Skip to main content

ولاية الفقيه والافق الحضاري

التاريخ: 06-10-2007

ولاية الفقيه والافق الحضاري

ولاية الفقيه والافق الحضاري كان الانسان الذي لم يعش كعبد للشخصية عندما كان يعيش تنوع شخصيته، لأن الانسان وحدة في كل كيانه، وللوحدة تنوعاتها في الآفاق التي يتحرك فيها من حيث انها تجتمع في معنى الانسانية في الانسان لتتحرك السواقي من هذا الينبوع المتفجر

ولاية الفقيه والافق الحضاري

كان الانسان الذي لم يعش كعبد للشخصية عندما كان يعيش تنوع شخصيته، لأن الانسان وحدة في كل كيانه، وللوحدة تنوعاتها في الآفاق التي يتحرك فيها من حيث انها تجتمع في معنى الانسانية في الانسان لتتحرك السواقي من هذا الينبوع المتفجر. كان الانسان وكان العارف بالله وكان الثائر وكان الفقيه المجتهد، وكان اجتهاده يتوزع ادواره بين كل هذه العناصر، فلم يكن يستغرق في النص ليستنطقه فتوى، ولكنه كان يطوف في آفاقه ويتسع ويمتد حتى يحوله الى حركة في الواقع بدلاً من ان يكون مجرد حركة فتوى في الكلمة.

العرفان المتحرك

لم يكن تجريدياً حتى في عرفانه، ونحن نعرف ان الكثيرين ممن يأخذون بأسباب العرفان يعيشون التجريد في كل تصوراتهم لله وللغيب ولكل ما هناك، ولكنه، وهو العارف، كان يعيش الله في الانسان وكان يعيش الله في كل حركة هناك، لأن الوحي ليس كلمة تتمظهر في كتاب ولكن الوحي عالم يتعمق في الواقع في الانسان ليطوف في الحاضر والمستقبل كما الماضي، في عملية تغيير وفي عملية تطوير، ومن هنا لم يكن الوحي نصاً جامداً للذين ينازعونك كيف تريد ان تمتد بالاسلام الى الحياة، والحياة تتطور والحياة تتغير والحياة تدخل في كل يوم افقاً جديداً وتصنع عالماً جديداً. كيف يمكن لك ان تفرض نصاً محدوداً بالحروف محدوداً بالقاموس، كيف لك ان تفرض نصاً على حركة الحياة والنص ثابت والحياة متحركة، فكيف يمكن ان يحكم الثابت المتحرك من دون ان يلغي حركيته؟!

النص في القرآن عالم من الايحاءات اكثر مما فيه من معنى في القاموس، فنحن نعرف ان الكلمة لا تستطيع ان تحتوي كل ما يمكن للفكر ان يطلقه. ما يعيشه المفكرون لا يمكن ان تعبر عنه الكلمات، ولذلك فنحن نعتقد ان ما يبقى من فكر المفكرين في وجدانهم وتطلعاتهم واحاسيسهم اكثر مما تعبر عنه الكلمات، فكيف عندما تكون الكلمة كلمة الله الذي خلق العالم وأراد ان يخلق من الكلمة حركية العالم، وأراد من خلال الكلمة ان يتغير الانسان ليقول له ان العالم لا تحكمه العلاقات الاقتصادية ولا العلاقات الاجتماعية ولا العلاقات الجنسية، وليس الانسان بعداً واحداً؛ العالم ينطلق به الانسان الذي يتغير دائماً ويتطور دائماً، ومن هنا فإنه يغير العالم دائماً.

الاجتهاد الممتد مع الانسان كله

ونرى ان اجتهاد الامام كان اجتهاداً منفتحاً على الحياة، ومتحركاً في الواقع وممتداً في الانسان كله؛ لم يكن سطحياً في اجتهاده امام الذين يزعمون دائماً انك كلما كنت ثورياً اكثر كنت سطحياً، وكلما كنت حركياً اكثر فقدت الدقة والعمق، وما الى ذلك، وكلما كنت انساناً يعيش الذوق الفني الادبي في فهم النص الذي هو قمة في البلاغة فأنت بعيد عن التدقيق والتحقيق هنا وهناك! ولكن المسألة ليست كذلك؛ القصة ان هناك من يجعلك تغرق في التجريديات في العمق، وفي التجريديات في الفضاء، بحيث تفقد رؤيتك للأرض التي انت فيها وتفقد احساسك بإنسانيتك في ذلك كله، لذلك عندما تكون ثائراً اكثر تفهم الاسلام اكثر، وعندما تكون حركياً اكثر تفهم القرآن اكثر، وعندما تكون انسانياً اكثر تفهم الفقه اكثر.

القرآن كان الكتاب الحركي الذي لاحق المسلمين في نقاط ضعفهم وفي نقاط قوتهم، وجاء ليثبت الذين آمنوا وجاء ليثبت النبي (ص) {وقال الذين كفروا لولا أنزل عليه القرآن جملةً واحدة كذلك لنثبت به فؤادك}، لتنطلق الآية لتعالج مشكلة، لتحل معضلة، لتفتح افقاً، لتقوي نقطة ضعف، وما الى ذلك؛ لهذا، من لا يعيش حركية الانسان في الواقع لا يستطيع ان يفهم القرآن جيداً، ولا اقصد بالحركية الحزبية، ولكني اقصد بالحركية الفكر الذي يطل على الواقع من خلال حركية الانسان في معناه.

ولذلك رأينا الامام رضوان الله عليه عندما اقتحم الفقه كان يؤكد وفي آخر لحظات حياته في وصيته: ليكن الاجتهاد علماً، ولكن عندما يكون الاجتهاد علماً، كما هو علم فقه صاحب الجواهر في ما يركز عليه باعتباره الكتاب الموسوعة الفقهية في كل حركية الفقه في معنى الاجتهاد، كان يؤكد ان يكون الاجتهاد واسعاً منفتحاً مستقبلياً، لا ان يعيش في زوايا الماضي ليجترها؛ في الماضي الكثير من التراث الذي تجاوزه الحاضر وينساه المستقبل، القوم فكروا ولم يكن تفكيرهم مقدساً او معصوماً في فهم الكتاب والسنة، والقوم اجتهدوا ولم يكن اجتهادهم نهاية المطاف في الاجتهاد، كم تحرك الاول للآخر، لذلك كان قوياً في مجابهة الاجتهاد الذي يريد ان يحجم الاسلام ويريد ان يضيق افقه وامتداده، لم يكن يعتبر ان علينا ان نجتهد لنحل المشكلة على حسب ما يريده الناس بذلك. فالاجتهاد حركة في وعي الاسلام من خلال مصادر الاسلام الاصيلة، فإذا كان الله قال لرسوله {ولو تقوّل علينا بعض الاقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} فكيف يقول الله للفقهاء عندما يريدون ان يحرفوا الكلم عن مواضعه او عندما يريدون ان يتحركوا وفق اهوائهم او وفق اهواء الناس.

 يبقى الاجتهاد في قواعده، ولكن ما هي مسألة المجتهد، لا يمكن ان تعزل الاجتهاد عن شخصية المجتهد، لأن المجتهد مهما كان موضوعياً في فهم النص فإن ذاتيته الفكرية لابد من ان تفرض نفسها بطريقة وبأخرى على حركة اجتهاده وفهمه. ليس الانسان مجرد محتوى للأفكار، ولكن الافكار تنطلق من تجربته الذاتيه ومن مزاجه ومن تأثراته ومن تطلعاته لا شعورياً، فهو قد يخيل إليه انه ينطلق من الموضوعية لأنه لا يحس بالذاتية عندما تخترق الموضوعية، وهذه هي مشكلتنا في الكثيرين من الناس الذين يعتبرون الذاتية موضوعية كما يريدون ان يحركوا الموضوعية في بعض عناصر الذاتية.

لا أقول انهم يعتمدون ادخال ذاتيتهم في اجتهادهم، ولكن الانسان لا يستطيع ان يتحرر من ذاته، لذلك قد نكتشف هناك ذاتيات في اجتهاد المجتهدين من قبلنا مما طواه الزمن معهم او مع مرحلتهم، ليمكن لنا ان نلتقي بعناصر جديدة، حتى لو كنا لا نحرر انفسنا من ذاتياتنا، ولكن المسألة تبقي للإنسان هامشاً من الحركة وهامشاً من الفكر.

كان المهفوم ـ في زمن الإمام رضوان الله عليه ـ لدى الكثيرين، ولا نشمل الواقع كله، ان على الفقيه ان يزداد ابتعاداً عن الحياة، أما اذا تحدثت عن السياسة فهناك الهرطقة وهناك الدنيوية والانحراف والبعد عن القداسة! المفهوم في القداسة عندنا هو ان يكون الانسان كما يُقال في التعبير الشعبي "اللاوياً" كيف ذلك؟ ان خربت او عمرت او حاربت او سالمت او نزلت السماء على الارض او اهتزت الارض بأهلها فهو لا يحرك ساكناً، عنده سجادته ومسبحته وقرآنه، وما علينا إن قضى الشعب جميعاً، أفلسنا في أمان!

الحكومة الاسلامية

لذلك نحن نفهم حركة الامام رضوان الله عليه في هذا الجو، قد نرى ان في الاجواء الجديدة التي نعيشها الآن، قد نرى حركته طبيعية ان ينطلق بحركة اسلامية، لأول مرة في جامعة النجف الأشرف ينطلق مرجع في بحث الخارج ليدرّس الحكومة الاسلامية؛ كانت مسألة الحكومة الاسلامية تنطلق في اجواء الحركات الاسلامية، أما ان يبحثها مرجع بطريقة فقهية سياسية منفتحة على تحديات الواقع في دائرة اقليمية وفي دائرة عالمية فهذا امر لم يُعهد قبل ذلك، لا لأن العلماء الفقهاء وهم الكبار الكبار جداً، لا لأنهم لا يأخذون بأسباب الفقه في ذلك، ولكن لأنهم يعتبرون انه يمثل بحثاً تجريدياً لا ثمرة عملية له في الواقع، لأنه لا يمكن اقامة حكومة اسلامية امام كل هذا الواقع، ولا سيما اذا كانت على اساس خط اهل البيت (ع) فهناك التعقيدات الكبيرة التي تحول المسألة الى مستحيل من ناحية واقعية.

والإمام كان يفكر بالحكومة الاسلامية ان لابد من ان تتغير ايران اسلامياً بحيث يحكمها الاسلام، وكان ينظر لذلك وكان في تناوله لا يعيش في المطلق، بل كان يعيش في الأرض، كان يعمل ان يجرب، ولذلك عندما انطلق في خط الوصول الى الحكومة الإسلامية كانت تجربته ان ينفتح على كل الذين يلتقون معه في الهدف المرحلي، وإن كانوا يختلفون معه في الهدف الاستراتيجي، ولذلك لم يمنع أي فريق من ان يسير معه. لم تكن هناك جبهة، لم يكن هناك تحالف، كان هناك لقاء في الطريق المرحلي، كان وعيه انه لا يمكن ان يطرد احداً من السائرين معه في الطريق، والطريق يتحرك فيه الوطنيون والقوميون والشيوعيون والاصلاحيون وكل ذلك، وكان لا يسمح بأن يدخل معركة مع أي من هؤلاء وإن كانت المعركة عميقة في وعيه الثقافي والفكري والاستراتيجي، لأنك عندما تريد ان تبلغ الاستراتيجية فعليك ان تحسن التكتيك.

مشكلة الكثيرين من العاملين في خط التغيير في الواقع انهم عندما يتحركون في خط الاستراتيجية ويهزمون حركتهم من خلال سوء ادارة التكتيك، يدخلون في معارك جانبية ليطردوا هذا ممن يلتقي معهم في مرحلة ويدخلوا في حرب مع هذا مع انه يلتقي في مرحلة. ان الإمام كان يقول لهم ليس القضية قضية تصفية حسابات، ليست المسألة مسألة تغيير الواقع، نحن الآن في خط ان نزلزل قواعد الاستكبار الذي يجلس على قاعدة فكرية منحرفة، زلزلوه وزلزلوا قاعدته، وعند ذلك تكون الساحة للأقوى، وتجمع الكثيرون معه وكانوا يعتقدون ان الامام سيذهب الى قم ليتابع دروس الفقه ويترك للذين تعلموا في الجامعات الاميركية والاوربية والذين يتحركون ليبرالياً وديموقراطياً واشتراكياً وماركسياً وقومياً لأنهم يفهمون الحكم، أما المشايخ فيفهمون الفقه ولا يفهمون الحكم! كانوا يفكرون بهذه الطريقة، وقد كان بعض الناس حتى من المشايخ يفكرون "مالنا وللحكم"! ولكنه كان يريد للتجربة التي يفكر بها البعض ان تسقط امامه، ليعرف الناس ان هؤلاء الذين عاشوا الفكر الغريب عن مواقع الاسلام لا يمكن ان يحكموا بلاد الاسلام على الأقل في ايران.

ولاية الفقيه

لقد كان من اولويات الامام ان يضع للحكم وللقيادة قاعدة، ولم يكن الفقهاء في زمنه او في ما قبل زمنه في الكثيرين منهم، لم يكونوا يتحدثون عن ولاية الفقيه المطلقة، وفاجأهم برأيه، ولم يكن رأيه اول رأي، وقد كان صاحب الجواهر والشهيد الاول وآخرون يرون ذلك نظرياً، وفتح المسألة، وقال الاستكبار العالمي انه يدعو الى الحكم الالهي المطلق.

فهم الناس المسألة خطأ، وما زالوا يفهمونها خطأ؛ كان الامام يفكر في ولاية الفقيه ان معناها ان القيادة لمجتمع اسلامي لابد من ان تملك الوعي للإسلام فكراً وشريعة ومنهجاً، ولابد من ان تملك تقوى الاسلام حركةً وانفتاحاً على الناس، وان قيادة المجتهد العادل لابد من ان تملك وعي الواقع، وان يكون العارف في اهل زمانه، لأن غير الفقيه اذا كان في موقع القيادة فإنه قد يحكم بغير الاسلام باسم الاسلام وقد يعطي القداسة لمزاجه ولانحرافه، لذلك كان المجتهد العادل العارف بأهل زمانه هو الأصلح للقيادة، لأنه الأوعى ولأنه الأتقى ولأنه الأعرف، ثم بعد ذلك للفقيه قانون لا يملك ان ينحرف عنه قيد شعرة، وهو قانون الاسلام في اجتهاد على الطرق المتبعة في الاجتهاد لا على اساس الاهواء، ويمكن للأمة ان تناقشه في اجتهاداته اذا رأت منه خطأ، وعليه ان يجيب على هذه المناقشات ليدور الجدل في ما رآه، لأن هناك فرقاً بين ان تجتهد وانت في بيتك لتطبق اجتهادك على نفسك أو لا تطبقه ابداً وبين ان تجتهد ليقرر اجتهادك مصير الأمة في المسألة النظرية والمسألة التطبيقية.

لذلك من حق الأمة ان تناقشه ومن حق الأمة عليه ان يستمع إليها، ليس هذا فقط، خط الفقيه عندما يلي الأمر، هو خط الامام المعصوم، خط النبي المعصوم، لا يمنع الأمة ان تناقشه حتى لو كان معصوماً، بل انه يغريهم بالمناقشة. أمامنا نصان، وأحب لكل الباحثين ان يقرأوا سيرة النبي (ص) في كل ما قاله ولاسيما في آخر حياته، ونهج البلاغة في كل ما ثبت عن علي (ع).

في آخر لحظات النبي (ص) وقف خطيباً في المسلمين كما جاء في "طبقات ابن سعد" وغيره قال : "ايها الناس، انكم لا تمسكون علي بشيء". وفي رواية: "ايها الناس انكم لا تعلقون علي بشيء؛ اني ما احللت إلاّ ما أحلّ القرآن وما حرمت إلاّ ما حرّم القرآن". ادرسوا تاريخي بينكم، ادرسوا حربي وسلمي وطريقتي في الدعوة، فستعرفون انني كنت منسجماً مع كل ما أدعوكم اليه، والنبي ليس مسؤولاً من الناس، الله ارسله والله جعله حاكماً {إنا ارسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً الى الله بإذنه وسراجاً منيراً}، والله قال في حاكميته {النبي أولى بالمؤمنين من انفسهم} ليست حاكميته منهم وليست رسالته منهم؛ ولذلك لم تكن البيعة للنبي تمثل اعطاء شرعية له، ولكنها تمثل التزامهم به من ناحيتهم الشخصية بعد الايمان ان تلتزمه.

النص الثاني لعلي (ع) كما في نهج البلاغة: "لا تكلموني بما تكلمون به الجبابرة". وكان الخليفة الفعلي آنذاك "ولا تتحفظوا مني بما يُتحتفّظ به عند أهل البادرة، ولا تظنوا بي استثقالاً لحق قيل لي او لعدل يُعرض علي؛ فإن من استثقل الحق ان يقال له والعدل ان يُعرض عليه كان العملُ بهما عليه اثقل، فلا تكفوا عن مشورة بحق او مقالة بعدل، فإني لست بفوق ان أخطئ"، وهو فوق ان يخطيء بحسب ما نعتقده، "إلا ان يكفي الله مني ذلك". كان يغريهم بأن ينقدوه حتى لا يعتادوا ان لا ينقدوا الحاكم، فقد لا يكون الحاكم في عصمته وفي أفقه.

لذلك في الخط الاسلامي للحكم، من حق الأمة ان تطلب من الحاكم ان يفسر لها، وكان النبي يفسر للناس وكان علي يفسر للناس وكان يدافع عن وجهة نظره، وكان يستمع الى الناس عندما يتحدثون في شؤونه، وكان يقف خطيباً ليناقش ما يهمسون به، في العلن.

الولاية والشورى

ثم رأينا الإمام زاوج بين الشورى وبين ولاية الفقيه، كان يريد للفقيه ان يستشيرالناس، كان يملك، وهو في قمة القيادة وفي قمة ثقة الناس به وفي قمة الموقع العالمي الذي يملك كان يملك، ان يختار رئيس الجمهورية، وان يختار اعضاء مجلس الشورى، وان يختار اعضاء الدستور، ولكنه اراد للناس ان يعطوا الفقيه رأيهم في ذلك، ولذلك كانت سيرته وسياسته ومنهجه كان ان يستفتي الناس في الدستور وفي مجلس الخبراء وفي مجلس الشورى وفي رئيس الجمهورية.

لذلك ان ولاية الفقيه تمثل نظرية تتحرك في أفق حضاري في ما هي مسألة الحكم الذي يزاوج بين الشورى وبين الولاية. وهكذا انطلق في اجتهاده ليواجه الواقع؛ كان يريد ان يكون المجتهد الذي يقف في الساحة، لا يقف في الساحة ليعطي الفتاوى فحسب، بل ليتحمل اخطار الساحة وليواجه تحديات الساحة وليواجه اتهامات الساحة وليواجه سُباب الساحة وكل الكلمات، لأن الانسان الذي يريد ان يكون رجل الساحة لا بد من ان يتحمل كل تحدياتها وكل سلبياتها؛ من يخف من الكلمة المتهمة السيئة فعليه ان يعزل نفسه عن الساحة لأنه سوف يثقل المسؤولية بخوفه. لذلك لابد من ان تكون له شجاعة تقبل كل هذا، وقد كان له شجاعة تقبل كل ما وقف فيه الاعلام العالمي بكل تياراته واتجاهاته ليصوره شخصاً يشرب دماء الناس! وشخصاً يريد ان يعيد الناس الى القرون الوسطى او ما قبل القرون الوسطى، وشخصاً يريد أن ينشر الفوضى هنا وهناك، وأعطوا مسألة تصدير الثورة معنى سلبياً يحاول ان يخرب فيه هذا النظام وذاك النظام كمجنون يريد ان يحرك سيفه كما شاء..! وتحمل ذلك كله وكان يتّسم بالهدوء، وكان يعرف أنها الضريبة التي واجهها قبله جده وسيدنا محمد (ص) كما قالوا عنه انه مجنون ساحر شاعر كاذب {أساطير الاولين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرةً وأصيلاً}، وثبت الامام بمحبة ورأفة ورحمة واستطاع ان ينتصر وكانت الأمة معه، وقالوا عنه ان ثورته مذهبية وتحرك بالطريقة التي فهم الناس انها اسلامية، وقالوا ان ثورته طائفية لا تتسع للمسيحيين وللبوذيين ولغيرهم، واثبت في ندائة "يامستضعفي العالم اتحدوا" انها انسانية لأن الاسلام انساني؛ هي إنسانية من دون الخروج عن خط الاسلام لأن الاسلام، يتسع للناس كلهم، لأن قضية المستضعفين لا تتجزأ، كما ان قضية المستكبرين لا تتجزأ.

واستطاع ان ينزع من داخل الأمة كل عناصر الخوف، فطرح امامها حركة الاستكبار العالمي شرقيه وغربيه، طرحها امامها من خلال الكلمات التي تسقط من نفوسهم أي شعور بالذعر وبالرعب، بالوسائل الروحية وبالوسائل السياسية وبالوسائل الأمنية، طرح ذلك كله حتى يفرغ روح الانسان من أي شعور بالرعب يُسقط الانسان امام الاستكبار، ولذلك قال للعالم الذي كان يتحرك شرقياً في جانب وغربياً في جانب، قالها: "لا شرقية ولا غربية"، حتى انه وقف امام ما تحركت به دول عدم الانحياز او الانحياز الايجابي ليكشف زيف هذا الحياد الايجابي وزيف هذا اللا انحياز، وكان وحده الذي اخلص في تخطيط الخط فكان لا شرقياً ولا غربياً، كان اسلامياً، واكد ذلك في كل حركته وفي كل مسلكيته.

ومن هنا استطاع الامام ان يغير المعادلات التي تحاول ان تفسر مشكلة العالم بالرأسمالية والبرجوازية والاقطاعية وما الى ذلك، ليقول لهم ان مشكلة العالم تختصر في كلمتين قرآنيتين "المستكبرون" و "المستضعفون"، وأدخل كلمات القرآن في المصطلحات السياسية فاستبدلنا بكلمة المستعمرين التي تعني ايجابية في خطهم لأنهم جاؤوا ليعمروا البلاد، بالمستكبرين، واستبدلنا كلمة الكادحين وما الى ذلك بالمستضعفين، لأن هذه الكلمة تجمع استكبار المال واستكبار السلطة والعرق واللون وكل شيء يتحرك

فيه الاستكبار ليواجه استضعافاً هنا واستضعافاً هناك.

وهكذا انطلق وتحرك في المسألة التي لانزال نعيشها في اجتهاده، وهي مسألة الصهيونية، وانطلق بها بكلمة لا تجعل هناك أي مجال لصلح ولاعتراف ولمفاوضات، لأنه قال عنها، لم يقل دولة محتلة حتى اذا حلت مشكلة الاحتلال بالصلح بين اهل الارض وبين المحتلين جاءت الشرعية، ولم يقل أي كلمة مما نتداولها، قال: انها "غدة سرطانية"؛ وهل يمكن لك ان تتفاوض مع السرطان، او تعترف بشرعية السرطان في جسمك، او تتصالح مع السرطان؟! المفهوم يطرد ذلك كله. ولذلك فإن الذين اتبعوا خطه ركزوا على ان المسألة ليست على طريقة "قمة السودان" التي قالوا فيها لا صلح ولا مفاوضات ولا اعتراف، وتحركت المتغيرات وسقطت اللاءات الثلاث! وما زلنا نعاني من سقوط اللاءات الثلاث بدون أي بديل، لأنها سقطت من موقع الضعف الذي نعيشه ومن موقع انعدام الوزن الذي نرتاح له.

اطلاق المقاومة الاسلامية

اننا نجد الإمام رضوان الله عليه في المقاومة الاسلامية التي استطاعت ان تهز الواقع الاستكباري بحجمها، ولا نتكلم بطريقة عنترية، واستطاعت ان تهز كل هذا الضعف وكل هذا الخنوع، ان ينطلق شباب تربوا على فكره وتربوا على روحه وانطلقوا في خطه وعاشوا قضيته مع خليفته، هؤلاء الشباب الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى، ان يقفوا في مدى سبعة عشر يوماً امام احدث الطائرات الاسرائيلية ولم يسقط صاروخ واحد عن اكتافهم ولم يسقط مجاهد واحد منهم والطيران يملأ سماء لبنان والمدافع والبوارج، وقالوا اننا هنا وثبتوا هناك، وما زالوا ينالون من العدو ليسقطوا عنفوانه.

وقد لا يستطيعون ان يحرروا الارض بإمكاناتهم الذاتية وبالحصار السياسي والأمني والعسكري الذي يُحاصَرون به حتى من ذوي القربى، لكنهم استطاعوا ارباك الاحتلال وإزعاجه وإسقاط عنفوانه، واستطاعوا ان يجعلوا العدو يصرخ، واستطاعوا ان يجعلوا القرآن يتحرك في الواقع في الخط السياسي والجهادي بعد ان كان يتحرك في تفاسير المفسرين في المطلق {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ان كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرحٌ مثلُه وتلك الايام نداولها بين الناس...} {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما يرجون لا...}.

احدث الاخبار

الاكثر قراءة