Skip to main content

الدرس الثاني والثلاثون: حكم الدفاع عن الإسلام وبلاده

التاريخ: 15-05-2010

الدرس الثاني والثلاثون: حكم الدفاع عن الإسلام وبلاده

إلا أنه قد رويت هنا رواية معتبرة رواها الكليني والصدوق وشيخ الطائفة بل وروى قريباً منها قرب الإسناد تدلّ على جواز الدفاع بل وجوبه إذا أوجب تركه ضرراً على المسلمين أو على أساس الإسلام

إلا أنه قد رويت هنا رواية معتبرة رواها الكليني والصدوق وشيخ الطائفة بل وروى قريباً منها قرب الإسناد تدلّ على جواز الدفاع بل وجوبه إذا أوجب تركه ضرراً على المسلمين أو على أساس الإسلام.

 

فقد روى ثقة الإسلام في كتاب الجهاد من الكافي عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك إن رجلاً من مواليك بلغه أن رجلاً يعطي السيف والفرس في سبيل الله، فأتاه فأخذهما منه وهو جاهل بوجه السبيل، ثم لقيه أصحابه فأخبروه أن السبيل مع هؤلاء لا يجوز وأمروه بردّهما، فقال (عليه السلام): فليفعل، قال: قد طلب الرجل فلم يجده وقيل له قد شخص الرجل، قال (عليه السلام): فليرابط ولا يقاتل، قال: ففي مثل قزوين والديلم وعسقلان وما أشبه هذه الثغور؟ فقال (عليه السلام): نعم، فقال له: يجاهد؟ قال (عليه السلام): لا، إلا أن يخاف على ذراري المسلمين، (فقال:) أرأيتك لو أن الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ لهم أن يمنعوهم؟ قال (عليه السلام): يرابط ولا يقاتل، وإن خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل فيكون قتاله لنفسه وليس للسلطان، قال: قلت: فإن جاء العدو إلى الموضع الذي هو فيه مرابط كيف يصنع؟ قال: يقاتل عن بيضة الإسلام لا عن هؤلاء لأن في دروس الإسلام دروس دين محمد (صلى الله عليه وآله)[1].

 

قال الكليني فيه: علي عن أبيه عن يحيى بن أبي عمران عن يونس عن الرضا نحوه[2]. ورواه الصدوق قدس سره في أواخر علل الشرائع في باب نوادر العلل مثله[3]، ولا فرق بين المصدرين إلا أن في العلل (يتابعوهم) بدل (يمنعوهم).

 

ومن الواضح أن المراد من المتابعة هو التعقيب فيتّحد في المعنى مع المنع. وتختلف أيضاً في الجملة الأخيرة فإنها فيها هكذا: (لأن في اندراس الإٍسلام اندراس ذكر محمد (صلى الله عليه وآله)) ثم إن سند العلل أيضاً صحيح فإنه فيه هكذا: (أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله عن محمد بن عيسى عن يونس بن عبد  الرحمن عن أبي الحسن (عليه السلام)).

 

ثم إن سوق عبارة الحديث ربما يقتضي تعبير السائل عن نفسه بصيغة المتكلم إلا أنه عبّر عن نفسه في الغالب بصيغة الغائب وهو لا يضر بالمعنى كما هو واضح.

 

ورواه الشيخ في التهذيب في باب المرابطة في سبيل الله عز وجل بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار عن محمد بن عيسى عن يونس قال: سأل أبا الحسن (عليه السلام) رجل وأنا حاضر فقال له: جعلت فداك إن رجلاً من مواليك بلغه أن رجلاً يعطي سيفاً وفرساً في سبيل الله فأتاه فأخذهما منه، ثم لقيه أصحابه فأخبروه أن السبيل مع هؤلاء لا يجوز وأمروه بردّهما، قال (عليه السلام): فليفعل، قال: قد طلب الرجل فلم يجده وقيل له قد شخص الرجل، قال (عليه السلام): فليرابط ولا يقاتل، قلت: مثل قزوين وعسقلان والديلم وما أشبه هذه الثغور؟ قال (عليه السلام): نعم، قال: فإن جاء العدوّ إلى الموضع الذي هو فيه مرابط كيف يصنع؟ قال (عليه السلام): يقتال عن بيضة الإسلام، قال: يجاهد؟ قال (عليه السلام): لا، إلا أن يخاف على ذراري المسلمين، قلت: أرأيتك لو أن الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ لهم أن يمنعوهم؟ قال (عليه السلام): يرابط ولا يقاتل، فإن خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل فيكون قتاله لنفسه لا للسلطان لأن في دروس الإسلام دروس ذكر محمد (صلى الله عليه وآله)[4]. وإسناد الشيخ إلى الصفار صحيح.

 

وهي على هذه النسخة أيضاً متّحدة المضمون ـ كما ترى ـ مع ما سبقاها، وعمدة الفرق أن جميع الأسئلة إلا اثنين منها من ذلك الرجل لا من يونس بن عبد الرحمن إلا أن لا يوجب فرقاً في المعنى بعد وحدة الجواب.

 

وروى عبد الله بن جعفر الحميري في (قرب الإسناد في باب قرب الإسناد عن الرضا (عليه السلام)) فقال: وحدّثني محمد بن عيسى قال: أتيت أنا ويونس بن عبد الرحمن باب الرضا (عليه السلام) وبالباب قوم قد استأذنوا عليه قبلنا، واستأذنا بعدهم وخرج الإذن فقال: ادخلوا ويتخلّف يونس ومن معه من آل يقطين، فدخل القوم وتخلّفنا، فما لبثوا أن خرجوا وأذن لنا، فدخلنا فسلّمنا عليه فردّ السلام ثم أمرنا بالجلوس فقال له يونس بن عبد الرحمن: يا سيدي تأذن لي أن أسألك عن مسألة؟ فقال له: سل.

 

فقال له يونس: أخبرني عن رجل من هؤلاء مات وأوصى أن يدفع من ماله فرس وألف درهم وسيف إلى رجل يرابط عنه ويقاتل في بعض هذه الثغور، فعمد الوصي فدفع ذلك كله إلى رجل من أصحابنا، فأخذه وهو لا يعلم أنه لم يأت لذلك وقت بعد، فما تقول؟ أيحلّ له أن يرابط عن هذا الرجل في بعض هذه الثغور أم لا؟ فقال: يردّ على الوصيّ ما أخذ منه ولا يرابط، فإنه لم يأن لذلك وقت بعد، فقال: يردّه عليه، فقال يونس: فإنه لا يعرف الوصي ولا يدري أين مكانه، فقال له الرضا (عليه  السلام): يسأل عنه، فقال له يونس بن عبد الرحمن: فقد سأل عنه فلم يقع عليه، كيف يصنع؟ فقال (عليه السلام): إن كان هكذا فليرابط ولا يقاتل، فقال له يونس: فإنه قد رابط وجاءه العدو وكأن أن يدخل عليه في داره فما يصنع؟ يقاتل أم لا؟ فقال له الرضا (عليه السلام): إذا كان ذلك كذلك فلا يقاتل عن هؤلاء ولكن يقاتل عن بيضة الإسلام، فإن في ذهاب بيضة الإسلام دروس ذكر محمد (صلى الله عليه وآله).

 

فقال له يونس: يا سيدي إن عمك زيداً قد خرج بالبصرة وهو يطلبني ولا آمنه على نفسي، فما ترى لي أن أخرج إلى البصرة أو أخرج إلى الكوفة؟ قال (عليه السلام): بل اخرج إلى الكوفة، فإذا فصر إلى البصرة.

 

قال: فخرجنا من عنده (عليه السلام) ولم نعلم معنى (فإذا) حتى وافينا القادسية، حتى جاء الناس منهزمين يطلبون يدخلون الدور، (البدو ـ قرب الإسناد) وهزم أبو السرايا ودخل برقة الكوفة، واستقبلنا جماعة من الطالبيّين بالقادسية متوجهين نحو الحجاز، فقال لي يونس: (فإذا) هذا معناه، فصار من الكوفة إلى البصرة ولم يبدأه بسوء[5].

 

فهذا النقل قد زاد على ما سبق بذكر مقدمة ومؤخرة لا أثر لهما لما نحن فيه، والسائل فيه هو يونس بن عبد الرحمن وينقل الأسئلة والأجوبة محمد بن عيسى نفسه بلا واسطة إذ كان هو أيضاً حاضراً في ذلك المجلس فيوجب قلّة الواسطة.

 

فهذه الروايات قد تضمّنت أسئلة وأجوبة كانت الأسئلة كلّها من يونس ونقلها لمحمد بن عيسى بحسب نقل الكليني والصدوق، وبعضها من رجل آخر، وبعضها من يونس الحاضر في المجلس بنقل الشيخ، وفيه أيضاً أن يونس نقل الأمر كله لابن عيسى، وكانت الأسئلة كلها من يونس وكان محمد بن عيسى نفسه حاضراً يسمع السؤال والجواب بنقل الحميري في قرب الإسناد.

 

إلا أن هذا كله لا يوجب غمزاً في الحديث بعد كونهما ثقتين، والمهم هو فقه الحديث، فقد تضمن صدر الحديث أن أصحابنا كانوا يقولون بأن السبيل مع هؤلاء لا يجوز، وقد صحّح الإمام (عليه السلام) مقالتهم هذه بقوله (عليه السلام): (فليفعل) فإن معناه الأمر برد ما أخذه من السيف والفرس إلى من أعطاه لأن السبيل مع هؤلاء لا يجوز، ومن المعلوم أن المشار إليه بهؤلاء وهو ولاة الجور المتصدّون لإدارة البلاد الإسلامية حينذاك كما أن السبيل هو الجهاد والقتال وإن كان في مصداق الدفاع الذي ربما يفعله المرابطون فصدر هذا الحديث مؤكّد لما دلّ عليه ما سبقه من الآيات والأخبار.

 

فبعد هذا المنع لما لم يمكن رد ما أخذ إلى من أعطاه والمفروض أن الآخذ كان قد تعهّد الرباط أذن (عليه السلام) بل أمر بأن يرابط ونهاه مجدّداً أيضاً عن أن يقاتل، وإلى هنا تتحد فيه الأنواع الثلاثة لنقل الحديث.

 

وبعد ذلك فقد تضمن نقل المشايخ الثلاثة جواز بل وجوب أن يجاهد إذا خاف على ذراري المسلمين، وهذا الخوف يكون لا محالة من هجوم الكفار على ثغور بلاد الإسلام بحيث يخاف ورود ضرر مالي أو نفسي على ذراري المسلمين، وذيل الحديث بناءاً على جميع المصادر قد تضمن أمر الإمام (عليه السلام) بأن يقاتل عن بيضة الإسلام وعلّله بأن في دروس الإسلام أو اندراسه دروس ذكر محمد (صلى الله عليه وآله) أو اندراس ذكره، وقد عطف في نسخ المشايخ الثلاثة (المسلمين) على (الإسلام) إلا أن بيضة الإسلام لما كانت أساس الإسلام كما مر تفسيرها به عن ابن إدريس في السرائر وعن غيره وأساس الإسلام هو بعينه أساس المسلمين فلا يزيد ذكره شيئاً خاصاً على الظاهر.

 

وبالجملة: فالمستفاد من هذه الرواية المعتبرة السند تجويز بل وجوب قتال مع الكفار إذا هاجموا بلد الإسلام بحيث خيف ضرر على المسلمين أو خيف على بيضة الإسلام وأساسه، فهذا القتال الذي هو في الحقيقة أحد قسمي الدفاع واجب حتى في زمن الطاغوت وإن لم يستأذن فيه ولي أمر المسلمين، لكنه كما صرّح به الإمام (عليه السلام) وأكّده يجب بما أنه قتال ودفاع لنفسه وعن الإسلام لا بما أنه قتال تحت لواء الجائر، فانظر عبارة الإمام حيث قال (عليه السلام) فيه: (فيكون قتاله لنفسه وليس للسلطان) أو (يقاتل عن بيضة الإسلام لا عن هؤلاء) أو (فلا يقاتل عن هؤلاء ولكن يقاتل عن بيضة الإسلام) فهذا التأكيد تأكيد وإصرار على بيان شدة حرمة الجهاد تحت لواء الطواغيت.

 

ثم إن مورد هذه الصحيحة كما ذكرنا هو دفع الكفار في زمن الطاغوت، فلو فرض حدوث ما فرضه الإمام (عليه السلام) في زمن ولي الأمر المعصوم (عليه السلام)، بأن كانت القوى الدفاعية لولي الأمر غير حاضرة وهجم الكفار على بلد من بلاد المسلمين وخيف منهم على ذراري المسلمين هناك أو على أساس الإسلام في هذه الناحية فالظاهر أنه يستفاد من الصحيحة وجوب قيام المسلمين بأنفسهم في وجههم وقتالهم وإن لم يستأذنوا الإمام في خصوص المورد، وذلك أن المستفاد منها أن عروض هذا الخوف ـ إن لم يقوموا بصدد الدفاع والقتال ـ هو العلة التامة لوجوب القيام بالقتال وهي بعينها موجودة في الفرض زمن ولايته (عليه السلام) أيضاً، فحينئذ أيضاً يقاتل عن بيضة الإسلام وعن ذراري المسلمين، إلاّ أنّ من الواضح أنّ هذا الجواز أو الوجوب وعدم تأخير الأمر إلى تحصيل الإذن عن ولي الأمر إنما هو لاستلزامه وقوع ضرر على بيضة الإسلام أو ذراري المسلمين، وإلا فوجوب كون القتال مطلقاً بأمر ولي الأمر أو إذنه مسلّم، والتزاحم هنا أوجب القيام بالقتال الدفاعي بلا تحصيل إذن منه، وحينئذ فإنما يرفع اليد عن ذاك الواجب الآخر بمقدار الضرورة، فاللازم على المسلمين في حين أنه يجب عليهم القيام بالدفاع فاللازم معه أيضاً أن يعلنوا الأمر إلى ولي الأمر لكي يكون دوام الدفاع وكيفيَّته تحت أمره وكيفما أراد، وهذا ما ذكرناه أول البحث ونقلنا طرفاً منه من كلمات الأصحاب قدس سرهم.

 

ثم لو فرض حدوث بغي طائفة من الرعية العصاة فبغوا ولم تكن القوى المسلحة موجودة واستلزم تأخير أمر الدفاع عنهم إن يرد ضرر على ذراري المسلمين أو خيف على خروج هذه الناحية عن إدارة ولي الأمر ولو مؤقتاً فلا يبعد أن يقال بوحدة حكمه مع ما سبقه من هجوم الكفار، وذلك لما أشرنا إليه من أن المستفاد من الصحيحة أن العلة التامة لوجوب القتال أن لا يقع ضرر على ذراري المسلمين أو على بيضة الإسلام ولا خصوصية قطعاً لأن يكون منشأ هذا الضرر الكفار فيجري الحكم في الدفاع عن البغاة أيضاً، إلا أنه يجب هنا أيضاً إعلام الحادثة بالسرعة إلى ولي الأمر ليكون بقاء الدفاع تحت أمره لما عرفت.

 

فهذه الصحيحة بمدلولها الواضح حجة معتبرة على عدم وجوب أمر الإمام ولا إذنه في الدفاع المزبور، وهي خاص مطلق يخصّص بها إطلاق أدلة اعتبار إذن الإمام وأدلة حرمة القيام بالقتال إذا لم يكون إذن فيه، إلا أنها كما عرفت لا تنفي وجوب القيام بكمال السرعة إلى إعلام الأمر لولي الأمر أو المنصوب من قبله ليكون بقاء الدفاع تحت أمره وكيفما أراد.

 

بل يمكن النقاش في اقتضاء الإطلاقات للمنع عن القيام بالقتال الدفاعي ضد الكفار أو البغاة في مفروض الكلام، وذلك لما عرفت من أن وكول أمر القتال إلى ولي الأمر ليس أمراً حديثاً أبدعه الإسلام بل هو أمر يعتقد به العقلاء أنفسهم فيرون أن أمر القتال في كل أمة وأهل بلد موكول إلى ولي أمر هذه الأمة إلا أنهم مع ذلك يرون الدفاع عن هجمة المهاجمين أو الباغين على حكومتهم المرضية لازماً، فهذا الأمر اللازم قد أوكل إلى ولي الأمر وهو من حقوقه وليس لغيره الاستقلال به إلا أنه مع ذلك فإن حدث الهجوم من خارج بلادهم أو من بغاة لا يرضونه وكان ولي الأمر غائباً في محل الحادث بحيث خيف على بعض الرعية أو على انفضاض دائرة الولاية المرضية لهم ـ ولو موقّتاً ـ فهم يرون حينئذ على أنفسهم أن يقوموا بقتال المهاجمين من البغاة، إلا أنهم أيضاً يرون هذا الوجوب أمراً مضطرّاً إليه ولذلك فيرون الإقدام بإعلام الحادثة إلى ولي الأمر لازماً كما مر وذلك أنه مقتضى تحقق المزاحمة على ما عرفت.

 

وحينئذ، فإذا كان أمر وجوب إيكال أمر القتال إلى ولي الأمر عند العقلاء هكذا وألقى إليهم تلك الأدلة الدالة على هذا الإيكال في الشريعة الإسلامية أيضاً فلا يفهمون العقلاء أنفسهم من هذه الأدلة الشرعية إلا أن شارع الإسلام أيضاً يمضي ما هو عليه بناء العقلاء ولا يفهمون منه إلا ولاية في حدود ما عليه بناؤهم فلا يفهمون منه المنع عن القتال الدفاعي في الفرض المزبور.

 

وكيف كان، فهذا هو وضع الإطلاقات فلا تدل على منع القيام بالدفاع في هذا الفرض، ولو سلّمت دلالتها فلا ريب في أن الصحيحة المتقدّمة دليل معتبر على تقييدها كما عرفت.

 

ثم من الواضح أن الفرض المذكور إنما يمكن تصويره في القتال الدفاعي بقسميه وأما الجهاد الابتدائي فلا يتصوّر فيه لأن المفروض فيه أن القتال يبتدأ به من ناحية المسلمين وإلا فلا حادثة أصلاً.

 

فالحاصل: أن مقتضى الأدلة وكول أمر القتال مطلقاً إلى ولي الأمر وحرمة القيام به استقلالاً إلا في الفرض المزبور في خصوص القتال الدفاعي بالنحو المذكور.

 

ولا يوجد فيما وصل إلينا من الأخبار ما يوهم الخلاف إلا روايات ثلاث:

 

إحداها: ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى بن علي بن الحكم عن أبي عمرة السلمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأله رجل فقال: إني كنت أكثر الغزو وأبعد في طلب الأجر وأطيل الغيبة فحجر ذلك عليَّ فقالوا: لا غزو إلا مع إمام عادل فما ترى أصلحك الله؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن شئت أن أجمل لك أجملت، وإن شئت أن ألخّص لك لخّصت، فقال: بل أجمل، قال: إن الله عز وجل يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة قال: فكأنه اشتهى أن يلخّص له، قال: فلخّص لي أصلحك الله، فقال: هات، فقال الرجل: غزوت فواقعت المشركين فينبغي قتالهم قبل أن أدعوهم؟ فقال: إن كانوا غزوا وقوتلوا (وقتلوا ـ خ يب) وقاتلوا فإنك تجتري (تجتزي ـ خ يب) بذلك، وإن كانوا قوماً لم يغزوا ولم يقاتلوا فلا يسعك قتالهم حتى تدعوهم، قال الرجل: فدعوتهم فأجابني مجيب وأقرّ بالإسلام في قلبه فجير عليه في الحكم وانتهكت حرمته وأخذ ماله واعتدي عليه فكيف بالمخرج (بالخروج ـ خ يب) وأنا دعوته؟ فقال: إنكما مأجوران على ما كان من ذلك، وهو معك يحوطك (يحفظك ـ خ يب) من وراء حرمتك ويمنع قبلتك ويدفع عن كتابك ويحقن (يحفظ ـ خ يب) دمك خيرٌ من أن يكون عليك، يهدم قبلتك وينتهك حرمتك ويسفك دمك ويحرق كتابك[6].

 

ورواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن أبي عمرة السلمي مثله إلا في بعض الكلمات التي أشرنا إليه[7].

 

فمورد سؤاله ـ في أول كلامه ـ هو جواز الغزو مع غير الإمام العادل، وحينئذ فالجواب الإجمالي عنه بقوله (عليه السلام) (إن الله يحشر الناس على نيّاتهم) فيه دلالة واضحة على جوازه إن كانت نيّته حسنة، كما أنه جوابه الملخّص حاصله بيان شرط الجهاد بالدعوة إلى الإسلام ولو كان القوم المقاتلون دُعوا إليه قبلاً بدليل سبق غزوهم فلا يشترط جوازه بالدعاء إليه. ثم صرّح (عليه السلام) بأن هذا الذي قوتل إذا أقر بالإسلام ثم انتهكت حرمته فمع ذلك أيضاً هو ومن قاتله مأجوران.

 

وبالجملة: فالإنصاف أن دلالة الرواية على الجواز واضحة لا سبيل إلى إنكارها، إلا أن سندها ضعيف فإن أبا عمرة السلمي مجهول ولم يعمل بالرواية أحد بعد ما عرفت من إجماع الأصحاب على أن الجهاد مع الجائر حرام بل إن أمر الجهاد مفوض إلى ولي الأمر الذي هو الإمام العادل (عليه السلام).

 

وثانيهما: كلام عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ في نهج البلاغة ـ وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم: وقد توكل الله لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة وستر العورة، والذي نصرهم وهم قليلٌ لا ينتصرون ومنعهم وهم قليلٌ لا يمتنعون حيٌّ لا يموت، إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب لا تكن للمسلمين كانفةٌ دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجعٌ يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً مِحرَباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس ومثابةً للمسلمين[8].

 

توضيح بعض ألفاظه: الكانفة: عاصمة يلجأون إليها. الحفز: هو الدفع والسوق الشديد. الرِدء: الملجأ المثابة: المرجع.

 

فقد شاوره عمر بن الخطاب المتصدي لأمور المسلمين جوراً وطغياناً، وأشار إليه بان يبعث لهذا الغزو رجلاً مِحرَباً ويكون هو نفسه عاصمة يلجأون إليها ومرجعاً وملجأ للناس، ففيه دلالة واضحة على جواز تصدي الجائر للحرب بل وعلى جواز أن يشارك الناس معه وتحت لوائه في هذا الغزو. فهو معارض للأخبار بل الآيات الماضية.

 

ولكن الحق فيه أن يقال: إنه لا ريب في كون عمر جائر بل له الدور الأصيل في غصب الولاية الإسلامية، كما لا ريب في أن أمير المؤمنين (عليه السلام) وأصحابه الكرام قاموا بصدد بيان غضبه وجوره كما مر بعض الإشارة إليه في أوائل الكتاب ولكنه كان ـ عملاً ـ ملجأً للمسلمين وبيده إدارة أمر بلادهم وكان المسلمون يجاهدون جهاداً ابتدائياً لتوسعة الإٍسلام ودعوة الكفار إليه، فمعه لا محالة يكون كلام الأمير (عليه السلام) هاهنا ـ بملاحظة هذه الجهة الثانية ونصيحة الإسلام والمسلمين وبياناً لما ينبغي أن يكون عليه ولي أمرهم ـ دلالة على أن أمر الحرب والجهاد بيد ولي الأمر.

 

وبالجملة: فلا أقل من أنه لا دلالة في كلامه (عليه السلام) هذا على الخلاف أصلاً.

 

وثالثها: ما في نهج البلاغة من كلام له (عليه السلام) وقد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه: إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة، وهو دين الله الذي أظهره وجنده الذي أعده وأمدّه حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع، ونحن على موعود من الله والله منجز وعده وناصر جنده، ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرَز يجمعه ويضمّه، فإن انقطع النظام تفرّق الخرَزَ وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً، والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع، فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض (مع أهل مكة والمدينة إلى أهل البصرة والكوفة ثم قصدت بهم عدوّك ـ خ تمام) انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك (من العيالات ـ خ تمام) (ثم ذكر (عليه السلام) له ـ على ما في التمام ـ مقدار إعزام الجند من أهل البصرة والكوفة والشام وعمان وسائر الأمصار، ثم قال:) إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكَلَبهم عليك وطمَعهم فيك، فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك وهو أقدر على تغيير ما يكره (فثق بالله ولا تيأس من رَوح الله ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾[9] ـ خ تمام). وأما ما ذكرت من (كثرة ـ خ تمام) عددهم فإنا لم نقاتل فيما مضى (على عهد نبينا (صلى الله عليه وآله) ولا بعده ـ خ تمام) بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة (فأقم بمكانك الذي أنت فيه وابعث من يكفيك هذا الأمر، والسلام ـ خ تمام نهج البلاغة)[10].

 

وكيفية استفادة المعارضة من هذا الكلام والجواب عنهما هي عين ما مر في كلامه السابق، وكلامه المبارك هذا أيضاً يدل على أن أمر الجهاد بيد القيّم بالأمر الذي هو عبارة أخرى عن ولي الأمر، وموضوع كلامه (عليه السلام) فيه هو القتال الشامل بإطلاقه للابتدائي منه وغيره، وإن كان هذا القتال للفرس ـ بقرينة قوله (عليه السلام): (فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين) ـ قتالاً دفاعياً عن هجمة الكفار إلا أنه كما مر مراراً غير مانع عن إرادة الإطلاق.

 

فتحصل بحمد الله تعالى أن المستفاد من الأدلة كتاباً وسنةً أن أمر القتال الابتدائي منه والدفاعي بقسميه إلى ولي الأمر وأن على الأمة والرعية أن يطيعوه، والقيام بالقتال من ولاة الجور أو من بعض الأمر مستقلاً في زمن أخذ الأمر فيه بيد ولي الأمر الإلهي حرام، كما أن الحضور في مثل هذا القتال لجميع الناس أيضاً حرام، نعم إذا هجم الكفار أو البغاة على ناحية من بلاد الإسلام مع عدم حضور قوى ولي الأمر وكان تأخير الدفاع إلى أن يطّلع عليه ولي الأمر فيعزم الجند مستلزماً لورود ضرر مالي أو نفسي على المسلمين أو موجباً للخوف على بيضة الإسلام أو خروج ناحية عن دائرة ولاية أمر ولي الأمر ولو موقتاً فيجب على المسلمين حينئذ القيام بأنفسهم بالقتال الدفاعي في حين الاستباق إلى إعلام الأمر لولي الأمر ليكون أمر بقاء الدفاع وكيفيته بأمره المبارك.

 

 ـــــــــــــــــ

 

[1] الكافي: ج5 ص21 الحديث2، عنه الوسائل: الباب6 من أبواب جهاد العدو ج11 ص19 الحديث2.

 

[2] نفس المصدر.

 

[3] علل الشرائع: ص603 ـ 604، عنه الوسائل: الباب6 من أبواب جهاد العدو ج11 ص19 الحديث2.

 

[4] التهذيب: ج6 ص125 الحديث2، عنه الوسائل: الباب6 من أبواب جهاد العدو ج11 ص19 الحديث2.

 

[5] عن قرب الإسناد: ص345 ـ 346 الحديث1253 طبع مؤسسة آل البيت عليهم السلام، عنه الوسائل: الباب7 من أبواب جهاد العدو ج11 ص21 الحديث2.

 

[6] الكافي: ج5 ص20 ـ 21 الحديث1، عنه الوسائل: الباب10 من أبواب جهاد العدو الحديث2.

 

[7] التهذيب: ج6 ص135 الحديث4، عنه الوسائل: المصدر السابق.

 

[8] نهج البلاغة: الخطبة134، تمام نهج البلاغة: الكلام89 ص610.

 

[9] يوسف: 87.

 

[10] نهج البلاغة: الخطبة146، تمام نهج البلاغة: الكلام90 ص611.

 

 

 

احدث الاخبار

الاكثر قراءة