رسالة الإمام الخميني إلى غورباتشوف
صادرة بتاريخ 22 جمادى الأولى 1409هجري
بسم الله الرحمن الرحيم
فخامة السيد غورباتشوف رئيس المجلس الأعلى لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية
بعد الإعراب عن الأماني بالتوفيق والسعادة لكم وللشعب السوفياتي، فقد رأيت من الضروري التذكير ببعض القضايا انطلاقاً من أن تصديكم للقيادة قد ولد إحساساً بأنكم قد أصبحتم في حالة جديدة تتسم بإعادة النظر والتغيير والتعامل الجديد في تحليل الحوادث السياسية العالمية، لا سيما المرتبطة بالقضايا السوفياتية، عسى أن تكون جرأتكم وشجاعتكم في التعامل مع حقائق الواقع العالمي منبعاً لإحداث تغييرات؛ وسببا لقلب المعادلات الحاكمة فعلاً في العالم.
وعلى الرغم من أن تفكيركم وقراراتكم الجديدة قد تكون محصورة في إطار أسلوب جديد وحسب لحل المشكلات الحزبية؛ وإلى جانبها حل بعض أزمات شعبكم؛ إلا أن هذا المقدار بحد ذاته جدير بأن تقدر فيه شجاعتكم في إعادة النظر بالمذهب الفكري الذي سجن الثوريين في العالم بين أسواره الحديدية لسنين متمادية.
وإذا فكرتم بما فوق هذا المقدار؛ فإن القضية الأولى التي ستكون يقيناً سبباً لنجاحكم هي أن تعيدوا النظر في سياسة أسلافكم المتمحورة حول محاربة الله واستئصال الدين من المجتمع فهذه السياسة بلا شك هي التي أنزلت أكبر وأهم ضربة على جسد الشعب السوفيتي؛ واعلموا أن التعامل مع القضايا العالمية لا يمكن أن يكتسب الصبغة الواقعية إلا من خلال هذا الطريق.
ومن الممكن أن يبدو العالم الغربي أمامكم وكأنه جنان خضر. فهذا نتيجة للأساليب الخاطئة والسياسات المنحرفة لأقطاب الشيوعية السابقين في المجال الاقتصادي؛ ولكن الحقيقة هي في مكان آخر.
إنكم إذا أردتم أن تحصروا جهودكم لحل العقد المستعصية في الاقتصاد الاشتراكي والشيوعية في هذه المرحلة باللجوء إلى مركز الرأسمالية الغربية، فاعلموا أن نتيجة ذلك لن تنحصر في العجز عن معالجة شيء من آلام شعبكم، بل ستتجاوز ذلك إلى إيجاد حالة تستلزم مجيء من يعالج آثار أخطائكم، لأن العالم الغربي مبتل أيضاً بنفس ما ابتليت به الماركسية اليوم من وصول مناهج تعاملها مع القضايا الاقتصادية والاجتماعية إلى طريق مسدود، بل وهو مصاب بمشاكل أخرى أيضا، والفرق هو في الصور والظواهر.
حضرة السيد غورباتشوف...
الواجب هو التوجه نحو الحقيقة...
إن مشكلة بلدكم الأساسية لا تكمن في مشكلة الملكية والاقتصاد والحرية؛ بل إن مشكلتكم الأساسية هي فقدان الإيمان الحقيقي بالله؛ وهى نفس مشكلة العالم الغربي التي قادته إلى الانحطاط وإلى الطريق المسدود، أو ستجره إلى ذلك؛ إن أزمتكم الحقيقة تكمن في محاربتكم الطويلة والعقيمة لله مبدأ الوجود والخلق.
حضرة السيد غورباتشوف...
لقد اتضح للجميع أن البحث عن الشيوعية يجب أن يتوجه من الآن فصاعداً إلى متاحف التاريخ السياسي العالمي!! أما لماذا؟! فلأن الماركسية لا تلبي شيئا من احتياجات الإنسان الحقيقية، لماذا؟ لأنها مذهب مادي، ومحال إنقاذ البشرية بالمادية من الأزمة التي خلقها فقدان الإيمان بالمعنويات، وهو الذي يمثل العلة الأساسية لما تعانيه المجتمعات الإنسانية شرقية كانت أم غربية.
حضرة السيد غورباتشوف...
من المحتمل على نحو «الإثبات» أن لا تكونوا معرضين عن بعض جوانب الماركسية، ومن المحتمل أن تظهروا عبر مقابلاتكم مستقبلاً إيمانكم الكامل بها، ولكنكم أنفسكم تعلمون على نحو «الثبوت» حقيقة أن الواقع غير ذلك.
لقد وجّه الزعيم الصيني الضربة الأولى للشيوعية، وها أنتم تنزلون الثانية، ويبدو أنها القاضية؟ فلم يعد اليوم في عالمنا المعاصر شيء باسم «الشيوعية»، ولكني أطلب منكم بصورة مؤكدة أن تحذروا الوقوع في سجن الغرب والشيطان الأكبر وأنتم تحطمون جدران أوهام الماركسية.
آمل أن تنالوا الشرف الحقيقي لإنجاز مهمة استئصال آخر الأعشاش المتهرئة لحقبة السبعين عاماً من انحراف العالم الشيوعي، استئصالها من وجه التاريخ ومن بلدكم.
إن الحكومات الحليفة لكم والتي تخفق قلوبها لمصالح أوطانها وشعوبها لن تكون على استعداد بعد الآن لهدر ثرواتها بكلا نوعيها الجوفي وغيره من أجل إثبات نجاح الشيوعية بعدما وصل صرير تهشم عظام الشيوعية إلى أسماع أبناء تلك البلدان.
السيد غورباتشوف...
عندما ارتفع نداء «الله اكبر» وإعلان الشهادة برسالة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) من مآذن المساجد في بعض جمهورياتكم، فجر دموع الشوق في أعين أنصار الإسلام المحمدي الأصيل كافة، الأمر الذي ألزمني أن أذكركم بضرورة إعادة النظر في الفلسفتين المادية والإلهية.
لقد وضع الماديون في فلسفتهم تجاه قضايا الكون، «الحس» معياراً للمعرفة، فاعتبروا الشيء غير المحسوس خارجاً عن دائرة العلم، واعتبروا الوجود قرين المادة الملازم لها، فما لا مادة له لا وجود له. وعليه، اعتبروا طبعا أن عالم الغيب كوجود الله تبارك وتعالى والوحي والنبوة والمعاد ضرب من الأساطير. في حين أن معيار المعرفة في الفلسفة الإلهية يشمل «الحس والعقل» فيدخل «المعقول» (المدرك بالعقل) دائرة العلم حتى لو انعدم إدراكه بالحس، لذا فإن الوجود يشمل عالمي الغيب والشهادة، فبالإمكان أن يكون «لما لا مادة له» وجود، وكما أن الوجود المادي يستند إلى «المجرد»، كذلك حال المعرفة الحسية فهي مستندة على المعرفة العقلية.
والقرآن الكريم ينتقد أساس التفكير والفلسفة المادية ويرد على الذين يتوهمون عدم وجود الله استناداً على أنه لو كان موجوداً لشوهد لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة يرد عليهم قائلاً لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.
وحيث نمر على القرآن العزيز الكريم واستدلالاته في ما يرتبط بقضايا الوحي والنبوة والمعاد وهي من وجهة نظركم أول البحث فإني لم أرغب في أن أزجّكم في تعقيدات مباحث الفلاسفة وتشعباتهم خاصة الإسلاميين لذا فإني أكتفي بمثالين بسيطين اخترتهما بالإمكان إدراكهما فطرياً ووجدانياً، ويستطيع السياسيون أيضاً الانتفاع منهما.
فمن البديهيات أن المادة والجسد مهما كانا، فهما جاهلان بذاتهما. فالتمثال الحجري والجسم المادي للإنسان لا يعلم أي من شطريه بحال الشطر الآخر. لكننا نشهد عياناً أن الإنسان وكذا الحيوان مطلع على ما حوله من كافة الجهات؛ فهو يعلم أين هو، وماذا يجري حوله، ويعلم أي ضجة تلف العالم. إذاً فهناك في الحيوان والإنسان شيء آخر فوق المادة ومن غير عالمها، وهو باق لا يموت بموتها.
وإن الإنسان بفطرته طالب لكل كمال بصورته المطلقة وأنتم تعرفون جيداً أن الإنسان ينزع إلى أن يكون القوة المطلقة فلا يتعلق بأية قوة ناقصة محدودة؟ ولو أنه امتلك العالم وقيل له إن هناك عالماً آخر، لمال فطرياً إلى إخضاع ذلك العالم أيضاً لسلطته.
ومهما بلغ الإنسان من العلم وقيل له: إن هناك علوماً أخرى، لمال مدفوعاً بفطرته إلى تعلمها؛ إذاً فلا بد أن تكون هناك قوة مطلقة وعلم مطلق ليتعلق الإنسان بهما؛ وهذا هو «الله» تبارك وتعالى؛ الذي نتوجه إليه جميعا حتى لو كنا أنفسنا نجهل ذلك.
الإنسان يريد الوصول إلى «الحق المطلق» ويفنى فيه. إن هذا الشوق إلى الحياة الخالدة المتأصل في فطرة كل إنسان هو في الأساس دليل وجود عالم الخلود المنزّه عن الموت.
وإذا رغبتم فخامتكم في التحقيق حول هذه الموارد فيمكنكم أن تأمروا المختصين في هذه العلوم بأن يراجعوا إضافة إلى كتب الفلاسفة الغربيين مؤلفات الفارابي وأبي علي ابن سينا رحمة الله عليهما في حكمة فلسفة المشائين ليتضح أن قانون «العلية والمعلولية» الذي تستند إليه كل معرفة هو معقول وليس محسوساً، وليتضح أيضاً أن إدراك المعاني والمفاهيم الكلية والقوانين العامة هو عقلي وليس حسّياً رغم أن جميع أشكال الاستدلال حسّياً كان أم عقلياً تعتمد عليه.
وكذلك يمكنهم الرجوع إلى كتب السهروردي رحمة الله عليه في حكمة فلسفة الإشراق لكي يشرحوا لكم كيف أن الجسم وكل موجود مادي مفتقر إلى النور المطلق المنزّه عن أن يدرك بالحس، وأن الإدراك الشهودي من نفس الإنسان لحقيقته منزّه أيضاً عن الظواهر الحسية.
واطلبوا من كبار الأساتذة أن يراجعوا أسفار الحكمة المتعالية لصدر المتألهين رضوان الله تعالى عليه وحشره مع النبيين والصالحين لكي يتضح أن حقيقة العلم هي ذلك الوجود المجرد عن المادة؛ وأن كل معرفة منزّهة عن المادة ولا تخضع لأحكامها.
ولا أتعبكم، فلا أتطرق إلى كتب العارفين لا سيما محي الدين بن عربي، فإذا أردتم الاطلاع على مباحث هذا العظيم فيمكنكم أن تختاروا عدداً من خبرائكم من الأذكياء الذين لهم باع طويل في أمثال هذه المباحث وترسلوهم إلى قم ليتعرفوا بالتوكل على الله، وبعد عدة سنين على العمق الحساس والدقيق غاية الدقة لمنازل المعرفة، ومحال بدون هذا السفر الوصول إلى هذه المعرفة.
حضرة السيد غورباتشوف...
والآن وبعد ذكر هذه القضايا وتلك المقدمات أطلب منكم أن تحققوا بدقة وجدية حول الإسلام؛ ليس لأن الإسلام والمسلمين بحاجة إليكم؛ بل لما يتضمنه الإسلام من قيم سامية، ولما يمتاز به من شمولية بحيث يستطيع أن يكون وسيلة لراحة وإنقاذ الشعوب، وحل كافة الأزمات الأساسية التي تعاني منها البشرية.
إن التدبر والتوجه الجاد للإسلام يمكن أن ينقذكم من مشكلتكم في أفغانستان وأمثالها في العالم.
إننا نعتبر مسلمي العالم كافة كمسلمي بلدنا؛ وعلى الدوام نرى أنفسنا شركاء مصيرهم.
لقد أثبتم عبر الحرية النسبية في أداء الشعائر الدينية التي سمحتم بها في بعض الجمهوريات السوفياتية أنكم لم تعودوا تفكرون بأن «الدين أفيون الشعوب». وكيف ذاك؟! فهل إن الدين الذي صمد في إيران كجبل أشم هو أفيون الشعوب؟! وهل إن الدين الذي يطالب بتحكيم العدالة في العالم وبتحرير الإنسان من كافة أشكال الأسر المادية والمعنوية هو أفيون الشعوب؟!
نعم... إن الدين الذي يحوّل إلى أداة من أجل نهب ثروات البلدان الإسلامية وغير الإسلامية وإمكاناتها المادية والمعنوية استجابة للقوى الكبرى السلطوية، والدين الذي يصم أسماع الجماهير بمقولة فصل الدين عن السياسة هو أفيون الشعوب. ولكن هذا ما هو بالدين الحقيقي؛ بل هو ما تسميه جماهيرنا بـ «الدين الأميركي».
وختاماً، فإنني أعلنها صراحة: إن الجمهورية الإسلامية في إيران وباعتبارها أكبر وأقوى قاعدة للعالم الإسلامي؛ تستطيع بيسر أن تسد الفراغ العقائدي في نظامكم.
وعلى أية حال فإن بلدنا وكما كان في السابق يؤمن بمبادئ حسن الجوار والعلاقات المتبادلة المتكافئة ويحترم هذه المبادئ.
والسلام على من اتبع الهدى
روح الله الموسوي الخميني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في: 4 أغسطس, 2007
تعليقات الزوار