الغدير امتداد لخط الرسالات الإلهية
التاريخ: 14-11-2011
من كلمات سماحة الإمام الخامنئي دام ظله إنّ بإمكان الإنسان أن يُلقي نظرة على واقعة الغدير بأبعادها المختلفة، ويستفيد منها فكريّاً ومعنوياً
من كلمات سماحة الإمام الخامنئي دام ظله
إنّ بإمكان الإنسان أن يُلقي نظرة على واقعة الغدير بأبعادها المختلفة، ويستفيد منها فكريّاً ومعنوياً.
فالبعد الأوّل: هو أصل مسألة الولاية، الّتي هي امتداد للنبوّة، وهذه مسألة مهمّة.
فالنبوّة هي إبلاغ النداء الإلهي لأبناء البشر، وتحقّق المشيئة الإلهيّة بواسطة الشخص المبعوث والمصطفى من اللّه في فترة زمنية معيّنة.
وبديهي أنّ هذه البرهة تمرّ وتنتهي ﴿إنّكَ ميّت وإنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾، لكن هذه الحادثة الإلهيّة والمعنويّة لا تنقطع بوفاة النبي، بل يبقى للحادثة بُعدان:
أحدهما: هو الاقتدار الإلهي، وحاكميّة الدِّين والمشيئة الإلهيّة بين أبناء البشر؛ لأنّ الأنبياء كانوا مظهراً من مظاهر الاقتدار الإلهي بين البشر.
فلم يأت الأنبياء لوعظ الناس فقط، بل الوعظ والتبليغ يعدّان جانباً من عمل الأنبياء.
فالأنبياء جميعهم بُعثوا لبناء مجتمع أساسه القيم الإلهيّة، أي التأثير في واقع حياة الناس، فتمكّن بعضهم وبلغ به جهاده إلى نتيجة والبعض الآخر لم يتمكّن ولم يصل إلى نتيجة.
لكن هذا البعد في حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله) هو بُعد أساسي. فالنبيّ أضحى بهذا البعد مظهراً من مظاهر القدرة الإلهيّة على الأرض وبين أبناء البشر، ومظهراً من مظاهر الحاكميّة والولاية الإلهيّة بين الناس.
وهذا بعد ممتدّ ليُعْلَم أنّ الدين لا يمكن أن يترك أثره في برهة زمنيّة أو فترة تاريخيّة،إلاّ بوجود هذه الزعامة والحاكميّة والإقتدار فيه.
ثانيهما: ـ وهو على نفس القدر من الأهمّية ـ أنّه إذا كانت هذه الحاكميّة لا تنقطع بل تمتدّ بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فلا يمكن للحاكميّة أن تخلو من الأبعاد المعنويّة للنبي(صلى الله عليه وآله).
صحيح أنّ للنبيّ(صلى الله عليه وآله) مقام عظيم واستثنائي، ولا يقاس به أحد، لكن يجب أن يكون إمتداد وجوده متناسب مع وجوده، ويجب الحفاظ على القيم الموجودة في الوجود المقدّس للنبي(صلى الله عليه وآله) في مَنْ هو إمتداد لوجوده، طبعاً, بقدر ظرفيّة ذلك الشخص.
وهذا الأمر لم يتحقّق ويتبلور في تلك الفترة وذلك الفصل المهمّ من تاريخ النبوّة والولايةـ والّذي وجب في مَنْ هو إمتداد للنبي(صلى الله عليه وآله) أن يكون معصوماً, وإلاّ وقع الانحراف ـ سوى في الوجود المقدّس لأمير المؤمنين(عليه السلام).
إذاً حادثة الغدير قد سجّلت هذين الأمرين معاً في تاريخ الإسلام.
وهذا بُعد في قضية الغدير، والبعد الآخر هو شخصية أمير المؤمنين(عليه السلام)، والبعد الثالث هو إهتمام النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) بقضايا ما بعد وفاته.
هذه رؤى وأبعاد مختلفة يمكن مناقشة واقعة الغدير من خلالها.
اجتماع المسلمين تحت ظل الولاية
وما أراه مناسباً أن أخاطبكم به هنا ـ أيّها الإخوة والأخوات مسؤولي البلاد، وكذا أخاطب شعبنا العزيز باختلاف مذاهبه والأمة الإسلاميّة ـ هو أنّ واقعة الغدير حقيقة, وقعت ولها مفهوم قد يدركه البعض وبصورة كاملة وقد لا يدركه الآخرون، ونحن ـ كشيعة ـ نعلم أنّ معنى الغدير هو ذلك الشيء الّذي قلناه وكرّرناه وحقّقنا وكتبنا حوله, وسجّلناه في قلوبنا وأرواحنا طوال 1400عاماً، ولسائر الفرق الإسلاميّة آراؤهم الخاصّة.
ويجب أن يلتفت المجتمع الإيراني وجميع الشيعة المنتشرين في أرجاء المعمورة إلى أمرين متلازمين في هذه القضيّة.
الأول: هو أنّ الاعتقاد بالغدير وبالولاية والإمامة ـ الّذي يعتبر الركن الأساس لمذهب الشيعة ـ لا يجب أن يكون كسائر المباحث الكلاميّة المهمّة سبباً للاختلاف والفرقة بين المسلمين. فعلى الشيعة وعلى سائر الفرق الإسلاميّة أن لا يخلقوا في أنفسهم تحسّساً يؤدّي إلى الفرقة والاختلاف بينهم، فهذا ما يريده العدو.
إنّ أعداء الإسلام يسعون لاستغلال القضايا الصغيرة الخاصّة بكلّ فرقة وجماعة إسلاميّة لبثّ الفرقة بين المسلمين ـ لأنّ وسائل بثّ الفرقة متوفّرة في كلّ مكان ـ، فكيف بقضيّة عظيمة ومهمّة كواقعة الغدير، والبعض ـ في الحقيقة ــ ينخدع ويصبح أداة بيد العدو، فالأمة الإسلاميّة بحاجة إلى الوحدة اليوم حيث نقاط الاجتماع والإتحاد كثيرة.
الأمر الثاني: هو أصل مفهوم حديث وحادثة الغدير، حيث يجب أن لا يغفل عنه.
وإنّنا نوصي جميع الفرق الإسلاميّة ـ لا أن نقول للشيعة فقط لا تنسوا الغدير ـ أن لا تنسوا أصولكم، لكن نؤكّد في الوقت نفسه للشيعة أن يعتمدوا ويتّكئوا على فكر الغدير، فهو فكر راق ونيِّر،فلا يتصوّر أنّ مناداتنا بالوحدة الإسلاميّة ـ رغم أنّنا قد وقفنا بكلّ قوّة واقتدار أمام أعداء الوحدة الإسلاميّة ـ يعني نسيان هذا المفهوم المهم النيّر الأصيل المنقذ للإسلام، أي مفهوم الولاية والغدير، فإذا توجّهنا إلى مسألة الغدير بالبُعدين اللّذين أشرت إليهما في خطابي، ففي ذلك نجاة العالم الإسلامي.
إنّ البعض يتصوّر أنّ بإمكانه أن يكون مسلماً دون العمل بالأحكام الإسلاميّة، وهذا معنى فصل الدِّين عن السياسة، أي كونوا مسلمين بالاسم لكن لا تعملوا بالأحكام الإسلاميّة، أي النظام المصرفي، والنظام الاقتصادي وتركيبة الحكومة والعلاقات الفرديّة والاجتماعية، كلّ هذه تدار طبقاً للقوانين غير الإسلامية، بل المخالفة للإسلام في المناطق الّتي يحكمها القانون، وطبقاً لإرادة ورغبة إنسان قاصر ناقص في المناطق الّتي لا يحكمها القانون كبعض الدول الإسلاميّة اليوم.
كيف يمكن تصوّر أناس مسلمين لا يفهمون من الإسلام سوى الصلاة والصوم والطهارة والنجاسة فقط، وتكون شؤون الإسلام الرئيسيّة كإدارة نظام الحياة، وقضايا الاقتصاد والعلاقات الثقافيّة والاجتماعية والتربية والتعليم كلّها غير إسلاميّة، بل تصدر من قوانين غير إسلاميّة أو عن رغبات فرديّة وغير إسلاميّة، فيجب أن يحكم الإسلام في المجتمعات الإسلاميّة. إذاً كان للغدير هذا النداء وهذه الرسالة، فإن الكثير من المجتمعات تتلقّى الضربات اليوم جرّاء عدم اعتقادها بهذه القضيّة.
والنقطة الثانية: هي أنّ بعض الدول الّتي تتظاهر بتطبيق أحكام الإسلام بنحو ما، وتستند إلى آية أو رواية لتمرير شؤونها وتستأجر بعض المعمّمين ليفتون ويديرون أعمالها، فهذه الدول وإن كان فيها شي من حاكمية الإسلام ـ ولو ظاهريّاً ـ لكن هذه الحاكميّة غير مقرونة بالقيم والمعايير النبويّة والولائيّة: لا العلم، ولا التقوى، ولا العدالة، ولا العبوديّة للّه، ولا الخشية من اللّه، ولا حالة التضرّع والخضوع «ترتعد فرائصه في المحراب» الّتي هي سيرة الأنبياء والأولياء، الّذين كانوا قدوةً للجميع ومقرّبين إلى اللّه، بل هي بعيدة جدّاً عن الدِّين ـ إن لم نأت بتعابير أشدّ وأوضح ـ.
إذاً الغدير مفهوم راق ومنقذ، والولاية في الإسلام مفهوم سام، فليُعْلَم ذلك وليَفْخر الشيعة بذلك، ويحاول غير الشيعة معرفته.
واعلموا أيّها الإخوة والأخوات أبعاد تآمر العدو، فإن من الأعمال الّتي يقوم بها العدوّ اليوم ـ وللأسف ـ هو حرف وقلب عقائد الشيعة في العالم، فقد تفرّغ البعض خصيصاً لهذا الأمر، يقبض الأموال ويؤلِّف الكتب لقلب وتحريف عقائد الشيعة؛ حتّى لا تجذب الثورة الإسلاميّة وحركة الصحوة الإسلاميّة المسلمين إليها.
لهذا فعلى من يمكنه إيصال الرسالة الصحيحة للشيعة إلى العقول والأذهان والقلوب الظِِماء أن يفعل ذلك، فهذا عمل مهمّ جدّاً.
الولاية نبع لا ينضب
أمّا في مجتمعنا، فإن التمسّك بعرى الولاية قد توثّق أكثر من ذي قبل، وأظهر تأثيراته في جميع أبعاد هذا المجتمع، فكان الأمر كذلك منذ الوهلة الأولى للتحرّك الثوري، واستطاع إمامنا العظيم (رض) بالاستعانة بعرى الولاية من تحقيق النصر لهذه الثورة.
فقضيّة عاشوراء وكربلاء تعتبر من عرى الولاية، وكذا محبّة أهل البيت عليهم السلام والسعي للتأسي بهم، وروحيّة الجهاد والصبر عليه من خصوصيّات ومعارف الولاية.
فالإمام استطاع بهذه الوسيلة من تحقيق النصر لهذه الثورة وتشكيل هذا النظام الإسلامي، حيث أنّ هذا النظام يرتوي حالياً من معين الولاية، فلا تطبّل الأبواق المعادية بأنّ هذه الثورة شيعيّة محضة، كلاّ، فإن من خصوصيّات جوّ الولاية أن فَتَحَت أعيننا على المفاهيم الإسلاميّة، إذ أنّنا وببركة تعاليم أئمّتنا (عليهم السلام) قد استفدنا من المفاهيم الإسلاميّة والقرآنيّة بالحدّ الأقصى، فالشيعة هم أتباع أهل البيت(عليهم السلام).
واليوم أيضاً فإن الأمر ـ وللّه الحمد ـ بقي كذلك، فحالة التراحم والتعاطف والمحبّة الشديدة بين الناس وتجاه المظلومين والمحرومين، وتجاه الشعب الفلسطيني والمظلومين في أوروبا والعالم، هي روحيّة شيعيّة نابعة من الولاية.
إنّ نبع العاطفة فيّاض في مجتمعنا وذلك ببركة الولاية، فهذه الدموع والمراثي، وهذه الاجتماعات ومحرّم وعاشوراء، كلّها تترك آثارها على معنويّات شعبنا وعلى الجوّ الحاكم في مجتمعنا، فمجتمعنا لا يتّصف بالجمود كبعض المجتمعات المعادية للشيعة، حيث حكوماتها تخلق العداء للشيعة، بل إنّ مجتمعنا يتّصف بالحيويّة والنشاط والعَطف، وهذه من خصوصيّات الولاية، كذلك الصمود أمام العدوّ يعتبر من خصوصيّات الولاية. فأئمتنا عليهم السلام الذين صمدوا في أحلك الظروف، قد تحملوا أنواع المعاناة في سبيل الله، فالإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) الذي تحمل سنيّ السجن، والإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) الذي واجه العدو بسياسة إلهيّة، وكذلك أبناءه الذين تحملوا عناء النفي سنين متمادية، فالأئمة عليهم السلام وأبناءهم قد عانوا ما عانوا من ظلم واضطهاد طوال الـ(250)سنة[1].
مغزى واقعة الغدير
لا تنظروا إلى الغدير في حدود تنصيب أو تعريف عادي حيث قام النبي الأكرم (ص) بتعريف شخصٍ ما، ولا شك ـ بطبيعة الحال ـ أنّ النبي نصّب أمير المؤمنين للخلافة على مشهد عشرات الآلاف من المسلمين، وليس هذا بالأمر الذي يرويه الشيعة فقط، بل إنّ واقعة الغدير مما يرويها إخواننا أهل السنة ومحدّثوهم بنفس المواصفات التي ينقلها الشيعة، وهو ليس بالأمر الذي يسع المرء إنكاره؛ بَيْدَ أنّ القضية لا تقف عند هذا الحد.
القضية هي: أنّ ذروة ما بلغه مزيج الدين والسياسة بصورته الرائعة البديعة, وتبلوره كسنّة خالدة تؤمّن الهداية للمجتمع منذ عهد آدم حيث انطلقت النبوّات والرسالات وتشكّلت حكومات الأنبياء مرّات ومرّات على مرّ التاريخ ـ من قبيل حكومة سليمان وداود وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل حتى عهد نبيّنا ـ قد تحقق في واقعة الغدير، لذا فإننا نقرأ في دعاء الندبة ـ كما أشرت ـ "فلما انقضت أيامه أقام وليَّه علي بن أبي طالب صلواتك عليهما وآلهما هادياً، إذ كان هو المنذر ولكل قوم هاد".
يا حبّذا أن نتوجّه بدقّة وتمعّن لِمْا بين أيدينا من معارف؛ ننهل منها أفكارنا بفضل هدي أهل البيت "عليهم السلام"، ودعاء الندبة ـ كما أسلفت ـ خطبة غرّاء تستعرض تاريخ هذا الفكر وجذور هذه المسيرة منذ عصر الرسالات، وإذا ما تمعّنتم جيداً فلن تجدوا في هذا الدعاء موضعاً يثير الاختلاف بين الشيعة والسنة ـ حيث النزاع التاريخي الذي أجّجه أناس تحرّكهم دوافع شتّى ـ وفيه يتمّ بيان قضية الإمامة والولاية بشكل استدلالي "إذ كان هو المنذر ولكل قوم هاد"؛ أي أنّ للنبي موقع الرسالة والإنذار والتبشير فهو البادئ في شقّ الطريق والفاتح للآفاق أمام البشرية.
بَيْدَ أنّ النبي ليس مخلّداً وأزلياً، والمجتمعات بحاجة لمن يهديها، والإسلام قد تكفّل بهذا الهادي، وهم المعصومون الذين يتوالون جيلاً بعد جيل فيمسكون بزمام الأمور، ويتصدّون لهداية البشرية من خلال التعاليم القرآنية الأصيلة الخالصة أجيالاً وقروناً.
وهم في الحقيقة إنما يقومون بعملية تجذير للأفكار والخصال والسلوكيات والأخلاق الإسلامية في المجتمع؛ لتبقى حجة الله حيّة فيما بعد في أوساط المجتمع، فلا وجود للدنيا والبشرية دون حجة قائمة، على أن تشقّ البشرية طريقها؛ وهذا ما لم يتحقق، وهذا هو ما خطط له الإسلام ومشروعه الشامل، وهذا هو المغزى من الغدير.
الإمامة هي تلك القمّة في المعنى المنشود من إدارة المجتمع, قبال ضروب وأصناف الإدارة المنبثقة عن مكامن الضعف والشهوة والحمية في الإنسان ومطامعه، والإسلام يطرح أمام البشرية نهج الإمامة وصفتها؛ أي ذلك الإنسان الطافح قلبه بفيض الهداية الإلهية، العارف بعلوم الدين المتميّز بفهمه ـ أي يجيد تشخيص الطريق الصحيح ـ ذو قوة في عمله {يا يحيى خذ الكتاب بقوة}[2] ولا وزن لديه لنفسه ورغباته الشخصية، لكن أرواح الناس وحياتهم وسعادتهم تمثّل أهم ما لديه؛ وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين عملياً أثناء حكمه الذي استمر أقل من خمس سنوات، فإنكم تلاحظون أنّ فترة ما يقل من خمسة أعوام هي فترة حكم أمير المؤمنين تمثّل أنموذجاً ومقتدىً لن تنساه البشرية أبداً، وستبقى خالدة وضّاءة قروناً متمادية، وهذه هي ثمرة واقعة الغدير والدرس والمغزى والتفسير المستقى منها[3].
رسالة الغدير
إنّه ليوم عظيم حقّاً وعيد حاسم وجليل يستحقّ الاهتمام والدراسة سواءً من ناحية شخصية أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) وسجاياها وأبعادها الذاتيّة والسياسية والاجتماعية المتوفّرة كلّها في هذا الرجل الربّاني والملكوتي؛ والذي لا نعهد رجلاً يحمل هذه الخصال بعد النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) غير أمير المؤمنين، أو من ناحية الحادثة نفسها وهذا التنصيب العجيب.
فيما يخصُّ أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام): فعلى جميع الواقفين بالأدلة على كراماته أن يقرّوا بأنّ شخصية أمير المؤمنين الشامخة لم تكن وليدة واقعة الغدير، فما كان للغدير أن يصنع جوهر أمير المؤمنين(عليه الصلاة والسلام) الفريد، إنّما الغدير حصيلة تلك الفضائل والمزايا والكمالات.
نعم, الأمر الإلهي والتنصيب النبوي وبيعة المؤمنين والصحابة فضيلة كبيرة، إلاّ أنّ الأهمّ من ذلك هي السجايا التي اجتمعت في هذا الإنسان العظيم والفريد وأدّت إلى هذا التنصيب والبلاغ الإلهي.
كما أنّ حادثة الغدير بنفسها ذات أبعاد كثيرة، وبإمكان المسلمين ـ حقّاً ـ أن يتّخذوا منها وسيلة لتقدّم العالم الإسلامي وهدايته هداية وافية وكاملة.
لم ينكر أحد وقوع هذه الحادثة وصدور تلك الكلمات عن نبي الإسلام الأكرم(صلى الله عليه وآله).
ففي مثل هذا اليوم (الثامن عشر من ذي الحجة) بادر النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله), وفي ذلك الظرف المهم والحسّاس وفي آخر أشهر حياته المباركة إلى تنصيب أمير المؤمنين ومنحه الولاية؛ أي الحكومة وإدارة المسلمين والمجتمع الإسلامي.
الولاية التي أشار إليها نبي الإسلام هنا ليست هي الولاية الإلهية المعنوية الكلّية المبتنية على أمور وعناصر أخرى، بل أراد بهذا البيان التشريعي: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» أمراً إلهياً وسماوياً وملكوتياً غنياً عن الجعل والتنصيب.
وهذا البلاغ من النبي(صلى الله عليه وآله) في منح الولاية لأمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) وهذا المنصب التشريعي يعني الحكومة وإدارة المجتمع الإسلامي, وولاية أمر المسلمين المصحوبة, طبعاً بتلك الولاية الإلهية العامة التي توفّرت في الشخص المقّدس للنبي وأئمة الهدى(عليهم السلام).
فالولاية بذلك المعنى كانت موجودة حتّى عند الأئمة الذين لم يمارسوا الولاية الظاهرية، فما تمتّع به أمير المؤمنين المنصّب من قِبَل النبي هي الولاية السياسية، وهو المعنى الذي أوجده الله عزّ وجلّ في الإسلام على يَدْ النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله).
إذاً فقد اتّضح أنّ الإسلام يدعو في أرقى أحكامه وقوانينه إلى مسألة الحكومة والولاية وإدارة الأمة، فلابدّ من دراسة حادثة الغدير في هذا البعد، كما ينبغي محو الكثير من الأخطاء التي تركّزت في الأذهان ـ مع الأسف ـ طوال قرون.
إنّ الذين تظاهروا بالدفاع عن الدين, وقالوا: لا ينبغي للدين أن يتدخّل في السياسة إنّما أرادوا أن لا تتدخّل الأحكام الإسلامية ودعاة الإسلام في حكوماتهم؛ لذا فإنّ السلاطين المستبدّين هم أول الدعاة إلى الفكرة المنحرفة التي تدعو إلى (فصل الدين عن السياسة)، وهذا هو أسلوب إعلامي جديد مارسه الاستكبار ضدّ حكومة الإسلام وحياته الجديدة.
طبعاً منذ قرون وقوى الاستبداد ـ أي القوى المتجبّرة التي استولت على مقدّرات المجتمع بالقهر وكانوا يريدون أن يمارسوا بحرّية أصناف السياسات بحقّ شعبهم وبلادهم ـ تدعو إلى فصل الدين عن السياسة، وهم الذين روّجوا ونادوا بفكرة فصل الدين عن السياسة قبل المستعمرين والأعداء.
ففي عهد ناصر الدين شاه لو تدخّل عالم الدين في أمر سياسي وأحبط جميع المؤامرات والحيل الاستعمارية ـ التي تضمن المصالح المشتركة للشركات والبلاط الملكي في إيران ـ، أما كانت حاشية ناصر الدين شاه وبطانته تفكّر أن لماذا يتدخّل الدين في السياسة؟ وهذا المعنى موجود بالفعل في الأعمال الأدبية في عصر ناصر الدين شاه ـ منتصف وأواخر العهد القاجاري ـ.
إذاً فالمسألة تعود أوّلاً إلى المستبدّين وعملائهم في بلادنا والبلدان الأخرى, الذين كانوا يخشون ويخالفون أنواع التدخّل من قبل الدين وعلمائه والدعاة إليه في مجال السياسة.
ولمّا وجد المستعمرون أنّ هذا شعار خلاّب تمسّكوا به واتّبعوه بعد أن فُرض على خلفيات الكثير من العلماء والمتديّنين من الناس، وطُفق يُستدلّ على صحّته حتّى اتّخذ قالباً مبنائياً وفكرياً. هذا فيما يتعلّق بالماضي.
من جملة الخدمات العظيمة التي أنجزتها الحركة الدينية العظيمة للشعب الإيراني هي إزالة هذه الأسطورة الخاطئة والقضاء عليها، فنزلت الجماهير إلى الساحة، ورفعت راية الحرّية بدافع من الدين وأوامره يتقدّمها دعاة الأحكام الدينية والعلماء الكبار، حتّى انتهى الأمر إلى حاكمية دين الله في هذه البلاد واتّضح للمسلمين أنّ الأمور السياسية والأهم منها الحكومة والولاية قد عُجنت في الدين ولا يمكن فصلها عنه، وعندها ظهرت المعاني الكامنة في النصوص الدينية, وأدرك الجميع أنّهم غفلوا أمراً واضحاً لعدّة سنوات.
بديهي أنّ الانحراف الذي يدعو له أعداء سعادة الأمة يحظى بدعم ومساندة لا يمكن القضاء عليه بهذه البساطة، فقد أقيمت براهين جديدة لفصل الدين عن السياسة من قبيل إذا أدخلنا الدين في السياسة أو إذا استلهمت سياسة البلاد تعاليمها من الدين، وبما أنّ الأمور السياسية والحكوميّة تستتبع المشاكل التي تؤدّي إلى عدم الرضا والإحباط، فينتج جرّاء ذلك تنكّر الناس لأصل الدين.
إذاً فعلى الدين أن يتخلّى عن السياسة بالمرّة وأن يحتفظ بقداسته ونورانيّته ويتروّى وينصرف إلى أمور الناس المعنوية والذهنية والروحية!!
إنّ قوى الاستكبار تسعى حالياً وبمختلف الأساليب إلى إشاعة هذه الفكرة في العالم ـ وعلى الأخص في العالم الإسلامي ـ، والناسخ لهذه السفسطة هو قضية الغدير.
ففي حادثة الغدير أنجز نبي الإسلام الأكرم(صلى الله عليه وآله) أهمّ الواجبات امتثالاً لآيات القرآن الصريحة ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾، فتنصيب أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) للولاية والخلافة من الأهمية بحيث يكون عدم امتثاله بمثابة عدم امتثال الرسالة.
والآن فالمراد إمّا الرسالة في خصوص هذه الحادثة ـ لأنّ الله تعالى أمر بامتثالها ـ، أو أكثر من ذلك بأن يكون المراد هو أصل رسالة النبي وأنّه إذا لم يبلّغ هذا الأمر فكأنّه لم يُبلّغ أصل الرسالة.
وهذه القضية تحظى بأهمّية كبيرة، أي أنّ إقامة الحكومة ومسألة الولاية وإدارة الدولة من أساسيات الدين، وقد امتثله النبي بعظمته وبذلك الاهتمام أمام أعين الناس، وبشكل لم ينجز معه أيّ واجب آخر كالصلاة والزكاة والصيام والجهاد.
فيجمع الناس من مختلف المدن والقبائل والأماكن في مفترق طرق بين مكة والمدينة ويبلغ هذا الأمر بوصفه أمراً مهمّاً ويدور الحديث في العالم الإسلامي بأنّ النبي(صلى الله عليه وآله) قد بلّغ أمراً جديداً ومع غضّ النظر عن شخص أمير المؤمنين فإن تنصيباً بالشكل الذي التفت إليه الشيعة لم يلتفت إليه الآخرون كثيراً ولم يلاحظوه.
نلاحظ في هذه القضية أهمّية نصب الحاكم، وهذه هي رسالة الغدير، فلماذا لا يُلتفت إلى النداء الذي صدع به النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) مؤسّس الإسلام أمام جميع المسلمين وقال: أيّها المسلمون لا تفصلوا الدين عن أساس الحياة وعن مسألة الحكومة ـ التي هي أساس الحياة الفردية والاجتماعية ـ، ولا تحصروه في زوايا البيوت الخالية وفي الأذهان والمسائل الروحية، فأساس حياة البشر القائم على الحكومة مسؤولية ملقاة على عاتق الدين، فعلى الدين أن يتولّى ذلك.
ولم يخطر في ذهن أيّ شخص هذا المعنى آنذاك، وهو هل الناس صغار حتّى يكونوا بحاجة إلى (ولي)؟ فهذه سفسطة واهية يطرحها البعض بظواهر علمية واستدلالية، مع أنّ الولاية لا تنحصر بالضرورة في ولاية القاصر، كما أنّ الأستاذ والمعلّم لا يصدق دائماً على معلّم الصف الأول الابتدائي، حتّى إذا قلنا لأستاذ الجامعة إنّه معلم نكون قد وجّهنا إليه إهانة! المعلم في كلّ موقع هو معلّم وفقاً لما يقتضيه المقام، فلمعلّم الجامعة معنى ومقتضى، كما أنّ لمعلّم الصف الأول مقتضي آخر.
وكذلك فإن الولاية على المحجور والصغير لها معنى ومقتضى، وولاية الأمة الإسلامية والحرب والصلح والسياسة لها معنى ومقتضى آخر ولا يمكن الخلط بين هذه الأمور. هذه هي رسالة الغدير.
إنّ لإمامنا الراحل العظيم حقّ كبير في عنق الأمة الإسلامية من هذه الناحية إذ نبّه أفراد الشعب إلى مسؤوليتهم في التدخّل في أمر الحكومة والنظام الإسلامي، ففي النظام الإسلامي لكلّ شخص مؤمن بالعقيدة والشريعة الإسلامية مسؤولية، ولا يمكن لأيّ شخص أن يتنصّل عن مسألة الحكومة ويقول: إنّ هذا أمر سيحدث ولا علاقة لي به فلا يوجد عندنا في النظام الإسلامي وفي مسألة الحكومة والمسائل السياسية والأمور العامة والمجتمع (لا شأن لي بذلك) وهذا أكبر دليل على دخالة الناس.
هذا تعلّمناه من الغدير، ولذا فإن عيد الغدير هو عيد الولاية والسياسة وتدخّل الناس في أمر الحكومة، وعيد أفراد الشعب والأمة الإسلامية، ولا يختصّ بالشيعة، ويجدر بجميع الأمة الإسلامية أن تعتبر هذا اليوم عيدها، كما هو عيد أمير المؤمنين(عليه السلام)، وشيعة أمير المؤمنين يحتفلون بهذا العيد بشكل خاص[4].
الغدير امتداد لخط الرسالات الإلهية
في مستهل حديثي أرى من الضروري التطرّق باختصار لمفهوم الغدير، فينبغي أن لا يُنظر إلى واقعة الغدير التاريخية الكبرى التي اتخذناها اليوم عيداً على أنها مناسبة مذهبية؛ فحادثة الغدير بمغزاها الحقيقي لا تخص الشيعة لوحدهم, وإن كان الشيعة يتخذون من يوم تنصيب مولى المتقين للإمامة والولاية عيداً ويقيمون فيه مراسم الشكر، حيث إنّ يوم الغدير يمثّل في الحقيقة امتداداً لخط الرسالات الإلهية بأسرها، وهو تتويج لهذا الخط اللاحب الزاهر على مرّ التاريخ.
وإذا ما ألقينا نظرة على الرسالات الإلهية نجد أنّ الأنبياء والرسل قد تناقلوا هذا الخط اللاحب عبر التاريخ حتى آل إلى النبي الأكرم الخاتم، ثم تجسّد وتبلور عند نهاية حياة هذا الرجل العظيم على هيئة واقعة الغدير[5].
__________________________
[1] كلمة الإمام الخامنئي، بتاريخ: 18 ذي الحجة 1415 ﻫ.ق.
[2] سورة مريم. الآية:12.
[3] كلمة الإمام الخامنئي، بتاريخ: 18 ذي الحجة 1422ﻫ.ق.
[4] كلمة الإمام الخامنئي، بتاريخ: 18 ذي الحجة 1416 ﻫ.ق.
[5] كلمة الإمام الخامنئي، بتاريخ: 18 ذي الحجة 1422ﻫ.ق.
احدث الاخبار
السيد الحوثي: الاستقرار لن يبقى في المنطقة ما دام الاحتلال مستمر في فلسطين
ثروة باقية؛ المقاومة في لبنان من نشوء الحالة الإسلاميّة إلى التأسيس حتى «طوفان الأقصى»
قائد الثورة الإسلامية: الخلاف بين الجمهورية الإسلامية وأمريكا جوهري، وليس تكتيكيا
التبيين في نهج السيّدة الزهراء عليها السلام*
قيم الحياة الزوجيّة في سيرة أهل البيت عليهم السلام
عمائــــــم سلكت درب الشهادة (1)
الشيخ نعيم قاسم: أمريكا ليست وسيطا نزيها ودعم المقاومة واجب
زوجة القائد"الحاج رمضان" تروي ذكرى من أدب الشهيد قاسم سليماني
العميد نقدي: قدرتنا الصاروخية اليوم أقوى بكثير مما كانت عليه خلال العدوان الصهيوامريكي
الشيخ نعيم قاسم: المقاومة جاهزة للدفاع ولديها ردع يمنع تحقيق العدو لأهدافه
الاكثر قراءة
أحكام الصوم للسيد القائد الخامنئي
ما أنشده الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في حق الإمام الخامنئي
أربعون حديثاً عن الإمام الكاظم (عليه السلام)
أربعون حديثا عن الإمام الهادي (ع)
مختارات من كلمات الإمام الخامنئي حول عظمة السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)
مبادئ الإمام الخميني العرفانية
أربعون حديثاً عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
ماذا يقول شهداء الدفاع عن العقيلة؟.. الشهيد السيد إبراهيم في وصيته: لقد ذهب زمان ذل الشيعة+ صور
شهيد المحراب (الثالث) آية الله الحاج السيد عبد الحسين دستغيب
تقرير مصور عن شهداء الحجاز الذين استشهدوا في جبهات الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية