Skip to main content

الدرس الرابع والخمسون: مصرف الجزية

التاريخ: 09-12-2010

الدرس الرابع والخمسون: مصرف الجزية

المسألة الخامسة: في أنّه هل للجزية مصرف خاصّ أم هي كالخراج تتعلّق بعموم المسلمين؟   فقد ذكر المفيد (قدس سرّه) في المقنعة أنّها لمن قام مقام المهاجرين ويجوز صرفها في سائر مصالح المسلمين

المسألة الخامسة: في أنّه هل للجزية مصرف خاصّ أم هي كالخراج تتعلّق بعموم المسلمين؟

 

فقد ذكر المفيد (قدس سرّه) في المقنعة أنّها لمن قام مقام المهاجرين ويجوز صرفها في سائر مصالح المسلمين. ومثله سلاّر في المراسم. وجلعها ابن إدريس في السرائر لهم وجوّز صرفها في الفقراء والمساكين من غيرهم، وخصّها غيرهم من سائر الأعلام الّذين مضت كلماتهم بمن قام مقام المهاجرين عهد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن اختلفت تعبيراتهم. فالشيخ في النهاية وابن البرّاج في المهذّب وابن حمزة في الوسيلة والمحقّق في المختصر النافع جعلوها لمن قام مقام المهاجرين. والشيخ في المبسوط والحلبي في إشارة السبق جعلاها للمهاجرين، وأبو الصلاح الحلبي في الكافي وابن زهرة في الغنية والكيدري في إصباح الشيعة جعلوها لأنصار الإسلام. والعلاّمة في الإرشاد والتذكرة والمنتهى جعلها للمجاهدين. والتعبيرات الأربع كما ترى ترجع إلى معنى واحد. وقد مضى أنّه قال العلاّمة في أواخر بحث المهادنة من القواعد: «وما يؤخذ صلحاً أو جزيةً فهو للمجاهدين ومع عدمهم لفقراء المسلمين» فقد جعلهما للمجاهدين ومع عدمهم لفقراء المسلمين، وهو كما ترى قول رابع.

 

فهذه أقوال أربعة لهؤلاء الأعاظم الأعلام (قدس سرّهم) في مصرف الجزية وعبارات أكثرهم القريب من الكلّ صريحة في أنّ ما حكموا به هو حكم الجزية بعد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي زماننا، وعبارة الآخرين مطلقة بحيث لا مجال لاختصاص ما ذكروه بزمن بسط يد الإمام (عليه السلام) بل يستفاد منها أنّ الحكم المذكور هو حكم الإسلام في مصرف الجزية وإن كان أمر مصرفها كسائر ما يتعلّق بإدارة أمر المسلمين بيد الإمام المعصوم (عليه السلام) وبعده أيضاً لمن جعل الله أمر المسلمين بيده من مثل فقيهٍ جامع للشرائط تولّى وتصدّى إدارة أمورهم. فما في الجواهر من اختصاص كلامهم أو كلام بعضهم بزمن بسط اليد غير مقبول.

 

وبالجملة: فحكم مصرف الجزية أيضاً كأحد الأحكام الأُخر المتعلّقة بولاية أمر المسلين.

 

هذا هو مقتضى التأمّل في كلمات الفقهاء، وأمّا مقتضى الأدلّة:

 

فكتاب الله الكريم لم يتعرّض لسوى ما في آية الجزية بقوله تعالى: ﴿حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ﴾ وهو كما ترى إنّما يدلّ على وجوب إعطائهم للجزية من دون بيان لمصرفها أصلاً.

 

وأمّا الروايات:

 

1ـ فقد روى الشيخ في التهذيب بسندٍ صحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن سيرة الإمام في الأرض الّتي فُتحت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد سار في أهل العراق بسيرةٍ فهي امام لسائر الأرضين. وقال: إنّ أرض الجزية لا تُرفع عنهم الجزية، وإنّما الجزية عطاء المهاجرين، والصدقات لأهلها الّذي سمّى الله في كتابه، ليس لهم في الجزية شيء. ثُمّ قال ما أوسع العدل!! إنّ الناس يتّسعون إذا عدل فيهم وتُنزل السماء رزقها وتخرج الأرض بركتها بإذن الله تعالى[1].

 

ورواه الصدوق في من لا يحضره الفقيه في باب الخراج والجزية عن محمّد ابن مسلم عنه (عليه السلام) مثله، إلاّ أنّ فيه: «إنّ أرض الجزية لا تُرفع عنها الجزية، وإنّما الجزية عطاء للمجاهدين»[2]. هذا والفرق كما ترى لا يوجب تفاوتاً في المعنى إلاّ أنّه يدلّ عنوان «المهاجرين» بـ«المجاهدين» وسيأتي إن شاء الله أنّهما هنا مساقان نعم في ذيل الوسائل المحشّاة بحاشية الشيخ الربّاني أنّ في الفقيه: «عطاء المجاهدين والأنصار» فلعلّ مفاده يختلف مع نسخة التهذيب إلاّ أن يفسّر الأنصار بمن ينصر المجاهدين فلا يبعد منها لا أن يفسّر بالأنصار الّذين هم مقابل المهاجرين في الكتاب الكريم وبعض الأخبار فإنّه لا وجه له هنا، لكنّ نسخة الفقيه المصحّحة المطبوعة أخيراً خالية عنه ولا يكون في تلك النسخة المشار إليها اعتبار وحجّية فلا تصير معارضة لما في التهذيب.

 

مضافاً إلى أنّ في إسناد الصدوق إلى محمّد بن مسلم الثقفي عليّ أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه، وهما كما قاله صاحب جامع الرواة غير مذكورَين.

 

ثُمّ إنّ الوسائل اسند هذه الصحيحة إلى نقل الكافي أيضاً لكنّها لم توجد فيه.

 

2ـ وقد روى الكليني في كتاب الزكاة باب صدقة أهل الجزية بسندٍ معتبر ـ فيه سهل بن زياد ـ عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنّ أرض الجزية لا تُرفع عنها الجزية، وإنّما الجزية عطاء المهاجرين، والصدقة لأهلها الّذين سمّى الله في كتابه وليس لهم من الجزية شيء. ثُمّ قال: ما أوسع [الله ـ خ ل] العدل؟! إنّ الناس يستغنون إذا عدل بينهم وتنزل السماء رزقها وتخرج الأرض بركتها بإذن الله تعالى[3]. ورواه الشيخ في التهذيب في باب الزيادات عن الكليني[4].

 

والعبارة كما ترى موافقة لما رواه التهذيب عن أبي جعفر (عليه السلام) ذيل الحديث الماضي الذكر آنفاً. والمشهور بين الأعلام أنّ أمر سهل سهل لكثرة نقل الكليني في الكافي عنه الّتي يكشف عن الاعتماد عليها. وكيف كان فاللازم هو البحث عن مفاد الصحيحة.

 

فقد قال الباقر (عليه السلام) على ما في صحيح التهذيب، والصادق (عليه السلام) على ما في معتبر ابن أبي يعفور المرويّ في الكافي والتهذيب: «وإنّما الجزية عطاء المهاجرين» ومفاده أنّ الإسلام قد جعل الجزية عطاءاً لهم أعطاهم الله بها وفضّلهم بها على غيرهم، وعقّبا (عليهما السلام) هذه الجملة بقولهما: «والصدقات (أو: والصدقة) لأهلها الّذين سمّى الله في كتابه وليس لهم من الجزية شيء». وتوصيف أهل الصدقات بقولهما: «الّذين سمّى الله في كتابه» فيه دلالة واضحة على أنّ المراد بالصدقات هي زكاة الأموال المفروضة الّتي قال الله تعالى في كتابه فيها: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا... الآية﴾ فقولهما (عليهما السلام): «ليس لهم من الجزية شيء» يدلّ دلالة قويّة على أنّه ليس للفقراء والمساكين في الجزية حقّ أصلاً. هذا.

 

والمهاجرون الّذين جعلت في هذين المعتبرين الجزية عطاءاً لهم طائفة معروفة عند المسلمين مذكورة في الكتاب الكريم ولسان أولياء الدين بأوصاف فاضلة خاصّة يعرفهم المسلمون بها وعرّفهم الإسلام العزيز بها، فمن باب النموذج فقد قال الله تعالى فيهم: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[5] فجعل الله المهاجرين من السابقين الأوّلين وذكرهم أوّلاً وقبل الأنصار ووصف الآخرين بوصف اتّباعهم للسابقين، فلا محالة مرتبتهم متأخرة، وقد حكم لجميعهم أنّ الله رضي عنهم وأعدّ لهم الخلد في الجنات وأنّهم قد رضوا عن الله تعالى وعدّ الله هذا المقام بأنّه الفوز العظيم إلى غير ذلك من الآيات المباركات.

 

ثُمّ إن المهاجرة كانت ممّا جعل الله مأموراً بها، فقد قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾[6].

 

فحكم على الّذين آمنوا ولم يهاجروا بأنّه ليس للمؤمنين بالنسبة إليهم ولاية أصلاً حتّى يهاجروا، وقد فسّر نفي هذه الولاية لهم في بعض الأخبار بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يجعل لهؤلاء الّذين لم يهاجروا حقّ الإرث من المهاجرين إرث الإخاء؛ فقد روى الصدوق في العيون عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنّه لمّا سأله هارون الرشيد عن مسائل منها السؤال عن أنّه لِمَ يقول الأئمّة المعصومون (عليهم السلام) بأنّهم أهل البيت ورثوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعمّه العبّاس لم يرث وهو بعد كان حيّاً حين موت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فبعد تأكيد هارون على الجواب وذكر جواب أوّل له قال هارون: زدني يا موسى، قلت [والقائل هو الإمام الكاظم (عليه السلام)]: المجالس بالأمانات وخاصّة مجلسك، قال: لا بأس عليك، فقلت: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يورث مَن لم يهاجر ولا أثبت له ولاية حتّى يهاجر، فقال: ما حجّتك فيه؟ قلت: قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ﴾ وإنّ عمّي العبّاس لم يهاجر[7].

 

وقد روى في تفسير البرهان روايات أخر أنّ الصادق والباقر (عليهما السلام) أيضاً فسّرا الولاية المنفية بهذا المعنى[8] فراجع.

 

ولعلّ هذه المهاجرة بهدف أن يكثر المسلمون أوائل ظهور الإسلام بمهاجرتهم عن أوطانهم واجتماعهم في بلدةٍ واحدة كانت هي المدينة المشرّفة لكي يدفعوا عن الإسلام إذا هجم عليه الكفّار والمشركون وليكونوا جنداً مجنّداً يهاجم بهم ويجاهد على الكفّار، ولعلّه لذلك ورد في صحيح منصور بن حازم ـ المروي في الكافي ومن لا يحضره الفقيه وأمالي الصدوق ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في حديث: «لا هجرة بعد الفتح»[9] فيراد من الفتح فتح مكّة المكرّمة، ونفي الهجرة بعد فتحها إنّما يكون بملاحظة أنّه بعد فتحها قد كثر جمع المسلمين وذهب من البين العدوّ الأصيل للإسلام وهو مشركو مكّة بل انقلبوا مسلمين وأصبحوا من عسكر الإسلام، فلذلك لا تكون المهاجرة بعد فتحها مطلوبة فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا هجرة بعد الفتح». بخلافها قبل الفتح.

 

وكيف كان، فهؤلاء المهاجرون الّذين كانت لهم هذه الفضائل قد أوقفوا أنفسهم لنصرة الدين الحنيف الّذي كان محتاجاً إلى النصرة شديداً آن ذاك، فلذلك قد جعل هذه النصرة للدين من أوصافهم وكالهدف من مهاجرتهم حيث قال الله تعالى في وصفهم في سورة الحشر: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[10].

 

فالآية الأولى تصف المهاجرين بوصفين: أحدهما أنّهم ابتغوا ويبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وهذا الوصف راجع إلى ما كانوا يبتغون لأنفسهم من نيل المقامات العالية بإتّباع الإسلام بعد تعلّم أحكامه ومعالمه. وثانيهما أنّهم ينصرون الله ورسوله، وهذه الصفة عبارتها الأخرى أنّهم أوقفوا أنفسهم لخدمة الدين الحنيف ويكون مصداقها البيّن أنّهم يجاهدون في لواء الإسلام  وإمامة النبيّ الأكرم في دفع مَن يهاجم على الإسلام ثُمّ يكونون تحت أمره فيجاهدون جهاداً ابتدائيّاً لدعوة الناس إلى الإسلام وخروجهم عن الكفر.

 

والآية الثانية شرحٌ لحال الأنصار الّذين آمنوا قبل مهاجرة أولئك وتبوّؤا لهم الدار ويحيّونهم وربما جعلوهم أقدم على أنفسهم.

 

كما أنّ الآية الثالثة بيان حال مَن جاء بعدهم وآمنوا بالرسول ودخلوا في الإسلام العزيز.

 

وقال تعالى أيضاً في وصف المهاجرين والأنصار: ﴿لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[11].

 

فوصف كلتا الطائفتين بأنّهما اتّبعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ساعة العسرة، ولا محالة هي ساعات يحوم الأعداء في حدوث الشدائد.

 

وبالجملة: فالجهاد للدين الحنيف وصفٌ بيّنٌ للمهاجرين يصفهم القرآن به ويذكره أحد الهدفين الأصيلين من مهاجرتهم ولا محالة كان المسلمون أيضاً يعرفونهم بهذا الوصف الأصيل.

 

فإذا قال الإمام (عليه السلام): «إنّما الجزية عطاء المهاجرين» كان المفهوم منه أنّ الجزية قد جعلت عطاء جهادهم ودفاعهم عن الإسلام وحيث إنّ التعرّض لهذا الحكم يكون في لسان الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) وقد تفضّلا بزيادة بيان أنّ أهل الصدقات الواجبة لا نصيب لهم من الجزية بل حقّهم هو مجرّد تلك الصدقات يعلم من كلامهما، أنّهما ليسا في مقام بيان صرف ما كان حكماً في أوّل الإسلام بل غرضهما بيان حكم الإسلام الحكم الدائمي الجاري بعد تلك الأوائل وفي زمانهما وزماننا أيضاً، ويشهد لهذا العموم أيضاً صدر صحيح التهذيب المروي عن الباقر (عليه السلام) فإن السائل سأل أوّل الأمر عن حكم الأراضي المفتوحة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي زمن الخلفاء الثلاث وأجابه الإمام (عليه السلام) بسيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في أرض العراق الّتي من تلك الأراضي، فيعلم من هذه القرينة أيضاً أنّ الحكم المعطوف عليه في الجزية أيضاً حكم دائمي يكون حكماً عملياً للإسلام بعد وفاة الرسول الأعظم والأئمّة (عليهم السلام) أيضاً.

 

فمن هذه المقدّمة نعرف أنّ المراد بالمهاجرين ليس خصوص أولئك الأشخاص بل كلّ مَن أوقف نفسه لخدمة الإسلام والجهاد فيه، فتدلّ الصحيحتان على أنّ مصرف الجزية هم المجاهدون في سبيل الله وتكون نسخة المهاجرين متحدة المعنى لنسخة المجاهدين الّتي نقلها من لا يحضره الفقيه.

 

والظاهر أنّ الأصحاب أيضاً فهموا هذا المعنى من الصحيحة: فإنّ العلاّمة ـ مثلاً في المنتهى استدلّ لقوله بأنّ مصرف الجزية مصرف الغنيمة سواء المجاهدين بصحيحة محمّد بن مسلم ناقلاً لها عن الشيخ وهي صحيح التهذيب ولم يزد على مجرّد نقل الحديث لفظاً وهو لا يكون إلاّ لانفهام العموم على ما بيّنّاه.

 

وهكذا أنّ التعبير بأنّ الجزية لمن قام مقام المهاجرين كما عرفت التعبير به في كلمات جمع كثير من القدماء إشارة إلى أنّه لا خصوصية لأعيان المهاجرين الّذين عاشوا زمن النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بل الجزية إنّما هو لمن يفعل فعلهم ويجاهد في لواء الإسلام دفاعاً أو ابتداء.

 

وحينئذٍ فحمل كلماتهم على أنّهم بصدد بيان حكم زمن بسط يد الإمام المعصوم (عليه السلام) ـ على ما ربما يستظهر من الجواهر [12]ـ  فبعيدٌ جدّاً ومخالفٌ لظواهر كلماتهم وللمستفاد من الأخبار بعد التدبّر فيها.

 

ثُمّ إنّه قد مضى عن العلاّمة في التذكرة والمنتهى أنّه استدلّ أيضاً لإثبات أنّ الجزية للمجاهدين بقوله: ولأنّه مالٌ أخذ بالقهر والغلبة فيكون مصرفه المجاهدين كالغنيمة في دار الحرب.

 

ونحن بعد التتبّع الأكيد لم نقف على دليل يستفاد منه الكلّية المذكورة وأدلّة اختصاص غنيمة دار الحرب بمن قاتل عليها وغنمها مختصّة بنفس الغنيمة المنقولة وليس فيها شائبة عموم بل إنّ من الأموال المأخوذة بالغلبة الأراضي المفتوحة عنوةً، وقد عرفت أنّها لا تختصّ بالمقاتلين بل هي من أموال عامّة المسلمين، فالحقّ أنّ الدليل منحصر في الصحيحتين.

 

ثُمّ إنّ الصحيحتين على ما عرفت صرّحتا بأنّه ليس لأهل الصدقة والزكاة الواجبة الّذين منهم الفقراء والمساكين من الجزية شيء بل إنّما لهم الصدقات، كما أنّ ظاهر قولهما: «إنّما الجزية عطاء المهاجرين» انحصار مصرفها بهم لا يجوز صرفها في غيرهم، وحينئذٍ فتجويز صرفها في سائر مصالح المسلمين ـ على ما مرّ من المقنعة والمراسم ـ أو في الفقراء والمساكين ـ كما عرفته من السرائر ـ خلاف ظاهر الصحيحتين وصريحهما.

 

قال صاحب الرياض ـ بعد ذكر كلام الشيخ في النهاية بأنها لمن قام مقام المهاجرين وكلام ابن إدريس بجواز إعطائها للفقراء والمساكين ـ: والنصّ كما ترى خالٍ من ذلك كلّه بل صريح في أنّ الفقراء والمساكين ليس لهم منها شيء، ولعلّه لم يذكره الشيخ ولا الماتن مع موافقتهما له فيما عداه، ولعلّ مستندهم فيما ذكروه الإجماع أو نصّ لم نقف عليه، ويمكن الاستدلال لهم بنوع من الأخبار[13].

 

وأنا أقول: أمّا قول الشيخ في النهاية فقد عرفت عدم اختصاصه به، بل إن جمعاً كثيراً من الأصحاب قد أفتوا فتواه، وقد مرّت دلالة الصحيحتين على صحّة قولهم فلا حاجة لهم إلى دليل آخر من إجماع أو غيره، وأمّا قول ابن إدريس فهو ممّا تفرّد به في ما تتبّعناه، وحيث إنّه خلاف الأخبار المعتبرة المعمول بها فلا مجال لتقويته ولا للقول به. ثُمّ نحن لم نعرف شيئاً من هذا النوع من الأخبار الّتي أشار إليه.

 

ثُمّ إنّ مقتضى الصحيحتين وإن كان اختصاص الجزية بالمجاهدين المعبّر عنهم المهاجرين وعموم المهاجرين شامل لكلّ مَن جاهد في سبيل الله على ما عرفت من البيان إلاّ أنّه قد قامت أخبار معتبرة على عدم تعلّقها بمن يكون بدوياً ساكناً في البدو وإنّما يشترك في الجهاد ما احتيج إلى اشتراكه ودعاء أولياء الأمور إلى هذا الاشتراك.

 

1ـ ففي صحيح الحلبي ـ المروي في من لا يحضره الفقيه ـ قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأعراب أعليهم الجهاد؟ فقال: ليس عليهم جهاد إلاّ أن يخاف على الإسلام فيستعان بهم، فقال: فلهم من الجزية شيء؟ قال: لا[14].

 

2ـ وفي صحيح هشام بن سالم ـ المرويّ في الكافي ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الأعراب علهم جهاد؟ قال: لا، إلاّ أن يخاف على الإسلام فيستعان بهم، قلت: فلهم من الجزية شيء؟ قال: لا[15].

 

فهاتان الصحيحتان دلّتا على عدم وجوب الجهاد على الأعراب إلاّ عند الضرورة وعلى أنّهم ليس لهم من الجزية شيء، والأعراب ـ على ما في التبيان ومجمع البيان ـ هم الّذين يسكنون البدو إذا كانوا مطبوعين على العربية، وفي لسان العرب: الأعرابي: البَدَويّ، وهم الأعراب، والأعاريب جمع الأعراب، وفيه أيضاً: قال ـ الأزهريّ ـ والأعراب: ساكنو البادية من العرب الّذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلاّ لحاجة، والعرب: هذا الجيل: لا واحد له من لفظه، وسواء أقام بالبادية والمدن؛ والنسبة إليهما أعرابي وعَرَبي... قال: والعَرَب: أهل الأمصار، والأعراب منهم سكّان البادية خاصّة[16].

 

فحاصل مفاد الصحيحتين: أنّه ليس لمستوطن البوادي من جيل العرب شيء من الجزية، ولا يبعد أن يستفاد منهما أنّ الجزية مختصّة بمن كان مستعدّاً للشركة في الجهاد الابتدائي أو الدفاعي ولا تعمّ مَن هو مشتغل بأعماله الشخصيّة وإنّما يستعان به في الجهاد إذا حصل الاضطرار. وبعبارة أخرى أنّ كون الإنسان من جيل العرب وساكناً للبادية لا موضوعية به بل المسلم الّذي ليس من جيل العرب إذا سكن البادية كان حكمه حكم الأعراب، وهكذا المسلم سواء كان من العرب أو من العجم إذا سكن الأمصار إلاّ أنّه لم يكن معدّاً للشركة في أمر الجهاد ولو كان لاختصاص الاشتراك في الجهاد بطائفة خاصّة هم القوى المسلّحة كما في زماننا هذه فلا يجب على مثله في غير موارد الاضطرار الجهاد وليس له من الجزية شيء.

 

فإذا لاحظنا الصحيحتين وطبّقناهما على مثل زماننا كان الحاصل المستفاد منهما أنّ الجزية من الأموال المختصّة بالقوات المسلّحة ليس منها لغيرهم شيء، وهكذا أن الاشتراك في الجهاد يكون من وظائف هذه القوات إلاّ في مواقع الاضطرار واستعانة أولياء الأمور بغيرهم أيضاً.

 

ممّا ذكرنا نعرف أنّ الحكمين المذكورين لا يختصّان بخصوص مَن كان في زمن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أو في زمن الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) بل هما حكمان للإسلام دائميّان كسائر أحكامه.

 

وعدم اختصاصهما بزمن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) واضح فإنّ الإمام الصادق (عليه السلام) صرّح بأنّهما حكم الإسلام حتّى في زمانه (عليه السلام)، وأمّا عدم اختصاصهما بزمن حضور المعصومين (عليهم السلام) فلأنّه مقتضى دليلهما كسائر الأحكام.

 

ويشهد لتعميم الأمر بحسب الأزمان والأجيال رواية حمّاد بن عيسى المرسلة المعمول بها عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فقد جاء فيها وليس للأعراب من الغنيمة شيء وإن قاتلوا مع الإمام، لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صالح الأعراب أن يدعهم في ديارهم ولا يهاجروا على أنّه إن دهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من عدوّ دهمٌ أن يستنفرهم فيقاتل بهم وليس لهم في الغنيمة نصيبٌ وسنّته جارية فيهم وفي غيرهم[17].

 

فهو (عليه السلام) قد حكى حديث مصالحة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لجمع من الأعراب على شرط خاصّ، إلاّ أنّه استفاد منها وأفاد أن «ليس للأعراب من الغنيمة شيء إن قاتلوا مع الإمام» فلم يذكر في هؤلاء الأعراب الّذين يعيشون لا محالة بعد الرسول الأعظم عقد هذا الصلح معهم وهم جماعة غير أولئك، وصرّح في ذيل الكلام بقاعدة كلّية هي قوله (عليه السلام): «وسنّته جارية في غيرهم بمعنى أنّ مورد سنّته وإن كان أعراباً خاصّاً إلاّ أنها جارية في غيرهم ممّن كانت أوصافهم أوصاف أولئك الأعراب أيضاً، فكلّ مَن كان في البادية ولم يكن في عداد أهالي الأمصار فلا يجب عليه الحضور في الجهاد وليس له إذا قاتل مع وليّ الأمر في الغنيمة نصيب، فغير العرب أيضاً إذا كانوا ساكنين في البوادي حكمهم حكم أولئك الأعراب، وهو دليل على عموم مفاد سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كما بيّنّاه.

 

بل إنّ هذه السيرة إذا لوحظت في مثل زماننا الّذي يكون أمر الجهاد إلى قوات خاصّة مسلحة استُفيد منها أنّ مَن كان من العرب أو العجم مستوطناً في الأمصار إلاّ أنّه مشتغل بأعماله الشخصية وليس من القوى المسلحة فلا يجب الجهاد عليه إلاّ عند الاضطرار والاستعانة به، وأنّه إذا اشترك في الجهاد فلس له من الغنيمة نصيب.

 

وقريب من هذه المرسلة في الدلالة على التعميم بلحاظ مجرّد الأزمان صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي الواردة في محاجّة أبي عبد الله (عليه السلام) لقوم من المعتزلة حيث استدلّ بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأعراب الّتي صالحهم على أن لا يشتركوا في الجهاد إلاّ في مواقع الضرورة وأن لا يكون لهم إذا اشتركوا أيضاً في الغنيمة نصيب على أنّ سيرته تجري بعده في مطلق الأعراب[18].

 

وبالجملة: فالمستفاد من الصحيحتين ما ذكرناه من التعميم وهاتان الروايتان أيضاً تشهدان له، والله العالم.

 

وأمّا ما ربما يستفاد من مرسل الدعائم عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد (عليهما السلام) أنّه سئل عن الأعراب هل عليهم جهاد؟ قال: لا إلاّ أن ينزل بالإسلام أمر ـ وأعوذ بالله ـ يحتاج فيه إليهم. وقال: ليس لهم من الفيء شيء ما لم يجاهدوا»[19] حيث يمكن أن يقال: إنّ قوله في آخر الحديث: «ما لم يجاهدوا» يدلّ بالمفهوم أنّ الأعراب إذا جاهدوا فلهم من الفيء نصيب، فهو على تسليمه معارضة له لصحيح عبد الكريم وحديث حمّاد إذ الفيء ظاهر في ما رجع إلى القاتلين بالقتال والظفر بالعدوّ ولا يشمل الجزية أصلاً مع أنّه مرسل لا اعتبار بسنده ولا اعتماد أصلاً.

 

وليكن هذا تمام الكلام في البحث عن الجزية. والحمد لله رب العالمين.

 

 ــــــــــــــــــ

 

[1] التهذيب: ج5 ص118.

 

[2] من لا يحضره الفقيه: ج2 ص53، أخرجها عنه وعن التهذيب بل وعن الكافي الوسائل: الباب 69 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص117 الحديث2.

 

[3] الكافي: ج3 ص568 التهذيب: ج4 ص134، أخرجه الوسائل عنهما وعن المفيد في المقنعة مرسلاً في الباب69 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص116 الحديث1.

 

[4] الكافي: ج3 ص568 التهذيب: ج4 ص134، أخرجه الوسائل عنهما وعن المفيد في المقنعة مرسلاً في الباب69 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص116 الحديث1.

 

[5] التوبة: 100.

 

[6] الأنفال: 72.

 

[7] تفسير البرهان: ج2 ص718، عن العيون: ج1 ص81 الحديث9.

 

[8] تفسير البرهان: ج2 ص719ـ 720.

 

[9] الكافي: ج5 ص443، الفقيه: ج3 ص359، الأمالي: المجلس60 ص309، عنها الوسائل الباب5 من أبواب ما يحرم بالرضاع ج14 ص290 الحديث1، وراجع أيضاً: الباب36 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص77 الحديث7.

 

[10] الحشر: 8ـ10.

 

[11] التوبة: 117.

 

[12] الجواهر: ج21 ص262.

 

[13] الرياض: ج7 ص490.

 

[14] الفقيه: ج2 ص53، عنه الوسائل: الباب69 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص117 الحديث3.

 

[15] الكافي: ج5 ص44، عنه الوسائل: الباب41 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص86 الحديث4.

 

[16] لسان العرب: مادّة «عرب».

 

[17] الوسائل: الباب41 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص85 الحديث2.

 

[18] الكافي: ج5 ص26، الوسائل: الباب 41 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص85 الحديث3.

 

[19] المستدرك: الباب 36 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص96 الحديث5.

 

احدث الاخبار

الاكثر قراءة