Skip to main content

ملامح عامة من الفكر السياسي للإمام الخميني

التاريخ: 06-10-2007

ملامح عامة من الفكر السياسي للإمام الخميني

ملامح عامة من الفكر السياسي للإمام الخميني لو نظرنا إلى مسيرة الفكر السياسي الإسلامي منذ انطلاقته وحتى الآن لما رأينا فترة كفترة القرن او القرنين الاخيرين، حفلت ببحوث المفكرين الإسلاميين وبالتالي طرح واثارة العديد من النظريات والرؤى والافكار المختلفة

ملامح عامة من الفكر السياسي للإمام الخميني

لو نظرنا إلى مسيرة الفكر السياسي الإسلامي منذ انطلاقته وحتى الآن لما رأينا فترة كفترة القرن او القرنين الاخيرين، حفلت ببحوث المفكرين الإسلاميين وبالتالي طرح واثارة العديد من النظريات والرؤى والافكار المختلفة. ورغم ان مفكرين كثيرين خطوا خطوات مهمة على هذا الطريق، خاصة في البرهة الاخيرة، إلا ان ايّ واحد منهم ـ تحقيقاً ـ لم ينجح في ترجمة افكاره عملياً في أي بلد من البلدان. الوحيد الذي نجح في ترجمة الفكر السياسي الإسلامي عملياً وإنزاله إلى الواقع، هو الإمام الخميني(رض)، مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران. ومما يؤسف له ان الفرصة لم تسنح للإمام الخميني ليتمكن من تدوين مجموعة افكاره السياسية ـ الدينية وتنسيقها؛ إذ إن عظم مسؤولياته وكثرة مشاغله وزخم الاحداث حالت دون تحقيق ذلك.

أولاً: إن ضرورة جمع وتدوين واعادة كتابة الفكر السياسي للإمام الراحل نابعة من جهات عديدة:

ان مجموعة افكار سماحته من المجاميع المعدودة التي نجحت في ايجاد حركة شاملة، وبالتالي حققت انتصار ثورة عظيمة.

ثانياً: يتطلع المجتمع الإيراني المعاصر، وسائر المستضعفين في العالم، إلى المزيد من النهل من الزلال الاصيل لأفكار سماحته، والاستفادة منها اكثر فأكثر وعلى أفضل نحو.

ثالثاً: ان تبيين افكار مجتهد ومرجع إسلامي كبير ـ سعى من خلال تمسكه بالدين واستلهام تعاليم الوحي، إلى تفجير ثورة عظيمة وخلق نهضة شاملة، وقيادة الحكومة الإسلامية على مدى عشر سنوات ـ امر في غاية الأهمية صيانة لها وحفظاً للتاريخ.

الدراسة التالية محاولة لتوضيح «الخطوط العامة للفكر السياسي للإمام الخميني»؛ فعلى الرغم من ان بحوثاً عديدة كتبت ونشرت عن «الحياة السياسية للإمام الخميني» ونهضته وذكريات مع سماحته، وكذلك نشر مجاميع «موضوعية» لأحاديث سماحته وأقواله، إلاّ اني لم اعثر حتى الآن على كتاب مستقل تناول تدوين واعادة كتابة فكر الإمام الراحل خاصة فكره السياسي. صحيح انه كان هناك مقالات ومحاضرات تناولت ذلك من احدى زواياه في الصحف والمؤتمرات والندوات، إلا ان اية واحدة منها لم تتناول مجموعة افكاره السياسية بنظرة جامعة شاملة.

نأمل في ما سنعرضه في هذا المجال، ان يكون خطوة على طريق التعريف بشخصية محيي الإسلام المحمدي الاصيل وفكره السياسي، وبادرة لجهود أوسع وأشمل في هذا المجال.

الدين والسياسة

تشكل رؤية الإمام الخميني إلى «الدين» و «السياسة» والعلاقة بينهما، حجر الاساس في فكره السياسي. وفي هذا المجال كان الإمام، منذ الايام الاولى للنهضة الإسلامية وحتى اللحظات الاخيرة من حياته المباركة، ينتهز كل فرصة ومناسبة لتوضيح آرائه بهذا الشأن وذكر أدلتها. فسماحته لم يكن يعرّف السياسة مطلقاً بأنها «علم القدرة» و «علم التسلّط» و «علم حمل الافراد على الطاعة»،كما كان يراها مفكرو الغرب السياسيون كموريس دو فرجه، ويطبقها الحكّام الطغاة عملياً ايضاً. فهذا التعريف بنظر الإمام ملازم للحيلة والخداع والمكر و... واذا كان لابد من اطلاق لفظ «سياسة» على ذلك، فهي اذن سياسة شيطانية وليس لها علاقات بالدين والذين يديرون شؤونه.

فقد جاء في حديث لسماحته في عام 1964، بعد اطلاق سراحه وخروجه من المعتقل، يذكر فيه ذكرياته عن المعتقل: جاء إليّ احد الاشخاص، لا ارغب في ذكر اسمه، وقال: ايها السيد، ان السياسة كذب ومكر وحيلة وخداع، وهي باختصار «شطارة من نوع خاص»، فاتركوا هذا لنا، فأجبته: لم اكن أتدخل في هذه السياسة التي قلت عنها منذ اليوم الاول.

من جهة اخرى، لم يكن سماحة الإمام ينظر إلى الدين كمجموعة من الاحكام تقتصر على علاقة «الانسان» بربه، لا يتعدى هدفها السعادة الاخروية، ولن تهتم بإصلاح الشؤون الاجتماعية للناس. كما انه وضمن انتقاده الشديد لكل من التوجه الصوفي والتوجه المادي ـ اذ يفسر الاول احكام الإسلام وقوانينه برؤية غيبية عرفانية، وينظر الثاني إلى شؤون الإسلام العبادية والعرفانية والغيبية والاعجازية نظرة مادية دنيوية ـ كان سماحته يعتبر حقيقة الإسلام شيئاً آخر، وان وجود مثل هذه النظرات والتفاسير ناتج عن «غربة الإسلام».

إثر رفضه لهذين الفهمين الرائجين عن الدين والسياسة، واللذين كانا قد أضحيا سبباً في الفصل بينهما، طرح سماحة الإمام الخميني فهماً آخر للدين والسياسة. اذ حاول سماحته، وضمن اشارته إلى الابعاد المختلفة لحياة الفرد والمجتمع وعدم انحسارهما في «البعد المادي والحيواني»، ان يقارن بين السياسة الإسلامية وغير الإسلامية، فيقول سماحته في هذا الصدد:

«ان للسياسة ـ السياسة الشائعة في البلدان ـ صورة ناقصة للسياسة التي أثبتها الإسلام للانبياء والاولياء. فالانبياء والاولياء سعوا لهداية الامة، ارادوا ان يسلكوا طريقاً يستوعب المنافع المتصورة للإنسان والمجتمع كافة. فالسياسة تعني توجيه المجتمع وهدايته، وان يؤخذ بيده لما فيه خيره ومنافعه، ان ينظر فيها إلى ابعاد الإنسان والمجتمع كافة، وان توجه الوجهة التي فيها صلاح الامة والافراد. ومثل هذا منحصر بالانبياء وحدهم، وليس بإمكان الآخرين ان يحققوا ذلك».

ان فهم السياسة بهذا النحو، يعني السمو بالإنسان من «التراب» إلى «الله» والاخذ بيده لنيل كل السعادات الممكنة. ولهذا اعتبر سماحته تنفيذ هذه السياسة منحصراً بالانبياء وأتباعهم، وهو غير متيسر لغير المتدينين ويعتبر أمراً «غير ممكن». فالإمام يرى في الإسلام جامعاً شاملاً لكل هذا، وان الآراء السطحية ووجهات النظر ضيقة الافق التي ترى الإسلام عبارة عن احكام عبادية واخلاقية صرفة ـ كما اشرنا إلى ذلك ـ مرفوضة بالنسبة له. وفي هذا الصدد كتب سماحته في كتاب «البيع»، ضمن اثارته لبحوث ولاية الفقيه: «ان كل من يلقي نظرة ولو عابرة على احكام الإسلام وشموليتها لجميع شؤون المجتمع، وعلى العبادات التي هي تكليف بين العباد وخالقهم كالصلاة والحج ـ رغم ان هاتين العبادتين تتسمان بأبعاد اجتماعية وسياسية مرتبطة بالحياة الدنيوية ـ، وعلى قوانينه الحقوقية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، سيرى ان الإسلام ليس بأحكام عبادية وأخلاقية صرفة.. لقد جاء الإسلام ليقيم الحكومة العادلة التي فيها بيت المال والقوانين الخاصة بالضرائب، والعقوبات، والقضاء، والحقوق، والجهاد، والدفاع، والمعاهدات التي تعقد بين الدولة الإسلامية والدول الاخرى». ومن وجهة نظر الإمام، ان هذه الشمولية لا تقتصر على الدين الإسلامي وحده، بل حتى السيد المسيح ايضاً، الذي يعتبره انصاره مظهراً للزهد وترك الدنيا، لم يكن غافلاً عن الشؤون الاجتماعية للمجتمع، اذ انه اعلن وهو في المهد «آتاني الكتاب» ومنذ البداية كان ينوي مقارعة الظالمين.

فاذا كان لتعاليم الإسلام رأي في مختلف جوانب الحياة الإنسانية، فان اقامة الحكومة العادلة والعدالة الاجتماعية تعتبر من اهم اهدافه، هذا من جهة. ومن جهة اخرى ان السياسة الإسلامية تعني قيادة الإنسان نحو الصلاح والكمال المنشود في مختلف ابعاده الروحية والجسمية؛ اذن فالدين، والحال هذه، جزء لا يتجزأ من السياسة، بل احدهما انعكاس للآخر.

لقد كان سماحة الإمام يرى ان السياسة، مع الاخذ بنظر الاعتبار الفهمين آنفي الذكر، نافذة في جميع الاحكام الدينية وسارية فيها. كما كان يعتقد بأنه لا يمكن تفسير احكام الدين تفسيراً صحيحاً بمعزل عن السياسة. ولذلك كان يقول:

«اننا نحن الذين نفسر مقولة «ما لنا والسياسة»، بأن نتخلى عن الإسلام ونضعه جانباً اصلاً. والله ان الإسلام كله سياسة، لقد عرّفوا الإسلام بشكل سيّئ». ويبدو ان المرحوم السيد حسن المدرس، الذي تنقل عنه جملته الشهيرة: «سياستنا ديننا عينه، وديننا سياستنا عينها»، كان يشترك مع الإمام في هذا المفهوم، وليس بعيداً ان يكون الإمام قد تأثر به اذ كان سماحته يكنّ له احتراماً خاصاً.

السؤال السياسي المطروح، بعد ان تم رفض نظرية الفصل بين الدين والسياسة، والاجابات المختلفة عنه ـ اوجد على الاقل بين اوساط المفكرين المسلمين ـ توجهين مختلفين. والسؤال هو: هل اقتصر الإسلام على ذكر العموميات في مجال الاهداف السياسية وقيمها، ولم يخض في ما عدا ذلك في الجزئيات والعناصر المكونة للحياة السياسية وطبيعة العلاقة بين الممارسين لها؟ ام ان الإسلام اشار إلى جزئيات الشؤون السياسية بما فيه الكفاية أيضاً، وان بالإمكان بلورة نظرية سياسة مستقلة من بين المصادر الاولية المتوفرة؟ وطبقاً لوجهة النظر هذه، ينبغي البحث عن الآراء التي لا تخالف الشرع، ليس هذا فحسب، بل وان نستلهم أسس النظرية السياسية واصولها من صلب التعاليم الدينية. ومن الطبيعي والمسلم به، ان الكاتب لا يعني بذلك الشؤون الشخصية والاحوال المتغيرة مع تغير الزمان، بل يقصد امكانية الحصول على نظرية سياسية متكاملة مستلهمة من صلب الدين تماماً.

يعتقد بعض المفكرين والسياسيين بالرأي الأول، والنص التالي لأحدهم: «الدين هو الذي يعين أصول السياسة وأهداف الحكومة، وفيما عدا ذلك لا يخوض في الجزئيات».

ويعتقد بعضهم الآخر، ممن اتصفوا بتوجهاتهم القومية، والذين شككوا حتى في امكانية تطبيق بعض الاحكام الإسلامية المسلّم بها في العصر الحاضر، بأنه: ينبغي ادارة المجتمع باستخدام مختارات مناسبة من الفكر الإسلامي مع الاستفادة من معطيات علم السياسة. ولهذا السبب كانوا يعارضون تطبيق احكام من قبيل ولاية الفقيه، والقصاص، و...

الإمام الخميني، وخلافاً لوجهات النظر هذه، كان يؤمن بجامعية الإسلام وشمولية احكامه، وامتلاكه لنظرية سياسية متكاملة. وقد كتب سماحته في هذا الشأن في وصيته الإلهية ـ السياسية يقول:

«الإسلام دين، خلافاً للمذاهب والاديان غير التوحيدية، يتدخل في جميع الشؤون الفردية والاجتماعية والمادية والمعنوية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، ويشرف عليها. ولم يهمل اية ملاحظة، ولو كانت بسيطة، لها دور في تربية الإنسان والمجتمع وتقدمهما المادي والمعنوي. وقد حذر من الموانع والمشكلات التي تقف في طريق تكامل المجتمع وسعى إلى ازالتها».

لقد اعتبر الإمام الخميني المساعي التبريرية والتأويلات مرفوضة حتى في اكتشاف نظرية الإسلام السياسية، اذ انه لا يرى ضرورة لها. والنص التالي يشير إلى ذلك بوضوح:

«كونوا على اطمئنان بأن كل ما هو بصلاح المجتمع في بسط العدالة ورفع ايدي الظلمة وتأمين الاستقلال والحرية، والنشاطات الاقتصادية وتعديل الثروة، موجود في الإسلام بشكل كامل وبصورة منطقية قابلة للتطبيق والتجسيد العملي، ولا يحتاج إلى تأويل خارج حدود المنطق».

يبدو ان اعتقاد الإمام هذا مستمد من آراء الدين الكلامية وبعض الآيات القرآنية والروايات ومستند اليها، اكثر مما هو مستمد من مجموعة الآراء والافكار السياسية الدينية وتجربتها العملية، اذ سبق له ان اشار في بعض احاديثه إلى عدم بيان النظم الدينية ـ النظام الاقتصادي والسياسي ـ بشكل كامل. وان الآيات التي يستدل بها في هذا المجال هي من مثل آية: {ما فرّطنا في الكتاب من شيء}(الانعام / 38)، وآية: {ولا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين}(الانعام / 59). والروايات التي يستند اليها تشير في المجموع إلى وضوح الاحكام التي تحتاجها البشرية واستيفائها لمتطلباتها. وقد اعتقد بعض المفكرين، بالالتفات إلى الآيات والروايات آنفة الذكر، وإلى طريقة الفقهاء العظام في الاستنباط من الآيات والروايات في الابواب الفقهية المختلفة ـ نظير روايات الاستصحاب ـ، بامكانية تأليف كتب السياسة والاقتصاد و... بالاستناد إلى الآيات والاستفادة من الروايات السياسية والاقتصادية، واعتبروا ذلك امراً ممكناً وقابلاً للتحقيق. على اية حال، كل هذا لا يعني رفض معطيات العلوم الإنسانية في المجالات الاجتماعية المتخصصة. ولهذا السبب لم تتحرك السيرة العملية لسماحة الإمام في ادارة المجتمع، على طريق رفض انجازات الفكر الإنساني ـ خاصة في مجال العلوم التجريبية ـ مطلقاً.

 أدلة عدم الفصل

اولاً: نظرة إلى مجموعة الاحكام الدينية

باستطاعة الروح العامة الحاكمة على تعاليم اي دين ان ترشدنا، اكثر من أي شيء آخر، إلى معرفة خصوصيات ذلك الدين. وقد توافرت لسماحة الإمام الخميني، خلافاً لبعض المفكرين الدينيين، درجة من الشمولية الجامعة انطلق على ضوئها في اجتهاده الفقهي، وفي عرض آرائه الدينية السياسية. وان نظرته إلى «الدين» و«السياسة» منطلقة من هذه «الشمولية». وقد كتب سماحته في كتاب «تحرير الوسيلة»:

«الإسلام دين السياسة. وهذا الأمر واضح ـ في جميع الشؤون ذات البعد السياسي ـ لكل من له أدنى تدبّر في احكام الإسلام الادارية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. وعليه فكل من يعتقد بأنه لا علاقة للدين بالسياسة، فهو لم يفهم «الدين» ولم يعرف «السياسة» ».

يقول سماحة الإمام(رض):

1 ـ ان حجم الاحكام والمواضيع الاجتماعية والسياسية التي وردت في القرآن الكريم والروايات اكثر بكثير من المسائل العبادية والاخلاقية.

2 ـ ان هذه الاحكام التي لها ظاهر عبادي وأخلاقي، هي نفسها ذات أبعاد سياسية. بتعبير آخر، ان سياسته ملتصقة بعبادته، وعبادته مدغمة في سياسته. وان الجانب العبادي نفسه ذو صفة سياسية. على سبيل المثال ان الحكم الاخلاقي:

«انما المؤمنون اخوة» هو نفسه حكم سياسي واجتماعي ايضاً؛ فهذه الاخوة لا تقتصر على مؤمني بلد ما، بل هي تشمل جميع مؤمني الدنيا. واذا ما تحققت الاخوة بين الشعوب الإسلامية، فسوف تتمكن من الغلبة على جميع قوى العالم.

ان احكام الإسلام العبادية لن تخلو من الوجهة السياسية، وان كلاًّ من حكم صلاة الجمعة والحج ـ من بين الاحكام المختلفة ـ له مظهر سياسي خاص. وفيما يخص واجبات خطبة صلاة الجمعة وشروطها، يقول سماحة الإمام:

«يحسن بالإمام ان يُذكّر المسلمين خلال خطبته، بالمصالح الدينية والدنيوية، وان يطلعهم على ما يدور في مدن المسلمين الأخرى. ويذكر ما ينفع الناس ويضرهم، ويتطرق إلى احتياجاتهم الدنيوية والاخروية. ويشرح لهم الامور السياسية والاقتصادية التي تتصل بكيانهم واستقلالهم، وكيفية تعاملهم مع الشعوب الأخرى، ويحذرهم من تدخل الدول الاستعمارية في شؤونهم الداخلية».

ان البعد السياسي والاجتماعي للحج بيّن بدرجة لا يحتاج فيها إلى توضيح. وقد اشار القرآن الكريم وهو يتحدث عن فائدة الحج وغايته إلى مسألتين: {ليشهدوا منافع لهم}، و{يذكروا اسم الله}. والطريف ان شهادة منافع الناس تقدمت على ذكر اسم الله. وللإمام الخميني أحاديث مفصلة حول الحج، إلا اننا نكتفي بذكر أحد النصوص التي تتحدث عن أهمية البعد السياسي للحج. يقول سماحته:

«الحج بدون البراءة لا يعتبر حجاً. ينبغي للمسلمين في هذا المؤتمر العظيم ان يبلوروا قرارهم في مقارعة المستكبرين وحماية بعضهم بعضاً».

ثانياً: سيرة القادة الدينيين

يعد قادة الدين وأسوته مرآة ساطعة ومجسمة لتعاليم الدين. وفي نظرة عابرة إلى القادة الدينيين وسيرتهم، وعلى وجه الخصوص النبي الاكرم(ص) والأئمة الأطهار(ع)، نرى ان حياتهم وسيرتهم غير بعيدة عن السياسة ولا منفصلة عنها أبداً. يقول سماحة إمام الأمة عن سيرة النبي(ص) وطريقته في التعامل:

«تشير طريقة تعامل نبي الإسلام(ص) مع شؤون المسلمين الداخلية والخارجية، إلى ان إحدى مسؤوليات شخص النبي(ص) هي نضاله السياسي».

ففي عصر النبي لم تكن هناك جماعة سياسية واخرى دينية، بل ان الفصل بين الدين والسياسة يعود إلى عصور متأخرة. وان اقوى دليل على السيرة السياسية للنبي(ص)، تشكيل الحكومة الإسلامية في المدينة واتساعها لتمتد إلى جميع انحاء جزيرة العرب. وبعد استقرار نسبي في المدينة، وجّه النبي الاكرم(ص) رسائل مختلفة إلى البلدان المهمة آنذاك، يدعوها إلى الإسلام. وفي العام السابع للهجرة ارسل(ص) سفراء عديدين إلى كل من إيران وروما والحبشة ومصر والبحرين واليمامة والحيرة.

ان مسألة تعيين خليفة للرسول(ص)، والتفكير في مستقبل المسلمين السياسيين من المظاهر الواضحة لسيرة النبي السياسية، ومن المؤشرات على أهمية البعد السياسي في التعاليم الدينية. لقد تم الاعلان عن الخليفة مراراً منذ اليوم الاول للدعوة العامة وحتى لحظة رحلته(ص)، إلا ان أهم اعلان هو الاعلان الرسمي لخليفة المسلمين في واقعة «غدير خم»، اذ اعتبر القرآن الكريم عدم الاعلان عن ذلك بمثابة عدم تبليغ الرسالة {وان لم تفعل فما بلّغت رسالته} المائدة /67، وبعد ان يتم الاعلان يوصف هذا العمل بإكمال الدين وإتمام النعمة: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} المائدة /3. ان تفسير المرحوم العلامة السيد الطباطبائي ـ صاحب تفسير الميزان ـ لهاتين الآيتين الشريفتين من سورة المائدة، واستدلاله في هذا المجال جدير بالمراجعة.

يقول سماحة الإمام الخميني في هذا الشأن: «ان تنصيب أمير المؤمنين خليفة، هو في الحقيقة بمثابة أناطة الشأن السياسي اليه من قبل رسول الله».

الأئمة الاطهار ايضاً كانت حياتهم وسيرتهم متداخلة بالسياسة ومقترنة بها، حتى ان بعضهم(ع) كانوا يلجأون إلى «الدعاء» أو «التعليم» في الظاهر، إلا انهم في حقيقة الأمر كانوا يخوضون عن هذا الطريق في الجوانب السياسية والاجتماعية للمجتمع الإسلامي بدافع اصلاحه على المدى البعيد.

من وجهة نظر سماحة الإمام، ان نبي الإسلام ليس وحده الذي لم يكن بعيداً عن الشأن السياسي، بل ان الانبياء الإلهيين جميعهم كانوا كذلك. وأساساً ليس بإمكان نسيج الاديان السماوية والتوحيدية ان يكون منفصلاً عن المصير السياسي والاجتماعي للمجتمع. يقول سماحة الإمام عن السيد المسيح(ع)، أحد الانبياء أولي العزم، الذي يعرّفه اتباعه الرسميون بأنه رجل زهد وبعيد عن السياسة:

«حتى السيد المسيح، الذي يتصور أتباعه المعاصرون بأن اقواله اقتصرت على المعنويات فحسب، كان كذلك ايضاً. اذ كان مقرراً ان يعارض منذ البداية، وقد نطق وهو في مهده بقوله: «آتاني الكتاب». فمثل هذا الرجل لم يقعد في بيته ويتحدث عن المسائل الشرعية، فلو كان مفتياً واقتصرت أحاديثه على الفتاوى، فلماذا اذن كانوا يؤذونه؟!».

ثالثاً: اهتمام الإسلام بالتنفيذ

لو نظرنا إلى تعاليم الإسلام المختلفة، نرى اهتمامها بتنفيذ الاحكام؛ فالإسلام لم يكتف بتشريع القوانين الجامعة والشاملة لميادين الحياة الإنسانية المتنوعة فحسب، بل نرى محاولته الجادة لترسيم المؤسسات التنفيذية والوسائل اللازمة لها. وفي هذا المجال حدد وجه انفاق الخمس والزكاة وقانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك. ان غاية جميع الاحكام في الرؤية الإسلامية ـ خاصة الاحكام الاجتماعية ـ ليس في الاصل اكثر من تنفيذ اهداف الدين الاجتماعية ـ العدالة الاجتماعية ـ. يقول سماحة الإمام في هذا الصدد:

«الإسلام حكومة بحد ذاته من خلال اهتماماته. وان قوانين ـ احكام ـ الإسلام مؤشر إلى شؤون الحكومة الإسلامية. بل ان الحكومة مطلوبة بالعرض، وهي من الامور التنفيذية التي سُنّت للحكم واقامة العدل في المجتمع».

أسباب الفصل وعوامله

اذا ما أخذنا نسيج الدين وسيرة القادة الدينيين بنظر الاعتبار، نرى ان التصور المنحرف ـ الفصل بين الدين والسياسية ـ أمر دخيل لابد من استئصاله والقضاء عليه. فما هو العامل أو العوامل التي تمهد الارضية لظهور هذا المفهوم؟ وما هي الدوافع التي تقف وراء «الباعثين» عليه؟، وما هي العناصر التي تسعى لإنجازه؟ وما هي الوسائل التي استفيد ويستفاد منها في هذا السبيل؟

يبدو ان هناك عاملين (داخلي وخارجي) لعبا دوراً مؤثراً في هذا المجال. ومن الممكن ان نطلق على العامل الداخلي التصورات السطحية والهامشية الناقصة والصوفية عن الدين. فرغم ان هذه المسارات لم تكن متحدة ومنسجمة، إلا انها عملت بصورة متشابهة على طريق تكوين المعتقدات الاجتماعية والسياسية للمسلمين. وقد اشار سماحة الإمام في بعض احاديثه إلى المشكلات الناجمة عن التصورات العرفانية والصوفية المزيفة.

اما العامل الخارجي الذي كان ومايزال مؤثراً جداً في هذا المجال، فيتمثل بالأيادي الاستعمارية والغزاة الاجانب. لقد عمل العالم الغربي منذ البداية، ومن خلال وضع حد لاهتمامات الكنيسة، على تقليص دور الاساقفة والبابوات في الحكومة. وبعد ان طبق العلمانية في بلدانه، وجّه اعلامه في حدود البلدان الرازحة تحت سلطته، ليصب في منافعه واتساع رقعة نفوذه وتسلطه. وبذلك أبعد العقل المخلص والمفكر للمجتمع ـ القادة الدينيين ـ عن الميدان السياسي، واصبح هو فارس الميدان الأوحد، وفي هذا المجال قدّم المثقفون المستغربون خدمة كبرى للمستعمرين، حيث كانوا ـ بوعي أو بغير وعي ـ متناغمين ومتضامنين ومنسجمين معه في كل من اعلامهم وكتاباتهم وتلقيناتهم. في النص الآتي يشير سماحة الإمام إلى ذلك:

«لقد سعى الغزاة المحتلون، وعن طريق عملائهم المتلبسين بلباس المثقفين، إلى عزل الإسلام وازوائه، كما هي المسيحية المحرفة، وحبس العلماء في حدود المسائل العبادية».

كان سماحة الإمام يعتبر العامل الخارجي اكثر تأثيراً من العامل الداخلي إلى حد كبير، حتى انه كان يعتبر بعض السذّج والسطحيين من المفكرين المسلمين، من نتاج اعلام الاستعمار وتلقيناته، وكان يعبر عنهم بلفظة «المخدوعين».

وهكذا كان غزو فكرة الفصل بين الدين والسياسة واستفحالها متزامناً مع دخول الاستعمار في القرون الاخيرة. ورغم ان التوجهات الصوفية والعرفانية لها سابقة طويلة، إلا ان الاسلوب الجديد في التبليغ للفصل بين الدين والسياسة يعود من الناحية التاريخية إلى القرنين أو الثلاثة الاخيرة. ومن الممكن ان تكون دوافع العوامل الداخلية نتيجة «للفهم المعوج»، إلاّ ان العوامل الخارجية عموماً لم تكن دوافعها غير غزو الشعوب المسلمة الرازحة تحت سلطتها ونهب ثرواتها ومواردها بصورة أوسع واكبر.

ضرورة الحكومة في عصر الغيبة

يعتقد كثير من المفكرين بأن سلامة المجتمع ونموه وتقدمه ترتبط ارتباطاً مباشراً بوجود الحكومة وتصدي العقلاء لقيادة المجتمع، وان الانفلات وغياب الدولة وفقدان الحكومة والأمير ـ أساساً ـ أسوأ بكثير من وجود الحكومة الفاجرة.

يقول الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام): رداً على تمسك «الخوارج» بالآية الشريفة {إن الحكم إلاّ لله}، وضمن تأييده لمضمون الآية الشريفة وتبيين الخلط الذي كان قد ظهر في كلام الخوارج:

«ألا انه لابد للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الاجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح به ويستراح من الفاجر».

وهناك نص لابن خلدون، الفيلسوف وعالم الاجتماع من القرن الثامن الهجري، يقول فيه: «القادة والحكومة من اركان التمدن ومن العناصر اللازمة له. وما لم يتبع الناس قائداً ما، فان المدنية والعمران ستكون غير ممكنة».

ولكي تتضح هذه المسألة، لدى اثارتها في الفكر السياسي، لابد لها من دليل. والدليل الذي يمكن ذكره في هذا المجال، نظرية بعض المفكرين الشيعة المبنية على عدم مشروعية حكومة غير المعصوم(عليه السلام). وعلى الرغم من ان هذه النظرية لها ما يبررها في زمن حضور الأئمة الاطهار بالنظر إلى ادلة تنصيب هؤلاء العظام من قبل الله سبحانه ورسوله الكريم، إلا ان اثارتها في عصر الغيبة يستلزم الغاء الحكومة في المجتمع. وقد قادت هذه النظرية بعض الفقهاء إلى القول، بالنسبة لطريقة انفاق الخمس والزكاة، بسقوط جزء من الزكاة، أو ايداع «سهم الإمام(ع)» في التراب أو بيد افراد أمناء. وفي هذا المجال يجدر مراجعة آراء الشيخ الطوسي شيخ الطائفة.

يكتب البروفسور حامد الغار في تحليل الفكر السياسي للفقهاء في عصر الغيبة فيما يخص تشكيل الحكومة ونيابة المعصوم، فيقول: «في البدء بدأ زمن الغيبة قصيراً لدى الشيعة، لذا لم يكن شكل قيادة الأمة بعد النواب الاربعة محل سؤال واستفسار كثيرين. فبعد رحلة النواب الاربعة اخذ العلماء في البداية على عاتقهم مهمة نقل الحديث فحسب، ولم يتدخلوا في الشؤون المالية، ولكن وبعدما طالت الغيبة وانتقلت الآمال في الظهور إلى المستقبل، ظهر احساس بالحجة الملحّة إلى القيادة الجامعة والمنظمة للأمة، وبذلك ظهرت فكرة النيابة العامة للعلماء بصورة هيئة جماعية».

ان احد الادلة الاساسية لدى بعض المناصرين لعدم مشروعية حكومة غير المعصومين، الروايات الواردة بشأن النهضة التي تسبق ظهور الحجة ابن الحسن العسكري. ان فهمهم الخاطئ لهذه الروايات قادهم إلى ان يعتبروا كل نهضة اصلاحية لمقارعة الظلم وتحقيق العدالة الإسلامية مرفوضة. علماً ان قبول هذه الروايات يشير إلى بطلان الحركات التي تقوم في مواجهة المعصومين فحسب، على حد ادعاء «المهدوية».

ومثلما كان سماحة الإمام يرفض الفصل بين الدين والسياسة، كان ايضاً يعتبر تشكيل الحكومة الإسلامية والسعي إلى اقامتها أمراً مشروعاً وجائزاً، ليس هذا فحسب، بل هو «واجب» اذا ما توافرت شروطه اللازمة. ان تشكيل الحكومة في عصر الغيبة، من وجهة نظر سماحة الإمام، من مستلزمات الاعتقاد بنصب خلافة الأئمة من قبل النبي الاكرم(ص)، وفي الحقيقة ان الملاحظة التي يستدل بها بعضهم على عدم مشروعية حكومة غير المعصوم، هي نفسها من وجهة نظر سماحة الإمام، تدعو إلى تشكيل هذه الحكومة في عصر الغيبة. يقول سماحته في هذا الصدد:

«ان الاعتقاد بضرورة تشكيل الحكومة وتأسيس الجهاز التنفيذي والاداري، هو جزء من «الولاية» مثلما ان النضال والسعي من اجل ذلك جزء من الاعتقاد بالولاية. فلابد لنا ـ نحن الذين نؤمن بالولاية وبأن الرسول الاعظم قد عيّن خليفة بأمر من الله سبحانه، وعيّن ولي أمر المسلمين ـ من الاعتقاد بضرورة تشكيل الحكومة.. ان السعي والمجاهدة لتشكيل الحكومة الإسلامية من مستلزمات الاعتقاد بالولاية».

ان روح هذا الاستدلال تشير إلى انه رغم ان الولاية ـ بمعنى ما ـ تعني التسليم لقيادة الأئمة المعصومين، ولكن في رؤية أعمق يعني مفهوم نصب الولي والخليفة ان النبي الاكرم(ص) لا يسلّم تنفيذ الاحكام الإسلامية وقيادة المجتمع الإسلامي بأيدي أشخاص غير لائقين، وذلك فمن يؤمن، بصدق، بأصل الولاية لن يقبل بأن تسلم مقاليد الحكومة في زمن الغيبة بأيدي غير الجديرين بها.

الجانب الآخر الذي استند اليه الإمام في ضرورة تشكيل الحكومة، ماهية القوانين الإسلامية وطبيعتها. يقول سماحته في هذا الصدد: «تدل ماهية قوانين الإسلام وطبيعتها على انها شرّعت لتأسيس الدولة وإدارة المجتمع سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ويدل على ذلك:

أولاً: تنوع القوانين والاحكام التي توفر مستلزمات نظام اجتماعي متكامل، بدءاً بالاحكام والمقررات الحقوقية للمعاشرة مع الجيران والاولاد والعشيرة والقوم و... والاحكام الخاصة بالحياة الزوجية، ومروراً بالقوانين المتعلقة بالحرب والسلام والتواصل مع سائر الشعوب، وانتهاءً بالقوانين الجنائية، وفي حقل التجارة والصناعة والزراعة.. جميع هذه الامور لها حكم وقانون يربي الإنسان.. وهو يشير بوضوح تام إلى أيّ حدّ يهتم الإسلام بالحكومة والعلاقات السياسية والاقتصادية للمجتمع.

ثانياً: اذا ما تمعنّا في أحكام الشرع وماهيتها وطبيعتها، أدركنا ان العمل بذلك وتطبيقه يستلزم تشكيل الحكومة، ومن غير تأسيس جهاز واسع وعظيم للإرادة والتنفيذ، لا يمكن أداء التكليف بالعمل بالأحكام الإلهية».

ومن وجهة نظر الإمام، يعتبر الجهاز الحكومي مهمّاً جدّاً، بحيث ان الإسلام ليس يمتلك حكومة فحسب، بل هو حكومة بحد ذاته ولا شيء سواها. كما ان الاحكام الشرعية هي شأن من شؤون الحكومة، وأساساً ان الحكومة الإسلامية وبسط العدالة أمر مطلوب بالذات، وان تنفيذ الاحكام أمر مطلوب بالعرض. وان خصوصية الإسلام هذه لا تقتصر على زمن الوحي أو الوصاية، بل نافذة حتى في عصر الغيبة. وباعتقاد الإمام ان الجهة الاساس التي اعتبرت الإسلام بعيداً عن الحكم ـ خصوصاً في هذا العصر ـ هي الاستعمار الاجنبي. اذ يقول سماحته: «ان المستعمرين هم الذين ادخلوا إلى افكارنا بأن الإسلام لا يمتلك حكومة، وليس له مؤسسات حكومية، وعلى فرض ان لديه احكاماً فهو يفتقر إلى المنفّذ». وطبعاً ان انتفاء وجود الحكومة الإسلامية في بعض العصور كان نتيجة لسيادة التوجهات العرفانية والصوفية بين اوساط المسلمين.

لقد اتضح حتى الآن لزوم وجود الحكومة وضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية، ولا يحتاج الأمر إلى مزيد من التفصيل. وقد تناول ذلك سماحة الإمام من جوانبه المختلفة، وبرهن عليه في بحثه المطوّل الذي تضمنه كتابه «الحكومة الإسلامية»، الذي استعرضنا أهم جوانبه فيما سبق. وأخيراً نورد هنا حديثاً للإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) يمت إلى الموضوع بصلة: «اذا سأل أحد: لماذا جعل الله الحكيم أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟ يجاب عنه: لأسباب وأدلة كثيرة... منها ان الناس مكلفون بمراعاة الحدود التي تمنعهم من الفساد، وان رعاية هذه الحدود لا تتحقق إلا بوجود الحاكم الأمين. لذا فان بقاء الناس واستمرار حياتهم مرهون بوجود الحاكم، ليسير أمر الدين والدنيا بصورة صحيحة. وان الله الحكيم لم يرد ان يترك خلقه من غير راعٍ ومسؤول. اذا لم تكن القيادة والهداية حاكمة في المجتمع، فسوف يزول الشرع والدين والسنة وأحكام الشرع».

ملاك المشروعية

لقد اتضح حتى الآن ـ من وجهة نظر المفكر ـ موضوع البحث وهو: أولاً: ان الدين والسياسة متلازمان تماماً ومتداخلان مع بعض. وثانياً: التسليم بأن الحكومة الإسلامية ضرورة دينية سواء في عصر الحضور أو زمن الغيبة.

والسؤال المنطقي الذي يثار هو: كيف تتحقق مشروعية الحكام في الحكومة الإسلامية؟ وما هو ملاك المشروعية لسلطتهم واطاعة الناس لهم؟ للاجابة عن هذا السؤال يستحسن في البدء ان نوضح مفهوم المشروعية.

عندما يتحدث الفكر السياسي بشكل مطلق عن مشروعية نظام ما، فانه يريد بذلك سمة خاصة من سمات النظام الحكومي تعتبر بسببها حكومة الحاكم صحيحة. وكذلك الناس ينظرون إلى طاعتهم للحكومة، بسببها، بمثابة فرض وواجب، كأن يقول الحاكم مثلاً: بما أني منتخب من قبل الناس فان من حقي ان أتمتع بالسلطة، وعلى الناس أيضاً وللسبب ذاته اطاعة أمري. طبعاً في المجال الديني من الممكن ان تتطابق هذه «المشروعية» مع الشرعية، ذلك ان «الحاكم» و«الجماهير المسلمة» يعتبرون ممارسة الحاكمية مجازة اذا كانت مشروعة من الناحية الدينية وتحقق فيها رضا الباري تعالى.

يعد مفهوم المشروعية من أهم مفاهيم العلوم السياسية؛ وعلى الرغم من ان الحكومات والناس اهتموا به منذ القدم، إلا ان البحوث الكلاسيكية، لا سيما دراسات ماكس ويبر في العقود الاخيرة، قد بحثت ذلك وأوضحته بصورة مفصلة. وعموماً اختلفت وجهات نظر المفكرين حول مصدر السيادة وملاك المشروعية، وقبل ان نخوض في مصدر الحكومة وملاك المشروعية في النظام الإسلامي، نلقي نظرة على أهم النظريات التي ذكرت في هذا المجال.

الف ـ المشروعية الفطرية والطبيعية: وهي أحد اقدم الآراء في ملاك المشروعية. وكان الفلاسفة اليونانيون في مقدمة القائلين بهذا الرأي. وقد تناول ذلك واستعرضه ارسطو ايضاً. وتنص هذه الرؤية على ان في الطبيعة هناك عدة خلقت سادة اصلاً واخرى خلقت عبيداً. وان الحكام يتمتعون بالمشروعية فطرياً وطبيعياً، ويقول في كتابه «السياسة»: بعض الاحياء مقدر لهم ومنذ اللحظة الاولى لولادتهم ان يصبحوا إما أمراء واسياداً أو مطيعين وعبيداً. فهذه السمة في الحياة نتيجة طبيعية لنظام الطبيعة العام.

ب ـ القوة والغلبة: اعتبر بعضهم ان القوة والغلبة هما منشأ السيادة. فكل من يمتلك القوة ويغلب، تكون حكومته مشروعة لكونه غالباً، ولابد للناس من اتباعه. وقد دافع كل من غرسيوس ـ المؤرخ والسياسي الروماني ـ والفيلسوف الانجليزي هابز ـ من القرن السابع عشر ـ عن هذه النظرية. كما قال ايضاً بعض المفكرين السنة بأن الغلبة بالسيف ملاك المشروعية، وقد نقل القاضي ابو يعلى عن أحمد بن حنبل قوله: «كل من غلب بالسيف على الأمة، ونودي به «أميراً للمؤمنين» واعتبر خليفة، لا يجوز لأحد من المؤمنين ان يتنصل عن امامته، سواء كان حسن السيرة أو سيئها، فهو مسؤول وأمير المؤمنين». علماً ان احدى ممارسات الحكومة المستبدة هي انها تلجأ إلى القوة والغلبة لإضفاء الشرعية على سلطتها.

ج ـ المشروعية الإلهية: حظيت هذه النظرية على مرّ التاريخ بأنصار كثيرين، بمعنى ان الكثير من الحكام كانوا ينسبون، بنحو ما، مشروعية سلطتهم إلى الله سبحانه، وبالتالي تكون اطاعة أمر الحاكم اطاعة لأمر الله، ومخالفته مخالفة لله تعالى. وقد عرضت تفاسير مختلفة عن منشأ هذه المشروعية. فالفراعنة ـ مثلاً ـ كانت لديهم حكومة الإله ـ الملك ـ بمعنى ان الحاكم كان إلها وابناً لإله كان قد حكم من قبل! وكذلك المسيحيون، حيث ان السيد المسيح بالنسبة لهم ذو منشأ إلهي وابن الله!

ان الوجه الغالب في تفسير المشروعية الالهية للحكومة ـ بمعنى صلاحيات الحاكم من قبل الله او الوحي والالهام ـ هو ان تكون قوانين الحكومة من قبل الله سبحانه. فالله العالم العليم والحكيم اللطيف بعباده هو أعرف بمصلحة خلقه، وهو الذي يبعث الحكم والقانون الذي يحقق سعادة الإنسان، ويسيّر خلقه على أفضل نحو. ومما يؤسف له ان المشروعية الالهية طرحت في الكثير من الاحيان في مقابل مشروعية الجماهير، وبدافع سحق حقوق الناس. وقد دعمت الكنيسة هذا الرأي، حيث كانت تقول ان السلطان ظل الله، والسلاطين مخوّلون من قبل الله لادارة شؤون الناس، وهم مسؤولون امام الله فحسب. فهذا التكليف الالهي هو الذي يمنح المشروعية لسلطان هؤلاء، وعلى الناس ان تسلم بالطاعة. وكان هناك أيضاً من بين الملوك والمفكرين المسلمين من يتخذ هذا الأمر احياناً ذريعة لتسويغ ممارسات القوى الظالمة. يقول نظام الملك: «ان الله تعالى يختار في كل عصر واحداً من بين الخلق، يجلّله بالمواهب المتعالية ويزينه بها، وتتوجه اليه الانظار كلما اشتد الفساد والاضطراب والفتنة، فيقذف بهيبته ورهبته في عيون الخلائق وقلوبهم».

ان مثل هذه التصورات غير السليمة، والاستفادة غير المشروعة من نظرية المشروعية الالهية، لا تعني نفي النظرية بالكامل، بل ان ممارسة السلطة، وكما سيأتي، على الاقل في زمن النبي(ص) والأئمة المعصومين، كانت تستند إلى «النص» والارادة الإلهية، ولم تكن في مقابل حقوق الناس مطلقاً، ولم يحصل في عهدهم ظلم أو تضييع لحقوق الناس أبداً.

د ـ مشروعية الجماهير: ترى هذه النظرية مشروعية ممارسات السلطة في قبول الناس واختيارهم. يقول جان جاك روسو ـ الذي كانت له جهود مميزة على طريق بلورة هذه النظرية ـ في هذا الشأن: العقود والمواثيق التي يتم التوقيع عليها بموافقة الطرفين، هي وحدها القادرة على تشكيل اساس القوة المشروعة والحكومة الحقة. هذا وقد أثيرت هذه النظرية، تأريخياً، في مقابل المشروعية الإلهية ومشروعية القوة والغلبة، حيث وضعت أسس نظرية الاصلاح والثورة في العالم الغربي، من أجل مواجهة الحكومات المستبدة الدينية وغير الدينية، من خلال اثارة هذه النظرية والغاء مشروعية القوة والغلبة.

بعد ذكر هذه المقدمة نعود إلى استعراض رؤية المفكر، موضوع هذه الدراسة.

من وجهة نظر سماحة الإمام(رض)، لا يمكن ان يكون منشأ الحاكمية الإسلامية «القهر والغلبة» قطعاً. كما ان المنشأ الطبيعي والفطري غير مقبول ايضاً، إلاّ اذا فسر بنحو يتصل فيه بالمشروعية الالهية ـ بمعنى ان الله سبحانه ينصب شخصاً لهذا المقام يتحلى باللياقات اللازمة في فطرته وفي عمله «الله اعلم حيث يجعل رسالته» ـ. بعد هذا يبقى منشآن فقط لمشروعية النظام الإسلامي: المشروعية «الإلهية» والمشروعية «الجماهيرية». فحكومة النبي(ص) وأمير المؤمنين(ع) وممارسة السلطة من قبل الأئمة المعصومين، لاشك في انها كانت مبتنية على المشروعية الالهية، فالله سبحانه المالك الحقيقي لكل شيء، وطبقاً لحكمته نصب اولئك الأطهار لولاية المجتمع الإسلامي بالنص وتصريح الوحي. وتبدو الآية الشريفة {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} كافية في هذا الشأن. يقول سماحة الإمام عن منشأ حكومة النبي(ص) والأئمة(ع): «اذا كان الرسول الاكرم قد تعهد الخلافة بأمر الله، فان الله تبارك وتعالى نصّبه خليفة. بعدها أيضاً ألزم سبحانه وتعالى الرسول الاكرم(ص)، عبر الوحي، بتبليغ أمر الخلافة على الفور وفي وسط الصحراء».

يبدو انه لا يوجد أي اختلاف بين اوساط المسلمين بشأن منشأ حكومة الرسول(ص). اما بالنسبة للخلافة بعد النبي(ص)، فعلى الرغم من ان عدة قد لجأت إلى «انتخاب» الخليفة وتشكيل شورى السقيفة، إلا ان ما أقدموا عليه ـ بفرض مسبق بعدم نصب الخليفة من قبل الله سبحانه والرسول الأكرم ـ كان عارياً من الحقيقة طبقاً للشواهد التاريخية المسلم بها. وبالالتفات إلى هذه الملاحظة، فإن هذه القضية العامة ـ بوجود التنصيب الإلهي تتضح مشروعية حكومة «الناس» بأمر من «إله الناس» ـ مقبولة من وجهة نظر المسلمين كافة. وأن جميع الاختلافات ناتجة عن انه: هل هناك ولي أمر منصوب بعد عصر النبي(ص) وفيما بعد عصر الأئمة(ع)؟

فكما ان ـ من وجهة نظر الشيعة ـ الولاية بعد النبي(ص) تعينت للأئمة الأطهار بالنص الإلهي، فان بعض المفكرين الشيعة ومن جملتهم سماحة الإمام يرى ان الولاية العامة للفقهاء قد تم تعيينها أيضاً بنص المعصومين(ع) الصريح، الذين هم منصّبون أيضاً وحجة إلهية. ان البحث الاستدلالي للإمام في كتاب «البيع» وتوضيحاته الأُخر في «كشف الاسرار» و «تحرير الوسيلة» وأحاديثه عموماً تشير إلى النصب الإلهي لولي الأمر. يقول سماحة الإمام في كتاب «تحرير الوسيلة»:

«تعهد الشؤون السياسية وتولي زمامها هما من صلاحية الإمام المعصوم ومن يعينهم فقط. أما في عصر الغيبة، فان النواب العامين، الفقهاء الجامعين لشروط الافتاء والقضاء، هم الذين يحلون محل الإمام المعصوم في تسيير الامور ـ اللهم إلا في الجهاد الاولي ـ ».

لقد كان المنهج العملي لسماحة الإمام(رض) على مدى عشر سنوات من ممارسته للولاية مصداقاً حياً لذلك. فسماحة الإمام في بعض أحاديثه كان يطلق حتى على اكثر الحكومات شعبية اسم «حكومة الطاغوت»، عندما لم تكن في ظل ولاية الفقيه المنصوب من قبل الشارع:

«اذا لم يكن وجود لولاية الفقيه فهذا يعني الطاغوت. اذا لم يعين رئيس الجمهورية من قبل الفقيه، اذا لم يكن بأمر الله، فهو غير شرعي، واذا ما افتقر للمشروعية فهو طاغوت. ويزول الطاغوت عندما ينصب الوالي بأمر الله تبارك وتعالى». وقد اشار سماحته إلى هذه الملاحظة لدى تشكيل مجلس قيادة الثورة الإسلامية وتعيين رئيس وزراء الحكومة المؤقتة، وأثناء المصادقة على انتخاب الشهيد رجائي رئيساً للجمهورية. لنقرأ هذا النص الذي ورد في هذا الصدد: «انا الذي عينته؛ بحكم الولاية التي أتمتع بها من قبل الشرع المقدس عينت هذا... وان المخالفة لهذه الحكومة مخالفة للشرع». وهكذا يتضح رأي سماحة الإمام حول منشأ المشروعية، ولم تبق اية شبهة أو ترديد تقريباً.

وان هناك كلمات صدرت عن سماحة الإمام إبّان انتصار الثورة الإسلامية وفي المراحل الاولى لتشكيل الحكومة الإسلامية، تنسجم اكثر مع المشروعية النابعة من رأي الشعب. فلدى لقائه ممثل البابا، الذي كان قد قدم إلى إيران بعد ستة إيام من الاستيلاء على السفارة الاميركية للتوسط في اطلاق سراح الرهائن الاميركان، قال سماحته: «على السيد البابا ان يعرف ان القضية ليست بهذه الصورة التي استطيع انا ـ كشخص ـ حلها. نحن لا نفكر في ان نفرض أمراً على شعبنا، فالإسلام لن يجيز لنا أن نعمل بأسلوب دكتاتوري. نحن نسلّم لرأي الشعب، فأي رأي يرتئيه نحن نعمل به. فليس من حقنا ان نفرض أمراً على المسلمين، فالله تبارك وتعالى لم يمنحنا مثل هذا الحق ولا نبي الإسلام». ففي مثل هذه المواقف اعتبر سماحة الإمام مشروعية النظام نابعة من رأي الشعب، وذلك لإيمانه بعظمة حقه في الحكومة.

ومما يجدر ذكره ان مواقف الإمام هذه، وفي ضوء الآراء الصريحة التي تضمنتها كتب سماحته الاستدلالية وفتاواه وسيرته العملية، يجب ان تحمل على انها جاءت لتؤكد الدور الفاعل للجماهير، أو انها صدرت في المواقف الخاصة والمرحلية. وبالنسبة للنص السابق، فانه قابل للتفسير اذا ما أخذنا بنظر الاعتبار مواجهة الإمام لممثل البابا، وسعي سماحته لرفض الوساطة بصورة غير مباشرة؛ على الرغم من ان النص تضمن اشارة أيضاً إلى مبنى المشروعية الإلهية، وهو ان الله والرسول لم يمنحا الحاكم حق مخالفة الشعب. وبالالتفات إلى تأكيدات الإمام الكثيرة حول ضرورة الاهتمام بالناس وعدم تجاهل آرائهم والاعتناء بوجهات نظرهم، من الممكن صياغة نظرية الاعتناء برأي الشعب واحترامه في ظل الاحكام الإلهية؛ فعلى الرغم من أن ولي الأمر اكتسب مشروعيته من قبل الله سبحانه، إلا ان الباري تعالى لم يجز له مخالفة آراء الناس في الامور التي لا تتعارض مع الإسلام. والنص التالي بإمكانه ان يوضح قيمة رأي الشعب في مقابل الإسلام: «ان الاستفتاء العام والاقتراع الوطني اساساً لا قيمة لهما في مقابل الإسلام».

ولاية الفقيه المطلقة

تعتبر «ولاية الفقيه المطلقة» من أهم فصول الفكر السياسي للإمام الخميني(رض)، الذي لم يدون بشكل منسجم في الفكر الشيعي قبل سماحة الإمام، ولم يتم اختباره في الواقع العملي ايضاً. ان مكانة ولاية الفقيه في فكر الإمام السياسي رفيعة بدرجة بحيث ان الكثير من المفاهيم السياسية المهمة الأخرى لن يتضح مفهومها ومعناها إلا في ضوئها. وعلى الرغم من ان الفقه الشيعي تاريخياً، وبالالتفات إلى ماهيته، لم يكن بإمكانه اهمال بحث الحاكم وقيادة المجتمع، إلاّ انه، وحتى زمن المرحوم النراقي صاحب كتاب «عوائد الايام»، لم يتم تناول بحث ولاية الفقيه وقيادة المجتمع الإسلامي بصورة مستقلة باعتباره بحثاً قائماً بذاته مطلقاً. وان الباب المستقل الذي خصصه المرحوم النراقي لبحث ولاية الفقيه ودراسة شؤون الفقهاء ومسؤولياتهم، كان بمثابة البداية للفت الانظار إلى هذا الموضوع والاهتمام به. وتعتبر البحوث المستقلة التي كتبها كل من مير فتاح حسيني مراغي في كتاب «العناوين»، والشيخ محمد حسن النجفي في كتاب «جواهر الكلام»، والشيخ مرتضى الانصاري في «المكاسب»، من البحوث المهمة والاساسية التي انجزت على مدى (140) عاماً خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين. وتبدأ المرحلة الثالثة لإثارة مسألة ولاية الفقيه مع بداية العقود الثلاثة الاخيرة بتأليف كتاب «البيع»، وتدريس بحوث ولاية الفقيه على نطاق واسع في دروس «بحث الخارج» التي كان يقدمها سماحة الإمام الخميني لطلابه في مدينة النجف الاشرف. ورغم ان سماحته قد اثار بحث ولاية الفقيه خلال مواصلته لبحوث البيع، كغيره من الفقهاء الآخرين،إلاّ ان طرح البحث بصورة معمقة وعلى نطاق واسع أدى إلى ايجاد تيار من المساعي الفكرية في الفكر الشيعي، وميّزه عن البحوث المتعددة في هذا المجال. وبصورة عامة يمكن تحديد المراحل الاربع التالية التي تناول فيها الإمام بحوث ولاية الفقيه خلال كتاباته وأحاديثه:

المرحلة الاولى: وقد تضمنت اثارة مجملة لبحث ولاية الفقيه وردت في كتاب «كشف الاسرار»، الذي رد فيه سماحته على شبهات مؤلف «اسرار هزار ساله». ويعود زمن تأليفه له إلى عامي 41و 1942، وقد جاء البحث رداًً على شبهات مؤلف كتاب «اسرار هزار ساله»، كغيره من بحوث الكتاب الآخر. وقد اشار سماحة الإمام فيه إلى نظرية نظارة الفقيه ـ نظير النظرية التي طرحها المرحوم النائيني ـ اكثر من تناوله لنظرية ولاية الفقيه، حيث يقول سماحته: «ماذا سيحصل لو كان من بين ممثلي المجلس المعينين من قبل الشاه، عدد من المجتهدين والعلماء والعدول، أليس من الافضل ان يضم مجلسنا أيضاً افراداً من هذه الفئة بين صفوفه». ولكن يبدو ان سماحته تحدث في هذه المرحلة عن «ولاية الفقيه» أيضاً عندما قال في هذا الكتاب بصراحة: «ان اولئك الذين لا يقبلون في الوقت الحاضر هذا الأمر (الحكومة على أساس أحكام الله والعدل الإلهي) فان هؤلاء ـ الفقهاء ـ ايضاً لم يعارضوا هذه التشكيلات الناقصة ولم يفكروا في اضعاف اركان الحكومة». وفي مكان آخر من الكتاب اعتبر سماحته ولاية الفقهاء اوسع من ولاية المحجورين والقضاء والافتاء، وأعلن عن أن عدم ذكر تلك الحدود الواسعة هو بدافع المصلحة وبسبب عدم مخالفتها للاحكام.

المرحلة الثانية: هي التي اثيرت فيها «ولاية الفقيه» بمثابة بحث مستدل يتناول جانب الافتاء، في كل من كتاب الرسائل (بحث الاجتهاد والتقليد)، و«تحرير الوسيلة»، وكتاب البيع. وقد صدرت هذه الكتب في الاعوام 1953 و1964 و1969 على التوالي. وبما ان مجال طرح هذه البحوث كان بعيداً عن المجال السياسي والاجتماعي، وان نظريات سماحته قد تم عرضها في محيط علمي وفقهي بحت. لذلك فهي اقرب إلى حقيقة آرائه وأفكاره. ويعد البحث الذي شغل (60) صفحة من كتاب البيع من أهم بحوث سماحته حول نظرية ولاية الفقيه. علماً ان اشرطة الكاسيت لبحوث «درس الخارج» لسماحة الإمام ـ والتي كانت ملازمة لهذا الكتاب ـ قد تم طبعها تحت عناوين مختلفة في فترات القمع والاضطهاد، وعموماً تعرف هذه البحوث باسم «الحكومة الإسلامية للإمام الخميني»، وتعد أهم مصدر في توضيح نظرية ولاية الفقيه من وجهة نظر سماحته.

المرحلة الثالثة: وتشمل مرحلة الدفاع عن ولاية الفقيه في النصف الثاني من عام 1979. فخلال مرحلة تصاعد أحداث النهضة الإسلامية إلى أوجها ـ الاعوام 77 ـ 1979 ـ لم يذكر سماحة الإمام ولاية الفقيه بصورة محددة، حتى ان هذا اللفظ لم يرد في خطاباته.. ورغم ان سماحته كان قد اشار إلى حقه الشرعي في تعيين المسؤولين في المناصب الحكومية، إلا انه لم يتحدث عن بيان مكانة ولاية الفقيه في النظام الإسلامي أو في الدستور. ولكن بعد تشكيل مجلس الخبراء وطرح ولاية الفقيه بمثابة أصل من الاصول الاساس للنظام الإسلامي، حدث لغط في المجتمع من قبل بعض النواب، وقد فسر بعض الاحزاب موضوع طرح ولاية الفقيه بحصر السلطة بعلماء الدين؛ حينذاك بدأ فصل آخر من دفاع الإمام عن مبدأ ولاية الفقيه. وفي هذه المرحلة أهتم سماحته، اكثر من أي شيء آخر، بذكر الفارق بين ولاية الفقيه والدكتاتورية، والنفع الذي تعود به ولاية الفقيه على المجتمع، وقد انتهت هذه المرحلة في منتصف 1980 مع نهاية حدة التوترات واللغط المذكور. والنص التالي نموذج لأحاديث هذه المرحلة: «قضية ولاية الفقيه ليست بالأمر الذي يوجده مجلس الخبراء. ولاية الفقيه أمر سنّه الله تبارك وتعالى.. لا تخشوا ولاية الفقيه؛ الفقيه لا يستطيع ان يتعامل مع الناس بمنطق القوة. فإذا ما اراد فقيه ما ان يتعامل بهذا المنطق، فسوف تنتزع منه الولاية».

المرحلة الرابعة: وهي مرحلة التبيين الواضح لصلاحيات ولي الأمر والشروط اللازم توفرها فيه. وتحظى هذه المرحلة بالأهمية من جوانب عديدة، وتتسم بصراحة الإمام في بيان صلاحيات ولي الأمر والدفاع الحازم عنها، وردّ التصورات الخاطئة والافكار التبريرية. فمن جانب تبدأ هذه المرحلة برد الإمام(رض) على رسالة وزير العمل بتاريخ (7/12/1988) وخلال فترة قصيرة كتب الإمام اربع رسائل للرد على الابهامات التي اثارتها هذه الرسالة، أو الاشكالات التي ذكرت من قبل مجلس الخبراء و... ومن بين هذه الرسائل تحظى الرسالة المؤرخة بتاريخ (6/1/1988) التي تناولت تصريحات رئيس الجمهورية حينذاك ـ سماحة آية الله السيد الخامنئي ـ في صلاة الجمعة، بأهمية خاصة. وفي هذه الرسالة اشار سماحة الإمام إلى رجحان أحكام الحكومة ـ في حال التعارض ـ على الاحكام الاولية والثانوية حيث جاء فيها:

«ان كل ما قيل حتى الآن أو يقال ناشئ عن جهل بالولاية الإلهية المطلقة. فما قيل وأشيع من أن المزارعة والمضاربة ونظائر ذلك ستزول مع تلك الصلاحيات، أقول بصراحة: على فرض ان الأمر كذلك، فهو من صلاحيات الحكومة. بل وأكثر من ذلك هناك امور اخر لا ارغب ان ازاحم أوقاتكم بها». وهناك بحث آخر عن الشروط اللازم توفرها في ولي الأمر جاء في رسالة الإمام(رض) التي وجهها إلى رئيس مجلس اعادة النظر في الدستور بتاريخ (27/4/ 1990).

أدلة ولاية الفقيه

احتج القائلون بولاية الفقيه في الفكر الشيعي بأدلة مختلفة، وعموماً يمكن تقسيم وجوه الاستدلال المختلفة إلى اربعة أقسام:

1 ـ الاستدلال من باب الامور الحسبية.

2 ـ الروايات الخاصة بولاية الفقيه.

3 ـ الاستدلال العقلي ـ الكلامي، أو الاهتمام بالنظرة العامة للدين الإسلامي.

4 ـ الاستدلال بالآيات القرآنية.

يتمتع الاستدلال عن طريق الامور الحسبية وضرورة تصدي الفقيه لها، بسابقة طويلة. ولكن لا يوجد اتفاق في وجهات نظر الفقهاء بشأن مصاديق الامور الحسبية. وقد فسّروا بشكل عام الامور الحسبية بالحالات الجزئية التي «لا يرضى الله بإهمالها». وعملياً ايضاً لم يتعهد الفقهاء في هذا الباب غير شؤون اموال الايتام والغائبين والولاية على الطلاق وبعض الموارد الجزئية المشابهة الأخر. هذا في حين ان اقامة الحكومة وإدارتها الواسعة تعتبر من وجهة نظر بعضهم من ابرز مصاديق الامور الحسبية، وان دليل ولاية الفقيه اذا لم يكن مقنعاً من الطريق الاخرى، فانه عن هذا الطريق قابل للاثبات والبرهنة، الا ان سماحة الإمام لم يستخدم هذا الطريق لاثبات ولاية الفقيه، ليس بسبب عدم قناعته بضرورة تصدي الفقهاء للامور الحسبية ـ ذلك انه صرّح في اجازاته بأن الامور الحسبية في زمن غيبة ولي الأمر(عج) هي من اختصاصات الفقيه الجامع للشرائط ـ بل كان سماحته يرى ان الادلة القوية والمحكمة المتوفرة لديه تبرهن على ان الفقيه أجلّ شأناً من ان تقتصر مسؤوليته على الشؤون الحسبية. وان استدلاله هذا يشبه إلى حد كبير أساليب الاستدلال الخاصة للمرحوم آية الله السيد البروجردي. فسماحته يقول: «اذا ما اخذنا نسيج الدين العام بنظر الاعتبار وضرورة تطبيق الأحكام، وعدم أهمال مسؤولية المجتمع من قبل الأئمة(ع) في عصر الغيبة، فإن الأئمة إما انهم لم ينصبوا أحداً، أو انهم نصبوا الفقيه بهذا المنصب ـ الولاية ـ. ولكن كما هو واضح ان عدم النصب باطل، اذن بالتأكيد قد نصبوا فقيهاً إلاّ ان روايات ذلك لم تصل إلينا. فهو عن هذا الطريق توصل إلى وجود روايات في هذا الشأن».

كما ان هناك استدلالين آخرين حظيا باهتمام سماحة الإمام(ره)؛ ففي الوقت الذي كان يركز معظم الفقهاء على الدليل النقلي ـ الروايات الخاصة ـ فان سماحة الإمام قد أولى الدليل العقلي ـ الكلامي اهتمامه، وأعلن عن ان هذا الدليل واضح جداً. بعد ذلك أورد الروايات الخاصة.

الدليل الكلامي

يتشكل هذا الدليل من المقدمات التالية:

ـ الإسلام دين جامع يشتمل على القوانين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحقوقية و... ويتضح ذلك من خلال نظرة مجملة إلى احكام الإسلام.

ـ لقد ثبت بالضرورة الدينية ان الاحكام الإلهية باقية إلى يوم القيامة ولم تقتصر على زمن خاص.

ـ بقاء الاحكام بحاجة إلى تشكيل الحكومة والولاية الإلهية، ليتم في ظلها تطبيق الاحكام.

ـ من جانب آخر، ان حفظ النظام الإسلامي، والدفاع عن ثغور المسلمين مقابل هجوم الاعداء والحرص على تنظيم شؤون المسلمين، من الامور اللازمة، وان كل ذلك غير ممكن بدون الحكومة الصالحة؛ فالله الحكيم من غير الممكن ان يتجاهل احتياج المسلمين هذا. اذن فالدليل على الامامة هو الدليل عينه على ضرورة الحكومة بعد غيبة امام الزمان(عج).

ـ رغم ان رئيس هذه الحكومة في زمن الغيبة ليس شخصاً معيناً، ولكن نظراً لأن الحكومة الإسلامية حكومة القانون الإلهي فلابد للحاكم من ان يتصف بصفتين: الاولى: العلم بالقانون الإلهي «الفقاهة». والثانية: العدالة. علماً ان الكفاءة والخبرة تندرجان ضمن العلم بمفهومه الواسع.

ان معظم هذه المقدمات تشير إلى ضرورة تشكيل الحكومة في عصر الغيبة، ومبتنية على التصورات العامة والآراء الكلامية عن الدين. ويتفق المرحوم البروجردي في هذه المقدمات إلى حد كبير مع سماحة الإمام(رض)،ولذلك تطابق استدلال الإمام والسيد البروجردي فيما عدا القسم الاخير منه؛ ففي القسم الاخير يصل سماحة الإمام إلى صفات ولي أمر المجتمع الإسلامي عن طريق التناسب بين موضوع الحكم. ومما يجدر ذكره هو ان هذا الاستدلال ليس بمقدوره ان يثبت نصب جميع الفقهاء العدول بالفعل لمسؤولية النظام الإسلامي. وأساساً لم يشر إلى كيفية انتخاب ولي الأمر من بين الفقهاء واجدي الشروط. بالطبع ان سماحة الإمام(رض) قد اشار بنحو ما في ذيل هذا الاستدلال إلى نصب جميع الفقهاء لولاية المجتمع الإسلامي، ولكن ذلك لا ينطبق إلاّ في الامور الجزئية فحسب، لأنه أوضح ان تنفيذ الحدود في زمن الطاغوت، عند الامكان.

الأدلة النقلية

ذكرت روايات عديدة في هذا المجال، ولكن قلّما استشهد بالآيات القرآنية الشريفة. الآية الوحيدة التي وردت في بعض البحوث هي الآية الشريفة: {يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}. وقد اهتم سماحة الإمام بتفسيرها من خلال ذكرها في مقبولة عمر بن حنظلة، إلاّ انه لم يذكرها بعنوان دليل مستقل مطلقاً. ونظراً للإبهام الذي يحيط بمفهوم أولي الأمر، فقد فسّرت هذه الآية تفاسير مختلفة. وقد اعتبرها المرحوم العلامة الطباطبائي(رض) ـ صاحب تفسير الميزان ـ منطبقة على الأئمة الاطهار(ع) من خلال ذكر القرائن. وان بعض أهل السنة أيضاً، وبالاستفادة من معنى الآية، اعتبر ولاية الحاكم الظالم واجبة. وعموماً تبدو الاستفادة من الآية الشريفة في اثبات ولاية الفقيه غير ممكنة من دون الاستعانة بالروايات، رغم ان بعض الفقهاء المعاصرين أثبت دلالة الآية على ولاية الفقيه.

فالإمام الخميني(رض) درس من حيث السند والدلالة الروايات التالية حسب الترتيب:

1 ـ مرسلة الشيخ الصدوق. 2 ـ رواية علي بن أبي حمزة عن الإمام الكاظم(ع). 3 ـ موثقة السكوني عن الإمام الصادق(ع). 4 ـ توقيع الناحية المقدسة إلى اسحاق بن يعقوب. 5 ـ مقبولة عمر بن حنظلة. 6 ـ صحيحة قداح عن الإمام الصادق(ع). ومن بين هذه الروايات اشكل سماحته على سند كل من رواية علي بن أبي حمزة، ودلالة مرسلة الشيخ الصدوق فقط؛ إلاّ انه اعتبر اشكال دلالة مرسلة الصدوق غير وارد. وبذلك اعتبر خمس روايات من الروايات الست المذكورة تامة من حيث السند والدلالة. ثم اشار سماحة الإمام إلى روايات أخرى كان يعتبر دلالتها تامة، وهي عبارة عن روايات جامع الاخبار عن الرسول الاكرم(ص)، ورواية «عبدالواحد الآمدي» عن أمير المؤمنين(ع)، ورواية «تحف العقول» عن الإمام الحسين(ع). ونظراً إلى فنية بحوث السند والدلالة نحجم عن ذكر كل واحدة منها، إلاّ ان النكتة الوحيدة الجديرة بالاهتمام بالنسبة لدلالة الروايات المذكورة هي تأثير رؤية الإمام الكلامية على استنباطه من ظواهر الالفاظ في هذه الروايات. وهذه النكتة كانت السبب في اختلاف وجهة نظر سماحته وبعض الفقهاء الذين يتفقون معه في الرأي، مع الآخرين. فعلى سبيل المثال يقول سماحة الإمام بشأن رواية «اللهم ارحم خلفائي»: «اذا كانت خلافة النبي غير ظاهرة في الولاية والحكومة، فانها على الاقل القدر المتيقن من تلك الولاية والحكومة». كذلك يقول سماحته عن رواية «ان العلماء ورثة الانبياء»: «بعض الانبياء كالنبي الاكرم و... كان لهم مقام الولاية، وان ورثة الانبياء تعني انتقال كل ما كان لهم، إلاّ اذا كان غير قابل للانتقال؛ ولا شك في ان السلطة قابلة للانتقال». ويمكن مقارنة هذه الرؤية بالفهم الذي يستنبطه المرحوم الشيخ الانصاري من هذه الروايات، اذ انه يكتب بعد نقل الروايات: «الانصاف هو انه بعد ملاحظة سياق الروايات المذكورة وصدرها وعجزها، يحصل لنا الجزم بأن هذه الروايات من باب بيان وظيفة علماء الدين من حيث توضيح الاحكام، ولا تعني انهم كالنبي والأئمة لهم الولاية على اموال الناس». وبشكل عام يستنبط سماحة الإمام الخميني، بوحي من دليلين محكمين ـ كلامي ونقلي ـ نصب الفقهاء العام لولاية المجتمع الإسلامي في عصر الغيبة. وعلى الرغم من ان سماحة الإمام،وضمن بحوثه السابقة، قد اشار إلى اختيارات ولي الأمر وشرائطه، فإننا سنتناول بحثه بشكل مستقل نظراً لأهمية الموضوع والآراء التي أعلن عنها في هذا الشأن.

شروط الولي الفقيه

رغم ان الشروط اللازم توفرها في الولي الفقيه كثيرة، وان بعض المفكرين الشيعة والسنة قد اشار إلى اكثر من عشرة شروط، إلا ان سماحة الإمام اهتم بشرطَي الفقاهة والعدالة قبل كل شيء. طبعاً ان سماحته اعتبر ولاية الافتاء الجامعين لشروط الفقهاء والقضاء في عصر الغيبة صحيحة، وهي باختصار تشتمل على شروط ينبغي توفرها في الشخص المجتهد صاحب الفتيا والقضاء.

ان شرطَي الفقاهة والعدالة لا يستفادان فقط من أدلة التقليد، بل هما قابلان للتصور تماماً من الادلة العقلية والتناسب بين الحكم والموضوع. يقول سماحة الإمام في هذا الشأن:

«نظراً لأن الحكومة الإسلامية حكومة قانونية، بل حكومة القانون الإلهي فحسب، وان هدفها تحكيم القانون وبسط العدالة الإلهية بين الناس، فلابد إذن لوالي هذه الحكومة وقائدها ان يتحلّى بصفتين وهما اساس الحكومة القانونية.. وهاتان الصفتان عبارة عن: العلم بالقانون. والعدالة. وان مسألة الكفاءة والخبرة تدخل أيضاً في مفهوم العلم بمعناه الواسع. فمما لا شك فيه انه لابد للحاكم ان يتحلى بالكفاءة والخبرة. واذا قلت ان هذه الكفاءة شرط ثالث من الشروط الاساس، فان مسألة القيادة، بناءً على هذا تختص بشخص الفقيه العادل».

ما هو مفهوم الفقاهة من وجهة نظر الإمام؟ هل العلم بالاحكام الفقهية الرائجة، أم ان هناك شروطاً ضرورية اخر لفقاهة ولي الأمر واجتهاده؟

كتب سماحة الإمام في «الحكومة الإسلامية»: «ينبغي للحاكم أن يتحلّى بالافضلية العلمية»، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، ونظراً لأنهم عرّفوا ولي الأمر في عصر الغيبة بأنه الجامع لشروط القضاء والافتاء، واعتبروا توافر شرط الاعلمية لازماً في القاضي والمفتي ـ الاعلمية المطلقة أو اعلم الموجودين في المدينة أو في حوزة القضاء ـ فلابد اذن من ان يكون ولي الأمر ـ من وجهة نظر الإمام ـ الأفقه والأعلم. وقد كتب سماحته في الايام الاخيرة من حياته، في رسالة بعث بها جواباً على طلب رئيس مجلس اعادة النظر في الدستور، يقول:

«كنت اعتقد منذ البداية، وكنت اصر على ذلك، بأن شرط المرجعية غير ضروري. فالمجتهد العادل الذي يحظى بتأييد الخبراء المحترمين في مختلف انحاء البلاد، كافٍ. لقد قلت هذا في اصل الدستور، إلاّ ان الاصدقاء اصروا على شرط المرجعية وقبلت انا بذلك، ويومها كنت اعلم بانه غير قابل للتطبيق في مستقبل ليس ببعيد».

رغم ان سماحة الإمام في هذا النص لم يعتبر شرط المرجعية لازماً، ولكن نظراً لأن الفقيه الأعلم في الغالب يكون «مرجعاً» للناس، لذا فان حذف شرط المرجعية يتضمن نفي شرط الاعلمية المتعارف عليها لدى الحوزويين. والنص في ظاهره يشير إلى ان سماحة الإمام منذ بداية انتصار الثورة الإسلامية لم يكن يعتبر الأعلمية المعهودة لدى الحوزويين ضرورية لولي الأمر. وقد تبادر الذهن ان هناك تعارضاً واختلافاً بين النصين، وان سماحة الإمام قد عدل عن شرط الأعلمية، ولكن سرعان ما يزول هذا اللبس اذا ما قرأنا النص التالي للإمام، اذ ان سماحته عرض نظرية طريفة بشأن الاجتهاد في المسائل الاجتماعية، والنص التالي غني عن التعليق:

«الاجتهاد المصطلح عليه في الحوزات غير كاف. فلو كان الشخص الأعلم في العلوم المعهودة في الحوزة، ولكنه غير قادر على تشخيص مصلحة المجتمع، أو انه لم يستطع التمييز بين الافراد الصالحين والنافعين عن غيرهم، وبشكل عام يفتقر للرؤية السليمة والقدرة على اتخاذ القرار على الصعيد السياسي والاجتماعي، فان مثل هذا الفرد ليس مجتهداً في المسائل الحكومية والاجتماعية، ولا يستطيع ان يتسلم زمام أمور المجتمع».

ومع الاخذ بنظر الاعتبار هذه الملاحظة وذلك الذي ذكر من قبل بأن مفهوم العلم والفقاهة بمعناه الواسع يشتمل على الكفاءة والخبرة، يتضح بأن هناك فارقاً بين الأعلمية في البحوث الاجتماعية والسياسية، والأعلمية الفقهية المعهودة في الحوزة والتي هي ملاك اختيار مراجع التقليد العظام. فذلك الذي لم يكن ضرورياً منذ البداية ـ من وجهة نظر الإمام ـ هو شرط المرجعية أو الأعلمية المعهودة في الحوزة. اما الأعلمية بمعنى مجموع الاجتهاد الفقهي والرؤية السياسية والاجتماعية والخبرة والكفاءة، فتعتبر من الشروط اللازمة لولي الأمر. هذا وقد تم تدوين الدستور، بعد اعادة النظر فيه، على ضوء فحوى رسالة الإمام التي تشير إلى هذه النكتة.

بالنسبة لشرط العدالة، يثار هذا السؤال ايضاً وهو: هل عدالة القائد وتقواه وبقية الشؤون المشروطة بالعدالة على درجة متساوية ـ واحدة ـ، ام انه ينبغي لولي الأمر ان يكون في مجال العدالة محرزاً لمرتبة خاصة، ويجب ان تكون التقوى اللازمة له في درجة اسمى؟ وبشكل عام لم يذكر سماحة الإمام تفسيراً لعدالة الحاكم، ولكن وبالنظر إلى ما ذكر كشروط لتقوى الحاكم، يمكن ان ندرك ان عدالة الحاكم ينبغي ان تكون في مرتبة خاصة. يقول سماحته:

«ان ذلك الذي يريد ان يكون ولي أمر المسلمين ونائب أمير المؤمنين، ويشرف على نفوس الناس وأموالهم واعراضهم، ويتدخل في الحدود ونظائر ذلك، لابد له ان يكون منزّهاً، غير طالب للدنيا، لأنه اذا كان يفكر في الدنيا ـ رغم اباحتها ـ فلن يكون أميناً لله، ولا يمكن الاطمئنان اليه».

لقد اعتبر سماحة الإمام شرط النزاهة من طلب الدنيا لمرجع التقليد واجباً، احتياطاً.

شؤون الولي الفقيه

من البحوث المهمة الجديرة بالاشارة حول ولي الأمر، بحث صلاحيات الولي الفقيه الجامع للشرائط. ويعتقد المفكرون الدينيون بأن للفقيه الجامع للشرائط مناصب خاصة. ان الفقهاء كافة ـ ما عدا بعض الاخباريين الذين ينفون عن الفقيه حتى مقام الافتاء والمرجعية العلمية ـ يعتقدون بنحو ما بولاية الفقيه ـ على الاقل ولاية الافتاء والقضاء ـ، وان اختلافهم المهم هو في حدود الولاية وخيارات ولي الأمر والفقيه الجامع للشروط. ولا يخفى ان اعتبار بعض الفقهاء في عداد منكري ولاية الفقيه، بهذا المعنى وهو ان ولاية الفقيه الشاملة لم تثبت لديهم، ولاشك في انهم يقبلون الولاية المحدودة.

هذا وقد تحدث المرحوم النراقي عن مراتب عديدة بشأن محدودية خيارات ولي الأمر، يمكن ايجازها على النحو الآتي:

1 ـ افتاء المرجعية العلمية. 2 ـ القضاء والحكم.3 ـ و 4 ـ و 5 ـ المحافظة على اموال الايتام والمجانين والغائبين. 6 ـ الولاية في زواج الايتام و... 7 ـ رعاية الايتام وتوفير فرص العمل لهم. 8 ـ التصرف في أموال المعصوم (سهم الإمام والزكاة). 9 ـ تنفيذ الحدود والتعزيرات. 10 ـ اعمال ولاية المعصوم في حدود الشؤون الاجتماعية. وبالطبع من الممكن اضافة مراتب اخرى ضمن حدود ولاية الفقيه وهي عبارة عن: 11ـ الولاية على مراتب الجرح والقتل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 12 ـ ولاية الحكومة والسياسة في حدود القوانين الشرعية الفرعية وقوانين البلاد الاولية والثانوية. 13 ـ ولاية الاشراف والتوجيه في مدى مطابقة امور البلاد مع الشريعة. 14 ـ الولاية على الحكومة والسياسة في حدود قانون الشرع وقوانين البلاد. 15 ـ اعمال الولاية في الشؤون الاجتماعية، مع الاخذ بنظر الاعتبار مصلحة المسلمين وحكم القوانين الشرعية الثانوية وقوانين الدولة. 16 ـ الولاية على تشريع الاحكام وسن القوانين على اساس المصلحة.17 ـ ولاية الامور الحكومية والشخصية بصورة مطلقة.

وطبعاً يبدو من المراتب المذكورة، ان بعض مراتب الولاية متلازمة مع بعض (النقاط 3 إلى 7)، وبعضها الآخر متطابق مع بعض (النقطتين10و15)، إلاّ اني ذكرتها مفصلة لأجل التعرف بدقة اكبر على الاحتمالات التي يمكن ان تقال في حدود الخيارات. علماً ان بعض هذه المراتب قد تم قبولها من قبل جميع الفقهاء المتأخرين تقريباً، لأنه بشكل عام يعتقد بضرورة تصدي الفقهاء جامعي الشرائط في عصر الغيبة للأمور الحسبية، وان القدر المتيقن من الامور الحسبية هو الذي تضمنته النقاط من 1 إلى 8. من هنا فان السيرة العملية لهم في التصدي للمرجعية والقضاء وأخذ سهم الإمام(ع) وانفاقه في الامور المقررة والولاية على الايتام و... كل ذلك من الامور المسلّم بها. طبعاً بالنسبة للقضاء، كانوا يقبلون اكثر ممّا هو في باب الأمور الحسبية، حيث اعتبروا النصوص الخاصة من قبيل مقبولة عمر بن حنظلة و... دليلاً على نصب الفقهاء للقضاء. وقد كان سماحة الإمام(رض)، وكما مر علينا، يتفق في هذا الرأي مع الفقهاء الآخرين، وكان يعتبر هذه الاختيارات للولي الفقيه صحيحة.

ان الاختلاف الاساس بين اولئك الذين لم يعتبروا ادلة ولاية الفقيه كافية واعتبروا الولي «مأذون بالتصرف في الامور الحسبية» فحسب، وهؤلاء الذين اثبتوا بأحد الوجوه الاخر ولاية الفقيه وتنصيبه في هذا المقام من قبل الأئمة (عليهم السلام)، ان هذا الاختلاف يظهر في جوانب اخر غير الجانب الذي تمت الاشارة اليه. ومن جهة أخرى، فما هو مسلّم به ان الولاية على تشريع الاحكام الشرعية (النقطة 16)، هي من صلاحية الانبياء وحدهم. واذا ما كان الأئمة(ع) يخوضون في تبيين المخصص والمقيد في الاحكام الشرعية فهو في الحقيقة من باب توضيح القيود الواقعية للاحكام التي استودعت فيهم. وفي الحقيقة ان هذه الملاحظة من شؤون الرسالة. يقول سماحة الإمام بهذا الصدد:

«في الحكومة الإسلامية الحاكم هو الله تبارك وتعالى. فما عدا الله لم تكن ولن تكون الحكومة لأحد غيره. وان الانبياء وخلفاء الانبياء هم في الاصل المنفذون لقانون الله، والتابعون للقانون الإلهي، وليس الأمر بأن يكون لهم حكم مقابل قانون الله. اجل لقد كانوا يتدخلون في الامور الفرعية والشؤون الجزئية».

على اية حال، من المسلّم به ـ من وجهة نظر الإمام ـ ان ولي الأمر مجاز في التصرف بالأمور التي تنضوي تحت باب الحسبية، وله الولاية في تطبيق الحدود والتعزيرات، ومراتب الجرح والقتل في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاية على الحكومة والشؤون السياسية في حدود الاحكام الشرعية وقوانين الدولة، والاشراف على تطبيق الإسلام في الحكومة. ونظراً لاتضاح دلائل ذلك مما مرّ ذكره، نعزف عن ذكر تفاصيل ذلك ونكتفي بإثارة سؤالين اساسيين.

الاول: هل ولاية الفقيه ـ من وجهة نظر الإمام ـ منحصرة بالاحكام الشرعية «الاولية والثانوية»، ام ان الفقيه يستطيع ان يمارس ولايته في حدود المصلحة الاجتماعية والفردية؟ (النقطتان 15 و17).

الثاني: هل ممارسة ولي الأمر لولايته منحصرة بحدود القوانين أم ان الفقيه فوق القانون؟

ونظراً لأهمية هذين السؤالين سندرس كل واحد منهما على حدة:

الأحكام الأولية والثانوية

مما لا شك فيه ان من واجب كل مسلم ان يتمسك بالاحكام الإسلامية الاولية والثانوية، وان المظهر الخارجي للتمسك بالدين هو التمسك بالاحكام الشرعية التي ترسم حدود الواجبات والمحظورات الشرعية. ومن هنا، وما عدا بعض الحالات التي تتطلبها المصلحة العليا، فانه اساساً لا يوجد مكان لإثارة السؤال السابق؛ ولكن من جهة أخرى ان تطبيق الاحكام في ظروف زمانية محددة، بحاجة إلى أساليب تنفيذية واتخاذ قرارات مختلفة، و...، وفيما عدا الاحكام الشرعية هناك «القانون الحكومي» الذي تقع مهمة تنفيذه على عاتق حاكم الشرع ايضاً. واحياناً يكون القانون الحكومي من أجل كيفية تنفيذ الاحكام الاولية والثانوية وتحديد موضوعاتها، أو ممارسة الولاية في حدود المباحات الشرعية. ففي مثل هذه الحالات بامكان الفقيه ان يمارس صلاحيات منصبه الشرعي ـ الولاية ـ. ولكن اذا كان احياناً للحكم الشرعي الاولي أو الثانوي في المجال الاقتصادي، ضرورة أو حرمة، كوجوب الحج وحرمة الربا و... فهل يستطيع ولي الأمر، وبدافع مصلحة الأمة الإسلامية، ان يصدر حكماً مخالفاً للشرع، أو في الحقيقة يحول دون تطبيقه؟

لقد اعتبر سماحة الإمام في بحوثه الاستدلالية، حدود الصلاحيات الحكومية للإمام المعصوم والولي الفقيه واحدة، ولم يستثن من ذلك غير بعض الحالات التي نص دليلها الخاص على اقتصارها على المعصوم، أو اتضح ان ذلك الاختيار لم يكن من اختصاص ولايته على المجتمع. ومن هنا اثيرت الشكوك حول أمر الجهاد الاولي (الابتدائي)، لأنه كان يحتمل ان ذلك من اختصاص المعصوم. ولم تتم الاشارة في كتابه إلى بحوث حدود صلاحيات المعصوم في حكومته، بل ذكر بعض الامثلة من قبيل: النبي يضرب الزاني مئة سوط، والإمام والفقيه يفعل ذلك ايضاً. الصدقات أيضاً تؤخذ بالاسلوب نفسه. ووفقاً لما تقتضيه مصالح الناس، يؤمر بالامور التي يتمكن الوالي من الأمر بها، وتوجب على الناس اطاعتها. وعلى الرغم من انه تم استخدام تعابير الولاية المطلقة والعامة للفقيه في هذه البحوث وفي كتاب البيع، إلاّ انه لم تعط اجابة صريحة لمسألة العلاقة بين صلاحيات ولي الأمر واحكام الشرع الاولية والثانوية. ومع ذلك فان رسالة الإمام الجوابية على رسالة وزير العمل بشأن صلاحيات الدولة في وضع شروط الزامية لأرباب العمل، قد اشارت بشكل دقيق إلى حدود صلاحيات الفقيه وارتباطها بالاحكام الشرعية. إلاّ ان هذه الرسالة اثارت ردود فعل متفاوتة لدى الباحثين والمسؤولين مما اضطر الإمام إلى توضيح حقيقة ما قصده في رسالة جاء فيها:

«ان التعبير الذي نسب لي من ان الحكومة تمتلك الصلاحيات في اطار الاحكام الإلهية، يختلف تماماً عما قلته. فاذا ما كانت صلاحيات الحكومة في حدود الاحكام الفرعية، إلهية، فلابد من ان يكون عرض الحكومة الإلهية والولاية المطلقة الذي انيط بالنبي الاكرم، ظاهرة عديمة المضمون والمعنى.. ان الحكومة التي هي شعبة من الولاية المطلقة لرسول الله(ص)، احد احكام الإسلام الاولية ومقدمة على جميع احكام الإسلام الاولية ومقدمة على جميع الاحكام الفرعية حتى الصلاة والصيام والحج.. باستطاعة الحكومة ان تقف في وجه أي أمر، عبادي أو غير عبادي، اذا ما كان وجوده يتعارض مع مصلحة الإسلام، أو مادام هو كذلك».

مما سبق يتضح ان الشيء الوحيد الذي بإمكانه ان يحد من صلاحيات الولي الفقيه هو المصلحة. وفي حدود مصلحة الأمة الإسلامية من الجائز تعطيل الاحكام الاولية والثانوية مؤقتاً مادامت المصلحة في ذلك. واذا ما رجعنا إلى البحوث التي دونها الإمام في كتاب البيع حول صلاحيات الولي الفقيه، يتضح ان هذا النص ـ على الرغم من ان بعضهم ينظر اليه على انه زيادة على حدود الصلاحيات التي ذكرها الإمام في كتاب البيع ـ ما هو إلاّ تفسير وبيان صريح لتلك المواضيع التي كانت قد ذكرت في الكتاب بشكل مجمل وبصورة كلية. فسماحته يرى ان الاحكام الحكومية ليست حكماً ثانوياً، بل هي ـ على حد تعبيره الصريح ـ «بحكم الاولى». ومن هنا فان نفوذ الولاية في الاحكام الحكومية ليس من باب ما تفرضه الضرورة والاضطرار والحرج و... بل هو بدافع توفر المصلحة في إعمال ولايته على المجتمع الإسلامي. وبالالتفات إلى هذه الملاحظة، فان التفاسير التي تحاول ان تجد مكاناً لحكم الحكومة في عداد الاحكام الثانوية، وهي من اجل ذلك مضطرة للعثور على عناوين من قبيل الضرورة والاضطرار والحرج، تختلف تماماً عن تفسير الإمام(رض)، إلاّ ان سماحة الإمام لم يشر إلى الاسلوب الخاص لتشخيص هذه المصلحة، على الرغم من وجود بعض ذلك في السيرة العملية لسماحته، كتشكيل «مجلس الخبراء» لتشخيص مثل هذه المصلحة، أو ان سماحته كان يتشاور مع الخبراء بشكل جماعي أو منفرد؛ ولكن، وكما يبدو، ان ذلك الذي كان يبذله الإمام في اعداد الارضية لتنفيذ الحكم الحكومي، هو لأنه كان قد رأى الصلاح وقناعة الولي الفقيه بوجود المصلحة في إعمال الولاية.

القانون وصلاحيات ولي الأمر

تقسّم القوانين الحكومية إلى قسمين اساسيين هما: الدستور، والقانون العادي ـ مجموعة القوانين المصادق عليها غير الدستور ـ. والدستور مقارنة بالقوانين الاخر يحظى بمكانة اسمى وأكثر اعتباراً. وسنتناول هنا بحث وجه العلاقة بين صلاحيات ولي الأمر والدستور، وفي ضوء ذلك ستتضح العلاقة بين ولي الأمر والقانون العادي.

على الرغم من ان صلاحيات ولي الأمر محددة في المادة المئة وعشرة من الدستور، وقبل اعادة النظر في الدستور لم يكن قد استخدم تعبير الولاية المطلقة في أية مادة من مواد الدستور، إلاّ انه يبدو من وجهة نظر سماحة الإمام، ان الدستور لا يعلو على الاحكام الشرعية، وان حدود صلاحيات ولي الأمر بالنسبة للدستور لن تكون اكثر محدودية من صلاحياته بالنسبة للاحكام الفرعية. طبعاً لا يخفى ان الدستور قد تم تدوينه على اساس احكام الإسلام، وقد صادق الفقهاء بما فيهم شخص سماحة الإمام على مطابقته للشرع أو عدم مخالفته له؛ واقصى ما هناك ان بعض القوانين والاحكام الشرعية دوّنت بنحو ما. كما اننا نرى في السيرة العملية لسماحة الإمام(رض)، وعلى مدى عشر سنوات من قيادته للسلطة، أن هناك بعض الحالات ـ وهي ليست كثيرة ـ قد تجاوزت حدود الدستور بدافع المصلحة، وبهذا الصدد يمكن الاشارة إلى تشكيل المحكمة الخاصة بعلماء الدين، ومجمع تشخيص مصلحة النظام.

ففي مثل هذه الموارد وجد الفقيه عملياً له مكاناً ابعد من القانون. فعندما راح مجمع تشخيص مصلحة النظام يسن القوانين بصورة أوسع حتى من الحدود التي تم تعيينها من قبل سماحة الإمام، كتب نواب المجلس إلى سماحته يستفسرون منه عن ذلك، فأجابهم:

«ما كتبتموه صحيح. واني ان شاء الله عاقد العزم على ترتيب الاوضاع في جميع المجالات بنحو نتحرك فيه جميعاً طبقاً للدستور. ان ذلك الذي حصل خلال هذه السنوات، كان يرتبط بالحرب. لقد كانت مصلحة النظام والإسلام تقضي بأن تحل العقد القانونية العمياء سريعاً بما هو بنفع الناس والإسلام».

ان الملاك الذي عدل بسببه سماحة الإمام هنا عن الدستور، هو الملاك نفسه الذي كانت تتقدم بسببه الاحكام الحكومية على الاحكام الاولية والثانوية. وفي رسالته الجوابية اشار سماحة الإمام إلى عزمه، إلاّ انه لم يذكر مطلقاً أية كلمة عن ضرورة اتباع الدستور. على أية حال يبدو من احاديث سماحة الإمام وسيرته العملية، انه عندما تتزاحم الاحكام الحكومية والدستور، ترجح ايضاً كفّة الحكم الحكومي. ولكن اذا ما انتفت مثل هذه المصلحة في تنفيذ الحكم الحكومي، فلا يوجد أي مسوّغ للتخلف عن الدستور. اما ما هي ضوابط تشخيص هذه المصلحة، واية مؤسسة خاصة ينبغي لها ان تحدد ذلك؟ فهذا ما لم يتطرق اليه سماحة الإمام. ولا يخفى ان حدود الصلاحيات الآنفة الذكر، تكون مقبولة اذا ما أخدنا بنظر الاعتبار مبنى تنصيب الولي الفقيه من قبل المعصومين، والذي يؤمن به سماحة الإمام، ولكن اذا ما اعتبرنا مشروعية ولي الأمر حاصلة عن طريق الانتخاب، فان حدود صلاحياته ربما لم تكن بهذا الحد، بل يتم تعيينها في نطاق مبايعة الناس له.

احدث الاخبار

الاكثر قراءة