Skip to main content

تأملات فكرية في مدرسة الإمام الخميني (قدس سره) 4

التاريخ: 07-10-2007

تأملات فكرية في مدرسة الإمام الخميني (قدس سره) 4

تأملات فكرية في مدرسة الإمام الخميني (قدس سره) 4 الفقيه الجماهيري ــ هذا الملف تم إعداده بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة بعد المائة لميلاد مفجر الثورة ومؤسس الجمهــورية الإسلامية الإيرانية الإمام الخميني (طاب ثراه)، استكمالاً للمواضيع والملفات السابقة التي نشرتها "كيهان العربي" عن سيرة حياة هذا الفقيه الرباني الراحل ومناقبه العظيمة التي تركت بصماتها واضحة على المستويات الإسلامية والثورية والإنسانية في أنحاء العالم

تأملات فكرية في مدرسة الإمام الخميني (قدس سره) 4

الفقيه الجماهيري

ــ هذا الملف تم إعداده بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة بعد المائة لميلاد مفجر الثورة ومؤسس الجمهــورية الإسلامية الإيرانية الإمام الخميني (طاب ثراه)، استكمالاً للمواضيع والملفات السابقة التي نشرتها "كيهان العربي" عن سيرة حياة هذا الفقيه الرباني الراحل ومناقبه العظيمة التي تركت بصماتها واضحة على المستويات الإسلامية والثورية والإنسانية في أنحاء العالم.

ورغم أن هذا الملف يتناول أساساً معالم الشخصية الخمينية في أبعادها المختلفة، إلا أن التطورات والمستجدات الراهنة في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، لم تغب عن المواضيع والأحاديث الواردة فيه، انطلاقاً من أن ما يجري الآن على الساحتين الإقليمية والدولية مرتبط بشكل أو بآخر بالنهضة الكبرى التي أطلقها إمامنا الراحل في سبيل الانتقال من الاستكبار والعبودية وإيصال المسلمين والبشرية جمعاء إلى بر الأمان:

دمشق/ إعداد وحوار: حميد حلمي زاده

أثناء زيارة سابقة لإيران، استلفتت انتباهي مفارقة عجيبة. فالضريح الذي يحتضن الجثمان الطاهر للإمام الخميني (رضي الله عنه)، بجوار الشهداء الذين ازدانت بهم مقبرة بهشت الزهراء، هو صورة مناقضة تماماً للبيت الذي كان يقطنه في جمران أو البيت الذي لا يزال شاهداً على زهده في مدينة قم المشرفة.

فبقدر زهد هذا العظيم، تشمخ الذكرى ومراسيم التخليد بعد وفاته. إنه بجدارة حكيم إيران المعاصرة: عكازة، نظارة متواضعة، أستطيع أن أجزم بأن كل ما تركه من أغراض قد لا يساوي ثمن قارورة عطر، انتصبت شامخة في متحف، أمام بيته في جمران، فهو أقل أثاثاً من عابر سبيل.

حكيم إيران المعاصرة، واضع فلسفة جمهوريتها، ومعلم قادتها وأبنائها.. الأدب الروحي لشعب وضع ثقته في قائده، جاعلاً من إيران ــ الرجل المريض زمن الشاه ــ بؤرة التحول في المنطقة وفي العالم الحديث. حكيم إيران المعاصرة الذي زرع في نفوس شعبه الثقة بالذات، جعل المستقبل واعداً على الرغم من كل الصعوبات.

أن يكون المرء فقيها، معناه أن يكون عالماً بالأحكام. وفي العرف العلمي الحوزاتي، أن يكون مجتهداً حائراً على ملكة استنباط الحكم الشرعي. فإذا اتسعت هذه الملكة واشتدت لتبلغ اقتداراً إضافياً على تشخيص ما استجد من موضوعات، صار هذا الفقيه فقيهاً عضوياً. وأعني بالفقيه العضوي ها هنا، المعنى الذي أطلقه المفكر الإيطالي غرامشي على المثقف العضوي الذي يجيد السباحة في بحر الجماهير، ويتحمل معاناة مجتمعه ويحمل قلباً كبيراً ينبض بنبضهم، الفقيه العارف بالأحكام ــ بلا شك ــ كان ولا يزال وسيظل بين ظهرانينا، لكن الفقيه العضوي نادر ندرة الكبريت الأحمر، شأنه تماماً شأن المثقف العضوي.

ولعل الزهد هو واحد من أهم الركائز التي تنهض عليها شخصية الفقيه الجماهيري. إن حكيم إيران الذي أمسك بناصية الإمبراطورية الشاهنشاهية ومقدراتها عاش كما كان من قبل ذلك، أقل مستوى من حياة أبسط زعيم إسلامي في حركة إسلامية. لقد مات (رحمه الله) في امبراطورية فارس الغارقة في الديباج دون أن يترك بيتاً. قائد دولة عظمى يدفع إيجاراً لبيت شعبي في جماران.

وقائد دولة عظيمة يغضب حينما فكروا في تخصيص بيت مهيب له، ويرفض التدفئة في المستشفى في آخر أيامه، لأن ثمة في أطراف إيران فقراء لعلهم لم ينعموا بهذه التدفئة، وكأنه يستحضر عبارة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب: كيف أبيت مبطاناً وحولي أكباد تحن إلى القدّ.. أو لعلع باليمن من لا عهد له بالشبع.. أو قوله: أأقنع من نفسي بأن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في جشوبة العيش ومكاره الدهر.

لفت انتباهي إن (بهو) الحسينية التي كان يقيم فيها في مدينة قم غير مزلج.. وأخبرني بعضهم أن البلاط بعد أن تقادم وحاول بعضهم تغييره، اقترح عليهم الإمام (رضي الله عنه) بأن يستعملوا البلاط نفسه، قلبه مستخدمين وجهه الآخر ــ الأسفل ــ إنه زهد ما بعده تفنن في الزهد.. وأبدع ما بعده إبداع في القناعة.

هو صناعة محلية لا يمكنها أن تمنح من الخارج، لقد حدد حكيم إيران مهماتها الحضارية وكشف عن عودها الحقيقي وشخّص شياطينها المتربصة.

حكيم إيران المعاصرة هو واضع القوانين الجديدة لشعبه وتدابيرها، من تدبير النفس كعارف قدير، بتدبير العقل كمفكر وفيلسوف وفقيه، إلى تدبير المدينة كمناضل وقائد سياسي مجاهد.

استطاع الإمام الخميني أن يجعل من إيران قلعة صامدة في وجه الاستكبار العالمي في إصرار لم تبلغه ارادة قائد أو دولة أخرى من الدول، ليكون قوام مشروعه (الجهاد) بتفريعاته الثلاث: الجهاد، المجاهد، الاجتهاد. الثلاثية التي تمثل أمتن قاعدة لنهضة الأمم وسيادة الخير في مواجهة الشرور. فمفتاح التحرر وتقرير المصير والعزة والكرامة والاستقلال، هو الجهاد، فما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا، وقد كان حكيم إيران أكبر مجاهد شهده التاريخ الحديث إصراراً وصموداً وتحدياً.

ومفتاح الخير والصلاح (إصلاح النفس)، هو المجاهدة (مجاهدة النفس = الجهاد الأكبر). وقد كان حكيم إيران هو أكبر العارفين الذين شهدتهم إيران المعاصرةن الحكيم الذي تتبع نفسه بالتدبير وانتصر على النفس وحقق معجزة العروج الروحي. ومفتاح الحداثة والعمران والبناء هو الاجتهاد، وقد كان حكيم إيران أكبر المجتهدين فقيهاً مجدداً. محور الخير كله في ثلاثية الجهاد والمجاهدة والاجتهاد، أقام الخميني عليها بنيان المعاصرة في هذا الممشى المعطر بحب الله والمتطلع على الرضا من آل محمد (ص).

وطبيعي أن يطالعنا راعي البقر الجديد، واصفاً إياها كواحدة من ثلاثة يشكلون محور الشر. لأنها لا زالت واحة يسكنها الأشراف والأحرار، ولأنها ما زالت متمنعة باسم حكيمها الشاهد على الانخراط في دورة الشر العالمي الذي تقوده إدارة رعاة البقر.

لفت انتباهي تواضعه الكبير مع أنه شامخ بكبرياء في جهاده ضد المتغطرسين. لقد كان الإمام يدرك كيف يخفض جناحه لشعبه وكيف يرى نفسه صغيراً أمام عظمة ذاك الطفل الذي حصد الآلة العسكرية في ثورة خرداد (حزيران 1363). إنه أكثر تواضعاً من أبسط قائد أو زعيم لحركة إسلامية.

لم يكن في العرفان راوياً متعلماً... أو هاوياً.. بل كان صاحب سفرات عقلية وتحليق في الملكوت.. ولم يكن منزوياً، سلبياً، طرقياً متكهنا... بل كان حيوياً.

ومع ذلك لم يشأ أن ينشئ علاقة بأتباعه وطلبته على أساس عرفانية أو على أساس علاقة الشيخ والمريد.. بل كانت علاقته بهم علاقة علمية فقهية مبنية على مسؤولية الإعلام في أن يبادر وعلى مسؤول الطالب في أن يتعلم. لم يستثمر الإمام الخميني خبرته العرفانية وكراماته وحالاته التي تفيض بالأسرار للتسلط على من حوله. بل كان يعتبر ذلك سراً مكنوناً بينه وبين معبوده، ودعماً إلى أن يكون الطريق إلى العرفان الفقه والشريعة.

لقد بنى قلعة للصمود... وضخ روحاً جديدة أعادت الثقة إلى نفوس المستضعفين.. وهز جذوع المستكبرين وأدخل الرعب في نفوسهم... مات الخميني وترك إيران قلباً نابضاً بالمسؤولية والطموح والتحدي... مات ولم يترك بيتاً أو رصيداً في البنك.. مات وقد أوصى بأن لا يكون لولده شيء بعده... مات مجاهداً ونظيفاً وبطلاً... وقد برهن على أن البلد الذي أنتج سلمان قادر وفي كل زمن أن ينتج خمينياً...

احدث الاخبار

الاكثر قراءة