Skip to main content

ولاية الفقيه ومحورية الاستقرار والتوازن في الاجتماع السياسي

التاريخ: 06-10-2007

ولاية الفقيه ومحورية الاستقرار والتوازن في الاجتماع السياسي

 ولاية الفقيه ومحورية الاستقرار والتوازن في الاجتماع السياسي السياق التاريخي والتحديات الراهنة علي فيّاض: رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق أية أهمية تفرضها أطروحة ولاية الفقيه التي عالجها الإمام الخميني المقدس بإحكام، وشكلت ركيزة فكره السياسي والفقهي، والاطار الشرعي لبناء الدولة الإسلامية المعاصرة؟ وبمزيد من الدقة، ما هو دور هذه الأطروحة في الاجتماع السياسي الشيعي التاريخي والمعاصر، وأين يتعين موقعها بالضبط؟ ربما تكمن مشروعية السؤال في الاحساس أولا وقبل أي شيء آخر، بالواجب تجاه فكر الإمام الخميني في ضوء التحديات المعاصرة، ما يدفعنا إلى القول إن "ولاية الفقيه" كرؤية ودور تستوجب منا أكثر من مشاعر الولاء فقط، إلى التنظير لكل أبعاد الأطروحة سياسيا واجتماعيا، وعدم الاقتصار على المعالجات الفقهية التي وسمت بطبيعتها كل النقاشات على مدى السنوات الماضية

 ولاية الفقيه ومحورية الاستقرار والتوازن في الاجتماع السياسي

السياق التاريخي والتحديات الراهنة

علي فيّاض: رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق

أية أهمية تفرضها أطروحة ولاية الفقيه التي عالجها الإمام الخميني المقدس بإحكام، وشكلت ركيزة فكره السياسي والفقهي، والاطار الشرعي لبناء الدولة الإسلامية المعاصرة؟ وبمزيد من الدقة، ما هو دور هذه الأطروحة في الاجتماع السياسي الشيعي التاريخي والمعاصر، وأين يتعين موقعها بالضبط؟

ربما تكمن مشروعية السؤال في الاحساس أولا وقبل أي شيء آخر، بالواجب تجاه فكر الإمام الخميني في ضوء التحديات المعاصرة، ما يدفعنا إلى القول إن "ولاية الفقيه" كرؤية ودور تستوجب منا أكثر من مشاعر الولاء فقط، إلى التنظير لكل أبعاد الأطروحة سياسيا واجتماعيا، وعدم الاقتصار على المعالجات الفقهية التي وسمت بطبيعتها كل النقاشات على مدى السنوات الماضية. إلى ذلك أرى أن ثمة خللا عميقا تقع فيه تلك الاسهامات التي تقيم مقارنات بين أطروحة ولاية الفقيه وأطروحات ونظريات أو تجارب دستورية أخرى تنتسب إلى أنسقة حضارية وفكرية مغايرة. فهذه المحاولات غالبا ما تقع في اشكالات منهجية تفضي إلى تشويه المضمون الفكري والسياق التاريخي الفقهي لرؤية ولاية الفقيه، ذلك أن الاحاطة العميقة بالاجتماع السياسي الشيعي تاريخيا، وتتبع التطور الفقهي الشيعي، يبينان بوضوح شديد أن الجذر العقائدي والفقهي لولاية الفقيه هو الإمامة نفسها، وان الاشكاليات التي استهدفت أطروحة الولاية معالجتها قد نشأت بفعل تشوهات لحقت بالفقه الشيعي في نظرته للسلطة في مرحلة الغيبة الكبرى للإمام الحجة (عج).

فقهاء الشيعة وسؤال السلطة

فمنذ العام 329 هــ، تاريخ بداية الغيبة الكبرى للإمام الحجة محمد بن الحسن المهدي (عج)، واجه الفقهاء الشيعة سؤال السلطة في ظل تجربة جديدة وتحديات بالغة الخطورة. وقد جاءت الاجابات الاجتهادية، برغم تفاوتها، لتندرج في اطار نزع الشرعية عن أية سلطة في غيبة الإمام. لقد كان هذا بديهيا وطبيعيا في مواجهة "سلطة الوقت" او "السلطة الظالمة" لكنه لم يكن مفهوما عندما اخذ منحى اطلاقيا، قاطعا الطريق على أي سعي لاقامة سلطة شرعية بديلة. ورغم قيام بعض الدول الشيعية كالدولة البويهية (الزيدية) في القرن الرابع الهجري او الدولة الفاطمية (الاسماعيلية) في مصر التي استمرت أكثر من قرنين (296هــ-527هــ)، او قيام الدولة التي أسسها ناصر الاطروش في شمالي إيران لناحية طبرستان، أو دولة السادة المرعشيين في مازندران، وظهور ممالك شيعية كما حصل مع الملك المغولي "خدا بنده" وسلاطين آقاقوينلو إلا أن كل ذلك لم يكن مقترنا مع تغيير جوهري بالموقف الفقهي الشيعي، حيث ظل يقوم على نفي تأصيل شرعية أي نظام سياسي في ظل غيبة الإمام. لقد تطور الفقه السياسي الذي يعالج اشكاليات العلاقة مع السلطان الجائر، حيث تراكم إرث فقهي بات أكثر ادراكا للضرورات السياسية التي يفرضها ضغط المصالح الشيعية وحماية الكتلة الشيعية المضطهدة، وظل هذا التطور محكوما بتفاوتات حادة في صياغة القواعد الشرعية. ويكفي أن نجري مقارنة بين تجربة الشيخ المفيد (338ــ413هــ، رسالته في العمل مع السلطان)، وتجربة محمد بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة (385هــ ــ460هــ، الغيبة، الشافي، والمبسوط)، من ناحية وتجربة السيد ابن طاووس (644هــ) الذي كان يعتبر ان السلطة هي السم النقاع والذي أقام قطيعة حادة مع السلطة رغم قبوله نقابة الطالبيين في عهد هولاكو من ناحية ثانية، كي يتبين لنا مدى اتساع زاوية الافتراق في الاجتهادات الفقهية الشيعية تجاه السلطة، الا ان ذلك لم يحل دون ارتكازها كلها على حصر شرعية السلطة بالإمام الغائب (عج) ونزعها عن أي سلطة اخرى. لقد كانت الاختلافات الفقهية تقوم على حصر صلاحيات الفقيه في نيابته عن الإمام المعصوم(ع)، في القضاء تارة او في القضاء والافتاء تارة اخرى، ومنهم من توسع في الصلاحيات باتجاه جواز اقامة الجمعة وإجراء الحدود.

الا انه على مدى تلك القرون لم يبرز من ذهب بصلاحيات الفقيه إلى الدائرة الثالثة الاكثر دقة وخطورة وهي ولاية الامر او الحكم، أي السلطة بما تفرضه من ولاية شاملة على الاموال والانفس.

الكركي والنقلة الفقهية الإيجابية الأولى في السلطة

لقد تشكلت النقلة النوعية الاولى، مع عالم كبير هو نور الدين علي بن عبد العالي الكركي (870هــ ــ940هــ) متأثرا بالشهيد الاول محمد بن مكي الجزيني (734هــ ــ786)، وقد قال كلاهما بالولاية العامة للفقيه في نيابته عن الإمام المعصوم (ع)، حيث حدد الكركي "ان الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى، والمعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية، نائب من قبل ائمة الهدى صلوات الله عليهم في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه من مدخل" (جامع المقاصد في شرح القواعد، كتاب الصلاة)، ولم يكتف المحقق الكركي بذلك بل باشر فعليا ولاية اشرافية على السلطة الصفوية ايام الشاه طهماسب الذي تسلم الحكم في العام 930 هــ خلفا لوالده الشاه اسماعيل الصفوي.

وعلى رغم تعرض المحقق الكركي لنقد فقهي حاد من قبل علماء معاصرين ولاحقين في محاولة لاستكمال نهج اعتزال السلطة، كما حصل من قبل القطيفي، الا ان الكركي نال تأييد عالم كبير آخر هو صاحب الجواهر الشيخ محمد حسن النجفي، الذي قال بدوره بالنيابة العامة للفقيه.

وفي الواقع ان هذا الاتجاه أعاد تقويم المسار الفقهي الشيعي، وسمح للمجال السياسي الشيعي في زمن الغيبة بأن يتأسس مجددا بما يعيد احياء الفاعلية الشيعية على يد الولي ــ الفقيه.

ويأتي لاحقا، احد تلامذة صاحب الجواهر، وهو المولى المحقق الشيخ احمد بن المولى محمد مهدي النراقي (صاحب كتاب جامع السعادات) الذي ولد (أي الابن) في العام 1185هــ وقيل 1186هــ، ليبلور على صيغة رؤية فقهية متكاملة القول بولاية الفقيه العامة في كتابه "عوائد الايام"، حيث استدل على الولاية العامة بطرق عدة:

الاخبار الواردة في حق العلماء ومعالجتها سندا ودلالة واعتباره ان العرف العام والخاص يدلان صراحة على ولاية الفقيه واعتباره ان المقارنة بين هذه النصوص والنصوص الدالة عادة على ولاية الائمة الاطهار عليهم السلام تشير إلى ان منطوق اغلبها واحد، كما استند إلى دليلي الاجماع، والحسبة (مقدمة كتاب عوائد الايام، للمولى النراقي، دار التعارف 1990م.ط،1).

ونلاحظ ان الإمام الخميني (قده) يشير في كتابه "الحكومة الإسلامية" إلى المرحوم النراقي ومن المتأخرين المرحوم النائيني اللذين يقولان ان جميع المناصب "والشؤون الاعتبارية التي للإمام ثابتة للفقيه"، وعند المقارنة بين معالجة الإمام الخميني (قده) لاطروحة ولاية الفقيه، التي وردت بصورة رئيسية في كتب ثلاثة : كشف الاسرار، الذي كتب في وقت مبكر وتضمن مقاربات مقتضبة لولاية الفقيه، وكتاب البيع الذي احتوى معالجة فقهية معمقة وشاملة للولاية العامة، وكتاب الحكومة الإسلامية، الذي شكل مقاربة فقهية وسياسية شاملة لمفهوم الولاية العامة للفقيه عند المقارنة بين معالجات الإمام هذه ومعالجة المولى النراقي لمقولة ولاية الفقيه العامة، سنجد تشابها" كبيرا بين الرؤيتين من حيث المنطلقات والمصطلحات وطرق الاستدلال، الا ان ميزة الإمام الخميني (قده) انه توسع بالدليل الفقهي من حيث الدلالة وعمق المعالجة، وأضاف عليه ما يمكن ان نسميه بالدليل الواقعي بأبعاده العقلية والسياسية.

ان هذه المقاربة لا تسعى إلى اعادة استحضار أدلة الولاية العامة للفقيه، وهي قد باتت معروفة ومتداولة، الا انها تطمح إلى تسويغ هذه المقولة من حيث اسهامها في تشكيل الاجتماع السياسي الشيعي.

اشكالية السلطة في غيبة الإمام (عج)

فالإمام الخميني عندما قال: ان كل ما كان للرسول والإمام فهو للفقيه الا ما خرج بدليل، قدم حلا لاشكالية السلطة في غيبة الإمام (عج). ورغم بداهة هذا الحل، أي اعتبار الولي الفقيه نائبا للإمام، الا انه شكل ثورة حقيقية في الفقه السياسي الشيعي، افضت إلى تقويم خلل تاريخي بالغ الخطورة.

وفي الواقع ان خصوصية الحكومة في المفهوم الإسلامي تنبع من تلك العلاقة الدقيقة والحساسة بين التشريعات والقوانين والأحكام الثابتة وبين الظروف والاحداث والوقائع المتغيرة. ان هذه العلاقة بين الدين وبين الشريعة من ناحية والزمان والمكان من ناحية ثانية، توجب دينية الحكم وفقهنة السلطة. وتنفي بالتالي اية امكانية عقلية او شرعية لسلطة مدنية لا دينية، الا اذا غادرنا منظومة المفاهيم الإسلامية إلى منظومات اخرى. وكل محاولات للنأي بالدين عن السلطة لن تفضي فقط إلى علمنة السلطة، بل ستولد بالضرورة ديناميات متتالية في اطار تداعي منطقي يفضي إلى محاولات علمنة المجتمع.

من هنا يمكن الاحاطة بأبعاد تلك المكانة التي اعطاها الإمام الخميني (قده) للحكومة الإلهية وللولاية المطلقة ــ على حد تعبيره ــ عندما أكد "ان الحكومة شعبة من ولاية رسول الله(ص) المطلقة، وواحد من الأحكام الاولية للإسلام ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج" (رسالة الإمام لرئيس الجمهورية الإسلامية، كيهان عدد 13223، 6 كانون الثاني 1989م).

لذا ان الدور المجتمعي للإسلام منوط بالسلطة الدينية، والمسألة تتجاوز الدور السياسي الذي تقيم كلاسيكيات الفكر الغربي ملازمة بينه وبين السلطة.

الدور المركزي للولي الفقيه

وبالعودة إلى علاقة الثابت بالمتغير او الشريعة بالواقع وهي التي تستهدفها التحديات المعاصرة من منطلقات شتى، تبعا لهيمنة النموذج الغربي تارة او ارتباطا بمحاولات التجديد والتحديث التي ينشغل بها مثقفو العالم الإسلامي تارة اخرى، يمسي دور الولي الفقيه جوهريا ومركزيا، في ضبط التجاذبات الحادة التي تولدها نزعات الجمود او التجديد، التأصيل والتحديث، ذلك ان هذه العمليات الاجتماعية ــ المعرفية، التي تعيشها الأمة على صورة حراك حيوي ومتوتر، ليس من الصحيح اختزالها إلى مغامرة فكرية خالصة، او صراع سياسي مباشر. انها حالة تاريخية متعددة الابعاد، تغدو مصلحة الأمة احد اهم ابعادها واكثرها حضورا".

من هنا ضرورة الانشداد والركون إلى موقع الولاية بوصفه الوازن لتقاطب المفاهيم والمصالح.

ويبدو هذا طبيعيا ويندرج في صميم دور الولي الفقيه، لا سيما اذا استحضرنا رؤية الإمام الخميني في تحديد شروط الحاكم ووظائف الحكومة الإسلامية. ان شرطي العلم والعدالة اللذين يجب ان يتوفرا في الولي الفقيه، يحيلان كفاية الولي إلى كفاية ذاتية والضوابط إلى ضوابط داخلية، على عكس اتجاهات السلطة المعاصرة التي ترتكز على كفايات وضوابط خارجية، وعندما يحدد الإمام الخميني (قده): "ان الائمة والفقهاء العدول مكلفون بالاستفادة من النظام والتشكيلات الحكومية من اجل تنفيذ الأحكام الإلهية، واقامة النظام الإسلامي العادل، والقيام بخدمة الناس" (الحكومة الإسلامية، ص 90ــ91)، وحيث ان تنفيذ الأحكام الإلهية والعدل يتماثلان ويندرجان في دائرة واحدة، فإن ذلك يعني ان تنفيذ الأحكام الإلهية وخدمة الناس يشكلان قاعدة ممارسة السلطة في فكر الإمام الخميني(قده)، وهذا هو أحد المرتكزات التي يتأسس عليها تجديد الإمام الخميني(قده)، في الفكر السياسي الإسلامي، حيث ان اعلاء قيمة خدمة الناس ووضعها إلى جانب تنفيذ الأحكام يشكل الاجابة الخمينية على احدى الاشكاليات المطروحة على الدوام في علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي، والتي عاشتها المجتمعات البشرية باستمرار، وهي اشكالية موقع الناس او الشعب من العلاقة مع السلطة. ان الاجابة الخمينية المشار اليها تجعل من الشعب جزءا جوهريا من معادلة الدين ــ السلطة وموضوعا رئيسيا لممارسة السلطة إلى جانب تنفيذ الأحكام.

ان هذا العرض الموجز لموقع ولاية الفقيه في ضوء الاجتماع السياسي الشعبي تاريخيا، ودور هذه الولاية في ضوء التحديات المعاصرة، يجعل من المعتذر تخيل تشكل اجتماع سياسي شيعي دون دور الولي الفقيه، انه شرط لاستقرار البناء السياسي الشيعي، كما هو شرط لتوازن الدور المجتمعي للإسلام.

ان غياب أو تغييب الولي الفقيه تاريخيا عن المجال السياسي أدى إلى إقفاله وإحالة السلطة إلى سلطان. اما راهنا فكل التماس لبناء مجال سياسي خارج الدور المركزي للولي الفقيه هو اندراج متتالٍ في علمنة مجتمعية تجد مدخلياتها في الحيز السياسي، لكنها لا تقف عند حدوده بالتأكيد.

وما تجربة الإمام الخميني (قده) والإمام الخامنئي (دام ظله) من الناحية التطبيقية، الا دليل على نجاح دور الفقيه في توازن واستقرار مسيرة الامة، في توحدها وتنوعها، وفي أصالتها وتطورها، وفي تأديتها لرسالتها في مواجهة الحاضر والمستقبل.

احدث الاخبار

الاكثر قراءة