خطوط التقاطع في قراءتين

الإمام الخميني: ملامح ومنطلقات أولية في المنهجية الإحيائية

لا يكمن المدخل الأساس لفهم متكامل لأبعاد شخصية الإمام الخميني، بمنهجية الاستعراض الترتيبي لمراحل حياته من الولادة حتى الوفاة، وإنما يكمن في استكناه إنجازه والتبصّر بمنهاجه؛ ذلك أن أنسب أرض قادرة على استجماع خصائص شخصية الإمام الراحل، تكمن في التطلع إلى نهضته، والتمعن بها نصاً ومنهجاً وإنجازاً. 

لقد شهد العالم الإسلامي على خط الإحياء الديني صيحات واسعة للإصلاح ودعوات متكاثرة للنهضة خلال القرن والنصف الماضيين، بيد أن الباحث ينتهي في التحليل الأخير إلى أن أغلب تلك الصيحات، رغم إخلاص الرواد وتطلع الشعوب وتوثّبها، لم تعدوا في حياة الأمة وفي أوضاع المسلمين أكثر من أن تكون إثارات في الوعي ومواقف في الفعل والحركة، لم تبلغ مستوى الإنجاز المتكامل في خطوطه التفصيلية والعامة. 

بعبارة أصرح: ظلت النهضة منذ صيحة السيد جمال الدين الأفغاني مشروعاً نظرياً في عقول الروّاد، وأمنية تنشدّ إليها المجتمعات الإسلامية، ولم تتحول إلى واقع ناجز ومتكامل إلاّ مع آية الله الإمام الخميني. فقد أتاح التوفيق الإلهي من جهة والاستعدادات التي حظيت بها شخصية الإمام الراحل وتوفرت عليها من جهة ثانية، الفرصة المؤاتية لأن يتحول سماحته إلى رمزٍ كبير للإحياء والنهضة، تعدى إنجازه المشروع النظري إلى تشييد نموذجه، كما شمل الإنجاز الأزمنة والحالات جميعاً، فدار جهده من التوعية والتحريك، إلى الثورة والانتصار، ومن ثَم بناء الدولة، ثُم خوض تجربة المواجهة لتثبيت النموذج في الداخل والسعي لتعميمه في الخارج. 

وبذلك نعتقد أن أهم الكتابات عن الإمام، هي تلك التي استلهمت هذا الجانب وعبَّرت عنه. وإذا كان ثمة رغبة في أن ينفتح العالم الإسلامي على هذه الشخصية الإحيائية التجديدية الرائدة ويستفيد منها، فليس أمامه إلاّ التعرّف على نهضتها واكتشاف منهج النهضة. بيد أن الذي يؤسى له أنه برغم مرور ما يقارب العقدين على انتصار الثورة وما يناهز الثماني سنوات على وفاة الإمام، نجد أن هذا المنحى من الدراسات لم يشق بمنهجه الإحيائي طريقه بعد، إلا من استثناءات قليلة برزت في بعض المحاولات، إذ ماتزال سُبل التغطية العاطفية والخطابية من جهة وصيغ السيرة الترتيبية لتاريخ حياة الإمام هي الأكثر طغياناً وهيمنة في هذا المضمار. 

وكإشارة إلى عمل بعينه، ربما استطعنا أن ندرج كتاب الباحث اللبناني د. سمير سليمان ?الإمام الخميني والمشروع الحضاري الإسلامي? في مضمار هذه المنهجية. فهذا الكتاب رغم صغر حجمه (132 صفحة من الحجم الوسط) وبعض ما يرد عليه من ملاحظات في جانب الأسلوب وصيغة الآراء والتعبير بالذات، نجده أفلح في تلمس تلك المنهجية التي تدرس الإمام الخميني كرمز من رموز التجديد والإحياء الديني، وتنظر لإنجازه كنهضة محكومة بمكونات ومنهج، يمكن الإفادة منها، وبالتالي دوام خط الإمام عبر اكتشافها ورصد هذه المكونات وتعميم منهج الإمام.   

ما دمنا نتناول شخصية الإمام في إطار المنهج الذي نوّهنا إليه قبل لحظة، فذلك يعني أننا نتحدث ـ في هذه الشخصية ـ عن بعدها النهضوي دوماً؛ أي تلك المكونات التي انصبّت حول الوضع الإسلامي المعاصر بهدف تغييره، وتشييد واقع مغاير مكانه يقوم على أساس الإسلام. 

هذا المنهج أمضى ـ كما أشرنا ـ في التعريف بشخصية إحيائية كشخصية الإمام أعطت جميع ما تملك لله، ولدعوة الحق التي تحملها، حتى وجدنا الإمام في واحدة من خطاباته للأمة يذكر بأنه أوقف لحظات عمره لله، يبذلها في سبيل خدمة شعبه لحظة فلحظة. 

إن التعريف الرُتبي لمراحل شخصية الإمام لا يفي بأبعاد إنجازه ولا يستوعبها، عدا عن أن هذا المنهج يطمس الكثير من معالم شخصيته، ويجزِّئ فكره الحركي والنهضوي، فيشضّيه في مواقف متناثرة موزَّعة على سنّي حياته. 

بخلاف أسلوب تركيز الأضواء على معالم نهضته، فهذه المنهجية وإن كانت تغفل بعض التفاصيل الجزئية أحياناً، بيد أنها الأقدر على استكناه الأبعاد الكلية والعامة في شخصية الإمام وقراءتها في نطاق منظومة عضوية متواصلة ومنسجمة. 

وعندما نتحدث عن النهضة كَمَعلم من معالم شخصية الإمام، فما نعنيه هو ذلك الهم الذي يحمله سماحته لأوضاع العالم الإسلامي ومشكلاته، وما يستتبع الهم من رؤى تحليلية قائمة على أساس استيعاب الإسلام من جهة، ووعي الواقع المُعاش من جهة ثانية من دون انفصال أو تعالٍ كما يحدث بالنسبة لمتقضى النخبة وحملة راية التنظير والكثرة الغالبة من روّاد الإصلاح من الذين يرضون لأنفسهم مقام التنظير وحسب. 

وبعد الهمّ وتحليل الواقع يصل الدور بالإمام إلى مرحلة تشخيص الحلول المناسبة للمشكلات والسعي لتمثلها عملياً. 

هذه الاضمامة المتتابعة من الأبعاد نلمسها واضحة في مدلولات النص الخميني. على سبيل المثال بين أيدينا الآن نص للإمام يحمل هذه الأبعاد ويعبّر عنها جميعاً، حيث يقول فيه سماحته وهو في معرض تدارس مشكلات المسلمين مع ممثليهم ممن حضر طهران في إحدى المؤتمرات الفريدة التي لم تتكرّر بعدئذ من حيث مستوى الحضور ونوعيته؛ مخاطبهم بقوله: «ينبغي أن نفكر في جذور المشكلات التي تعمّ المسلمين ونجد لها الحلول اللازمة?». ثم يواصل سماحته القول بإثارة التساؤلات التالية: «لماذا ظلَّ المسلمون في أنحاء العالم يرزحون تحت سطوة الحكومات والقوى الكبرى؟ ما هو السبيل لحلٍ موضوعي لهذه المشكلة؟ أين يكمن سرّ قدرة المسلمين للتغلب على هذه المشكلات لتُحرّر ـ بالتالي ـ القدس وأفغانستان وسائر بلاد المسلمين؟». 

وعندما يتحوّل للجواب يعبّر الإمام من مواقع خبرته بمشكلات المسلمين عن جزء أساس من أفكاره في الحركة والنهضة، حين يقول: «تكمن مشكلة المسلمين الأساسية في الحكومات المسيطرة على مقدراتهم. إنها الحكومات التي أدت بالمسلمين إلى هذا الوضع الذي هم عليه الآن. إن مشكلة المسلمين لا تكمن في الشعوب؛ فهذه الأخيرة قادرة على حل مشاكلها بفطرتها الذاتية؛ بل تكمن بالحكومات المتسلّطة على رقابهم. 

يستمر الإمام في نصوص ومواقف أخرى بمعالجة مشكلة السلطة في إطار منظومته الإحيائية النهضوية التي جسّد معالمها الكبرى على أرض إيران، حيث امتحن أفكاره واختبر مقولاته الممتدة من الثورة إلى الدولة، مع كل ما رافق هاتين المحطتين الكبيرتين وما سبقهما وتلاهما من محطات ومراحل.  

البُعد النهضوي بوصفه بُعداً كاشفاً لمعلم آخر من معالم شخصية الإمام، نلمسه راكزاً في تلك الأصالة النازعة دوماً صوب الفعل والحركة والتغيير، والبعيدة كل البعد عن الجمود والتحجّر والانغلاق. 

خصلة رجحان الفعل والعمل على الكلام يشير إليها نص نادر يقول فيه الإمام: «لست من الذين يطلقون الكلام على عواهنه، ولا من الذين إذ قال سكت عن متابعة ما يقول».

كان حيوياً يحذر من الكسل والانكماش واليأس. وهذه السمات النابضة بالفاعلية نجدها واضحة جلية في نص يوحي فيه سماحته: «ينبغي للأشخاص الموجودين في البلاد الإسلامية، من أولئك المعتقدين بالإسلام الذين تنبض قلوبهم من أجل شعوبهم، ويريدون خدمة الإسلام، أن يقوم كل واحد منهم ببعث شعبه من داخله، لكي تعثر شعوبهم ـ بالتالي ـ على ذواتها التي فقدوها؛ فالشعوب التي فقدت ذواتها فقدت بلادها».

هو جدل محكم يصدر عن فكر إحيائي ـ نهضوي ثاقب، فالنص يجمع على صعيد تعبير واحد، بين استنهاض الشعب من داخله وبعثه ليستملك ذاته المفقودة مجدداً، وبين كون حالة فقدان الذات مساوية لفقدان البلد ومساوقة للتبعية والذوبان والضياع. 

لا نحتاج إلى عناء كبير لإثبات صوابية هذا التحليل؛ فبين يدينا عالمنا الإسلامي الذي يسهل قراءة وقائعه وأوضاع المسلمين فيه من خلال العلاقة المتبادلة التي حددها النص الخميني بين الشعب وذاته، وبين الذات والبلد. وإلا هل ما يشهده العالم الإسلامي سوى دليل آخر على فقدان الأمة لذاتها؟ وهل وجدتم شعباً مستلباً ضائعاً يفلح بتشييد نهضة وإقامة عمران حضاري حقيقي؟

وما دمنا نثير مسألة الذات فعلينا أن نلحظ في قراءتنا لأبعاد معينة من منظومة فكر النهضة عند الإمام، إن قضية استعادة الأمة لذاتها لا تقوم في أطروحة الإمام على بدائل مفتوحة لا عدَّ لها وحصر، كما هي قضية لا تتحمل التجريب لأنَّ الخطأ فيها يعود ـ بل عاد فعلاً ـ بتبعات مفجعة. وإذا كان فكر الإمام يرفض بداهة أن يكون تبني الغرب أساساً كخيار استنهاضي للأمة، فإن شرط الاستعادة لديه أن تتم بالإسلام وللإسلام. 

الإسلام هو هوية ذات الأمة المقطوعة. وفي غير ذلك ستظل مشكلات العالم الإسلامي على حالها، حتى لو تم ـ فرضاً ـ بناء الذات على أساس التغريب وما سواه من تيارات الحضارة الغربية واتجاهات الفكر المعاصر. وفي ذلك يصرح الإمام: «إن مشكلاتنا ستظل قائمة على حالها حتى نعود للإسلام».

إذا كانت صورة الإسلام قد تماهت وتشاكلت مع? إسلامات? رفعتها عوائل وبيوت، وتنادت بها سلطات وعواصم، فإن الإسلام الذي ينادي به الإمام ويجعله شرطاً لاستعادة ذات الأمة، إنما هو إسلام رسول الله (ص) حيث يقول في تتمة النص الآنف: «حتى نعود إلى الإسلام؛ إسلام رسول الله، وسوف لن نتمكن من حلِّ قضايانا فيما لو لم نرجع إلى الإسلام».

من شروط الاستنهاض العملي المرتبط بالواقع أن لا يقتصر على التحليل والتنظير، ولا على مجرد الهتاف والشعار. وهذا المَعلَم نجده هو الآخر واضحاً في شخصية الإمام ونهضته. فعن البعد الشخصي نجد الإمام ـ وهو قلما يتحدَّث عن نفسه ـ يقول: «إني لستُ ممّن إذا قال قولاً تركه هدراً. وإذا وجدت أنَّ مصلحة الإسلام تقتضي أن أصدر حكماً فسوف أجدّ في إنجازه بكل طاقاتي، ولن أقف مكتوف اليدين إزاءه؛ بل أقف بوجه الظلم دون وجل».

هذه نقطة كاشفة في صفة قرن القول بالعمل في تكوين شخصية الإمام. وهي بنفسها نجدها في المواقف النهضوية. على سبيل المثال نعرف جميعاً أنَّ الإمام هو الذي أعلن الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك يوماً للقدس، وطلب من المسلمين في إيران وخارجها الاحتفاء بهذه المناسبة. بيد أنه يعود بشخصه ليرفض مجرد الاحتفال والاقتصار على الهتاف والشعار، ويحث على الحركة والفعل التغييري. يقول: «إن الاكتفاء بالاحتفال بيوم القدس عن طريق اطلاق الهتافات وعقد الاجتماعات... لا يمكن أن يقف حائلاً بوجه الحكومات؛ وقد تؤدي هذه الأعمال الغرض المطلوب لكنها لا تكفي لوحدها».

ما نسعى إليه ونبتغي ترسيخه في دراسة شخصياتنا هو تجاوز النهج الذي يقتصر على الاحتفاء بكلمات التمجيد والتبجيل وذكر المؤلفات، لنضعها في مدارها الواقعي، كونها رموزاً ريادية لم يقتصر إنجازها على مدّ وعي الأمة بالفكر، وإنما تركت في وجودها بصمات مؤثرة. 

وزبدة هذه المحاولة تتمثل بالنظر لهذه الرموز الريادية. إنها شخصيات كبيرة في خطّ الإحياء الذي عمّ العالم الإسلامي منذ أكثر من مائة عام، وبالتالي فإن همة الباحث ينبغي أن تنصرف لاستقصاء معالم الفكر الإحيائي النهضوي لدى هؤلاء، واكتشاف نظرياتهم في قضايا الأمة ومشكلاتها الحضارية. 

من مزايا هذا المنهج أنه يوفر للأمة فرصاً أوفر للتعامل الخصب مع فكر أولئك وإنجازاتهم، وهو يمنح الحيوية لفكرهم بعد أن يصاغ على شكل نظريات إزاء قضايا الواقع. 

كما أنه يكسر الحصار المنهجي المفروض على رجالنا ويتجاوز الإقصاء والإلغاء الذي يمارس ضدّهم على أساس الانتماء المذهبي. 

وحين نتحدث في نطاق المسلمين، يمكن أن نتفق على مفهوم عريض للإحياء يتألف من حسِّ عميق بالواقع المعاش ومرارته، والامتلاء بهمِّ تغييره وتجاوزه نحو الأفضل، شرط أن يستند التغيير إلى رؤية فكرية تحليلية لعلل الواقع المعاش، إلى جوارها رؤية فكرية ينطلق منها برنامج يترسم منطلقات التغيير. وقد تمارس الشخصية الإحيائية بعض منطلقات فكرها في التغيير لو أتيحت لها إمكانات ذلك، وقد تموت وتختفي من الساحة ويبقي فكرها الإحيائي مناراً لعمل الآخرين. 

ولاريب أن الإمام الخميني تميز من بين رموز الإحياء الإسلامي خلال أكثر من قرن، أنه توفر على البعدين في زمن واحد، فهو صاحب نظرية أو مشروع في الإحياء، وقد استطاع في الوقت ذاته أن ينفذ مشروعه عملياً ويحوله إلى إنجاز متحقق على أرض الواقع. 

وعند هذه النقطة تكمن أهمية دراسة شخصية الإمام الخميني كرائد إحيائي يمثل مشروعه العملي إنجازاً قائماً بالفعل، وصاحب نهضة يمكن التوفر على اكتشاف عناصرها العامة التي تستحق التعميم في ساحات المسلمين المختلفة.  

عندما ينتهي الدارس من بعض التحديدات المنهجية التي تتناول إمكانية الإحياء الإسلامي ومعناه، يقف حيال إنجاز الإمام وأمامه قراءتان ايجابية وسلبية ـ إذا صحَّ التصنيف ـ. والأساس في هذا التصنيف أن الممارسة الإحيائية تتجه للإسلام تارة وللواقع تارة أخرى. 

فالشخصية الإحيائية تستلهم من الإسلام عوامل الإحياء وممكناته وتدفع بها إلى المسلمين، وهذا ما نسميه بالجانب الايجابي من الإحياء، في حين تتجه للواقع وتعالج العقبات التي تحول دون فاعلية هذا الدين وامتداده وعطائه، وهذا هو الجانب السلبي الذي يشهد صراعاً ومعارك محتدمة مع جميع العوامل المعوّقة لانطلاقة الدين، سواء عبّرت عن نفسها بصيغة عوامل تعويق داخلية أو تحديات وعقبات خارجية يفرضها الوضع الحضاري الراهن للأمة الذي يشهد استعلاء الغرب وضغوطات حضارته المادية. 

والواقع أن الإمام خاض معركة ضارية في الجبهتين معاً، ذلك أن مهمة إحياء الدين ونفض الغبار عما لحقه من ركام التخلف والجمود بفعل عوامل معروفة، لم تكن أقل قسوة من ضراوة المعركة على الجبهة الثانية؛ جبهة الواقع في معوقاته الداخلية وتحدياته الخارجية، إن لم تكن أشدّ منها كما صرّح الإمام أكثر من مرّة. 

نعرف أن هذه المحاولة محفوفة بأسئلة أساسية ومهمة عن إمكان الإحياء ومعناه وتاريخيته في حياة المسلمين، ثم مداه وأدواته. كما نعرف أن دراسة مثل هذه لشخصية الإمام الخميني تحتاج لجهود كبيرة وتقصّي واسع لمئات الخلفيات والمواقف وألوف النصوص والوقائع، بيد أن الذي لا نشكّ فيه أنها ستعود بمعطيات مهمة على وعينا وواقعنا.