الدرس الحادي والثلاثون: الأخبار الدالة على أن أمر الجهاد بيد ولي الأمر (القسم الثاني)
التاريخ: 06-05-2010
وأما القسم الثاني من الأخبار ـ أعني ما تدل على مجرد ثبوت حق القيام بالجهاد لولي الأمر من غير دلالة لها على نفي هذا الحق عن غيره ـ فعدّة أخبار أخر أيضاً
وأما القسم الثاني من الأخبار ـ أعني ما تدل على مجرد ثبوت حق القيام بالجهاد لولي الأمر من غير دلالة لها على نفي هذا الحق عن غيره ـ فعدّة أخبار أخر أيضاً.
1ـ منها ما رواه الكليني والشيخ بسند موثّق عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى اليمن فقال: يا علي لا تقاتلنّ أحداً حتى تدعوه إلى الإسلام، وأيم الله لإن يهدي الله عز وجل على يديك رجلاً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي[1].
فقد نقل الأمير (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) بعثه للقتال باليمن، ففعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدل على جواز هذا الحق له، بل إن ثبوت هذا الحق له (صلى الله عليه وآله) مما لا يحتاج إلى هذه الرواية لوضوح أنه قد وقع في زمنه حروب وغزوات كثيرة وكلها كانت بأمره وإذنه فلا ريب في ثبوت هذا الحق له، ولما كان هو ولي أمر المؤمنين فثبوته له دليل على ثبوته لسائر ولاة الأمر من الأئمة المعصومين عليهم السلام.
2ـ ومنها ما رواه الكليني في الصحيح عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): السرية يبعثها الإمام فيصيبون غنائم كيف تقسّم؟ قال: إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام عليهم أخرج منها الخمس لله وللرسول وقسم بينهم أربعة أخماس، وإن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كل ما غنموا للإمام يجعله حيث أحب[2].
فقد فرض السائل بعث الإمام للسرية وأجاب الإمام (عليه السلام) وفرض أن الإمام أمّر عليهم أميراً، فيدلّ على أن للإمام الإقدام ببعث السرية والأمر بالبعث، وحيث إن الإمامة مساوقة لولاية الأمر فيدلّ على ثبوت هذا الحق لولي الأمر.
3ـ ومنها ما رواه الكليني في الموثّق عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان إذا بعث السرية دعا لها[3].
4ـ ومثلها ما رواه أيضاً في الموثق إلى مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان إذا بعث أميراً له على سرية أمره بتقوى الله في خاصّة نفسه ثم في أصحابه عامّة، ثم يقول: اغز بسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله... الحديث[4].
5ـ ومثلهما ما وراه أيضاً في الصحيح عن محمد بن حمران وجميل بن درّاج كلاهما عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا بعث سريةً دعا بأميرها فأجلسه إلى جنبه وأجلس أصحابه بين يديه ثم قال: سيروا بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله... الحديث[5].
6ـ ونحوه أيضاً ما رواه في الصحيح عن معاوية بن عمار ـ قال: أظنّه عن أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أراد أن يبعث سريّةً دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله... الحديث.
فهذه الروايات تدلّ بوضوح أن بعث السرية للقتال كان أمراً دارجاً للرسول (صلى الله عليه وآله) وهو قبل أن يسيروا يذكر لهم الآداب الشرعية التي عليهم مراعاتها ويدعو الله لهم، فتدلّ على ثبوت هذا الحق له وحيث إنه ولي أمر الأمّة فيثبت من هذه الروايات ثبوت هذا الحق لغيره من ولاة أمر الأمة من المعصومين عليهم السلام أيضاً، بل قد مرّ أن ثبوت هذا الحق له أمر بيّن وما ذكرناه أنموذج من الأخبار الدالة عليه، والمتتبع المتأمل يظفر على أكثر فأكثر.
7ـ ومنها ما رواه في الكافي بسند معتبر إلى أبي حفص الكلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل بعث رسوله بالإسلام إلى الناس عشر سنين، فأبوا أن يقبلوا حتى أمره بالقتال، فالخير في السيف وتحت السيف، والأمر يعود كما بدأ[6].
فأمر الله له بالقتال يلازمه إعطاء أمر القتال إليه بل توظيفه بتصديه، وهو دليلٌ واضح على ثبوت هذا الحق له.
8ـ ومنها ما رواه الصدوق في عيون الأخبار بإسناده المعتبر إلى الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) فيما كتبه إلى المأمون قال: والجهاد واجب مع الإمام العدل[7]. وروي بمعناه عن تحف العقول عنه (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون[8].
فإن وجوب الجهاد مع الإمام العادل عبارة أخرى عن وجوب الحضور معه تحت لوائه أو لواء أمر به أو أذن، فلا محالة يدل على ثبوت حق الإقدام بالقتال للإمام العادل وهو منطبق على النبي والأئمة العدل الولاة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.
9ـ ونحوه ما عن الخصال بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمد عليهما السلام في حديث شرائع الدين قال: والجهاد واجب مع إمام عادل[9].
والإنصاف أن الأخبار الدالة على أن لولي أمر الأمة حق القتال في تمام مصاديقه كثيرة جداً كما هو ظاهر لمن راجع أخبار كتاب الجهاد وتأمّلها، وما ذكرناه فإنما هو أنموذج منها فراجع أبواب جهاد العدو من الوسائل، إلا أنه مع ذلك فلا بأس بذكر نماذج أخر منها نقله نهج البلاغة عن المولى أمير المؤمنين (عليه السلام) فنقول:
10ـ منها قوله (عليه السلام) في وقعة صفّين حين أمر الناس بالصلح: والله لقد كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأخوالنا وأعمامنا وأهل بيوتاتنا ثم ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً ومضيّاً على اللقم وصبراً على مضض الألم وحدّاً في جهاد العدوّ... ولعمري لو كنا حين كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتصيبنا الشدائد والأذى والبأس نأتي مثل ما أتيتم اليوم ما قام للدين عمود ولا اخضرّ للإسلام عود ولا عزّ الإسلام وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون وأنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون[10].
فهذه الكلمات المباركات الصادرة عن قلبه الحزين في الله تحكي عن تصدّي الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) للجهاد وأنه والأصحاب يقاتلون تحت لوائه وعن تصدّي الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) للجهاد وأنه والأصحاب يقاتلون تحت لوائه وعن تصدّيه (عليه السلام) لأمر الحرب إلا أن أصحابه لا يعلمون بما هو وظيفتهم الأكيدة، ففيها دلالة على أن لولي أمر الأمة تصدّي أمر الجهاد.
11ـ ومنها قوله (عليه السلام) في خطبة له بعد غارة ضحّاك بن قيس صاحب معاوية على الحاجّ بعد قصّة الحكمين: أيها الناس المجتمعة أبدانهم المختلة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصمّ الصلاب وفعلكم يُطمع فيكم الأعداء، تقولون في المجالس كيت وكيت فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد ما عزّت دعوة من دعاكم ولا استراح قلب من قاساكم... لا يمنع الضيمُ الذليلُ ولا يُدرك الحق إلا بالجدّ، أيّ دارٍ بعد داركم تمنعون؟! ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟![11].
فهذه الجُمل المنبعثة عن قلبٍ حزين في توبيخ قوم غير قويم تدل على أنه (عليه السلام) قد أمرهم بالقتال فيقولون تلك الكلمة التي يقولها الهارب عند الفرار، وجملته الأخيرة قد وبّختهم على عدم نهوضهم باستنهاضه للقتال فخاطبهم بأنكم مع أي إمام بعدي تقاتلون؟ فتدل صدراً وذيلاً على أن له (عليه السلام) ولكل إمام أن يدعو أمته للقتال وأن على الأمة الاستجابة لدعوته، وهو ما رمناه.
12ـ ومنها قوله (عليه السلام) في خطبة له ـ وقد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية فلم ينهضوا ـ : أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنّته الوثيقة فمن تركه رغبةً عنه ألبسه الله ثوب الذلّ وشمله البلاء... ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً وسرّاً وإعلاناً، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قومٌ قطّ في عقر دارهم إلا ذلّوا، فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنّت عليكم الغارات ومُلكت عليكم الأوطان ـ فذكر (عليه السلام) حديث غزو الأنبار وبعض عواقبه المؤلمة إلى أن قال: ـ يُغار عليكم ولا تغيرون وتُغزَون ولا تغزُون ويُعصى الله وتَرضون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: هذه حمارّة القيظ أمهلنا يسبّخ عنا الحرّ، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارّة القُرّ أمهلنا ينسلخ عنا البرد، كل هذا فراراً من الحر والقُرّ، فإذا كنتم من الحر والقُرّ تفرون فأنتم والله من السيف أفرّ... قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً وجرّعتموني نُغَب التَهمام أنفاساً، وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش: «إن أبي طالب رجلٌ شجاع لكن لا علم له بالحرب» لله أبوهم وهل أحدٌ منهم أشدّ لها مراساً وأقدم فيها مقاماً مني، لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وهانذا قد ذرّفت على الستّين، ولكن لا رأي لمن لا يُطاع[12].
وروي مثله في كتاب الجهاد من الكافي في باب فضل الجهاد[13]. وروى الصدوق نحوه في معاني الأخبار، قال في صدره: إن علياً (عليه السلام) انتهى إليه أن خيلاً لمعاوية وردت الأنبار فقتلوا عاملاً له يقال له حسّان بن حسّان، فخرج مغضباً يجرّ ثوبه حتى أتى النُخيلة واتّبعه الناس فرقى ربادة من الأرض فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله) ثم قال: ...[14].
أقول: ولا بأس بتوضيح بعض كلماته: فالنُخيلة ـ على وزن فُعَيلة ـ في لسان العرب: موضع بالبادية. عُقْر الدار ـ بالضم ـ وسطها وأصلها. تواكلتم: لم يتولّه أحد منكم بل أحاله كل إلى الآخر. شنّت عليكم الغارات: الصبّ متفرّقاً والغارة: الخيل المغيرة تهجم على القوم فتقتل وتنهب، فحاصل المراد: صبّت عليكم الأعداد من كل وجه فهجمت وقتلت ونهبت. حمارّة القيظ: حمارّة ـ بتخفيف الميم وتشديد الراء وربما خفّفت ـ : شدة الحر. والقيظ: صميم الصيف. التسبيخ ـ بالخاء المعجمة ـ : التخفيف والتسكين. صبارّة القُرّ؛ صبارّة بتخفيف الباء الموحّدة وتشديد الراء ـ : شدّة البرد، القُرّ ـ بضم القاف وتشديد الراء ـ : البرد، وقيل: هو برد الشتاء خاصة. وجرّعتموني نُغَب التَهمام أنفاساً: النُغب ـ جمع النغبة ـ كجُرعة وجُرَع لفظاً ومعنىً، التَهمام ـ بالفتح ـ : الهم، أنفاساً: جرعة بعد جرعة. مراساً: مصدر مارسه ممارسةً ومراساً: أي عالجه وزاوله وعاناه. ذرفت: أي زدت.
فهذه الكلمات المباركات الحاكية عن شدة تألمه من أعمال أصحابه وعدم استقامتهم وعدم تهيّؤهم لامتثال أوامره تدلّ صريحاً أنه (عليه السلام) كان كثيراً ما يدعوهم إلى قتال جيش معاوية ويؤكد عليهم في الخروج إليهم وقتالهم فكان أصحابه يظهرون علّة غير مرضية ويثّاقلون إلى الأرض حتى قال (عليه السلام): (لا رأي لمن لا يُطاع) فتدل على أنه كان له ـ وهو ولي أمر الأمة ـ أن يأمر بالجهاد وعلى الأمة أن يطيعوه، فيثبت هذا الحق لكل ولي أمر، وهو المطلوب.
13ـ ومنها قوله (عليه السلام) في خطبة له ـ في استنفار الناس إلى أهل الشام بعد فراغه من أمر الخوارج ـ : أفٍّ لكم لقد سئمتُ عتابكم ـ وخطابكم، أيها الناس، ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض وسألتموني التطويل دفاع ذي الدين المطول؟! أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً وبالذل من العز خَلَفاً؟! إذا دعوتكم إلى جهاد عدوّكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرةٍ ومن الذهول في سكرة... أيها الناس، إن لي عليكم حقاً ولكم عليَّ حقّ، فأما حقكم عليَّ فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كي لا تجهلوا وتأديبكم كي ما تعلموا، وأما حقي عليكم فالوفاء والبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم[15].
فهذه الكلمات المباركات كما ترى يدل أوّلها على دعوته (عليه السلام) لأصحابه المخاطبين إلى جهاد عدوّهم فاثّاقلوا إلى الأرض وآخرها على أن من حقه عليهم أن يجيبوه حين يدعوهم وأن يطيعوه حين يأمرهم، فتدل بوضوح على أن لوليّ الأمر أن يأمر الأمة ويدعوهم إلى الجهاد وأن عليهم إطاعته في هذا الأمر، فدلالتها على ثبوت حق إقامة الجهاد ودعوة الناس إليه لولي الأمر واضحة، وهو المطلوب.
14ـ ومنها قوله (عليه السلام) في خطبة له في أصحابه: أما والذي نفسي بيده ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم ليس لأنهم أولى بالحق منكم ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم وإبطائكم عن حقي، ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها وأصبحت أخاف ظلم رعيّتي، استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سراً وجهراً فلم تستجيبوا، ونصحتُ لكم فلم تقبلوا، أشهود كغيّاب وعبيد كأرباب؟! أتلو عليكم الحِكم فتنفرون منها وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها وأحثّكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرّقين أياديَ سبا... أيها القومُ الشاهدةُ أبدانُهم الغائبةُ عنهم عقولُهم المختلفة أهواؤهم المبتلى بهم أمراؤهم، صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه، لوَدِدتُ والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم[16].
ودلالتها على أن لولي الأمر الذي يطيع الله دعوة الأمة إلى الجهاد واستنفارهم إليه وأن على الأمة استجابة هذه الدعوة واضحة لا تحتاج إلى بيان.
15ـ ومنها قوله (عليه السلام) في كلام له ـ لما خرج بُسر بن أرطاة إلى الحجاز ـ وقد جمع الناس وحضّهم على الجهاد، فسكتوا مليّاً: ما بالكم أمُخرَسون أنتم لا تتكلمون؟! فقال قومٌ منهم: يا أمير المؤمنين، إن سرت سرنا معك، فقال (عليه السلام): ما بالكم لا سُدّدتم لرشدٍ ولا هُديتم لقصد! أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج؟ وإنما يخرج في مثل هذا رجلٌ ممن أرضاه من شجعانكم وذوي بأسكم، ولا ينبغي لي أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض والقضاء بين المسلمين والنظر في حقوق المطالبين ثم أخرج في كتيبة أتبعُ أخرى أتقلقل القدح في الجفير الفارغ، وإنما أنا قطب الرحى تدور عليَّ وأنا بمكاني فإذا فارقته استحار مدارها واضطرب ثفالها، هذا لعمر الله الرأي السوء، والله لولا رجائي الشهادة عند لقائي العدو ـ ولو قد حُمّ لي لقاؤه ـ لقرّبت ركابي ثم شخَصتُ عنكم فلا أطلبكم ما اختلف جنوبٌ وشمالٌ طعّانين عيّابين حيّادين روّاغين إنه لا غناء في كثرة عدوّكم مع قلّة اجتماع قلوبكم، لقد حملتكم على الطريق الواضح التي لا يهلك عليها إلا هالك، من استقام فإلى الجنة ومن زلّ فإلى النار[17].
فترى أنه (عليه السلام) حضّهم أولاً على الجهاد فلم يستجيبوا ولم يتكلّموا، وبعد سؤاله عن ذلك قال قومٌ منهم: إن سرت سرنا معك، فأجابهم (عليه السلام) بأنه لا ينبغي أن أخرج أنا في مثل هذا الدفاع بل اللازم أن يخرج فيه رجلٌ شجاعٌ منكم أرضاه وإن أبقى أنا في مركز الولاية لا في قطب الرحا وتدور عليَّ وأنا بمكاني فإذا فارقته استحار مدارها. ثم ذكر بعد ذلك بعض استخفافهم بأوامره وعدم قيامهم بامتثالثها بحيث لا غنىً في كثرة عددهم مع تلك القلوب المختلفة.
ففيه دلالة واضحة على أن من حق ولي الأمر أن يدعو الأمة ويأمرهم بالجهاد ويعيّن أمير الجند وأن عليهم وجوب الطاعة، وهو المطلوب.
16ـ ومنها كلام له في تعليم الحرب والمقاتلة: معاشر المسلمين، استشعروا الخشية وتجلببوا السكينة... وصلوا السيوف بالخُطا، واعلموا أنكم بعين الله ومع ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فعاودوا الكرّ واستحيوا من الفرّ فإنه عارٌ في الأعقاب ونارٌ يوم الحساب... وعليكم بهذا السواد الأعظم والرواق المطنّب، فاضربوا ثَبَجَه فإن الشيطان كامنٌ في كسره وقد قدم للوثبة يداً وأخّر للنكوص رجلاً، فصمداً صمداً حتى ينجلي لكم عمود الحق ﴿وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾[18].
توضيح بعض لغاته: استشعروا الخشية: اجعلوها شَعاركم، والشعار هو ما يلي البدن من الثياب. تجلببوا: ألبسوا الجلباب، وهو ما يغطى به فوق الثياب. فحاصل المعنى الأمر يجعل خشية الله شعاراً من الباطن والسكينة جلباباً في الظاهر. السواد الأعظم: ما يملأ العين من جند العدو. الرواق ـ ككتاب وغراب ـ : الفسطاط. المطنّب: المشدود بالحبل والطناب. ثَبَجَه: وسطه. كامن: مختف. كِسره ـ بكسر الكاف ـ : شقَّه الأسفل ـ وهو كناية عن الجانب الذي يفر إليه المنهزمون. صمداً: الصمد هو القصد وهو هنا مفعول مطلق أريد منه الأمر، يعني: فاثبتوا على قصدكم. الوثبة: التقدّم إلى الأمام. النكوص: الرجوع إلى العقب. لن يَتِرَهم أعمالهم: لن ينقصهم.
فهو (عليه السلام) في هذه الكلمات علّمهم كيفية الحرب وأنها لا بد وأن تكون بخشية قلبيةٍ من الله وبوقار وسكينة في لقاء العدو وأن تصل سيوف المحاربين بخطوتهم لا ينقطع ولا يتأخر السيف عن الخطوة وأن يهاجموا على وسط جيش العدو، ويعلموا أن عمادهم الشيطان الذي في كمال النكوص إلى الفرار فإنه يثب بيده وينكص رِجله، وهذا، بخلاف المسلمين المحاربين فإن الله معهم وبيده الأمر كلّه مع أنهم بعين الله تعالى ومع ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلن يَتِرَ الله أعمالهم.
فهذا التعليم العظيم منه (عليه السلام) في معركة الحرب يدل على أنه (عليه السلام) ربما كان حاضراً مع جنده المحاربين في المعركة. فعلاوة على أنه (عليه السلام) أمر بالجهاد قد حضر معهم ميدان الحرب.
فبالجملة: فهذه الكلمات المباركات أيضاً تدلّ على ثبوت حق الدعوة إلى الجهاد لولي أمر الأمة.
فهذه موارد سبعة من كلماته المنقولة عنه (عليه السلام) في نهج البلاغة وتمامه مما يدل على ثبوت حق أمر الأمة بالجهاد لولي أمرهم. والإنصاف أن الموارد الأخر الدالة عليه المذكورة فيهما كثيرة جداً لا حاجة إلى ذكرها بل كان تصديه لأمر الدعوة إلى الجهاد زمن ولايته أمراً بديهياً لا يحتاج إلى نقل لفظيٍّ أصلاً.
هذه خلاصة الكلام في القسمين من الأخبار، وقد دلّ جميعها على ثبوت حق الدعوة إلى الجهاد والأمر به لولي أمر الأمة وعلى وجوب إطاعة أمره على المدعوّين، كما وزاد أخبار القسم الأول أنه ليس لغيره الإقدام بالجهاد ولا الدعوة إليه مستقلاً سواء في ذلك رعية ولي الأمر في ولايته أو غيرهم حتى ولاة الأمر الطواغيت.
وبعد ذلك فتوجد أخبار عديدة أخرى تدل على عدم جواز دعوة الجائر إلى الجهاد وعلى عدم جواز الجهاد تحت لوائهم.
1ـ فمنها ما عن الصدوق في علل الشرائع والخصال عن أبي بصير عن أبي عبد الله عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمَن على الحكم ولا ينفذ في الفيء أمر الله عز وجل فإنه إن مات في ذلك المكان كان معيناً لعدوّنا في حبس حقّنا والإشاطة بدمائنا وميتة جاهلية[19].
فإن نفس النهي عن الخروج دليل على الحرمة مضافاً إلى أنها مقتضى ما جعله عقاباً له، وواضح أن من لا يؤمن على الحكم ولا ينفذ في الفيء أمر الله هو الجائر أو من يعيش تحت لوائه، وإذا كان الجهاد معه حراماً فجهاده نفسه دعوته إليه حرام قطعاً.
2ـ ومنها ما رواه الشيخ في التهذيب في المعتبر عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل دخل أرض الحرب بأمان فغزا القوم الذين دخل عليهم قوم آخرون، قال: على المسلم أن يمنع نفسه ويقاتل على حكم الله وحكم رسوله، وأما أن يقاتل الكفار على حكم الجور وسنّتهم فلا يجوز ذلك[20].
فمورد السؤال وإن كان القتال مع أهل الحرب إلا أن موضوع النهي وعدم الجواز المذكور في الجواب هو التقال على حكم الجور وهو عنوان يشمل الجهاد بأمر الطاغوت الجائر فلا محالة يكون حراماً، ويكون أمر الطاغوت وإقدامه به أيضاً حراماً كما لا يخفى.
3ـ ومنها ما رواه في التهذيب أيضاً بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك ما تقول في هؤلاء الذين يُقتلون في هذه الثغور؟ قال: فقال: الويل، يتعجّلون قتلة في الدنيا وقتلة في الآخرة، والله ما الشهيد إلا شيعتنا ولو ماتوا على فرشهم[21].
دلّت على مبغوضية أن يقتل الرجل في الثغور التي كانت لا محالة تحت ولاية ولاة الجور وأنه قتلة متعجلة في الدنيا ثم يتعقّبهم قتلة أخرى في الآخرة عقاباً، فتدلّ على أن القتال تحت لوائهم حرام ولازمه أن أمرهم ودعوتهم إلى القتال وتصدّيهم له حرام بحيث أوجب حرمة اتّباعهم فيه. إلا أن سند الرواية ضعيف.
4ـ ونحو هذه الرواية ما رواه الشيخ في التهذيب بإسناده الصحيح عن عليّ ابن مهزيار قال: كتب رجل من بني هاشم إلى أبي جعفر (عليه السلام) إني كنت نذرت نذراً منذ سنتين أن أخرج إلى ساحل من سواحل البحر إلى ناحيتنا مما يرابط فيه المتطوّعة نحو مرابطتهم بجدّة وغيرها من سواحل البحر، أفترى جعلت فداك أنه يلزمني الوفاء به أو لا يلزمني؟ أو أفتدي الخروج إلى ذلك الموضع بشيء من أبواب البر لأصير إليه إن شاء الله تعالى، فكتب (عليه السلام) إليه بخطّه وقرأته: إن كان سمع منك نذرك أحد من المخالفين فالوفاء به إن كنت تخاف شنعته وإلا فاصرف مانويت من ذلك في أبواب البر، وفّقنا الله وإياك لما يحب ويرضى[22].
فحكمه (عليه السلام) بعدم وجوب الوفاء بنص النذر مع عدم التقية إنما هو لما يستلزمه الرباط من القتال وهو ليس إلا في لواء الجائر فلا يجوز كما مر في بعض أخبار القسم الأول وربما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فالمتحصّل من جميع الأخبار الماضية: أن القتال بغير إذن ولي الأمر أو تحت لوائه غير جائز بلا فرق في ذلك بين الجهاد الابتدائي والدفاعي في الدفاع عن الكفار والبغاة، وإطلاقها ـ لعله ـ يشمل ما إذا أوجب ترك الدفاع ضرراً نفسياً أو مالياً على المسلمين أو خروج بلدة أو بلاد مثلاً عن سيطرة ولاية ولي الأمر.
ـــــــــــــــــ
[1] الكافي: ج5 ص28 الحديث4، التهذيب: ج6 ص141 الحديث2، عنهما الوسائل: الباب10 من أبواب جهاد العدو ج11 ص30 الحديث1.
[2] عن الكافي: ج5 ص43 الحديث1، عنه الوسائل: الباب41 من أبواب جهاد العدو ج11 ص84 الحديث1.
[3] الكافي: ج5 ص30 و 29 و 27 الحديث7 ـ 9و 1، عنه الوسائل: الباب15 من أبواب جهاد العدو ج11 ص43 الحديث1 و 3 و 2 وذيله.
[4]الكافي: ج5 ص30 و 29 و 27 الحديث7 ـ 9و 1، عنه الوسائل: الباب15 من أبواب جهاد العدو ج11 ص43 الحديث1 و 3 و 2 وذيله..
[5] الكافي: ج5 ص30 و 29 و 27 الحديث7 ـ 9و 1، عنه الوسائل: الباب15 من أبواب جهاد العدو ج11 ص43 الحديث1 و 3 و 2 وذيله.
[6] الكافي: ج5 ص7 الحديث7، عن الوسائل: الباب1 من أبواب جهاد العدو ج11 ص9 الحديث14.
[7] عيون أخبار الرضا: الباب35 ج2 ص124، الوسائل: الباب1 من أبواب جهاد العدو ج11 ص11 الحديث24.
[8] الخصال: أبواب المائة فما فوقه ص607 ضمن الحديث9، تحف العقول: ص419، عنهما الوسائل: الباب12 من أبواب جهاد العدو ج11 ص35 الحديث9 و 10.
[9] نفس المصدر.
[10] نهج البلاغة: الخطبة56، تمام نهج البلاغة: الكلام130 ص658 ـ 659.
[11] نهج البلاغة: الخطبة29، تمام نهج البلاغة: الخطبة61 ص507 و513.
[12] نهج البلاغة: الخطبة27، تمام نهج البلاغة: الخطبة61 ص494 ـ 496 و ص509 ـ 510 وص514.
[13] الكافي: ج5 ص4 ـ 6 الحديث6.
[14] معاني الأخبار: باب معاني الألفاظ التي ذكرها في خطبته بالنخيلة ص309 ـ 310.
[15] نهج البلاغة: الخطبة34، تمام نهج البلاغة: الخطبة61 ص503.
[16] نهج البلاغة: الخطبة97، تمام نهج البلاغة: الخطبة61 ص491.
[17] نهج البلاغة: الخطبة119، تمام نهج البلاغة: الكلام154 ص688.
[18] نهج البلاغة: الخطبة66، والآية: 35، من سورة محمد صلى الله عليه وآله.
[19] الخصال: حديث الأربعمائة: ص625، وعلل الشرائع: ص464، الوسائل: الباب12 من أبواب جهاد العدو ج11 ص34 الحديث8.
[20] التهذيب: ج6 ص135 ـ 136، عنه الوسائل: الباب6 من أبواب جهاد العدو ج11 ص20 الحديث3.
[21] التهذيب: ج6 ص126 الحديث3، عنه الوسائل: الباب6 من أبواب جهاد العدو ج11 ص21 الحديث4.
[22] التهذيب: ج6 ص126 الحديث4، عنه الوسائل: الباب7 من أبواب جهاد العدو ج11 ص21 الحديث1.
احدث الاخبار
السيد الحوثي: الاستقرار لن يبقى في المنطقة ما دام الاحتلال مستمر في فلسطين
ثروة باقية؛ المقاومة في لبنان من نشوء الحالة الإسلاميّة إلى التأسيس حتى «طوفان الأقصى»
قائد الثورة الإسلامية: الخلاف بين الجمهورية الإسلامية وأمريكا جوهري، وليس تكتيكيا
التبيين في نهج السيّدة الزهراء عليها السلام*
قيم الحياة الزوجيّة في سيرة أهل البيت عليهم السلام
عمائــــــم سلكت درب الشهادة (1)
الشيخ نعيم قاسم: أمريكا ليست وسيطا نزيها ودعم المقاومة واجب
زوجة القائد"الحاج رمضان" تروي ذكرى من أدب الشهيد قاسم سليماني
العميد نقدي: قدرتنا الصاروخية اليوم أقوى بكثير مما كانت عليه خلال العدوان الصهيوامريكي
الشيخ نعيم قاسم: المقاومة جاهزة للدفاع ولديها ردع يمنع تحقيق العدو لأهدافه
الاكثر قراءة
أحكام الصوم للسيد القائد الخامنئي
ما أنشده الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في حق الإمام الخامنئي
أربعون حديثاً عن الإمام الكاظم (عليه السلام)
أربعون حديثا عن الإمام الهادي (ع)
مختارات من كلمات الإمام الخامنئي حول عظمة السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)
مبادئ الإمام الخميني العرفانية
أربعون حديثاً عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
ماذا يقول شهداء الدفاع عن العقيلة؟.. الشهيد السيد إبراهيم في وصيته: لقد ذهب زمان ذل الشيعة+ صور
شهيد المحراب (الثالث) آية الله الحاج السيد عبد الحسين دستغيب
تقرير مصور عن شهداء الحجاز الذين استشهدوا في جبهات الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية