم. ومنها أيضاً الآثام القلبية، أي شحن القلب بالحقد والكراهية للآخرين، فبعض الآثام يصدق عليها معنى الاصطلاح الشرعي، والبعض الآخر منها أخلاقي ولها مراتب شتى.

 

إذاً، فالمرتبة الثانية من الصوم هي الورع عن اقتراف الذنوب والآثام والمعاصي، وإني أوصي الشباب خاصة باغتنام هذه الفرصة، فالشاب لديه القدرة من جهة، ويتصف بصفاء القلب ونورانيته من جهة أخرى.

 

اغتنموا هذه الفرصة طوال مدة شهر رمضان، ومرّنوا أنفسكم على اجتناب الذنوب، وهذه هي المرتبة الثانية من مراتب الصوم.

 

أما المرتبة الثالثة من مراتب الصوم فهي اجتناب كل ما يجعل فكر ووجدان الإنسان غافلاً عن ذكر الله. وهذه هي تلك المرتبة السامية التي وردت في حديث المعراج عن الصوم؛ حيث يروى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لربّه جلت عظمته: «يارب، وما ميراث الصوم؟» قال: «الصوم يورث الحكمة والحكمة تورث المعرفة والمعرفة تورث اليقين، فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح بعسر أم بيسر».

 

واليقين هو ما طلبه النبي إبراهيم من ربه، وورد ذكره في مواضع متكررة وعديدة من أدعية هذا الشهر. وعندما يكون للإنسان يقين، تهون عليه كل مصاعب الحياة، ويكون في وضع لا تغلبه فيه حوادث الدهر. لاحظوا مدى أهمية هذا الأمر؛ فالإنسان الذي يروم طي سبيل العلو والتكامل في سنوات حياته، وليصبح على درجة من الصلابة بحيث لا تقهره عوادي الزمن، يمكنه اكتساب هذا كله من اليقين، وهذا كله ناجم عن الصوم. فإذا أحيا الصوم ذكر الله في قلب المرء، وأضاء فيه نور معرفة الله، تأتي هذه الأمور كلها تبعاً له؛وكل ما يؤدي به إلى الغفلة عن ذكر الله يضمحل على أثر الصوم. فهنيئاً لمن يستطيعون بلوغ هذه المرتبة. وما علينا إلا أن ندعوا الله ونسأله ونصمم على إيصال أنفسنا إلى هذه المرتبة.

 

اللهم إنا نسألك بحق محمد وآل محمد أن تجعلنا ممن أخلص لك الصيام، ووفّقنا لبلوغ الدرجات العليا للصيام، ومنّ علينا بجميع البركات التي جعلتها لهذه الفريضة[16].

 

وله الحمد أولاً وآخراً

 

ـــــــــــــــــــــــ

 

[*] سورة البقرة، آية: 183.

 

[1] حديث ولايت، الجزء الرابع، مركز الطباعة والنشر منظمة الإعلام الإسلامي، ص 41 ـ 43.

 

[2] المصدر السابق، ص 7ـ 8.

 

[3] المصدر السابق، ص 8 ـ 9.

 

[4] المصدر السابق، ص 44.

 

[5] المصدر السابق، ص 16.

 

[6] المصدر السابق، ص 62ـ 63.

 

[7] المصدر السابق، 139ـ 140.

 

[8] المصدر السابق، ص 143.

 

[9] المصدر السابق، ص 151.

 

[10] الفرقان: 77.

 

[11] حديث ولايت، الجزء السادس، مركز طباعة ونشر منظمة الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى، 1376ﻫ.ش، ص45 ـ 46.

 

[12] حديث ولايت، الجزء السابع، مركز طباعة ونشر منظمة الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى، 1376ﻫ.ش، ص9 ـ 10.

 

[13] من خطبه له بتاريخ25 شعبان 1422ﻫ.ق كاشان.

 

[14] من خطبه له بتاريخ1 شوال 1422ﻫ.ق طهران.

 

[15] من خطبه له بتاريخ17رمضان 1415ﻫ.ق.

 

[16] من خطبه له بتاريخ8 رمضان 1420ﻫ.ق طهران.