Skip to main content

الإمام الخميني في مواجهة ثنائية الحرب الباردة

التاريخ: 06-10-2007

الإمام الخميني في مواجهة ثنائية الحرب الباردة

 الإمام الخميني في مواجهة ثنائية الحرب الباردة لا شرقية ولا غربية، حكومة إسلامية مستقلة د

 الإمام الخميني في مواجهة ثنائية الحرب الباردة

لا شرقية ولا غربية، حكومة إسلامية مستقلة

د. غسان العزي

أستاذ العلاقات الدولية في كلية الحقوق السياسية ــ الجامعة اللبنانية

صبيحة الحرب العالمية الثانية وجد العالم نفسه منقسما" الى معسكرين متنافسين : المعسكر الشرقي الشيوعي بزعامة الاتحاد السوفياتي، والعسكر الغربي الذي سمى نفسه "العالم الحر" بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، وكانت الدول الضعيفة والمستضعفة مضطرة للدوران في هذا الفلك او ذاك، خاصة تلك التي في الخمسينات والستينات، نالت استقلالها في المرحلة التي سميت "نزع الاستعمار".

وكانت إيران احد اهم حلفاء الولايات المتحدة في العالم، والحجر الاساس في سياستها الخليجية والشرق اوسطية. وقد دعمت واشنطن حليفها الشاه وجعلت جيشه من أقوى جيوش المنطقة عدة وسلاحا، وصارت "السافاك" الإيرانية من اهم اجهزة الاستخبارات في العالم وراحت تعمل لمصلحة أميركا وحليفتها "اسرائيل". لقد ضرب الشاه عرض الحائط بمشاعر الشعب الإيراني في غالبيته، والمتعاطف مع القضايا العربية والإسلامية، كما تدل التظاهرات التي كان يقمعها بالحديد والنار.

في ذلك الوقت قامت محاولات في العالم الثالث للتخلص من سياسة المحاور القطبية - الثنائية، ابرزها ما قام به الزعماء عبد الناصر ونهرو وتيتو من حركة دبلوماسية قادت الى مؤتمر باندونغ عام 1955 الذي أسس لحركة عدم الانحياز. هذه الحركة حققت انجازات ملموسة في مضمار التخلص من التبعية والارتهان لاحد المعسكرين، ولكنها لم تصل الى أهدافها المرجوة، لانه خلال سنوات الحرب الباردة وجدت معظم الدول الاعضاء في هذه الحركة نفسها مضطرة بطريقة أو بأخرى، مباشرة أو مداورة، تقترب من هذا القطب او ذاك قبل ان تسقط فيه، ذلك انها احتاجت اليه، اما لسلاحها او لغذائها او بحثا عن دعم نظام حكمها، او قمع معارضة مسلحة او غير ذلك، وبالتالي فإن مبدأ "لا شرقية ولا غربية" اذا جاز التعبير، لم يتمكن من شق طريقه الى الحياة، وكانت نجاحاته جد نسبية واخفاقاته كثيرة.

والحقيقة انه حتى فرنسا نفسها وهي قوة عظمى ذات تاريخ كولونيالي طويل، حاولت بناء - اسماه الجنرال ديغول - "الطريق الثالث" بين المعسكرين السوفياتي والأميركي، ووصلت الأمور الى حد انسحاب ديغول من المنظمة العسكرية لحلف الاطلسي عام 1996 احتجاجا" على إلهيمنة الأميركية على الحلف بحسب تعبير ديغول نفسه. ولكن تحت ضغوط عديدة ومنها ضغوط شركائها في المجموعة الأوربية الراضين بالحماية الأميركية التي توفر عليهم عناء الانفاق العسكري، وتوفر لهم الغطاء النووي والحماية العسكرية الأميركيين، وجدت فرنسا نفسها في نهاية الامر تستقل قطار إلهيمنة الأميركية ولو في المقصورة الخلفية.

اذا مبدأ "لا شرقية ولا غربية" على الطريقة الفرنسية أخفق هو الآخر.

وعندما انهار نظام الشاه الإيراني تحت ضربات الثورة الإسلامية عام 1979 خسرت أميركا احد أهم حلفائها في العالم. لقد كانت خسارتها الاستراتيجية هذه أليمة جدا واحتلت صفحات طويلة من التحليلات السياسية الدولية. وحتى اليوم ما زلنا نقرأ عن هذه المفاجأة غير المتوقعة وعن الدروس التي يتوجب استخلاصها منها، فالثورة الإسلامية فتحت عهدا جديدا في العلاقات الدولية برمتها. وكان من الطبيعي ان تكون هذه الخسارة الأميركية الجسيمة ربحا" للاتحاد السوفياتي، هكذا اعتقد محللون كثيرون من البداية، ولكن المفاجىء والجديد ان عداءها للولايات المتحدة لم يكن يعني تحالفا ولا اقترابا حتى من الاتحاد السوفياتي. هنا بدأ شعار الإمام الخميني الشهير "لا شرقية ولا غربية بل حكومة إسلامية" بالعمل على أرض الواقع والتجربة.

واستمر الإمام في حياته وفيا" لنهج "لا شرقية ولا غربية" رغم كل الظروف القاهرة. وبعد وفاته سارت الجمهورية الإسلامية على هذا النهج، ذلك ان الإمام ترك لها دستورا ومؤسسات راسخة تعمل وفق أحكام الشريعة والدين مهما تغير الاشخاص والقادة. وبعد نهاية الحرب الباردة بسقوط جدار برلين عام 1989 وتفكك الاتحاد السوفياتي هرول المهرولون، وهو كثر للالتحاق بالمعسكر الأميركي.

لقد "انتهى التاريخ" وانتصرت " الايديولوجية الليبرالية" وصار العالم واحدا أحاديا لا اقطاب فيه. لكن التاريخ عاد ليبدأ من جديد وبأكثر الاشكال عنفا ودموية في يوغوسلافيا والبلقان والقوقاز وافريقيا، وتبين ان صحوة الامم المتحدة لمناسبة حرب الخليج الثانية واعلان "نظام عالمي جديد تسوده العدالة والمساواة بين الدول" كما قال جورج بوش في غمرة انتصاره على العراق في آذار عام 1991، تبين ان ذلك ليس الا رغبة أميركية بإلهيمنة عاى العالم عبر المنظمة الدولية، كما حصل في العراق، وبدونها كما حصل في كوسوفو مؤخرا".

الجمهورية الإسلامية بقيت متمسكة بالموقف نفسه الذي أعلنه الإمام الخميني "لا شرقية ولا غربية" بل "لا غربية ولا غربية" بعد زوال "القطبية - الثنائية السابقة" وحلول الاحادية محلها، ولم تغير نهجها رغم كل الضغوط التي مارسها واشنطن من "الاحتواء المزدوج" الذي اعلنه مارتين انديك مساعد وزير الخارجية الأميركي عام 1993 الى قانون " داماتو - كيندي" الذي يعاقب الشركات التي تستثمر في قطاع الطاقة الإيراني بما يزيد عن 40 مليون دولار. لقد عرفت إيران كيف تمارس اللعبة الدولية بنجاح بين الحلفاء المتنافسين، هؤلاء تحدوا القانون الأميركي اذ استثمرت شركة "توتال" الفرنسية "وغازبروم" الروسية وشركات اخرى ماليزية ومن جنسيات مختلفة بما يزيد عن 2 مليار دولار في هذا القطاع الإيراني.

وقد أعلن رئيس الوزراء الفرنسي ليوسيل جوسبان بأن "القوانين الأميركية تطبق داخل الاراضي الأميركية، وليس خارجها". وراح البيت الابيض يتعرض لضغوط الشركات الأميركية التي اغاظها ان تخسر السوق الإيراني الواعد لمصلحة شركات أوربية منافسة، وصار الضاغط مضغوطا عليه، كلينتون الذي اراد الضغط على إيران صار مضغوطا على أمره فاضطر الى التخلي عمليا" عن قانون "داماتو".

الامر نفسه ينطبق على سياسة الاحتواء المزدوج للعراق وإيران التي يجمع المحللون الدوليون على انها باءت بالفشل، ولم تؤد الى النتائج المرجوة. وبقيت إيران لاعبا اقليميا مرموقا" وبلدا يحتل مكانا مهما في الساحة الدولية. الصين تعرضت لضغوط أميركية وصلت الى حد وقف العمل باتفاق العام 1985 الذي يسمح ببيع معدات نووية للصين بحجة تعاونها النووي مع إيران، روسيا ايضا تعرضت لضغوط أميركية لكي توقف تعاونها مع إيران في مجال الذرة والسلاح، واستمرت إيران تناور في الساحة الدولية ولم تنجح واشنطن في عزلها وتطويقها ولو انها تسببت لها بمصاعب اقتصادية هي الثمن الذي على البلدان الحرة ان تدفعه صونا لكرامتها واستقلالها.

ان شعار "لا غربية ولا شرقية" لا يعني الانعزال والتقوقع على النفس، كما بينت التجربة الإيرانية، بالعكس فإن اتخاذ المسافة نفسها بين الاقطاب المتنافسة يفتح هامشا أوسع للمناورة والحركة. لقد تمكنت الجمهورية الإسلامية، معتمدة على نفسها، من تطوير اسلحة وصواريخ بعيد المدى (شهاب مثلا) وتمكنت من الاستغناء عن الولايات المتحدة الممول الرئيسي لها في عهد الشاه. وبرهنت انها بلد متماسك داخليا بدليل انتصار الفكر المؤسساتي على الاضطرابات الاخيرة التي راهن عليها الأميركيون كثيرا"، والتي لو حدثت في بلدان اخرى لقضت على اللحمة الداخلية وتحولت صراعا اهليا مستديما".

التجربة الإيرانية، فيها الكثير من العبر والدروس التي تفيد من يود التخلص من التبعية والارتهان. انها تجربة تستحق المزيد من التفكير والتأمل.

احدث الاخبار

الاكثر قراءة