ولادته
ولد أوّل شهداء المحراب في الجمهورية الإسلامية السيد محمد علي القاضي عام 1331هــ في مدينة تبريز من بيت علمائي عريق. كان والده آية الله السيد محمد باقر الطباطبائي من أبرز علماء تلك المنطقة.
دراسته
بدأ بالدراسة مبكراً على يد والده وعمّه آية الله السيد أسد الله القاضي، ثم هاجر إلى قم المقدسة في عام 1359هــ، حيث قضى عشر سنوات حضر فيها دروساً عند أبرز أساتذتها كآية الله البروجردي والگلبايگاني وحجت والكوهكمري، ودرس الفلسفة وخارج الأصول لدى الإمام الخميني (ره).
ثم رحل إلى النجف ومكث فيها ثلاث سنوات، درس خلالها على يد آية الله الحكيم وكاشف الغطاء والسيد البجنوردي، وإثر مثابرته المتواصلة بلغ مرتبة الاجتهاد وأجازه مجموعة من المراجع.
جهاده
في السنوات المبكرة من عمر الشهيد، وقبل أن يسافر إلى قم المقدسة لطلب العلم، أبعد مع والده إلى طهران مدة شهرين بأمر من رضا شاه الخائن بسبب نشاطهما القوي في ثورة تبريز آنذاك، ثم تحول المنفى إلى مدينة مشهد المقدسة، وبعد سنة من النفي رجع إلى تبريز.
وبالرغم من رغبة الشهيد في إكمال دراسته العلمية في النجف الأشرف إلاّ أنه اضطر ــ لعدة أسباب ــ إلى الرجوع إلى مدينة تبريز عام 1372هــ، وهو مثقل بالأمانة ومسؤولية العلم والإيمان.. شرع في التبليغ والتحقيق وإمامة مسجد من مساجد تبريز المعروفة، ولم يمنعه ذلك من التصدي للعمل السياسي، فقد عرّى النظام الجائر للشعب في السنوات العشر التي أعقبت ثورة الثاني عشر من محرم 1383هــ (15 خرداد) وفي تلك الثورة، وبوجود الكثير من العلماء الذين شاركوا فيها ووقعوا على البيانات، وكل تحدث من على المنابر عن النظام بحسب معرفته وحدود بيانه، ومع أن الشهيد كان أصغر من بقية العلماء سنّاً، بل وأقل علماً من بعضهم، نجد أن الشعب بأسره، بل النظام والسافاك كانوا يعلمون جيداً أن قيادة التحركات والخطب وفتح وإغلاق الأسواق والشوارع لمدة أسبوعين والتظاهرات والتجمعات أمام مبنى المحافظة والشرطة كانت تتم على يد الشهيد القاضي، فنال بذلك ثقة الشعب ومحبته وطاعته في تبريز وفي محافظة آذربيجان، كما كانت الكثير من مجالس العلماء السرية تعقد في منزله، أمّا أكثر البيانات فتكتب إما بقلمه وخطه أو إملائه.
الاعتقال والنفي
اثر ذلك اعتقل الشهيد في 18 جمادى الثانية عام 1383هــ وسجن في إحدى المعسكرات بمدينة طهران ثم في إحدى سجونها حيث بقي فيها لمدة شهرين ونصف، وبسبب ما لاقاه من التعذيب البدني والنفسي فقد نقل إلى إحدى المستشفيات، ثم أفرج عنه بكفالة من أخيه وبشرط عدم مقابلة الناس، وكان هذا يتم بإشراف دقيق من جهاز السافاك لمدّة أربعة أشهر.. وبعد ذلك، وفي الأيام الأولى التي أطلق فيها سراح الإمام القائد بعد مجزرة 15 خرداد، سافر الشهيد إلى مدينة قم المقدسة، وقابل فيها الإمام، وتحدث معه في شؤون التحرك الإسلامي، ومن هناك تشرف بزيارة الإمام الرضا (ع) ثم عاد إلى طهران.
ومع أنّ الشهيد كان منفياً عن مدينته تبريز إلاّ أنّه غادر طهران إليها من دون إذن السافاك بتاريخ 10 ذي الحجة 1383هــ. وما أن علم أهالي تبريز وأطرافها بقدوم الشهيد حتى استعدوا لاستقباله، وكان يوماً مشهوداً في تاريخ تبريز لم تشهد مثيله، فوفاءً لهذا العالم الرباني المجاهد احتشدت مئات الألوف في الطريق ما بين محطة القطار إلى بيت الشهيد (بمسافة 6 كيلومترات) وهي تطلق الشعارات الإسلامية مثل.. الله أكبر، ونصر من الله وفتح قريب.
لم يتحمل النظام منظر الاستقبال حتى ليوم واحد، فقام بردود فعل انفعالية، وأقدم الساواك على اعتقاله في منتصف ليل يوم قدومه.. يقول الشهيد عن هذا الاعتقال: "داهم رجال السافاك منزلي وقبضوا عليّ؛ أمسكني بعضهم من رجلي وآخرون من يديّ، ونقلوني بهذا الشكل إلى رأس الزقاق، ثم أركبوني السيارة، ونقلوني إلى "سلطنت آباد" (أحد السجون) في طهران".
بعد مضي برهة من الزمن، أفرج عن الشهيد بضغط من آية الله الميلاني، فرجع إلى تبريز، إلاّ أن هذا الأمر لم يدم طويلاً، فسرعان ما ألقي القبض عليه ونقل إلى طهران من جديد.
وبسبب الضعف والمرض الذي أصابه، فقد أبقي في إحدى المستشفيات لمدة ستة أشهر تحت المراقبة المستمرة للسافاك، ثم أبعد بعد ذلك بتاريخ 27 رجب 1384هــ إلى العراق، فاغتنم هذه الفرصة بحضور الدرس في حوزة النجف الأشرف وبالأخص درس الإمام الراحل (ره).
وبعد انتهاء الإقامة الجبرية التي دامت أحد عشر شهراً عاد الشهيد إلى مدينة تبريز، وأكمل مسيرته السابقة في تبليغ الرسالة وكشف اللثام عن الوجه القبيح للنظام.
النفي إلى بافت
في خطبة عيد الفطر السعيد عام 1387هــ، ذكر الشهيد ــ ضمن حديثه عن الحكومة الإسلامية ــ الإمام الخميني بصراحة وبجّله، ثم أشار إلى العلاقات ما بين النظام وإسرائيل وأدانها، فقررت أجهزة الأمن والقضاء في جلسة مشتركة نفيه إلى مدينة بافت في محافظة كرمان لمدّة ستة أشهر.
ولم يفتر الشهيد لحظة في منفاه من فضح جرائم النظام ودعوة الناس إلى الحذر واليقظة. وإثر ذلك أصدر رئيس جهاز السافاك قراراً بمنع الشهيد من لقاء الناس نهائياً، ويطلب التحقيق مع كل فرد ينوي مقابلة الشهيد.
ومع كل هذا، فقد كان الشهيد يتبادل الرسائل مع العلماء والمراجع أمثال آية الله العظمى السيد محسن الحكيم، وآية الله العظمى المرعشي النجفي، وآية الله العظمى الميلاني، وآية الله صدوقي، وآية الله دستغيب، بشكل سرّي. كما بذل الشهيد خلال هذه الفترة، جهوداً مضنية في كشف ممارسات النظام أما أنظار الشعوب الإسلامية؛ فكان يكتب مقالات باللغة العربية، ويرسلها بالخفية إلى لبنان وسوريا والعراق حيث نشرت في الصحف، وللشهيد عدة مقالات نشرت في مجلة العرفان بصيدا في لبنان.
النفي إلى زنجان
ومع انتهاء مدة النفي في بافت، قرر السافاك نفيه من جديد بتاريخ ربيع الثاني 1389هــ إلى مدينة زنجان، إلاّ أن الشهيد غيّر مساره إلى مدينة تبريز، فاكتشف أمره على بعد 60 كيلومتراً من تبريز وأرجع إلى زنجان، فدخلها يوم 17 ربيع الآخر، وعيّن له مسكن في بيت إمام جمعة زنجان في ذلك الوقت. وقد أصدر رئيس السافاك أمراً يقضي بمراقبة كل تحركات الشهيد واتصالاته فور وصوله إلى زنجان، وقد أقلق النظام إلى حد كبير جموع الناس التي كانت تذهب لزيارته ورسائل وبرقيات العلماء والمراجع المتكررة، وقد زاد من قلق النظام عندما علم الساواك بأن للشهيد علاقات بالإمام الخميني (ره) في النجف الأشرف، وأنه بعث برسالة إلى الإمام في العراق بواسطة أحد العلماء، فشدد من رقابته عليه، وطلبوا ملخصاً عن ماضيه السياسي من محافظة آذربيجان.
هذا التقرير الذي يعتبر ملخّصاً للماضي الجهادي والسياسي لهذا العالم الواعي، يحوي نقاط وأمور ملفتة. وإليكم نص التقرير:
"الشخص المذكور الذي يعتبر أحد ــ بل على رأس ــ علماء آذربيجان الشرقية، قد صعّد من نشاطه منذ عام 1342هــ، وبدأ بمعارضة الدولة واللوائح الستة، علناً، وإهانة السلطات العليا في البلاد، ورجال الساواك والدوائر الحكومية. المشار إليه هذا قد حرّم انتخابات عام 1342هــ، وتحدث بمطالب حادة ضد كيفية الانتخابات.
واستناداً إلى الوثائق الموجودة، فإنه لم يقصّر قدر إمكانه في إهانة المسؤولين واللوائح الإصلاحية للبلاد، وذكر الخميني بإجلال وإكبار في أحاديثه.
ونظراً لسوابقه هذه، فإنه اعتقل في آذر [الشهر الفارسي الثامن] من عام 1342 ونقل إلى طهران. وفي 4/2/1343 عاد إلى تبريز دون علمنا، فاعتقل مرة أخرى بأمر من شخص العقيد قائم مقام، ونقل إلى طهران في 5/2/1343. ثم عاد إلى تبريز في 10/5/1343، ثم بعد فترة يسافر إلى العراق بمعية عدد من العلماء لأجل الزيارة. ونظراً لظروف الزمان والرقابة المفروضة عليه، فقد كانت نشاطاته محدودة بعد هذه الفترة. إلى أن ارتقى المنبر في عيد الفطر من عام 1388 القمري الموافق لــ 1347 الشمسي في مسجد (مقبرة)، وتحدث حول وضح الفتيات وظهورهن في الشوارع، واعتبره منافياً لكرامة المجتمع، وتحدث أيضاً حول الأقليات الدينية.
ونظراً لهذه الأحاديث ومطالبه الحادة الأخرى في اليوم المذكور، فقد حكمت عليه اللجنة الأمنية الاجتماعية للمحافظة بالإجماع، وبتأييد من الشعبة السادسة، بالإقامة الجبرية في بافت لمدة ستة أشهر. وبعد انتهاء فترة حكمه، وإبلاغ أهله بأنه سيقضي فترة في زنجان، فلم يراعِ الأوامر، ويصل إلى بستان آباد (التي تبعد 60 كيلو متراً عن تبريز) بهدف الذهاب إلى تبريز، فيمنع من ذلك، وفي 12/4/1348 ينقل إلى زنجان".
وبعد مضي ما يزيد على أربعة أشهر من النفي، وبضغط من كبار العلماء خُلّي سبيله، فعاد إلى تبريز بتاريخ 17 رمضان 1389هــ.
جهاده حتى انتصار الثورة
ومنذ رجوعه وحتى انتصار الثورة، كان كقائده طوداً شامخاً في الأحداث، وكانت علاقته الوثيقة بالإمام قد تركت أثراً كبيراً في أعماله وآرائه ومواقفه، فقد كان سبّاقاً في إرشاد الناس وتوجيههم في جميع الظروف وخصوصاً في اللحظات الحساسة، ثابت النظر والتشخيص في المسائل السياسية.
ومع تصاعد جهاد الشعب المتيقظ بشهادة نجل الإمام السيد مصطفى، فقد أسّس الشهيد بالمجالس التي عقدها على روح الشهيد، خندقاً قوياً للدفاع عن الإسلام ومحاربة الطاغوت، وكان منزله المأمن الوحيد للمجاهدين بعد حادثة 19 دي (29 محرم 1398هــ) التي استشهد فيها مجموعة من علماء قم اثر خروجهم في التظاهرات احتجاجاً على إحدى المقالات التي كتبت ضد الإمام الخميني (ره). أمّا الشهداء فكان تشييعهم ينطلق من منزله، وكانت التظاهرات الكبرى في 11 ربيع الأول 1398هــ في تبريز تتمّ بتوجيه هذا الشهيد الذي واصل الدعوة إلى إغلاق السوق والمحال التجارية وعدم دفع أموال الماء والكهرباء، لإعلان عدم مشروعية النظام، والدعوة إلى الإضرابات حيث كان يقوم بتأمين مصاريف المضربين فترة الإضراب، وكان ينظّم التظاهرات التي تنطلق من أمام منزله ويتقدمها رغم إطلاق الرصاص عليها.. كما عيّن في مسجده محلاً لتعليم طريقة استخدام القنابل الحارقة، وحثّ الآخرين على تعلّمها وتعليمها. وبفضل هذه الجهود المتظافرة في كل أنحاء إيران تم الانتصار الميمون للثورة الإسلامية.
وبعد انتصار الثورة الإسلامية أمّ صلاة الجمعة في تبريز الثورة حتى نال الشهادة.
مزاياه
اشتهر الشهيد السعيد باستقامته وعدم تراجعه عن درب الجهاد مع كل ما كان يلاقيه، وصبره العظيم أمام ضغوط النظام.. كما عرف الشهيد بصفاء قلبه وتعلقه بأهل البيت (عليهم السلام).
كان الشهيد داعياً إلى مرجعية الإمام الخميني (ره) وتقليده بعد وفاة السيد الحكيم الذي كان وكيلاً عنه منذ عام 1372هــ، وتمكن الشهيد أن يرجع كثيراً من أهالي آذربيجان إلى الإمام. كما كان متواضعاً مترفعاً عن الشهرة والرئاسة؛ فكان يتعمد أن يكون آخر من يوقّع من البيانات مع أنه المنشئ لها غالباً وأول الموقعين عليها.
مؤلّفاته
للشهيد السعيد مؤلفات عديدة منها:
1 ــ حاشية على الرسائل والمكاسب.
2 ــ حاشية على الكفاية.
3 ــ تقريرات أصول آية الله حجت.
4 ــ تاريخ القضاء في الإسلام.
وهناك مؤلفات لم تطبع بعد منها:
1 ــ فصل الخطاب في تحقيق أهل الكتاب.
2 ــ السعادة في الاهتمام بالزيارة.
3 ــ المباحث الأصولية.
وللشهيد تعليقات على كثير من الكتب، كما قام بالتقديم لكتب أخرى.
شهادته
كان الشهيد يدعو الله أن يرزقه الشهادة، فما أكثر أن كرّر جملة (يا ليتني أرزق الشهادة كما رزقها الشهيد المطهري).. ورزقه الله ما طلب؛ فقد استشهد يوم عيد الأضحى بعد أدائه صلاة العشاء من عام 1399هــ على يد المنافقين الذين أصابوه بثلاث طلقات نارية، ودفن في مقبرة المسجد الذي كان يؤم الجماعة فيه.
وقد نعاه الإمام الراحل (ره) بالقول: "كان المرحوم الطباطبائي من أصدقائي القدامى، وكانت لديّ معه ذكريات عديدة؛ لقد ذهب إلى السجون العديدة، حيث جاهد وأبعد".
فالسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.