Skip to main content

الدرس السادس والخمسون: الأمر الخامس والسادس والسابع من الأموال العامة

التاريخ: 08-01-2011

الدرس السادس والخمسون: الأمر الخامس والسادس والسابع من الأموال العامة

الخامس من الأموال الّتي هي بمنزلة الأموال العامّة   هي أموال الناس والأمّة الزائدة على ما يحتاجون إليه في معاشهم   والمراد بها أنّ الله تعالى وسّع على الأمّة ـ إذا لم يقم عليهم دولة حقّة ـ بعد أداء ما أوجب الله عليهم من الفرائض المالية كالزكاة والخمس أن ينفقوا أموالهم فيما شاؤوا من المصارف المشروعة وكيف شاؤوا بل وأن يكنزوا ما لا حاجة لهم به، فإذا قامت الدولة الحقّة الإسلامية فقد أوجب عليهم إعانة هذه الدولة بأموالهم الّتي لا حاجة لهم بها بل ربما يكنزونها، فهذه الأموال أموال للأشخاص لا لعامّة الأمّة إلاّ أنّها يجب على مالكيها أن يجعلوها بيد وليّ الأمر ليصرفها في سدّ النوائب ويستعين بها في جميع ما يراه بمصلحة المسلمين من أمور واجبة كالجهاد أو أمور مندوبة كسائر المصالح

الخامس من الأموال الّتي هي بمنزلة الأموال العامّة

 

هي أموال الناس والأمّة الزائدة على ما يحتاجون إليه في معاشهم

 

والمراد بها أنّ الله تعالى وسّع على الأمّة ـ إذا لم يقم عليهم دولة حقّة ـ بعد أداء ما أوجب الله عليهم من الفرائض المالية كالزكاة والخمس أن ينفقوا أموالهم فيما شاؤوا من المصارف المشروعة وكيف شاؤوا بل وأن يكنزوا ما لا حاجة لهم به، فإذا قامت الدولة الحقّة الإسلامية فقد أوجب عليهم إعانة هذه الدولة بأموالهم الّتي لا حاجة لهم بها بل ربما يكنزونها، فهذه الأموال أموال للأشخاص لا لعامّة الأمّة إلاّ أنّها يجب على مالكيها أن يجعلوها بيد وليّ الأمر ليصرفها في سدّ النوائب ويستعين بها في جميع ما يراه بمصلحة المسلمين من أمور واجبة كالجهاد أو أمور مندوبة كسائر المصالح.

 

وحيث إنّ من البديهي في الشرع أنّ كلّ أحد هو مسلّط على جميع أمواله وأنّه لا يحلّ مال امرئٍ مسلمٍ إلاّ بطيبة نفسه ـ كما في صحيحة زيد الشّحام وموثّقة زرعة [1]ـ وأنّه لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه ـ كما عن صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف على ما في صحيح أبي الحسن محمّد بن جعفر الأسدي [2]ـ فلا محالة أنّ الحكم المذكور خلاف القواعد المسلّمة لا يجوز القول به إلاّ بدليل معتبر يقيّد به تلك المطلقات ويخصّص به العمومات.

 

وهذا الدليل هو ما رواه الكليني في آخر أبواب الزكاة من الكافي عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن محمّد بن سنان عن معاذ بن كثير قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: موسّع على شيعتنا أن ينفقوا مما في أيديهم بالمعروف، فإذا قام قائمنا حرم على كلّ ذي كنز كنزه حتّى يأتيه به فيستعين به على عدوّهن وهو قول الله عَزّ وجَلّ: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[3].

 

ورواه الشيخ في التهذيب في باب الزيادات من كتاب الزكاة بعد باب الأنفال مثله، إلاّ أنّ جملته الأخيرة هكذا: «حتّى يأتوه به يستعين به»[4] ولم يذكر الآية المباركة.

 

وسند الحديث في التهذيب المطبوع هكذا: محمّد بن الحسن الصفّار عن الحسن بن الحسن ومحمد بن عليّ بن محبوب وحسن بن عليّ ومحسن بن عليّ ابن يوسف جميعاً عن محمّد بن سنان عن حمّاد بن طلحة صاحب السابريّ عن معاذ بن كثير بيّاع الأكسية عن أبي عبد الله (عليه السلام)[5].

 

أقول: في بعض نسخ التهذيب المطبوع جديداً بتعليق الغفّاري: محمّد بن الحسن الصفّار عن الحسن بن الحسين ومحمد بن علي بن محبوب وحسن بن عليّ وحسن بن عليّ بن يوسف جميعاً... إلى آخره وذكر في تعليقه أنّ حسن بن علي ابن يوسف في بعض النسخ صحّف بمحسن بن عليّ بن يوسف[6]. وقد ذكر نسختي الحسن بن الحسن والحسن بن الحسين في الصدر كنسختي حسن ومحسن في الذيل الشيخ الربّاني في تعليقته على الوسائل[7]، فراجع.

 

وكيف كان، فالكلام تارةً في سند الحديث وأخرى في دلالته:

 

أمّا السند فسند الكافي لا ريب في ثقة رجاله إلاّ في محمّد بن سنان فإنّ فيه كلاماًُ كثيراً من أصحابنا الأعاظم ولعلّ المعروف فيه تضعيفه، إلاّ أنّه ليس ببعيد أن يكون من الثقات كما صرّح به الشيخ المفيد في الإرشاد وهو ما عن شيخ الطائفة في كتاب الغَيبة، وقد حكى توثيقه عن الحسن بن عليّ بن شعبة صاحب تحف العقول وذلك لما ورد من روايات معتبرة السند في تجليل الإمام الجواد (عليه السلام) له وإظهار رضاه عنه، ولا يبعد أن يكون سرّ تضعيفه أنّه كان يروي في شأن الأئمّة (عليهم السلام) فضائل يعدّونها غلوّاً في حقّهم، ولذلك حكى عنه أنّه كان يجلس هو وصفوان بن يحيى بمسجد الكوفة وهو يقول للناس: «مَن كان يريد المعضلات فإليَّ ومَن أراد الحلال والحرام فعليه بالشيخ» يعني صفوان بن يحيى.

 

ولتوضيح حاله أكثر من ذلك راجع قاموس الرجال[8].

 

فبالجملة: فالحديث بنقل الكافي معتبر السند.

 

وأمّا سند التهذيب فإسناد الشيخ إلى الصفّار القدر معتبر، كما أنّ  محمّد بن عليّ بن محبوب وحسن بن عليّ بن يوسف الّذي هو حسن بن علي بن يوسف بن وضّاح ثقتان، لكن محسن بن علي بن يوسف غير مذكور في كتب الرجال، وهو لعلّه يقوّي تصحيف تلك النسخة، وأما حسن بن علي فإن كان حسن بن عليّ ابن يقطين كان ثقة إلاّ أنّه لا شاهد معتبر عليه، وهكذا الكلام في الحسن بن الحسن بل والحسن بن الحسين، وإن قيل بأنّ الحسن بن الحسين هو اللؤلؤي الكوفي فلا دليل عليه كذلك لكونه مشتركاًَ بيه وبين مَن لم تثبت وثاقته، إلاّ أنّ هذه الجهالات غير مضرّة بعد اتفاق النسخ في محمّد بن عليّ بن محبوب الثقة.

 

وقد عرفت وثاقة محمّد بن سنان، وأمّا حمّاد بن طلحة صاحب السابري فهو غير مذكور في كتب الرجال، والمذكور هو حمّاد بن أبي طلحة بيّاع السابري، وعن النجاشي أنّه كوفي ثقة، فإن قلنا بأنّ النسخة غلط والصواب حمّاد بن أبي طلحة سهل الأمر، وغلط النسخة وإن كان محتملاً كما ذكره جامع الرواة في بعض آخر من الروايات في ترجمة حمّاد بن أبي طلحة إلاّ أنّ فيه قرينة على ما أفاد ولا قرينة عليه هنا، بل إنّه (قدس سرّه) في ترجمة معاذ بن كثير قال: «محمّد بن سنان عن حمّاد ابن طلحة صاحب السابري عن معاذ بن كثير بيّاع الأكيسة في باب الزيادات بعد باب الأنفال» وهو هذا الحديث فتراه نقله كما هنا بلا تعرّض لقدح أصلاً.

 

فمن ذلك كلّه يُعلم أنّ سند التهذيب لا يثبت اعتباره لجهالة حمّاد بن طلحة.

 

وأمّا دلالته فعبارة صدر الحديث بحسب كلا النقلين واحدة وواضحة الدلالة على تجويز تصرّف جميع شيعتهم في أموالهم في المصارف المشروعة المعروفة بل وعلى تجويز جعل ما لا يحتاجون إلى صرفها كنزاً مذخوراً، إلاّ أنّ ذيله حرّم عليهم إبقاء كنوزهم على ما كانت عليه إذا قام قائمهم، ولا ريب أن قيام قائمهم إنّما هو بتصدّيه لإدارة أمر الأمّة الإسلامية الّذي هو عبارة أخرى عن تولّيه لأمر الأمّة وأعمال الولاة الّتي جعلها الله تعالى لهم، فمعنى الذيل أنّه إذا صارت ولاية القائم منهم فعلية حرم على كلّ ذي كنز كنزه حتّى يأتي القائم بكنزه ويستعين به في المصارف الولائية، فلا يخرج أحد عن هذه الحرمة إلاّ بأداء كنزه إليه ليصرفه تلك المصارف، وهو ما قدّمناه.

 

فالكنز وإن كان كنزاً لهم إلاّ أنّه يحرم عليهم كنزهم إلاّ أن يأتوا به ويجعلوه تحت يده ليصرفه في المصارف الّتي تحتاج إلى صرف المال، فهو وإن كان مالاً لهم إلاّ أنّه يجب أداؤها إلى الإمام القائم بالأمر (عليه السلام).

 

ثُمّ إنّ موضوع الحكم حيث إنّه كنزهم وحكم عليه بحرمة إبقائه تحت أيديهم فحكم الحرمة فيه نظير سائر الموضوعات الّتي تعلّق بها حكم الحرمة في أنّ ظاهرها أنّها حكمٌ تكليفيٌ إلهي مثل حرمة شرب الخمر وأكل الميتة وغيرهما من المحرّمات، فإنشاء الحرمة إنّما كان من الله تعالى ابتداءاً لا أنّ هنا جعل ضريبة مثلاً من وليّ أمر الأمّة بل حرّم الله تعالى بقاء الكنوز تحت أيديهم حتّى يأتوا وليّ الأمر بها، فليس مفاد الحديث من باب جعل الضرائب في شيء بل مفاده بيان منبع مالي آخر بشرح ما مضى.

 

ثُمّ إنّ موضوع الحكم فيه هو الكنز، والكنز كما فسّروه في باب الخمس هو المال المذخور في مكانٍ مناسب كأن يجعل تحت الأرض وفي أزمنتنا يجعل في المصارف المعدّة لحفظها، وقد فسّره أرباب اللغة أيضاً بذلك، فلا محالة هو مالٌ لا يحتاج مالكه إلى صرفه في إمرار معاشه فيجعله في محلٍّ يحفظ ويدّخر لما إذا حصلت له حاجة به، فلا محالة لا يعمّ الكنز الأموال الّتي يتّجر بها وإن كانت تجارة واسعة كثيراً حتّى إن كانت سعة التجارة أزيد ممّا يحتاج إليه في معيشته ومعيشة مَن يتعلّق به، فهذه الأموال وإن كانت في الكثرة والسعة بمكان عالٍ فلا يطلق عليها عنوان الكنز.

 

وحينئذٍ فهنا مجال السؤال عن أنّ الحكم المذكور في الحديث هل يختصّ بالكنز أم يجري في كلّ ما لا حاجة لمالكه إلى صرفه في معاشه ومعاش مَن يتعلّق به؟ وأرى أنّ الجواب الصحيح هو الاختصاص، وذلك أنّ عنوان موضوع الحكم لا يشمله، ومن المحتمل اختصاص الحكم به ولو بعناية احتمال أنّه إذا كانت أموال شخص أموالاً تصرف في تجارة بتلك الوسعة الّتي ذكرناها، فلمجال أن سعة التجارة توجب حصول الاشتغال وتأمين ما يحتاج إليه العيش لجمعٍ كثير من الأمّة لهم ارتباط بموادّ أو توليدات هذه التجارة الوسيعة ومن المصالح المرعية لزعيم الأمة أن يراعي سد حاجات الناس في معيشتهم، فلذلك ربما لا يكون على صاحب تلك التجارة الواسعة أن ينزع رأس ماله في التجارة الوسيعة، فبعد هذه الاحتمال ينسدّ باب إلغاء الخصوصية، وبما أنّ حكم الحديث كما عرفت خلاف القواعد الأولية كان مقتضى القواعد عدم جواز أخذ غير الكنوز من أموالهم، إلاّ أنّه مع ذلك كلّه فالإمام القائم بالأمر (عليه السلام) أعلم بوظيفته الإلهية.

 

ثُمّ إنّ غاية الإتيان بهذه الأموال عند وليّ الأمر حيث إنّه أن يستعين به فلا محالة تقيّد حرمة الإبقاء ووجوب الإتيان بها لديه بما إذا كان لوليّ الأمر حاجة لا طريق إلى تحصيلها إلى صرف الأموال فيستعين بكنزهم في تحصيل هذه الحاجة، ولا محالة إذا لم تكن له حاجة كذائية فلا دلالة للحديث على وجوب الإتيان بالكنوز لديه، وهو واضح.

 

ثُمّ إنّ الحديث المذكور حديث واحد نقله معاذ بن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام) والهدف من إتيان الكنوز عنه قد جعل في نقل التهذيب مطلق «أن يستعين به» وهو صادق على الاحتياج إليه في أي مصرف مرتبط بالأمّة بلا اختصاص بمصرف خاصّ، إلاّ أنّ نقل الكافي هو أن «يستعين به على عدوّه» والعدوّ إمّا عدوّ في حدود المملكة الإسلامية من البغاة وأمثالهم وإمّا عدوّ مستوطن خارجها فلا محالة يكون مصرفه الجهاد أو الدفاع ولا يعمّ المصارف العمومية الأخر، وحيث إن سند الكافي هو المعتبر فلا محالة إنّما قام الدليل على اعتبار مفاد نقله والمتبع في غير مورد الجهاد والدفاع هي القواعد الأولية المقتضية لعدم جواز أخذ مال الغير من دون رضاه، بل إنّ فرضنا اعتبار سند التهذيب أيضاً فحيث إنّ الحديث حديث واحد فلا محالة يكون النقلان في غير مورد الجهاد والدفاع متعارضين، فالحجّة إنّما تقوم على مورد الاجتماع، وفي مورد الافتراق لم تقم حجّة على رفع اليد عن القواعد فيجب الأخذ بمقتضاها.

 

ثُمّ إنّه قد يقال باختصاص حكم الحديث بخصوص الشيعة وذلك لأنّهم موضوع حكم جواز مصرف أموالهم وإنفاقها في المعروف في صدر الحديث، وجملة «فإذا قام قائمنا... إلى آخره» أيضاً تفريع على هذا الصدر فلا محالة يختصّ حكم الذيل أيضاً بهم.

 

لكنّ الظاهر هو التعميم وذلك لوجهين:

 

أحدهما: دعوى أنّ ذكر الشيعة في الحديث إنّما هو لتسلّم أنّ الشيعة تابعون لهم (عليهم السلام) في جميع الأزمنة قاموا بالأمر أم لم يقوموا، فلذلك إنّما ذكر أوّل الحديث بملاحظة أنّهم تابعون لحكومتهم وأعمال ولايتهم، فإذا قاموا بأعمال الولاية فكلّ مَن هو تحت نظام الولاية لا محالة تابعون لهم، فلا يبقى حينئذٍ فرق بين مَن كان شيعيّاً ومَن لم يكن، فالكلّ تابعون، وعلى الكلّ تأمين ما يحتاج وليّ الأمر في سد نائبة إلى ما بلا فرق أصلاً.

 

وثانيهما: أنّ جواب الشرط «فإذا قام قائمنا» هو قوله (عليه السلام): «حرّم على كلّ ذي كنز كنزه حتّى يأتيه به» فقد وقع العموم في الجواب وأنه يحرم على كلّ ذي كنز كنزه ويجب عليه أن يأتي به فلم يخصّص حرمة البقاء ووجوب الإتيان بخصوص الشيعة بل هما متعلّقان بكلّ ذي كنز، ويعمّ هذا العموم الشيعة وغيره.

 

ثُمّ إنّ موضوع الحديث هو أن يقوم قائمهم حيث عبّر عنه بقوله (عليه السلام): «فإذا قام قائمنا» ومن المعلوم أن قائمهم إنّما هو الإمام المعصوم منهم الّذي وقع في كلام الرسول والأئمّة (عليهم السلام) البشارة بقيامه فلا محالة لا يعمّ الوليّ الفقيه الّذي يقوم بأعماله الولاية في زمن الغَيبة:  نعم أداء المال في زمن قيام القائم لا يتعيّن أن يكون إلى نفسه بل يجوز أداؤه إلى مَن جعله وكليلاً عن نفسه من ولاة البلاد والعمّال لكنّه كما لا يخفى غير أداء المال إلى الفقيه القائم بالأمر زمن الغَيبة.

 

ثُمّ إنّ المذكور في الحديث وإن كان مجرّد حرمة بقاء الكنوز تحت أيدي مالكيها ووجوب الإتيان بها إلى الإمام القائم بالأمر ولا دلالة له أصلاً على أنّ هذه الكنوز تخرج عن ملك مالكيها خلافاً لما في بابي الخمس والزكاة وفي تعلّق دَين لأحد بذمّة آخر إلاّ أنّه مع ذلك فإذا لم يعملوا صاحب الكنوز بوظيفة الإتيان بها فمن باب الأمر بالمعروف يأمرهم وليّ الأمر بامتثال وظيفتهم هذه ويلزمهم عليه بل إن لم يقوموا أنفسهم بأدائها يؤخذ منهم قهراَ عليهم، فإنّ جميع مراتب الأمر بالمعروف بيد ولي الأمر كما أشرنا إليه في مباحثنا السابقة.

 

ولابدّ من العناية لأنّ مفاد الحديث حيث إنّه غير مبتلىً فلم يتعرّض العلماء الأخيار لمفاده وهو لا يحكي عن إعراضهم عنه بل إن لم يعملوا به فلعلّه مستند إلى مسيرهم إلى ضعف سنده، فلا دليل على إعراضهم عن حديث معتبر السند والأدلّة مقتضية لاعتباره.

 

وفي الختام لا بأس بالتذكّر لنكتة هي: أنّ المستفاد من الحديث وجوب أعانة وليّ الأمر بالمال المذكور في دفع العدوّ وفي الجهاد لكنّه لا يلازم أن لا يبقى بعد أداء هذه الأموال حاجة لوليّ الأمر إلى أموال أخر للتوصّل إلى نفس هذين الهدفين فضلاً عن الأهداف الأخر المحتاجة أيضاً إلى إنفاق المال فيها، فمنه تعرف أنّ الوجوب المستفاد من هذا الحديث لا يوجب امتثاله أن لا يبقى لوليّ الأمر حاجة إلى أموال أخر أيضاً، وعليه فهذا الحديث لا يرفع موضوع جعل الضريبة على الأمّة بغاية الوصول بها إلى أموال يحتاج ولي الأمر لإدارة أمر الأمّة إليها مضافاً إلى أنّ هدف جعل الضرائب ليس منحصراً فيه بل يتصوّر له أهداف أخر ستأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إليها.

 

وبالجملة: فهذا الحديث وامتثال الحكم المذكور فيه لا يجعلنا غير محتاجين إلى جعل الضرائب المالية.

 

السادس ممّا يمكن أن يعدّ من الأموال العامّة

 

 الضرائب

 

قد تبيّن من جميع ما مرّ أنّ الله تبارك وتعالى كما أوجب على وليّ أمر الأمّة أنفاق أموال في موارد عديدة كذلك قد جعل تحت يده أصنافاً من الأموال وهي إمّا أن تكون ملكاً له كالخمس والأنفال وإمّا أن تكون من أموال عامّة الناس كالأراضي المفتوحة عنوةً وخراجها وكالجزية على أهل الذمّة بل وكالكنوز الّتي يدفعها إليه صاحب الكنوز من الأمّة، وهذه الأموال بكلا قسميها قد جُعلت تحت يده لأن ينفقها في مصلحة الأمّة.

 

وبعد ذلك نقول فهل يجوز في الشريعة الإسلامية لوليّ الأمر أن يفرض على الأمّة كلاًّ أو بعضاً ولو في موارد خاصّة ضرائب مالية ويجب على الأمّة أداؤها إليه أم لا؟

 

فنقول ـ بعد ملاحظة أنواع الضرائب المالية الدارجة في مثل أزمنتنا ـ: إنّ الهدف الباعث على جعل الضريبة تارةً عدم وفاء الأموال المذكورة الحاصلة من المنابع السابقة الذكر بتحصيل الحاجات والنوائب الّتي يكون وليّ الأمر بصدد رفعها وسدّها لقلّة هذه الأموال بالنسبة إلى ما يحتاج إليه رفع تلك الحاجات وسدّ هذه النوائب وأخرى يكون هدفاًَ أو أهدافاً أخرى.

 

والهدف الأوّل إمّا التمكّن من القيام برفع حاجة يكون رفعها من الأمور الواجبة، وإمّا التمكّن من القيام بتحصيل أمر يكون من مثل الأمور الرفاهية كغرس أشجار لتلطيف الهواء وكإحداث مراتع وأفضية خضراء وإحداث أو توسعة الشوارع الّتي لو لم تحدث لما أوجب على الأمّة ولا على أحدهم ضرراً بل ولا ضيقاً أصلاً إلى غير ذلك.

 

كما أنّ للأهداف الأخرى أيضاً أمثلةً وأصنافاُ كثيرة، ونعني بها أنّه مع فرض قيام الأموال الحاصلة تحت أيدي ولي الأمر من المنابع المذكورة يرفع الحاجات الّتي تحتاج الأمّة إلى رفعها ومع هذا الفرض فتارةً ينظر وليّ الأمر إلى حال مَن يأتي ويتولّد من الأمّة في الأزمنة الآتية فلا يقوم باستخراج بعض المعادن كالنفط وغيره لأن يبقى للأمّة في القرون الآتية ولذلك يقلّ حاصل المنابع المالية عمّا تحتاج إليه الأمّة فعلاً فيفرض عليهم ضريبة لرفع حاجاتهم الضرورية أو غير الضرورية.

 

وأخرى يفرض ضريبة ماليه على ما يستورد أنواعاً من الأموال الطبيعية أو الصناعية من بلاد أخر ويكون قد تمّ لهذه الأموال قيمة وثمن لمن يوردها هو أقل بمراتب ممّا يمكن تحصيلها في هذه البلاد الّتي يدخل تلك المستوردات فيها، فإن لم يفرض عليها ضريبة وقع ضرر اقتصادي عظيم على مَن يشتغل بتحصيل وإنتاج هذه الأموال في هذه البلاد، فحفظاً لأن يرد عليهم ـ وهم طبقة وسيعة ـ ضرر اقتصادي يفرض على تلك المستوردات ضرائب مناسبة.

 

وثالثة يكون لشخصٍ أو أشخاص مصنعٌ عظيمٌ ذو إنتاج كبير يصرف المنتجون لانتاجاتهم للمنتجين مبلغاً قليلاً، فإن جعلوا مطلقاً من حيث الثمن الّذي يبيعون به إنتاجاتهم فربّما يرد على طبقه عظيمة ينتجون هذه الإنتاجات بحيث يتمّ ثمنها لهم بمبلغ كثير فيرد عليهم ضررٌ عظيم اقتصاديّ عظيم ممّا يؤّثر ضرره على الأمّة الإسلامية كذلك. فدفعاً لهذا الضرر الحاصل يفرض وليّ الأمر ضريبة مناسبة على ما نتيجه ذلك المصنع العظيم.

 

ورابعة يقوم عمّال الدولة الإسلامية بإنتاج أمر صناعي كالسيارات مثلاً بمقدار وعدد خاصّ ويبيعها أفراد الأمّة بثمن مناسب، إلاّ أنّه يفرض على مَن يقوم من أفراد الأمّة بإنتاجه ضريبة مالية بحيث لا يبقى له نفع في إنتاجه بعد أدائها ضريبته، ويكون الهدف منه هو أن لا يقوم الناس بتصنيع السيارات الكثيرة كي يؤدّي إلى تلويث جوّ البلاد.

 

وخامسة وسادسة و... و... لغير هذه من الأهداف الأخر وهي عديدة كثيرة.

 

فهل يجوز لوليّ الأمر لبعض هذه الأهداف جعل الضرائب المالية أو يفرّق في الجواز وعدمه بينها.

 

والتحقيق: أنّه لا مانع من جواز فرض الضرائب إلاّ أنّ الله تعالى قد جعل الناس كلّهم مسلّطين على أموالهم وحرّم على غير المالك أن يتصرّف في ماله إلاّ بإذنه، وهذا الحكم من ضروريات الفقه بل الدين فقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾[9] فنهى عن أكل مال الآخرين بالباطل واستثنى منه خصوص التجارة عن تراض وهو يدلّ على أنّ ما ليس فيه تراضٍ فهو أكل بالباطل المنهيّ عنه، ومآله إلى أنّ التصرّف في مال الناس إذا لم يكن برضاه فهو أكلٌ له بالباطل وحرام.

 

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة في حجّة الوداع ـ على ما في صحيح أبي أسامة زيد الشّحام وموثّق سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) ـ: «ألا مَن كانت عنده أمانة فليؤديها إلى من ائتمنه عليها، فإنّه لا يحلّ دم امرئٍ مسلم ولا ماله إلاّ بطيب نفسه»[10]. فقد حكم بعدم حلّ أي تصرّف في مال المسلمين إذا لم يكن المالك ذا طيب نفس به، والمستفاد منه عرفاً أن طيب نفسه تمام الملاك لجواز التصرّف في ماله.

 

وفي صحيح أبي الحسين محمّد بن جعفر الأسدي أنّه كان فيما ورد عن صاحب الدار عجل الله تعالى فرجه الشريف في جواب مسائله عن الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري: فلا يحل لأحدٍ أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه[11].

 

فهو صريح الدلالة في أنّه لا يحلّ التصرّف في مال أحد بغير إذنه، وموضوعه «مال أحد» وهو شامل للمسلم وغيره وإن كانت الآية المباركة والنبويّ المذكور وارداً في خصوص أموال المسلمين. والأدلّة على هذا المطلب كثيرة جدّاً.

 

فالحاصل: أنّه لا ريب في حرمة التصرّف في مال الأشخاص بلا رضاًَ منه فهي تمنع إلزامهم بأداء مالٍ آخر سوى ما أوجبه الله تعالى عليهم أداءه، فلا محالة ربما يقال بأنّه لا مجال لوليّ الأمر في فرض الضرائب على من يعيش في ظلّ لواء الإسلام مسلماً كان أو أهل ذمّة.

 

إلاّ أنّ هذا المعنى أيضاً لا يقوى أن يصير مانعاً وذلك لما مرّ منّا مفصّلاً أوائل الكتاب وأكّدنا عليه أيضاً غير مرّة من أنّ الله تعالى جعل النبي والأئمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أولياء على الأمّة الإسلامية، فقد صرّح الكتاب الكريم بقوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾[12] وقال تعالى أيضاً: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾[13] وقال تعالى خطاباً لنبيّه ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾[14] وقد بلّغ الناس هذا الّذي أنزل إليه من ربّه يوم الغدير ـ بعد ما استشهد الناس بقوله: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ وشهدوا له به ـ بأن قال: «ألا مَن كنت مولاه فعليّ، مولاه».

 

فالآية المباركة الأولى نصّ في أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فكما أنّ المؤمنين على أنفسهم ولاية فهكذا يكون للنبيّ أيضاً عليهم ولاية بل ولايته عليهم أولى وأقوى من ولاية أنفسهم بأنفسهم وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وقد مرّت ذيل الآية روايات عديدة معتبرة أنّ هذه الولاية والأولوية ثابتة بعده لأمير المؤمنين (عليه السلام) وكلّ أحد من الأئمّة (عليهم السلام) كلّ في زمانه.

 

كما أنّ آية الولاية ناصّة على ثبوت الولاية على المسلمين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأمير المؤمنين وسائر الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) كلّ في زمان إمامته، وقد مرّ ذكر أخبار معتبرة السند والدلالة بل قطعيّتهما على أنّهم المراد بـ ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ المذكور في الآية المباركة. كما أنّ المراد بـ ﴿مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ في آية الغدير هو ولاية أمير المؤمنين بل أولويته بالمؤمنين من أنفسهم. وقد مرّ بيان ذلك كلّه في أوائل الكتاب وذكر أخبار كثيرة أخرى قطعية السند والدلالة على ثبوت الولاية للنبيّ والأئمّة صلوات الله عليهم على جميع الأمّة.

 

ومن الواضح أنّ مقتضى ثبوت الولاية أن يكون للوليّ بعد مراعاة مصلحة المولى عليه أن يتصرّف في أموال المولى عليه ما يراه مصلحة، فكما لا بأس لوليّ أمر الطفل مثلاً أن يتصرّف في ماله مستقلاً وتصرّفه تصرّف مَن له الولاية ولا يتوهّم أنّه لا يجوز له التصرّف فهكذا لأولياء أمر الأمّة أن يتصرّفوا في أموال الأمّة بحقّ ولايتهم، ولا مجال لتوهّم اعتبار رضاء المالكين أيضاً في جواز التصرّف.

 

ومنه تعرف أنّ جواز التصرّف في أموالهم لوليّ الأمر ليس بموجب عنوان ثانوي بل في عدل واحد يجوز للمالك نفسه أن يتصرّف في ماله لأنّه ماله ولوليّ الأمر أيضاً أن يتصرّف في ماله لأنّه وليّ المالك.

 

وكلامنا الآن في تصرّفات وليّ الأمر في أموال الأمّة فيما كان التصرّف بمصلحة الأمّة فإنّه لا ريب في جوازه أصلاً لما قدّمناه وإن كان لاستفادة جواز تصرّفه في مال كلّ أحد بالنسبة لأغراض متعلّقة بشخص المالك من الأولوية المذكورة في الآية الأولى وجه قوي.

 

ثُمّ إنّه لم نجد في الأخبار ما يمكن الاستدلال به لجواز أن يضع الضرائب المالية بنحوٍ الإطلاق بنحو كان مختصّاً به إلاّ أنّه يوجد فيها ما يدلّ على جواز وضعها وصدور وضعها من أولياء الأمر في بعض الموارد، وهو في موردين:

 

أحدهما: ما في صحيح محمّد بن مسلم وزرارة عن الباقر والصادق (عليهما السلام) جميعاً قالا: وضع أمير المؤمنين (عليه السلام) على الخيل العتاق الراعية في كلّ فرس في كلّ عام دينارين، وجعل على البراذين ديناراً[15].

 

قال في الوسائل: ورواه المفيد في المقنعة مرسلاً إلاّ أنّه قال: وجعل على البراذين السائمة الإناث في كلّ عام ديناراًَ[16].

 

فقد نسبا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه وضع على الخيل والبراذين في كلّ عام دينارين أو ديناراً، فالوضع حيث إنّه منسوب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) يكون ظاهره أنّه فعلٌ له، ولا محالة ليس زكاة شرعية وذلك أنّ وضع الزكاة إنّما يكون من الله تعالى لا من أمير المؤمنين (عليه السلام) وظاهر الحديث أنّ هذا الوضع إنّما كان في زمن تصدّيه لأمر إعمال الولاية على الأمّة الإسلامية فإنّ في مثل هذا الزمان له إمكان وضع مال في كلّ حول على بعض الحيوانات حتّى يكون هو (عليه السلام) أو من ينصّبه لذلك الآخذ لهذا المال عن مالك الخيل والبراذين.

 

وبالنتيجة يكون مفاد الحديث حكاية وضع مال على الأمّة في مورد خاصّ وهو مصداق وضع الضريبة.

 

وأصحابنا الكرام (قدس أسرارهم) حملوا هذه الصحيحة من أدلّة مندوبته أداء الزكاة للخيل والبراذين.

 

ولذا ذكرها الشيخ في الخلاف دليلاً لما ذكره في متن المسألة 63 من كتاب الزكاة بقوله: لا زكاة في شيء من الحيوان إلاّ في الإبل والبقر والغنم وجوباً، وقد روى أصحابنا أنّ في الخيل العتاق على كلّ فرس دينارين وفي غير العتاق ديناراً على وجه الاستحباب ـ ثُمّ ذكر أقوال العامّة وفيها قول أبي حنيفة بوجوب الزكاة في الخيل في بعض الموارد، ثُمّ قال: ـ دليلنا إجماع الفرقة فإنّ ما فصّلناه مجمع عليه عندهم... وأيضاً روى حريز عن محمّد بن مسلم وزرارة عنهما جميعاً... فذكر الحديث[17].

 

وهكذا قال صاحب الجواهر (قدس سرّه) عند شرح قول المحقّق : «و ـ كذا تستحبّ ـ في الخيل الإناث» إجماعاًَ محصّلاً ومحكيّاً في الخلاف والغنية والتذكرة، وهو المراد من صحيح محمّد بن مسلم وزرارة فذكر الحديث[18].

 

إلاّ أنّه خلاف ظاهر نسبة وضع الدينارين والدينار إلى الأمير (عليه السلام) بل ظاهرها وضع ضريبة مالية في هذا المورد. وهو لا ينافي استحباب الزكاة على الخيل في الشريعة أيضاً لكنّه غير الزكاة كما مرّ.

 

ثانيهما: ما جاء في بعض الأخبار من أنّ للإمام (عليه السلام) أن يسدّ بالغنائم الحربية النوائب الّتي تحدث.

 

وبيان المطلب: أنّه قد وردت روايات متعدّدة ظاهرها أنّ الغنائم الحربية بعد إخراج الخمس منها تكون ملكاً للغانمين، فقد ورد في الصحيح عن ربعي عن عبد الله بن الجارود عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتاه المغنم أخذ صفوه وكان ذلك له، ثُمّ يقسّم ما بقي خمسة أخماس ويأخذ خمسه، ثُمّ يقسّم أربعة أخماس بين الناس الّذين قاتلوا عليه ثُمّ قسّم الخمس الّذي أخذه... وكذلك الإمام يأخذ كما أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)[19].

 

فإنّ قوله (عليه السلام): «يقسّم أربعة أخماس بين الناس الّذين قاتلوا عليه» ظاهر في أنّ هذه الأربعة الأخماس لمكان أنّها ملك هؤلاء تقسّم بينهم، وقد أكّد في ذيل الصحيحة أنّ الإمام (عليه السلام) أيضاً يأخذ كما أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فتدلّ على أنّ الأربعة الأخماس ملك للمقاتلين. ومن الواضح أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّما كان يفعل ما ذكر إذا كان وليّ أمر الأمّة، وهكذا الأمر في الإمام (عليه السلام)، فمفاد الصحيحة أنّه عند فعلية الحكومة الإسلامية بأيدي أولياء الأمر يكون أربعة أخماس الغنائم للمقاتلين.

 

وقد ورد الأمر كذلك في صحيحة معاوية بن وهب وصحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي أيضاً[20]، ولا نرى حاجة بذكر نصّهما بعد كونه مثل صحيحة ربعي وبعد نقل متنهما فيما سبق من كتابنا، فراجع.

 

فمع ذلك كلّه فقد جاء في خبر حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح (عليه السلام) في حديث: وله ـ يعني للإمام ـ أن يسدّ بذلك المال جميع ما ينويه من مثل إعطاء المؤلّفة قلوبهم وغير ذلك ممّا ينوبه، فإن بقي بعد ذلك شيء أخرج الخمس منه فقسّمه في أهله وقسّم الباقي على مَن ولي ذلك، وإن لم يبق بعد سدّ النوائب شيء فلا شيء لهم[21].

 

فأجاز له (عليه السلام) أن ينفق جميع الغنيمة الحربية حتّى خمسها في سدّ ما ينوبه وأنّه إن لم يبق بعد سدّها شيء فلا شيء لهم وهو في معنى أنّ بيده الشريفة أمر الأموال الّتي جعلها الله لطائفة الناس ويؤوّل إلى تجويز وضع الضريبة المالية في هذا المورد، فتأمّل.

 

وقد عرفت أنّ الخبر قد عمل الأصحاب به فلا نقص سنديّ فيه.

 

ثُمّ إنّه قد يمكن أن يقال بأنّ في الروايات ما يدلّ على عدم جواز وضع الضريبة ولا أخذها، وهي الروايات الواردة في ذم العشّارين فإنّ العشّار هو مَن يأخذ العشر، والعشر هو جزء واحد من عشرة أجزاء المال فلا محالة فهو ضريبة كانت توضع من ناحية الحكومات غير الإلهية السابقة فذمّهم وتقبيح عملهم يؤوّل إلى أنّ أخذه ـ وهو أخذ ضريبة مالية ـ حرام فلا يجوز وضع الضرائب أصلاً.

 

والروايات الواردة في هذا الموضوع عديدة يمكن انقسامها إلى قسمين:

 

 (أحدهما) ما يدلّ على أنّ وضعه وأخذه كان أمراً دارجاً قبل الإسلام أيضاً فجاء الإسلام بالنهي عنه، وهي روايات متعدّدة:

 

1ـ فمنها ما في نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في ليلة لنوف البكالي:

 

يا نوف إن داود (عليه السلام) (إنّ نبيّ الله داود ـ تمام نهج البلاغة) قام (ذات ليلة ـ تمام نهج البلاغة) في مثل هذه الساعة من الليل فقال: إنّها لساعة لا يدعو فيها عبد إلاّ استجيب له إلاّ أن يكون عشّاراً أو عريفاً أو شرطياً (أو جابياً تمام النهج) أو صاحب عرطبة وهو الطنبور أو صاحب كوبة وهو الطبل[22].

 

ورواه الصدوق في الخصال هكذا: يا نوف إيّاك أن تكون عشّاراً أو شاعراً أو شرطياً أو عريفاً أو صاحب عرطبة وهو الطنبور أو صاحب كوبة وهو الطبل فإن نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج ذات ليلة فنظر إلى السماء فقال: إنها الساعة الّتي لا تردّ فيها دعوة إلاّ دعوة عريف أو دعوة شاعر أو شرطي أو صاحب عرطبة أو صاحب كوبة[23].

 

فإنّ مجرّد عدم استجابة دعاء العشّار دليل على كون عمله مبغوضاً عند الله به استحقّ أن لا يستجاب دعاؤه، مضافاً إلى أنّ النهي المذكور أوّلاً في نسخة الخصال أيضاً حجّة على حرمة هذا العمل. وبملاحظة أنّ القائل بهذه المقالة هو داود النبي على نبيّنا وآله وعليه السلام يدلّ على أنّ أخذ العشر كان مرسوماً في زمنه وقبل الإسلام أيضاً، بل إن كان القائل بها نبي الإسلام دلّ أيضاً على هذا السبق وذلك أنّ أخذ العشر لم يكن أمراً أقدم عليه أو أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا محالة يكون ناظراً إلى فعل غير المسلمين.

 

2ـ ومنها ما عن الصدوق في من لا يحضره الفقيه بإسناده عن حمّاد بن عمرو وأنس بن محمّد عن أبيه عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) أنّ في وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعليّ (عليه السلام): قال الله جلّ جلاله: وعزّتي وجلالي لا يدخلها [يعني الجنّة] مدمن خمر ولا نمام ولا ديّوث ولا شرطيّ ولا مخنّث ولا نبّاش ولا عشّار ولا قاطع رحم ولا قدريّ[24].

 

فعدم دخول العشّار في الجنّة لا يكون إلاّ لعظم معصية ـ أعني أخذ العشر ـ ووقوع هذا المصبّ في وصيّة دليلٌ على وقوع هذا العمل قبل الإسلام ومن غير المسلمين كما مرّ.

 

3ـ ومنها ما عن ثواب أعمال الصدوق بإسناده عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال في آخر خطبة خطبها: «ومن ضع طالباً حاجته وهو بقدر على قضائها فعليه مثل خطيئة عشّار، فقام إليه عوف بن مالك [مالك بن عوف ـ ئل] فقال: وما يبلغ من خطيئة عشّار يا رسول الله؟ فقال: على العشّار في كلّ يوم وليلة لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ﴿وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾[25].

 

فهذا اللعن الشديد دليلٌ على عظم معصيته، وذكره في خطبته (صلى الله عليه وآله وسلم) دليل وقوع هذا العمل بين غير المسلمين في زمنه أو قبله.

 

4ـ ومنها ما عن الصدوق في من لا يحضره الفقيه بإسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال في حديث المناهي: ومَن مطل (يبطل ـ خ ل) على ذي حقّ حقّه وهو يقدر على أداء حقّه فعليه كلّ يوم خطيئة عشّار[26].

 

ومن المعلوم أنّ المماطلة في أداء حقّ ذي الحقّ أو إبطال حقّه ظلمٌ عليه وحرام، فلا محالة أخذ العشر أيضاً حرام بل إنّ حرمته أشدّ وأوضح. وبما أنّه وقع في مناهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) دلّ على تحقّق هذا الأمر عند غير المسلمين كما عرفت.

 

5ـ ومنها ما في ثواب الأعمال وعن مجالس الصدوق في رواية أبي سعيد الخدري ـ الواردة في فضيلة شهر رجب ـ من أنّه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ... ومَن صام من رجب تسعة وعشرين يوماً غفر الله له ولو كان عشّاراً ولو كانت امرأة فجرت سبعين مرّة بعد ما أرادت به وجه الله عَزّ وجَلّ والخلاص من جهنّم لغفر الله لها[27].

 

فذكر قوله: «ولو كان عشّاراً» ظاهر في أنّه مرتكب لذنب عظيم يكون غفرانه بعيداً في أذهان عامّة الناس، فيدلّ على حرمة فعل العشّار كما يدلّ على وقوع هذه الخطيئة من ناحية غير المسلمين أيضاً.

 

6ـ ومنها ما عن الصدوق في من لا يحضره الفقيه بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في وصيّته لعليّ (عليه السلام): يا علي لا تجامع أهلك في آخر درجة إذا بقي يومان، فأنّه إن قضى بينكما ولد يكون عشّاراً أوعوناً للظالمين ويكون هلاك فئام من الناس على يده[28].

 

وهو أيضاً ظاهر في حرمة أخذ العشر وفي أنّه فعلٌ مرسوم في غير المسلمين كما مرّ.

 

7ـ ومنها ما عن علل الشرائع عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: المسوخ ثلاثة عشر: الفيل والدبّ... والزهرة وسهيل، قيل: يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان سبب مسخ هؤلاء؟ فقال: ... وأمّا سهيل فكان رجلاً عشّاراً باليمن[29].

 

فكون أخذ العشر موجباً لأن ينسخ الآخذ دليل على كونه معصية عظيمة وبما أنّه واقع قبل الإسلام ففي الرواية دليل على وقوع هذا العمل قبل الإسلام وفي غير المسلمين.

 

فهذه الأخبار السبعة ناظرة إلى أنّ هذا العمل كان واقعاً بين غير المسلمين فلا محالة لا يحتمل أن يكون أخذ العشر أخذاً للعشر المشروع في زكاة الغلاّت بل هو ضريبة مجعولة، وقد دلّت هذه الأحاديث على حرمة أخذها. وسند كلّ منها وإن كان غير معتبر إلاّ أنّ كثرتها واستفاضة اسنادها ربما يوجب انجبارها.

 

 (القسم الثاني) من الروايات ما يدلّ ـ علاوة على ذمّ هذا العمل ـ على أنّ أخذ العشر كان مرسوماً بعد ظهور الإسلام وفي زمن خلفاء الجور ومن ناحيتهم، ويمكن تقسيمها أيضاً إلى طائفتين:

 

الطائفة الأولى: ما يدلّ على مجرّد حرمة وقبح عملهم وعلى جواز الحلف للخلاص من شرّهم، وهي روايات:

 

1ـ منها ما عن الصدوق في من لا يحضره الفقيه في الموثّق عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): نمرّ بالمال على العشّار فيطلبون منّا أن نحلف لهم ويخلّون سبيلنا ولا يرضون منّا إلاّ بذلك، قال (عليه السلام): فاحلف لهم فهو أحلّ (أحلى ـ خ ل) من التمر والزبد)[30].

 

فظاهر سؤاله عن جواز الحلف لهم أنّه لم يكن حلفاً صادقاً وإلاّ لم يكن شبهة في جوازه ولم يحتج إلى السؤال، وحينئذٍ فجواز الحلف الكاذب دليل على أنّ أخذ العشّار للعشر حرام ويكون الحلف الكاذب للخلاص من شرّه ومقدّمة لعدم أداء شيء إليه جائزاً. وحيث كان في زمن الباقر (عليه السلام) في بلاد الإسلام فيعلم أنّه كان عشّاراً نصب لأخذ العشر من قبل الدولة الجائرة.

 

2ـ ومنها ما عن الصدوق (قدس سرّه) في من لا يحضره الفقيه أيضاً في الصحيح عن الحلبي أنّه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يحلف لصاحب العشور يحرز (يجوز ـ خ ل) بذلك ماله؟ قال (عليه السلام): نعم[31].

 

وهو في كيفية الدلالة وحدودها مثل الموثّقة السابقة.

 

3ـ ومنها ما عن نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى من رواية معمّر بن يحيى قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إنّ معي بضائع للناس ونحن نمرّ بها على هؤلاء العشّار فيُخلفونا عليها فنحلف لهم، فقال (عليه السلام): وددت أنّي أقدر على أن أجيز أموال المسلمين كلّها وأحلف عليها، كلّ ما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة فله فيه التقية[32].

 

ودلالته واضحة كما بيّناه في الموثّقة.

 

4ـ ومنها ما عن نوادره أيضاً من رواية إسماعيل الجعفي قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أمرّ بالعشّار ومعي المال فيستحلفوني فإن حلفت تركوني وإن لم أحلف فتّشوني وظلموني، فقال: احلف لهم، قلت: إن حلفوني بالطلاق؟ قال: فاحلف لهم، قلت: فإنّ المال لا يكون لي، قال: تتقي مال أخيك[33].

 

وهي واضحة الدلالة في أنّ الحلف كان كذباً لاتّقاء مال نفسه أو مال أخيه، فتدلّ على المطلوب كما بيّنّاه في الموثّقة.

 

فهذه الأخبار الأربعة تدلّ على أنّ أخذ العشر كان متداولاً من ناحية خلفاء الجور وهو محرّم، إلاّ أنّه يحتمل فيها أن يكون العشر المذكور فيها عشر الأموال الزكوية، وشموله لجميع الأموال لعلّه بملاحظة أنّهم كانوا يأخذون الزكاة من مال التجارة أيضاً، وسيأتي في الطائفة الثانية من أخبارنا أنّ العشّار في زمن هؤلاء الخلفاء كانوا يأخذون الزكاة أيضاً، فلذلك يحتمل أن يكون هؤلاء العشّار غير مَن يأخذ الضرائب، إلاّ أنّه مع ذلك كلّه فلا يبعد دعوى ظهور عنوان العشّار والعاشر في مَن يأخذ الضرائب وذلك بقرينة نقل روايات عديدة عن النبيّ في حرمة فعله، وقد عرفت أنّ المذكور في كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو العشّأر في غير المسلمين الّذي لا ينبغي الريب في أنّه كان يأخذ الضرائب.

 

5ـ ومن جملة أخبار هذه الطائفة ما رواه ثقة الإسلام الكليني في روضة الكافي بسند صحيح عن مرازم بن حكيم قال: خرجنا مع أبي عبد الله (عليه السلام) حيث خرج من عند أبي جعفر من الحيرة، فخرج ساعة أذن له وانتهى إلى السالحين في أوّل الليل، فعرض له عاشر كان يكون في السالحين في أوّل الليل، فقال: لا أدعك أن تجوز، فألحّ عليه وطلب إليه فأبى إباءاًَ، وأنا ومصادف معه، فقال له مصادف: جعلت فداك إنّما هذا كلب قد آذاك وأخاف أن يردّك وما أدري ما يكون من أمر أبي جعفر، وأنا ومرازم أتأذن لنا أن نضرب عنقه ثُمّ نطرحه في النهر؟ فقال له: كفّ (كيف ـ خ ل) يا مصادف، فلم يزل يطلب إليه حتّى ذهب من الليل أكثره، فأذن لنا ومضى، فقال (عليه السلام): يا مرازم أهذا خير أم الّذي قلتماه؟ قلت: هذا جعلت فداك، قال (عليه السلام): إنّ الرجل يخرج من الذلّ الصغير فيدخله ذلك في الذلّ الكبير[34].

 

أقول: إن السالحين ـ على ما نقل عن كتاب المغرب ـ موضع على أربعة فراسخ من بغداد إلى المغرب.

 

فهذه الصحيحة أيضاً على أنّ هذا العشّار كان عامل الخلاف ولذا منع مضيّه (عليه السلام) وجاء في ذهن مصادف ومرازم أن يقتلاه، إلاّ أنّه ليس في نفس الحديث أنّه كان يأخذ ضريبة العشر، إلاّ أن يقال: إن نفس تعبير العشّار ظاهر في مَن يأخذ العشر وإن كان ربما يفعل خطايا أخر أيضاً، فالصحيحة أيضاً دالّة على حرمة أخذ العشر كما تقدّمها من سائر الأخبار، فتأمّل.

 

الطائفة الثانية: ما يدلّ على أنّ العشّارين في زمان ولاة الجور كانوا يأخذون زكاة الأموال، وهي أخبار ثلاثة:

 

1ـ منها ما رواه الكافي ومن لا يحضره الفقيه في الموثّق عن السكوني عن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) قال: ما أخذه منك العاشر فطرحه في كوزة فهو من زكاتك، وما لم يطرح في الكوز فلا تحتسبه من زكاتك[35].

 

فمع أنّ موضوع كلامه (عليه السلام) ما يأخذه العاشر إلاّ أنّه حكم بأنّه يعدّ من الزكاة إذا طرحه في الكوز، فيدلّ على أنّ العاشر كأنّه نصب لأخذ الزكاة لكنّه إن لم يطرح ما يأخذه في الكوز الّذي معه فهو خيانة منه ومقدّمة لأن يرفع المأخوذ لنفسه.

 

2ـ وقريب منه ما رواه عبد الله بن جعفر في قرب الإسناد عن السندي بن محمّد عن أبي البختري عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) أنّ علياً (عليه السلام) كان يقول: اعتدّ في زكاتك بما أخذ العشّار منك واحفظها عنه ما استطعت[36].

 

ودلالته أيضاً على أنّ العشّار كان يأخذ الزكاة واضحة، لكنّه أكّد أخيراً بعدم دفعها إليه ما استطاع.

 

3ـ ومنها ما رواه الكافي ومن لا يحضره الفقيه من صحيحة يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العشور الّتي تؤخذ من الرجل أيحتسب بها من زكاته؟ قال: نعم إن شاء[37].

 

وتقريب دلالتها أنّ لفظة «العشور» تدلّ على أنّ أخذها العشّار المشتقّ عنوانه من العشر فتدلّ على أنّ العشّار كان يأخذ العشر من باب الزكاة أيضا.

 

لكن لقائل أن يقول أوّلاً: إن المفروض في الصحيحة أخذ العشور من الرجل المذكور وليس فيها دلالة على أنّ هذه العشور كانت تؤخذ منه بعنوان الزكاة بل كانوا يأخذ عشّارهم منه عشر ماله من باب الضريبة فسأل الإمام (عليه السلام) أنّه هل يجوز له أن يحتسب مكان زكاته وأجاب بقوله: نعم إن شاء.

 

وثانياً: إنّه إذا استظهر من العشور العشر الّذي يؤخذ بعنوان الزكاة فلا نسلّم أن آخذه كان هو العشّار المنصوب لأخذ الضرائب، فلعلّ الآخذ هو مَن نصب لأخذ خصوص الزكوات.

 

فكون الصحيحة من أخبار هذه الطائفة غير واضحة.

 

فمن هاتين الطائفتين يعلم أنّه كان الخلفاء الجور مَن يعبّر عنه بالعشّار وقد عرفت أنّ عنوان العشّار ظاهر بنفسه في مَن يأخذ الضريبة الجعلية وإن أخذ العشر الّذي هو زكاة أيضاً.

 

وبالرجوع إلى كلمات العامّة يعرف بوضوح أنّه كان لهؤلاء الخلفاء خلفاً عن سلف مَن يأخذ لهم العشور وأنّ أوّل مَن جعل العشور عمر بن الخطّاب:

 

قال في مختصر المزني في فقه الحنابلة: وإذا دخل إلينا منهم تاجر حربي بأمان أخذ منه العشر.

 

وقال ابن قدامة في شرحه والاستدلال عليه: لنا ما رويناه في المسألة الّتي قبلها وأن عمر أخذ منهم العشر واشتهر ذلك في ما بين الصحابة وعمل له الخلفاء الراشدون بعده والأئمة بعده في كلّ عصر من غير نكير، فأيّ إجماع يكون أقوى من هذا؟ ولم ينقل أنّه شرط ذلك عليهم عند دخولهم ولا يثبت ذلك بالتخمين من غير نقل[38].

 

أقول: ولا الظاهر أنّ قوله الأخير: «ولم ينقل أنّه شرط... إلى آخره» ردّ لما حكاه هو نفسه عن الشافعي بقوله: «وقال الشافعي: إن دخل إلينا بتجارة لا يتاج إليها المسلمون لم يأذن له الإمام إلاّ بعوض يشرطه عليه، ومهما شرط جاز، ويستحبّ أن يشرط العشر ليوافق فعله فعل عمر، وإن أذن مطلقاً من غير شرط فالمذهب أنّه لا يؤخذ منهم شيء لأنّه أمان من غير شرط فلم يستحقّ به شيئاًَ كالهدنة، ويحتمل أن يجب العشر لأنّ عمر أخذه»[39].

 

ونقل الشافعي في الأم عن السائب بن يزيد أنّه قال: كنت عاملاً مع عبد الله بن عتبة على سوق المدينة في زمان عمر بن الخطّاب فكان يأخذ من النَبَط العشر... قال الشافعي: لست أحسب عمر أخذ ما أخذ من النبط إلاّ عن شرط بينه وبينهم كشرط الجزية، وكذلك أحسب عمر بن عبد العزيز أمر بالأخذ منهم ولا يأخذ من أهل الذمّة شيئاً إلاّ عن صلح ولا يتركون يدخلون الحجاز إلاّ بصلح، ويحدّد الإمام في ما بينه وبينهم في تجاراتهم وجميع ما شرط عليهم أمراً بيّن لهم وللعامّة ليأخذهم به الولاة غيره، ولا يترك أهل الحرب يدخلون بلاد المسلمين تجّاراً: فإن دخلوا بغير أمان ولا رسالة غُنِموا، وإن دخلوا بأمانٍ وشرط أن يأخذ منهم عشراً أو أكثر أو أقلّ أخذ منهم، فإن دخلوا بلا أمانٍ وشرط أن يأخذ منهم عشراً أو أكثر أو أقلّ أخذ منهم، فأن دخلوا بلا أمانٍِ ولا شرط ردّوا إلى مأمنهم ولم يتركوا يمضون في بلاد الإسلام، ولا يؤخذ منهم شيء وقد عقد لهم الأمان إلاّ عن طيب أنفسهم به[40].

 

وعن كتاب الخراج لأبي يوسف تلميذ أبي حنيفة: «قال أبو يوسف: فإنّ عمر ابن الخطّاب وضع العشور، فلا بأس بأخذها إذا لم يعتدّ فيها على الناس ويؤخذ بأكثر ممّا يجب عليهم»[41].

 

وعن بدائع الصنائع في فقه الحنفية: وأمّا القدر المأخوذ ممّا يمرّ به التاجر على العاشر فالمارّ لا يخلوا إمّا إن كان مسلماً أو ذمّياً أو حربياً ـ فحكم بأن لا يؤخذ من المسلم غير الزكاة ولا من الذمّي إلاّ الجزية والخراج، ثُمّ قال: ـ وإن كان حربياً يأخذ منه ما يأخذونه من المسلمين، فإن علم، أنّهم يأخذون منّا... عشراً فعشر... فإن كان لا يعلم ذلك أخذ منه العشر، وأصله ما روينا عن عمر أنّه كتب إلى العشّار في الأطراف: إن خذوا من المسلم ربع العشر ومن الذمّي نصف العشر ومن الحربي العشر، وكان ذلك بمحضر الصحابة ولم يخالفه أحد منهم، فيكون إجماعاً منهم على ذلك. وروي أنّه قال: خذوا منهم ما يأخذون من تجّارنا، فقيل له: إن لم نعلم ما يأخذون من تجّارنا؟ فقال: خذوا منهم العشر[42].

 

فمن هذه الكلمات يُعلم أنّ عمر مبدأ وضع العشر وأخذه في الإسلام وأنّ أخذ العشر أو أقلّ أو أكثر كان دارجاً بين أولياء أهل الحرب أيضاً وأن الخلفاء بعده مشو مشيه، فهذه الكلمات توضيحٌ نافعٌ للقسم الثاني من الأخبار الّتي نقلناها.

 

وأمّا الإجماع المدّعى في المغني وبدائع الصنائع من الصحابة على فعل عمر فقد مرّ عن نهج البلاغة والخصال أنّ أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) نهى نوفاً أن يكون عشّاراً وعدّ العشّار من الّذين لا يستجاب دعاؤهم في ساعة يستجاب كلّ دعوةُ فلا محالة هو (عليه السلام) من المنكرين لوضع العشور، وكيف لا وقد استفاضت الأخبار عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بتحريم فعل العشّار كما عرفت.

 

ثُمّ إنّه قد ورد في أخبار العامّة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما ربما يمكن أن يستدلّ به على جواز أخذ العشور من اليهود والنصارى. فقد روى أبو الدرداء في سننه بإسناده  عن عطاء بن السائب عن حرب بن عبيد الله عن جدّه أبي أمّه عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّما العشور على اليهود والنصارى وليس على المسلمين عشور[43].

 

ورواه البيهقي في سننه عن أبي داود مثله[44].

 

ورواه أحمد في مسنده بإسناده عن ابن السائب عن حرب بن عبيد الله الثقفي عن خاله قال: أتيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكر له أشياء فسأله فقال: أعشرها، فقال: إنّما العشور على اليهود والنصارى وليس على أهل الإسلام عشور[45].

 

وبسندٍ آخر عن ابن السائب عن رجل من بكر بن وائل عن خاله قال: قلت: يا رسول الله أعشر قومي؟ قال: إنّما العشور... إلى آخره[46].

 

ورواه ابن داود مقتصراً على قوله: «إنّما العشور على اليهود والنصارى»[47].

 

وروى أحمد وبسندٍ آخر عن ابن السائب عن حرب بن هلال الثقفي عن أبي أُميّة رجل من بني تغلب أنّه سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ليس على المسلمين عشور إنّما العشور على اليهود والنصارى[48].

 

ورواه الترمذي في صحيحه مرسلاً حيث قال: وفي الحديث ما يفسّر هذا حيث قال: إنّما العشور على اليهودى والنصارى وليس على المسلمين عشور[49].

 

وروى أبو الدرداء بإسناده عن حرب بن عبيد الله بن عمير الثقفي عن جدّه رجل من بني تغلب قال: أتيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فأسلمت وعلّمني الإسلام وعلّمني كيف آخذ الصدقة من قومي ممّن أسلم، ثُمّ رجعت إليه فقلت: يا رسول الله، كلّ ما علّمتني قد حفظته إلاّ الصدقة أفأعشّرهم؟ قال: لا، إنّما العشور على النصارى واليهود[50].

 

ورواه البيهقي في سنته بسندين أحدهما عن أبي داود[51].

 

فربما يقال طبقاً لهذه الروايات أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن نفى العشور على المسلمين إلاّ أنّه أثبتها على اليهود والنصارى فتعارض ما مرّ من الأخبار الكثيرة من طرفنا.

 

إلاّ أنّ الحقّ أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّما أثبت العشور على اليهود والنصارى وليس في واحدة من هذه الروايات العاميّة لفظة «العشّار» أو «العاشر» ليقال بمعارضتها لتلك الأخبار الماضية، فلعلّ العشور المذكور كانت خراجاً أو جزيةً جعلت على رؤوس أهل الذمّة من اليهود والنصارى، فليس في هذه الروايات حجّة على خلاف تلك الأخبار الكثيرة.

 

ويؤيّد ما ذكرنا ما رواه أبو داود في سننه بعد نقله للرواية الأولى الّتي نقلناها عنه فقال: حدّثنا محمّد بن عبيد المحاربي حدّثنا وكيع بن سفيان عن عطاء بن السائب عن حرب بن عبيد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمعناه، قال: «خراج» مكان «العشور»[52] ورواه البيهقي أيضاً بسندين أحدهما عن أبي داود مثله[53].

 

فإذا قال: «إنّما الخراج على اليهود والنصارى وليس على المسلمين خراج» وهو بمعنى العبارة الأخرى فلا محالة يكون قرينة على أنّ العشور المذكورة كانت مقدار الخراج المجعول على اليهود والنصارى لا ما يأخذه العشّارون.

 

فالحاصل: أنّ الأخبار الماضية المنقولة من طرقنا لا معارض لها حتّى في أخبار العامّة.

 

إلاّ أنّه بعد ذلك كلّه فالحقّ أنّه ليست هذه الأخبار الكثيرة أيضاً مخالفة بما قدّمناه من اقتضاء ولاية وليّ الأمر أن يجوز له وضع الضرائب وذلك أنّ القسم الأوّل منها كان ناظراً إلى ما يأخذه العشّارون في حكومة غير أهل الإسلام، وواضحٌ أنّ جميع تصرّفاتهم المتفرّعة على ولاية الناس غير مشروعة وأخذهم لهذه الضرائب أيضاً ظلمٌ منهم على أُممهم وهو حرام قطعاً، كما أنّ القسم الثاني منها بطائفتيه ناظرٌ إلى ما يفعله هؤلاء خلفاء الجور وأخذهم للضرائب والزكوات من المحرّمات فليس واحدة من تلك الروايات واردة في الضريبة الّتي يضعها وليّ أمر المسلمين الوليّ الّذي جعله الله تعالى عليهم وليّاً ويكون وضعها على مبنى رعاية المصالح الّتي يكون لحاظها وراعيتها من وظائف واختيارات وليّ أمر الأمّة الإسلامية.

 

السابع: ممّا قد يعدّ من المنابع المالية لوليّ الأمر

 

الزكاة في الأموال

 

وتوضيحه: أنّ زكاة الأموال واجب مالي أوجبها الله تعالى على الناس إلاّ أنّ متعلّق هذا الوجوب ليس شيئاً أو أشياء خاصّة بل انّ تعيينه مفوّض إلى وليّ أمر الأمّة، وقد عيّنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمور تسعة، وهذا التعيين ليس فرضاً إلهيّاً بل هو أمر اختاره وليّ الأمر بملاحظة المصالح الّتي كانت تقتضي هذا التعيين في زمانه، وإلاّ فلو تغيّر مقتضى المصلحة في زمن ولاية وليّ أمر آخر فإليه أيضاً تعيين أشياء أخر مكانها أو إحداث أيّ تغيير شاء فيها، ففي أمثال زماننا ربما تقتضي المصلحة جعل متعلّق الزكاة بعض أنواع هذه الأمور الصناعية الكثيرة أو زيادة بعض الأمور الزراعية عليها. وبالجملة: فإلى وليّ الأمر تعيين ما تتعلّق به الزكاة وبهذا التفسير تكون الزكاة منبعاً عظيماً ماليّاً لوليّ أمر الأمّة.

 

وعمدة الوجه في الاستدلال له أنّ الله تعالى في كتابه الكريم إنّما ذكر أصل وجوب الإنفاق وأداء الزكاة والصدقات في آياتٍ عديدة وأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأخذها من أموال الناس بمثل قوله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾[54] وذكر أيضاً مصرف الزكاة في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[55]  ولم يشر في أيّ آية إلى هذه الأموال الّتي يجب أداء الزكاة منها، بل ربما كان في تعليق الأخذ بأموالهم إشارة إلى أنّها تؤخذ من جميع الأموال. وكيف كان فقد فوّض أمر التعيين لمتعلّقها إلى نبيّ الإسلام وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن عيّن أمور تسعة لوجوب أداء الزكاة منها إلاّ أنّ الروايات الحاكية لتعيينه تتضمن عدّة منها أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عفا عمّا سوى هذه التسعة، والعفو إنّما يتصوّر تحقّقه فيما كان فيه اقتضاء الأخذ، فيدلّ على أنّ غير التسعة أيضاً فيه مجال أخذ الزكاة منها إلاّ أنّه عفا عن أخذها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والرسول كان وليّ أمر الأمّة فإذا رأى إمام بعده أن لا يعفو عنها بل يعيّن وجوب أدائها من غير التسعة كان له ذلك بل إذا كان اقتضاء المصالح منشأ لهذا التعيين فلوليّ أمر آخر أن يرفع وجوب أداء الزكاة من بعض هذه التسعة أو جميعها وجعل أمر أخر مكانها، بل كان هذا الاختيار بعينه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً إلاّ أنّه لم يغيّر ما عيّنه لوجوب أداء الزكاة منها. نعم مهما عيّن وليّ الأمر شيئاً أو أشياء لأن يكون متعلّق الزكاة كان ـ أو كانت ـ متعلّقها ما لم يقم هو أو وليّ أمر آخر بتغييره.

 

1ـ فمن هذه الروايات العديدة صحيحة عبد الله بن سنان ـ المروية في الكافي ومن لا يحضره الفقيه ـ قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لمّا نزلت آية الزكاة: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ في شهر رمضان فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مناديه فنادى في الناس: إنّ الله تبارك وتعالى قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة، ففرض الله عليكم من الذهب والفضّة والإبل والبقر والغنم ومن الحنطة والشعير والتمر والزبيب ونادى فيهم بذلك في شهر رمضان وعفا لهم عمّا سوى ذلك. ثُمّ لم يفرض [لم يتعرّض ـ يه] لشيء من أموالهم حتّى حال عليهم الحول من قابل فصاموا وأفطرواـ فأمر (صلى الله عليه وآله وسلم) مناديه فنادى في المسلمين: أيّها المسلمون زكّوا أموالكم تُقبل صلاتكم. قال: ثُمّ وجذه عمّال الصدقة وعمّال الطسوق[56].

 

2ـ ومنها صحيحة الفضلاء زرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير وبريد بن معاوية العجلي والفضيل بن يسار كلّهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: فرض الله عَزّ وجَلّ الزكاة مع الصلاة في الأموال، وسنّها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تسعة أشياء ـ وعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمّا سواهنّ ـ: في الذهب والفضّة والإبل والبقر والغنم والحنطة والشعير والتمر والزبيب، وعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمّا سوى ذلك[57].

 

3ـ ومنها معتبرة عبيد الله بن عليّ الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن الزكاة فقال: الزكاة على تسعة أشياء: على الذهب والفضّة والحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والبقر والغنم، وعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمّا سوى ذلك[58].

 

ومثلها خبر أبي بكر الحضرمي وخبر زرارة ومعتبر أبي بصير وخبر عليّ بن جعفر ومرسل المفيد عن جمعٍ من الأصحاب ـ الّذي لعلّه مأخوذ من سائر الأخبار الماضية ـ[59] فراجع.

 

وبيان دلالتها على المطلوب ما مرّ من أنّ التعبير بالعفو فيه دلالة على أنّ في غير التسعة أيضاً اقتضاء أن يجعل فيه الزكاة وأن عفو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّما كان لمصلحة، رآها وليّ الأمر، فلوليّ أمرٍ آخر أن لا يعفو.

 

أقول: إنّ هذا المدّعى لم يقل به أحد من الأصحاب، بل إنّ الشيخ في المسألة 63 من زكاة الخلاف قال: لا زكاة في شيءٍ من الحيوان إلاّ في الإبل والبقر والغنم وجوباً... دليلنا إجماع الفرقة، فإنّ ما فصّلناه مجمع عليه عندهم. كما أنّه قال في المسألة 74 منه: لا تجب الزكاة في شيءٍ ممّا يخرج من الأرض إلاّ في الأجناس الأربعة: التمر والزبيب والحنطة والشعير... دليلنا إجماع الفرقة. بل لم ينقل القول بهذا الادّعاء عن أحدٍ من المسلمين، فراجع الخلاف في المسألتين وغيرهما[60]. وراجع سائر الكتب الفقهية من العامّة والخاصّة.

 

اللّهم إلاّ أن يقال: إنّ العلماء الماضين من العامّة والخاصّة وإن لم يقولوا به بل ذهبوا إلى خلافه إلاّ أنّه إنّما كان ذلك لقصور فهمهم لما ذكرنا في الاستفادة من الأخبار لعدم تنصيص شيء منها في ما ادّعى، فإذا نظرنا بعين الدقّة فيها ورأينا دلالتها على هذا المدّعى فليس في إجماع الأصحاب على الخلاف حجّة على إعراضهم عنها بل يجب القول به.

 

لكنّ الحقّ أنّ الروايات المذكورة وأن كان فيها إشعارٌ مّا بتلك الدعوى إلاّ أنّ في قبالها روايات عديدة أخرى تدلّ على أن لا زكاة في ما عدا التسعة وأنّ العفو عفو جزمي لا مجال معه للمصير إلى خلافه، وهذه الروايات طائفتان:

 

الطائفة الأولى: ما تتضمّن عفوه (صلى الله عليه وآله وسلم) عمّا عدا التسعة، ومع ذلك تدلّ على أنّه لا مجال لتوهّم تعلّق الزكاة بشيءٍ غيرها.

 

1ـ منها صحيحة جميل بن درّاج المروية في خصال الصدوق قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) في كم الزكاة؟ فقال: في تسعة أشياء وضعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعفا عمّا سوى ذلك، فقال الطيّار: إنّ عندنا حبّاً يقال له الأرز: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): وعندنا أيضاً حبّ كثيرن فقال له: عليه شيء؟ قال (عليه السلام): ألم أقل لك إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عفا عمّا سوى ذلك، منها الذهب والفضّة وثلاثة من الحيوان: الإبل والغنم والبقر وممّا انبتت الأرض الحنطة والشعير والزبيب والتمر[61]. وروى نحوه الشيخ في التهذيبين[62].

 

إلاّ أنّ في سنده جعفر بن محمّد بن حكيم، أو جعفر بن محمّد عن محمّد بن حكيم، وجعفر بن محمّد بن حكيم لم تثبت وثاقته بل وهكذا محمّد بن حكيم، فراجع.

 

فالصحيحة كما ترى وإن تضمّنت أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عفا عن الزكاة في ما سوى التسعة إلاّ أنّ الإمام (عليه السلام) بعد سؤال الطيّار صرّح بأنّه لا مجال بعد عفوه في تخيّل ولا توهّم تعلّق الزكاة بما عداها.

 

2ـ ومنها ما رواه محمّد (بن حعفر) الطيّار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عمّا تجب فيه الزكاة فقال: في تسعة أشياء: الذهب والفضّة والحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والبقر والغنم، وعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمّا سوى ذلك، فقلت: أصلحك الله فإن عندنا حبّاً كثيراً، قال: فقال: وما هو؟ قلت: الأرز، قال (عليه السلام): نعم ما أكثره! فقلت: أفيه الزكاة؟ فزبرني. قال: ثُمّ قال (عليه السلام): أقول لك: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عفا عمّا سوى ذلك وتقول: إنّ عندنا حبّاً كثيراً أفيه زكاة؟![63].

 

ودلالته كالصحيحة السابقة واضحة ولعلّه نفس ما جاء نقله في الصحيحة والاختلاف من باب النقل بالمعنى.

 

ومثلهما ما أرسله أبو سعيد القمّاط عمّن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام)[64]، فراجع.

 

الطائفة: الثانية: ما تدلّ على انحصار ما تجب فيه الزكاة بالتسعة من غير اشتمال على مسألة العفو المذكور.

 

1ـ فمنها ما رواه الشيخ في التهذيبين عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن صدقات الأموال، فقال: في تسعة أشياء ليس في غيرها شيء، في الذهب والفضّة والحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والبقر والغنم السائمة وهي الراعية، وليس في شيء من الحيوان غير هذه الثلاثة الأصناف شيء، وكلّ شيءٍ كان من هذه الثلاثة الأصناف فليس فيه شيء حتّى يحول عليه الحول منذ يوم ينتج[65].

 

وسند الحديث معتبر فإنّ إسناد الشيخ إلى عليّ بن الحسن بن فضّال معتبر كما مرّ الكلام فيه تفصيلاً، وعليّ بن أسباط أيضاً ثقة ومحمد بن زياد المذكور فيه الّذي روى عنه ابن أسباط هو محمّد بن أبي عمير فإنّ ابن أسباط قد روى عنه بعنوان محمّد بن زياد بن عيسى كما في جامع الرواة مضافاً إلى قرائن أخرى مذكورة فيه ولذا عدّ صاحب الجامع هذه الرواية أيضاً ممّا رواه ابن أبي عمير عن ترجمته، وسائر الرجال لا كلام فيهم.

 

وأمّا دلالته فلا ريب في دلالة صدره على انحصار ما تجب فيه الزكاة في هذه التسعة وأنّه ليس في غيرها شيء.

 

2ـ ومنها ما رواه الصدوق في عيون الأخبار عن الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام): أنّ الزكاة على تسعة أشياء: على الحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والبقر والغنم والذهب والفضّة[66].

 

ودلالة هذه الرواية أيضاً على الانحصار واضحة وإن لم تكن بقوّة الأولى، إلاّ أنّ سندها غير معتبر لوقوع رجال فيه لم تثبت وثاقتهم.

 

فهاتان الطائفتان واضحتان الدلالة بل كالصريحة في أنّه ليس في غير هذه الأشياء التسعة زكاة، وقد صرّحت أولاهما بأنّ عفو النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عمّا عداها عفوٌ إلزاميٌّ دائميّ لا مجال بعده حتّى للسؤال عن تعلّق الزكاة بغيرها، فعدم ثبوت الاختيار المذكور لوليّ الأمر واضحٌ ولا مجال لعدّ الزكاة في غير الأشياء التسعة من المنابع المالية.

 

ونحن نكتفي هنا بهذا المقدار من الكلام في بيان عدم استقامة الدعوى المذكورة. وإلاّ فقد ورد في الباب صحيحة عن عليّ بن مهزيار عن أبي الحسن (عليه السلام)[67] صدرها مؤيّد للروايات المذكورة وذيلها ينافيها كما هو ظاهر لمن راجعها وعندي أنّ الصحيحة وردت مورد التقية، فراجع.

 

وبهذا نختم البحث عن المنابع المالية للدولة الإسلامية، وكان ختام التقرير ليلة السبت الثالث من شهر ذي الحجة الحرام من السنة 1422 الهجرية القمرية 27 / بهمن / 1380 الهجرية الشمسية، والحمد لله ربّ العالمين وله المنّ عليَّ بالتوفيق. والصلاة وعلى محمّد وآله الطاهرين ولا سيّما على وليّ الأمر وصاحب العصر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، ولعنة الله الدائمة على أعدائهم أجمعين أبد الآبدين.

 

 

 

العبد: محمّد المدعو بمؤمن القمّي

 

26 / 11 / 1380

 

 ــــــــــــــــــ

 

 [1] الوسائل: الباب 1 من أبواب القصاص في النفس ج 19 ص 3 الحديث 3 ، أخرجه عن الكافي والفقيه وتفسير القميّ.

 

 [2] الوسائل: الباب3 من أبواب الأنفال ج6 ص 376 الحديث6ن أخرجه عن إكمال الدين والاحتجاج.

 

 [3] الكافي: ج4 ص61.

 

 [4] التهذيب: ج4 ص143، أخرجه عنهما الوسائل: الباب4 من أبواب الأنفال ج6 ص381 الحديث11.

 

 [5] التهذيب: ج4 ص143، أخرجه عنهما الوسائل: الباب4 من أبواب الأنفال ج6 ص381 الحديث11.

 

 [6] التهذيب: ج4 ص191.

 

 [7] الوسائل: الباب4 من الأنفال ج6 ص381 الحديث11.

 

 [8] ج9 ص206ـ 317 تحت رقم 6807 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.

 

 [9] النساء: 29.

 

 [10] الوسائل: الباب1 من أبواب القصاص في النفس ج6 ص376 الحديث3.

 

 [11] الوسائل: الباب3 من أبواب الأنفال الحديث6.

 

 [12] الأحزاب: 6.

 

 [13] المائدة: 55.

 

 [14] المائدة 67.

 

 [15] الوسائل: الباب16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ج6 ص51 الحديث1و2.

 

 [16] الوسائل: الباب16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ج6 ص51 الحديث1و2.

 

 [17] الخلاف: ج2 ص54.

 

 [18] الجواهر: ج15 ص74.

 

 [19] الوسائل: الباب1 من أبواب قسمة الخمس ج6 ص356 الحديث3.

 

 [20] الوسائل: الباب41 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص84 و86 الحديث1و7.

 

 [21] الوسائل: الباب 1 من أبواب الأنفال ج6 ص365 الحديث3.

 

 [22] نهج البلاغة: الحكمة 104، عنه الوسائل: الباب 30 من أبواب الدعاء ج4 ص 1125 الحديث 3، وراجع تمام نهج البلاغة: الكلام 30 ص559.

 

 [23] الخصال: باب الستّة ص337، الوسائل: الباب 100 من أبواب ما يكتسب به الحديث12.

 

 [24] الوسائل: الباب49 من أبواب جهاد النفس ج11 ص272 الحديث14.

 

 [25] الوسائل: الباب 39 من أبواب فعل المعروف ج11 س601 الحديث7، عن ثواب الأعمال: ص338ـ339.

 

 [26] الوسائل: الباب8 من أبواب الدين ج13 ص89 الحديث2.

 

 [27] الوسائل: الباب29 من أبواب الصوم المندوب، الحديث6، ثواب الأعمال: الطبعة الأعلمي، ص86.

 

 [28] الوسائل: الباب63 من أبواب مقدمّات النكاح ج14 ص90 الحديث2.

 

 [29] الوسائل: الباب2 من أبواب الأطعمة المحرّمة ج16 ص317 الحديث14.

 

 [30] الوسائل: الباب12 من أبواب الأيمان المحرّمة ج16 ص135 الحديث6.

 

 [31] الوسائل: الباب 12 من كتاب الأيمان ج16 ص135 و136 الحديث 8و16 و17.

 

 [32] الوسائل: الباب 12 من كتاب الأيمان ج16 ص135 و136 الحديث 8و16 و17.

 

 [33] الوسائل: الباب 12 من كتاب الأيمان ج16 ص135 و136 الحديث 8و16 و17.

 

 [34] الكافي: ج8 ص87، عنه الوسائل: الباب27 من أبواب حدّ القذف ج18 ص462 الحديث4.

 

 [35] الوسائل: الباب 20 من أبواب المستحقّين للزكاة ج6 ص173 الحديث2.

 

 [36] الوسائل: الباب 20 من أبواب المستحقّين للزكاة ج6 ص175و173 الحديث8و1.

 

 [37] الوسائل: الباب 20 من أبواب المستحقّين للزكاة ج6 ص175و173 الحديث8و1.

 

 [38] مغني ابن قدامة: ج9 ص280 المسألة7681.

 

 [39] مغني ابن قدامة: ج9 ص280 المسألة7681.

 

 [40] الاُم للشافعي: ج4 ص205.

 

 [41] الخراج: ص134.

 

 [42] بدائع الصنائع: ج2 ص38 كتاب الزكاة.

 

 [43] سنن أبي داود: ج3 ص169.

 

 [44] السنن الكبرى: ج9 ص199 وقد روى أكثر الأخبار الآتية أيضاً.

 

 [45] مسند أحمد: ج3 ص474.

 

 [46] مسند أحمد: ج3 ص474، وج4 ص322.

 

 [47] سنن أبي داود: ج3 ص169، سنن البيهقي: ج9 ص199.

 

 [48] مسند أحمد: ج4 ص474، وج5 ص410.

 

 [49] صحيح الترمذي: ج3 ص28.

 

 [50] سنن أبي داود: ج3 ص169ـ 170.

 

 [51] السنن الكبرى: ج9 ص199.

 

 [52] سنن أبي داود: ج3 ص169.

 

 [53] السنن الكبرى: ج9 ص199.

 

 [54] التوبة: 103.

 

 [55] التوبة: 60.

 

 [56] الكافي: ج 3 ص 497، الفقيه: ج2 ص 13، عنهما الوسائل: الباب 1 و 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ج 6 ص 3 و 32 الحديث 1.

 

 [57] الكافي: ج3 ص 509، التهذيب: ج 4 ص 3، الاستبصار: ج 2 ص 3، عنها الوسائل: الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ج6 ص 34 و36 الحديث 4و11.

 

 [58] نغس المصدر.

 

 [59] الوسائل: الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة الأحاديث 5 و 8 و10 و17 و16.

 

 [60] الخلاف: ج2 ص 54 و61. وراجع أيضاً المسألة 90 ص 77 ، والمسألة 92 ص 78 ، والمسألة 94 ص 79.

 

 [61] الخصال : ص 422 الحديث 20 من باب التسعة ، وعنه الوسائل : الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ج 6 ص 37 الحديث 14 .

 

 [62] التهذيب : ج 4 ص 5 ، الاستبصار : ج 2 ص 5 ، وعنهما الوسائل : الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة  ج 6 ص 36 الحديث 13 .

 

 [63]  التهذيب: ج4 ص4، عنهما الوسائل: الباب8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ج6 ص36 و33 و 35 الحديث12 و 3 و 9.

 

 [64] نفس المصدر.

 

 [65] التهذيب: ج 2 ص 12، الاستبصار: ج 2 ص 2، عنهما الوسائل: الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة الحديث9.

 

 [66] العيون: ج 2 ص 127، عنه الوسائل: الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ج 6 ص 33 المذكورة الحديث2.

 

 [67] الوسائل: الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ج 6 ص 34 الحديث 6، والباب 9 منها ص 39 الحديث1.

 

 

 

 

 

احدث الاخبار

الاكثر قراءة