Skip to main content

الدرس الستون: ما ذكره بعض الأعلام حول إمكانية تشكيل الولاية الإسلامية زمن الغَيبة ـ القسم الثاني

التاريخ: 22-02-2011

الدرس الستون: ما ذكره بعض الأعلام حول إمكانية تشكيل الولاية الإسلامية زمن الغَيبة ـ القسم الثاني

الخامس منها: ما ذكره فيها بقوله: الدليل السابع نتيجة صغرى وكبرى كلّية، يستفاد كلّ منهما من نصوص كثيرة

الخامس منها: ما ذكره فيها بقوله: الدليل السابع نتيجة صغرى وكبرى كلّية، يستفاد كلّ منهما من نصوص كثيرة. فالصغرى هي أنّ الإسلام يدعوا المسلمين إلى التجمّع والمرابطة والتشكّل وتوحيد الكلمة، وينهى عن الرهبة والعزلة وعن التشتّت والفرقة... أمّا الصغرى فتدل عليها آيات وأخبار كثيرة بل متواترة إجمالاً:

 

أ ـ منها قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾[1].

 

ونحن بعون الله تعالى نسرد الكلام ذيل كلّ من هذه الكلمات من هذه الآيات والأخبار ليظهر مدى دلالتها، فنقول:

 

أمّا هذه الآية المباركة فاكتفى بمجرد ذكرها ولم يبيّن وجه دلالتها، ولعلّه بملاحظة اعتقاد وضوحها حيث أنّه تعالى أمر المسلمين بالاعتصام بحبل الله وأكّده بأن يكون هذا الاعتصام منهم به جميعاً ونهاهم عن أن يتفرقوا، وهذا عين الصغرى المدّعاة.

 

لكنّك تعلم أنّ المدّعى هو وجوب تجمّع المسلمين وتوحيد كلمتهم وأن لا يكون بينهم تفرق، والآية المباركة إنّما تدلّ على وجوب اعتصامهم جميعاً بحبل الله، فحبل الله شيء يجب عليهم أن يعتصموا به ولا يتفرقوا في هذا الاعتصام. والحبل ـ بحسب اللغة ـ هو مثل الرسن الّذي يتمسك به، فحبل الله هو الرسن الّذي يوصل مَن يتعلّق به إلى الله تعالى، فلعلّه دين الإسلام أو نبي الله وآله المعصومون (عليهم السلام) وأمثال ذلك، وقد وردت روايات كثيرة من طرق الخاصة والعامة بتفسيره بعليّ أمير المؤمنين أو به وبالأئمّة المعصومين (عليهم السلام). وعليه فمفاد الآية المباركة إيجاب أن يجتمع المسلمون كلّهم ويعتصم جميعهم بحبل ولا يتهم الإلهية وهو أمرٌ آخر غير مجرّد اجتماع المسلمين ووحدة كلمتهم بأنفسهم كما لا يخفى.

 

وهذه الروايات العديدة مذكورة في تفسير البرهان، نذكر منها رواية واحدة وهي:

 

ما رواه عن خصائص السيد الرضي بسنده المعتبر عن أبي موسى عيسى الضرير البجلي عن أبي الحسن (عليه السلام) في خطبة خطبها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرضه، وفيها أنّه قال: يا معشر المهاجرين والأنصار ومَن حضر في يومي هذا وساعتي هذه من الجنّ والإنس! ليبلغ شاهدكم غائبكم، ألا إنّي قد خلّفت فيكم كتاب الله فيه النور والهدى والبيان لما فرض الله عليكم من شيء حجة الله عليكم وحجّتي وحجّة وليّي، وخلّفت فيكم العلم الأكبر عَلَم الدين ونور الهدى وضياءه، وهو عليّ ابن أبي طالب، ألا وهو حبل الله ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[2]. أيّها الناس، هذا عليّ مَن أحبّه وتولاّه اليوم وبعد اليوم فقد أوفى بما عاهد عليه الله ومَن عاداه وأبغضه اليوم وبعد اليوم جاء يوم القيامة أصمّ وأعمى لا حجّة له عند الله[3].

 

إلى غير ذلك من أخبار عديدة، فراجع تفسير البرهان (ج1 ص668 ـ 672).

 

ب ـ قال: ومنها قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾[4].

 

ولعلّ وجه الاستدلال به أنّه تعالى في الآية المباركة حكم بتّاً بأنّ المؤمنين كلّهم إخوة فكان جميعهم بمنـزلة إخوة مشتركة في الوالدين أو أحدهما، فكما أنّ الإخوة النسبية كلّهم مجتمعون بين أنفسهم وبمنـزلة يدٍِ واحدة على مَن سواهم فهكذا يجب أن يكون المؤمنون، كما مرّ من إيجاب توحيد الكلمة.

 

أقول: واللازم لأن يتّضح مفاد الآية المباركة أن نذكر هذه الآية والآية السابقة عليها، فقد قال الله تعالى في سورة الحجرات: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[5].

 

فالتدبّر في الآيتين يعطي أنّ الأولى منهما متعرّضة لأمر المؤمنين بالإصلاح بين طائفتين من المؤمنين اقتتلتا، وأكدت على لزوم تعقيب هذا الأمر بحيث أنّه إذا كانت إحداهما باغية وجب على المسلمين أن يقاتلوا حتّى ترفع اليد عن البغي وتفيء إلى أمر الله تعالى، فإذا فاءت وجب الإصلاح بين الطائفتين بالعدل والقسط المحبوب لله تعالى. فبعد هذا المضمون الشريف الأكيد قال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ». فتأكيد الجملة الأولى وتعقيبها بقوله في الجملة الثانية متفرعاً على الأولى: «فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ» حيث فرض بعد أيضاً أخوين يجب الإصلاح بينهما دليل على أنّ هذه الآية الثانية إنّما جيء بها لتعقيب ما كانت الآية الأولى بصدده من إصلاح طائفتين اقتتلتا. وحاصل مفادها حينئذٍ: أنّ المؤمنين جميعهم إخوة فلا مجال للتنازع بين طوائفهم ولا لأن يعقد سائر المؤمنين في مجالسهم غير مهتمين بهذا التنازع، بل عليهم أن يقوموا ويوجدوا الإصلاح بين الطائفتين كما بيّنه بوضوح في الآية الأولى.

 

فبعد هذا التدبّر فليس ببعيد أن يقال: إنّ الآية الثانية أيضاً ليست بصدد أزيد من أنّه يجب على المؤمنين أن يراعي كلّ واحدٍ منهم حقوق الآخرين وأن يراعي كلّ طائفة منهم حقوق الطوائف الأخر فلا يضيع أحد ولا طائفة حقّ غيره. فهذه الآية كالآية الأولى إنّما هي بصدد إيجاب رعاية حقوق المؤمنين وأداء حقوقهم الشخصية وعدم تضييعها لا بصدد توحيد كلمتهم في مقابل الأجانب كما هو المدّعى ومراد المستدلّ.

 

وبالجملة: فإنّ هنا معنيين: أحدهما أن يلاحظ كلّ من المؤمنين إخوته المؤمنين فيؤدي إليه كلّ ما يحتاج إليه في معيشته ويراه كنفسه في أن يحصل له كلّ خير يحصل لنفسه ويحبّ له كلّ ما يحب لنفسه ويكره له كلّ ما يكرهه لنفسه. وثانياً أن يكون المؤمنون جميعاً كيَدٍ واحدة على مَن سواهم ويكونوا في مقابل الكفّار كيَدٍ واحدة وفي بنيان وصفٍّ مرصوص. فالّذي يفيد المستدلّ ويكون بصدد إثباته هو المعنى الثاني، والّذي نستظهره من الآية المباركة هو المعنى الأوّل، وشاهد هذا الاستظهار ما مرّ من البيان.

 

ويشهد له أيضاً ملاحظة أخبار كثيرة وردت في مقام بيان الحقوق المترتّبة على الإخوة سواء كانت على عنوان الأخ المؤمن أو الأخ المسلم فإنّها على كثرتها أيضاً إنّما تعرّضت للمعنى الأوّل ولا إشارة ولو في واحدة منها إلى المعنى الثاني، فلننقل منها روايات:

 

1ـ ففي صحيح أبي المغرا حميد بن المثنى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه، ويحقّ عن المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض حتّى تكونوا كما أمركم الله عَزّ وجَلّ رحماء بينكم متراحمين مغتمّين لما غاب عنكم من أمرهم، على ما مضى عليه معتبراً الأنصار على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)[6].

 

2ـ وفي صحيح عيسى بن أبي منصور قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) أنا وابن أبي يعفور وعبد الله بن طلحة، فقال ابتداءً منه: يا ابن أبي يعفور، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ستّ خصال مَن كنّ فيه كان بين يدي الله عَزّ وجَلّ وعن يمين الله» فقال له ابن أبي يعفور: وما هنّ جعلت فداك؟ قال: يحب المرء المسلم لأخيه ما يحبّ لأعزّ أهله، ويكره المرء المسلم لأخيه ما يكره لأعزّ أهله، ويناصحه الولاية، فبكى ابن أبي يعفور وقال: كيف يناصحه الولاية؟ فقال: يا ابن أبي يعفور! إذا كان منه بتلك المنـزلة بثّه همه ففرح لفرحه إن هو فرح وحرن له إن هو حرن وإن كان عنده ما يفرّج عنه فرّج عنه وإلاّ دعا الله له... الحديث[7].

 

3ـ وفي صحيح عليّ بن عقبة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله، لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشّه ولا يعده عدة فيخلفه[8].

 

4ـ وفي معتبر الحارث بن المغيرة ـ المروي في أصول الكافي ـ قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): المسلم أخو المسلم، هو عينه ومرآته ودليله، لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذبّه ولا يغتابه[9].

 

5ـ وفي صحيح عبد الله بن مسكان عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) أنّه قال: أحبّ أخاك المسلم وأحبّ له ما تحبّ لنفسك واكره له ما تكره لنفسك، إذا احتجت فسله وإذا سألك فأعطه، ولا تدّخر عنه خيراً فإنّه لا يدّخر عنك، كن له ظهراً فإنّه لك ظهر، إن غاب فاحفظه في غَيبته، وإن شهد فزوره وأجلّه وأكرمه، فإنّه منك وأنت منه، وإن كان عليك عاتباً فلا تفارقه حتّى قلّ (تسلّ ـ خ ل) ـ سخيمته وما في نفسه، فإذا أصابه خير فاحمد الله، وأن ابتلى فاعضده وتمحّل له[10].

 

إلى غير ذلك من روايات عديدة يظهر من جميعها أنّ مقتضى الأُخوة أن يكون المسلمون بينهم أنفسهم كما قال الله تعالى: ﴿رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾[11]، ففيها أيضاً دلالة واضحة على أنّ حقّ الأخوة هو مراعاة الأخ في حوائجه الشخصية بأن يكون الأخ أيضاً حاضراً لديه شاغلاً لذهنه وفكره يحبّ له ما يحبّ لنفسه وأعزّ أهله ويكره ما يكره لنفسه وليس فيها إشارة إلى أنّ حقّ الأخوة هو التجمّع وتوحيد الكلمة على مَن سواهم.

 

فأن قلت: أنّ الأخبار الواردة في بيان آثار الأخوة وإن لم تصرّح بأنّ منها توحيد كلمتهم إلاّ أنّ كونه من آثارها أمرٌ واضح، وإنّ من واضح آثار الأخوة عند العقلاء أن يكون كلّ جمع

 

إخوة متّحدة وبمنـزلة يدٍ واحدة على مَن سواهم، فمجرّد الحكم بأنّ المؤمنين إخوة يدلّ بدلالة التزامية بيّنة على ثبوت هذا الأثر ولا يحتاج إلى مزيد تعرّض خاصّ به.

 

قلت: إنّ هذا الأثر لا يمكن أن يكون مورد نظر الإسلام الشريف ولا مركز تأييده، وكيف يمكن توهّم ذلك في الإسلام الّذي ينادي صريحاً بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[12] وينادي أيضاً بقوله: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾[13] فيصرّح بأنّ كلّ الملاك في القيمة الإلهية هو التقوى وبأنّ كلّ نسبٍ ومنها الأخوة لا اعتناء به في قبال ما يريد الله، فكيف يمكن أن يقول هذا الإسلام إنّ كلّ جمع نسبي بالأخوّة يجب أن تكون لهم كلمة واحدة في قبال كلّ فرد أو جمعٍ آخر؟

 

وبالجملة: فلا ينبغي الريب في عدم دلالة هذه الآية الشريفة أيضاً على ذاك الادّعاء.

 

ج ـ قال: ومنها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ﴾[14].

 

فالمستدلّ لم يزد هنا أيضاً على أكثر من ذِكر نفس الآية المباركة، والظاهر أنّ محل الاستدلال فيها هو قوله تعالى: «رَابِطُواْ» حيث إنّ المخاطب كما صرّحت به الآية المباركة هم «الَّذِينَ آمَنُواْ» فأمرهم بالمرابطة، والمرابطة عبارة عن إيجاد الارتباط بين المؤمنين، والأمر مطلق يشمل كلّ زمان كما أنّ المأمور كلّ مَن آمن، فيجب أن يكون بين جميع المؤمنين على وجه الأرض وفي جميع الأزمنة ارتباط ومرابطة، وهو عين ما بصدده ادّعائه من الاجتماع وتوحيد الكلمة.

 

أقول: إلاّ أنّ هذا الاستدلال مردود جدّاً وذلك أنّ الرباط بحسب اللغة إنّما هو المحافظة عن ثغر بلاد الإسلام، فمثلاً قال القيّومي في المصباح المنير: الرباط اسمٌ من رابط مرابطة ـ من باب قاتل ـ إذا لازم ثغر العدوّ. وقد فسّر هو أيضاً الثغر بقوله: الثغر من البلاد الموضع الّذي يخاف منه هجوم العدوّ. فهو كالثلمة في الحائط يُخاف هجوم السارق منها، والجمع ثغور، مثل فَلس وفُلوس. فإذا لوحظ معناه اللغوي كان الرباط المأمور به هو ملازمة ثغور بلاد الإسلام للمحافظة عليها من هجوم الأعداء. وإن قطع النظر عن معناه اللغوي فقد وردت روايات عديدة من كتب متعدّدة بأنّ المراد من الرباط في الآية الشريفة هو الرباط على الأئمة (عليهم السلام) والملازمة لأوامرهم.

 

فمثلاً فقد قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره ذيل الآية المباركة ما نصّه: وأمّا قوله: «اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ» فإنّه حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال اصبروا على المصائب، وصابروا على الفرائض، ورابطوا على الأئمة (عليهم السلام)[15].

 

وبمعناها روايات عديدة أخرى ذكرها صاحب تفسير البرهان ذيل الآية المباركة، فراجع[16].

 

بل الدّقة في هذه الروايات تعطي أنّ الأئمة (عليه السلام) أيضاً لم يفسّروا الرباط بغير معناه اللغوي بل حيث إنّ الرباط هو الحفاظ والملازمة لثغر بلاد الإسلام فلا محالة أنّ الرباط الّذي لا ريب في أنّه رباط عن ثغور الإسلام إنّما هو ملازمة ما يقوله الأئمة (عليه السلام) فإنّهم ثغور الإسلام، فالإمام هو ثغر الإسلام فيجب ملازمته ومحافظته كما يجب حفظ ثغور الإسلام بمعنى الأراضي وحدودها الخاصّة به.

 

د ـ قال: ومنها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾[17].

 

واقتصر المستدلّ هنا أيضاً على مجرّد ذِكر الآية المباركة ولم يبيّن وجه الاستدلال بها، ولعل وجهه أنّ السلم بمعنى الصلح والمسالمة، فخاطب الله المؤمنين وأمرهم بأن يدخلوا كافّتهم في المسالمة، ودخولهم في المسالمة لا معنى له إلاّ أن يكون بينهم توحيد الكلمة ولا يكون أيّ نقاش بينهم أصلاً، وهو المطلوب.

 

أقول: قال الشيخ في التبيان والطبرسي في مجمع البيان ذيل الآية المباركة: قال أبو عُبيدة: السِلم ـ بكسر السين ـ والإسلام واحد، وهو في موضع آخر: المسالمة والصلح...[18].

 

وعن الأخفش: السلم بكسر السين: الصلح، وبفتحها: الاستسلام والانقياد هكذا نقله في تفسير أبي الفتوح، وفيه نقل أقوال أخر. وقال في التبيان: قال الأخفش: السلم بكسر السين: الصلح، وبفتحها وفتح اللام: الاستسلام. وفي التبيان أيضاً: ويقال: السِلم والسلم معناهما: الإسلام والصلح، وفيه ثلاث لغات: كسر السين وفتحها مع تسكين اللام وفتحها[19]. ويستفاد من لسان العرب أنّ السِلم والسلم كليهما يجيء بمعنى الصلح والانقياد والإسلام، فلكلّ منهما معانٍ ثلاثة.

 

فبعد ذلك كلّه فقد قرئت هذه الكلمة في الآية المباركة بفتح السين، قرأ به أهل الحجاز والكسائي، وقرأ الباقون بكسرها، وبملاحظة ما عرفت من معناه فلا يبعد أن يكون بمعنى الإسلام أو الانقياد، ولا يناسب كونه بمعنى الصلح فإنّه يحتاج إلى فرض نـزاع وتشاجر، ولم يفرض هنا لا بين المؤمنين أنفسهم ولا بينهم وبين الكفار، على أنه تعالى أمر المؤمنين بقوله تعالى: ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾[20] وإن أمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقبول دعوة الكفّار إلى الصلح بقوله تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ ومع ذلك فلا مساغ لأمر المؤمنين بأن يدعو أنفسهم إلى الصلح مع الكفّار، فالظاهر أنّ مفاد الآية المباركة أمر المؤمنين بالدخول في الإسلام أو الطاعة الانقياد لله تعالى، وإليه يرجع أقوال المفسّرين، فراجع، فليس في الآية المباركة دلالة على ذلك الادّعاء أصلاً.

 

ثُمّ إنّه قد وردت أخبار متعدّدة في أنّ المراد بالسلم ولاية الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، ففي معتبر عبد الله بن عجلان ـ المروي في أصول الكافي ـ عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عَزّ وجَلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ قال: في ولايتنا[21].

 

وقد روي ما بمعناه عن أمالي الشيخ ومختصر بصائر الدرجات لسعد بن عبد الله وعن تفسير العيّاشي ومناقب ابن شهر آشوب، فراجع تفسير البرهان ذيل الآية المباركة[22].

 

وإشارة إلى هذه الروايات قال في التبيان ومجمع البيان ـ بعد نقل تفسير «السلم» بالإسلام عن بعض وبالطاعة عن آخر ـ قالا: والأمران جميعاً عندنا جائزان محتملان، وحملها على الطاعة أعمّ، ويدخل فيه  ما رواه أصحابنا من أنّ المراد به الدخول في الولاية[23].

 

وكيف كان، فلا ريب في عدم دلالة الآية المباركة على ذلك المدّعى، ولم نعرف في القرآن الكريم آية أخرى تدلّ على هذه الدعوى، فالآيات لا دليل فيها، فلنتعرّض للروايات:

 

1ـ قال: ومن الأخبار ما رواه ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرئٍ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمّة المسلمين واللزوم لجماعتهم، فإنّ دعوتهم محبطة من ورائهم، المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم[24].

 

ولم يذكر ذيل الرواية أيضاً بياناً لدلالتها ولعلّ المستند فيها قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند عدّ الأمور الثلاثة: «واللزوم لجماعتهم» حيث إنّه أحد الثلاثة الّتي لا يغلّ  ولا يخون عليها قلب امرئٍ مسلم، فالمسلم بما أنّه مسلم لا يزيغ قلبه عن لزوم جماعتهم. والضمير المضاف إليه راجع إلى المسلمين فيجب لا محالة لزوم جماعتهم قطعاً، فلهم جماعة يجب ملازمتها على جميع المسلمين، وهو المطلوب.

 

أقول: والرواية صحيحة السند رواها في الكافي ولها صدر هكذا: عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب الناس في مسجد الخَيف فقال: نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها مَن لم يسمعها، فربّ حامل فقه غير فقيه وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغلّ... الخ.

 

قال الكليني بعد ذكر الحديث ورواه (يعني أحمد بن محمّد بن عيسى) أيضاً عن حمّاد بن عثمان عن أبان عن ابن أبي يعفور مثله وزاد فيه: «وهم يدٌ على مَن سواهم». وذكر في حديثه أنّه خطب في حجّة الوداع بمنى في مسجد الخَيف.

 

ورواه الصدوق أيضاً في باب الثلاثة من الخصال وفي المجلس السادس والخمسين من الأمالي بالسند الصحيح عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثل ما رواه الكافي بالسند الثاني[25].

 

هذا كلّه بالنسبة لمتن الحديث واعتبار سنده.

 

وأمّا دلالته فقد عرفت ابتناءها على رجوع ضمير «جماعتهم» إلى المسلمين وهو غير مسلّم لاحتمال أن يكون مرجعه إلى أئمّة المسلمين، فيكون مفاد الحديث وجوب النصيحة لأئمّة المسلمين ووجوب اللزوم لجماعة هؤلاء الأئمّة. وحينئذٍ فالمراد بجماعتهم هو جماعة الشيعة الإمامية الّذين يعتقدون بإمامتهم وولايتهم، فيجب على كلّ مسلم أن لا يخون قلبه عن اللزوم لجماعة الأئمّة وعن الموالاة بهم، وهو معنى غير اجتماع المسلمين أنفسهم وتوحيد كلمتهم، والإنصاف أنّه احتمال قويّ جدّاً، ومعه فلا حجّة في الصحيحة على ذاك الادّعاء.

 

نعم في آخر الحديث بثاني نقلي الكافي وبنقلي الصدوق زيادة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «هم يدٌ على مَن سواهم» وهو يدلّ على وجوب أن يكون جميع المسلمين يداً واحدةً في مقابل الكفّار وأعداء الإسلام إلاّ أنّه راجع إلى وجوب توحيد كلمتهم وكونهم معدّين كمال الإعداد في إقبال الأعداء وفي مقام الجهاد ابتداءاً أو دفاعاً، وهو أمر آخر غير المدّعى المزبور، ويكون من المقدّمات الّتي تعرّضنا لها واعترفنا بثبوتها عند التعرّض لبيان الدليل الرابع من الأدلّة الّتي قد مرّت تمامية دلالتها، فتذكّر.

 

2و3 ـ ثُمّ قال في الدراسات: وما رواه الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: مَن فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.

 

وعنه عن أبي عبد الله (عليه السلام) أيضاً قال: مَن فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الإمام جاء إلى الله أجذم[26].

 

وهاهنا أيضاً لم يذكر بياناً لدلالة الحديثين، والظاهر أنّ بيانها مثل ما قدّمناه ذيل صحيحة ابن أبي يعفور، حيث حكم بحرمة مفارقة جماعة المسلمين، وأنّها بمنـزلة خلع ربقة الإسلام عن العنق، وتوجب أن يُحشر يوم القيامة أقطع اليد، فلا محالة يكون اجتماع المسلمين واجباً وهو المطلوب.

 

أقول: والكلام هنا تارةً في سند الخبرين وأخرى في دلالتهما.

 

أمّا سندهما فقد وقع في كلا السندين أبو جميلة وهو مفضّل بن صالح الّذي فيه عن العلاّمة في الخلاصة: أنّه ضعيف كذّاب يضع الحديث فسندهما ضعيف.

 

وأمّا دلالتهما فالإنصاف احتمال أن يراد بجماعة المسلمين المذكورة فيهما الجماعة المجتمعة حول الإمام المعصوم كما ذكرناه ذيل صحيحة ابن أبي يعفور، ويقوّي هذا الاحتمال عطفاً على قوله «فارق جماعة المسلمين» قوله: «ونكث صفقة الإمام» فإنّه يدلّ على أنّ مفارقة جماعة المسلمين إنّما هي بنكث صفقة الإمام والبيعة له، فلا محالة يكون مفارقة جماعة المسلمين بنقض بيعته لإمام الإسلام وخروجاً من جماعة الشيعة الإمامية الّذين هم المسلمون بالحقيقة.

 

فالحاصل: أنّ هذين الخبرين أيضاً لا حجّة فيهما على ذاك المطلوب أصلاً.

 

4ـ ثُمّ قال: وفي نهج البلاغة والزموا السواد الأعظم فإنّ يد الله مع الجماعة، وإيّاكم والفرقة فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب، ألا مَن دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه[27].

 

والظاهر أنّ الاستدلال بجملاته الأول حيث أمر بلزوم السواد الأعظم من الناس الّذي هو اجتماعهم وحذّر من الفرقة معلّلاً لسرّ اللزوم مع السواد الأعظم بقوله: «فإنّ يد الله مع الجماعة» كما علّل سرّ النهي عن الفرقة بقوله: «فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان...» إلى أن قال: «ألا مَن دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه» فهذا الكلام واضح الدلالة على المطلوب.

 

أقول: وبعد ذلك كلّه فالحقّ أنّ هذا المقال أيضاً ناظر إلى الافتراق عن السواد الأعظم من الناس الّذي بايعوا وليّ أمر الأمّة واجتمعوا حوله يتبعون أوامره، وليس ناظراً إلى لزوم اجتماع الناس بأنفسهم وتوحيد كلمتهم، والدليل عليه ملاحظة الجملات السابقة أو اللاحقة لتلك الفقرات فلنلاحظها:

 

قال السيّد الرضي في نهج البلاغة: «ومن خطبة له (عليه السلام)، وفيه يبيّن بعض أحكام الدين ويكشف للخوارج الشبهة وينقض حكم الحكمين». وعنونه في تمام نهج البلاغة بقوله: «كلام له (عليه السلام) كلّم به الخوارج لمّا قالوا له: إنّا حكَمنا فلمّا حكَمنا أثمنا وكنّا بذلك كافرين وقد تبنا، فإن تبتَ كما تبنا فنحن منك ومعك»[28].

 

فخطبته أو كلامه إنّما هي في الخوارج الناقضين لأمر الولاية، وننقل المتن عن نهج البلاغة، فقال (عليه السلام): فإن أبيتم إلاّ أن تزعموا أني أخطأت وضللت فلِمَ تضلّلون عامّة أمّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) بضلالي وتأخذونهم بخطيئتي وتكفّرونهم بذنوبي؟! سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم وتخلطون مَن أذنب بمن لم يُذنب، وقد علمتم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجم الزاني المحصن ثُمّ صلّى عليه ثُمّ ورّثه أهله، وقتل القاتل وورّث ميراثه أهله، وقطع السارق وجلد الزاني غير المحصن ثُمّ قسّم عليهما من الفيء ونكحا المسلمات، فأخذهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذنوبهم، وأقام حقّ الله فيهم، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام، ولم يُخرج أسماءهم من بين أهله.

 

ثُمّ أنتم شرار الناس ومَن رمى به الشيطان مراميه وضرب به تيهَه، وسيهلك فيَّ صنفان: محبٌّ مفرِط يذهب به الحبّ إلى غير الحقّ، ومبغضٌ مفرط يذهب له البغض إلى غير الحقّ، وخير الناس فيَّ حالاً النمط الأوسط فألزموه والزموا السواد الأعظم... عمامتي هذه، فإنّما حُكّم الحَكمان ليُحييا ما أحيا القرآن ويُميتا ما أمات القرآن،وإحياؤه الاجتماع عليه، وإماتته الافتراق عنه، فأن جرّنا القرآن إليهم اتّبعناهم، وإن جرّهم إلينا اتّبعونا، فلم آتٍ ـ لا أبالكم ـ يُجراً ولا ختلتُكُم عن أمركم ولا لبّسته عليكم، إنّما اجتمع رأي مَلَئكم على اختيار رجلين أخذنا عليهما أن لا يتعدّيا القرآن، فتاها عنه وتركا الحقّ وهما يُنصرانه وكان الجور هواهما فمضيا عليه، وقد سبق استثناؤنا عليهما ـ في الحكومة بالعدل والصمد للحقّ ـ سوء رأيهما وجور حكمهما[29].

 

أقول: التيه: بادية الضلالة. البُجر: الشرّ والأمر العظيم. ختلتُكم: خدعتُكم. الصمد: القصد. وإرادة ما ذكرناه من كلامه (عليه السلام) واضحة لا حاجة إلى بيان.

 

5ـ ثُمّ قال: وفيه أيضاً: إنّ هؤلاء قد تمالئوا[30] على سخطة إمارتي، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم، فإنّهم إن تمّموا على فيَالة[31] هذه الرأي انقطع نظام المسلمين[32].

 

وتقريب دلالته أنّه (عليه السلام) أفاد أنّه يصير قبال قوم اجتمعوا على مخالفة ولايته وإمارته ما لم يخف على جماعة المسلمين، ومن الواضح أن التمالئ على سخطة ولايته حرام مسلّم، فمع هذا أخبر بأنّه يصير على تحمّل هذا الحرام منهم ـ ولا محالة لمصالح ـ ما لم يخف على جماعة المسلمين، فإذا خاف على جماعتهم لم يصير ويجاهدهم، فيُعلم منه أنّ جماعة المسلمين واجب عظيم تكون رعايته في حدٍّ عالٍ، وهو المطلوب.

 

أقول: والحقّ أنّ هذا الكلام أيضاً لا دليل فيه، وذلك لعين ما مرّ في الخطبة السابقة إذ أنّ خطبته هذه خطبها عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة، ومن الواضح أنّهم من البغاة الناكثين لبيعته.

 

فقد عنون السيّد هذه الخطبة هكذا: «ومن خطبة له (عليه السلام) عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة» وهكذا عنونها في تمام نهج البلاغة[33]. والجملات السابقة واللاحقة هكذا: (أيّها الناس ـ التمام) إنّ الله بعث رسولاً هادياً بكتابٍ ناطقٍ وأمرٍ قائم، لا يهلك عنه إلاّ هالك، وإنّ المبتدعات المشتبهات هنّ المهلكات (المرديات ـ التمام) إلاّ ما حفظ الله منها، وإنّ في سلطان الله عصمة لأمركم فأعطوه طاعتكم غير مُلوّمة ولا مستكره بها. والله لتفعلُنّ أو لينقُلنّ الله عنكم سلطان الإسلام ثُمّ لا ينقله إليكم أبداً حتّى بأرِز الأمر إلى غيركم (ألا وإنّي أقاتل رجلين: رجلاً ادّعى ما ليس له، وآخر منع الّذي عليه، إنّ الله عَزّ وجَلّ جعل لظالم هذه الأمّة العفو والمغفرة، وجعل لمن لزم الأمر واستقام الفوز والنجاة، فمن لم يسعه الحقّ أخذ بالباطل ألا و ـ التمام) أنّ هؤلاء قد تمالئوا على سخطة إمارتي (ودعوا الناس إلى مخالفتي ـ التمام)... نظام المسلمين، وإنّما طلبوا هذه الدنيا حسداً لمن أفاءها الله عليه فأرادوا ردّ الأمور على أدبارها...[34].

 

ودلالة كلامه (عليه السلام) على أنّ موضوعه مَن خالفه في ولايته ودعا الناس إلى الخروج عن طاعته وأنّهم كانوا ناكثين لبيعته، فلا محالة يكون المراد من «جماعتكم» المذكور في كلامه جماعة المسلمين الّذين بايعوه واتّبعوه وسلّموا أمر الولاية إليه لا مجرّد اجتماع المسلمين بأنفسهم، فلا دلالة فيه على ذلك المطلوب.

 

6ـ ثُمّ قال: وفي مسند أحمد عن أبي موسى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً[35].

 

وتقريب دلالته: أنّ كون كلّ مؤمن لمؤمن آخر كأجزاء بنيان واحد يشدّ بعضه بعضاً يؤول إلى وجوب أن يكون المؤمنون كلّهم بنياناً واحداً ينظر كلّ منهم إلى الآخرين ويشدّه، وهو وجوب الاجتماع المطلوب.

 

أقول: والإنصاف أنّ ّغاية مفاد الحديث لزوم أن يكون كلّ واحدٍ من المؤمنين مراقباً للآخرين يعطيه حقّ إيمانه، وهو يؤول إلى ما مَر منّا ذيل الأخبار الواردة في حقوق الأخوة، ولا دلالة فيه على لزوم الاجتماع.

 

7ـ ثُمّ قال: وفي صحيح مسلم بإسناده عن عرفجة قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: مَن أتاكم وأمركم جميع على رجلٍ واحد يريد أن يشقّ عصاكم ويفرّق جماعتكم فاقتلوه[36].

 

وبيان دلالته: أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بقتل مَن يريد تفريق جماعة المسلمين، وهو لا يكون إلاّ إذا كانت جماعتكم أمراً مطلوباً في حدّ الوجوب.

 

أقول: والحقّ عدم دلالته، فإن موضوعه «مَن أتاكم وأمركم جميع على رجل» ولا محالة هذا الرجل لا يكون وليّ أمر المسلمين اجتمعوا حوله، فالاجتماع هو الاجتماع حول وليّ الأمر لا مجرّد اجتماع المسلمين.

 

وعليه، يحمل ما رواه مسلم في صحيحه عن عرفجة سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنّه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمّة وهي جميع فاضربوه بالسيف. وفي خبر جمع آخر عنه «فاقتلوه»[37] فالمراد بـ «أمر هذه الأمّة» أمر اجتماعهم حول وليّ أمرٍ خاصّ، واجتماعهم هو هذا الاجتماع لا مجرّد اجتماع أنفسهم بعضهم مع بعض. هذا، مضافاً إلى عدم اعتبار إسناد هذه الروايات.

 

فحاصل الكلام: أنّه لا دلالة لشيءٍ من الآيات والأخبار المذكورة على وجوب اجتماع المسلمين وتوحيد كلمتهم بالمعنى الّذي ذكره فلا تتمّ صغرى هذا الدليل أصلاً، ومع عدم تمامها لا أثر للكبرى أصلاً.

 

وأما كبرى هذا الدليل ـ أعني أنّ الإمامة جامعة شتات الأمّة وحافظة وحدتها ـ فقد استدلّ لإثباتها بقول الأمير (عليه السلام) في نهج البلاغة «والإمامة نظاماً للأمّة» وبما عن الرضا (عليه السلام) في مزايا الإمامة ويقول الأمير (عليه السلام) في مشاورة عمر ابن الخطّاب «ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز...» وبقوله (عليه السلام) في نهج البلاغة «وأعظم ما افترض الله من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرعية...».

 

وقد مرّ في كلماتنا السابقة أنّ قوله (عليه السلام) «والإمامة نظاماً للأمّة» إن دلّ فهو يدلّ على وجوب تأسيس الدولة الإسلامية زمن الغَيبة أيضاً، وقد مرّ الكلام عليه في ثالث الوجوه الّتي ارتضيناها. كما أنّ قول أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وكلام الأمير (عليه السلام) عند مشاورة  عمر بن الخطّاب إنّما يدلاّن على توقّف الجهاد بوجود وليّ الأمر، كما مرّ الكلام عنها عند ذِكرنا لأدلّة هذا التوقّف في بيان أدلّة كبرى الوجه الرابع من الوجوه المختارة لنا. وكما أنّ قوله الأخير قد مرّ أنّه إنّما يدلّ على وجوب حفظ الدين الإلهي بالجهاد تحت أمر وليّ الأمر، ولا مساس لشيءٍ منها بالكبرى الّتي هنا بصدد إثباتها، فراجع.

 

كما أنّ ما رواه هنا عن المفيد بسنده عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اسمعوا وأطيعوا لمن ولاّه الله الأمر فإنّه نظام الإسلام[38] إنّما يدلّ على وجوب الإطاعة لوليّ الأمر ولا مساس له بحفظ اجتماع المسلمين بهذه الإطاعة. وقوله «فإنّه نظام الإسلام» أيضاً دليل على أنّ السمع والطاعة لوليّ الأمر نظام الإسلام، ولا مجال لتوهّم أنّ المراد بنظام الإسلام هو اجتماع المسلمين وأنّه متوقّف على ولاية وليّ الأمر كما لا يخفى.

 

كما أنّ عدم دلالة الخبرين اللذين ذكرهما عن مسند أحمد[39] واضح. وبالجملة: فأدلّة إثبات الكبرى أيضاً غير تامّة.

 

فالحاصل: أنّ الأدلّة المذكورة لإثبات الصغرى والكبرى المذكورتين غير تامّة، والسند ما مرّ.

 

السادس منها: ما ذكره تحت عنوان «الدليل العاشر» قال: وهو أخبار متفرّقة أخرى من طريق الفريقين يظهر منها إجمالاًَ لزوم الحكومة والدولة في جميع الأعصار أو كونها مرغوباًَ فيها شرعاً نذكرها ونسردها[40].

 

أقول: ففي هذه الأخبار ما رواه تحت الرقم1 عن المفيد بقوله: وقد روى بعضهم عن أحدهم أنّه قال: الدين والسلطان أخوان توأمان لا بدّ لكلّ واحدٍ منهما من صاحبه، والدين أسّ والسلطان حارس وما لا أسّ له منهدم، وما لا حارس له ضائع[41]. ودلالته بعناية جملته الأخيرة على لزوم تشكيل الدولة في كلّ زمان تامّة، إلاّ أنّه لم يعلم أنّه كلام عن المعصوم (عليه السلام) على أنّه لا سند له أصلاً.

 

كما أنّ فيها ما مفاده: أنّه لابدّ للناس من أمير ـ كما في خبر الدعائم والتحف وكنـز العمّال[42]ـ وهو دالّ على وجوب تأسيس الدولة في زمن الغَيبة أيضاً، إلاّ أنّا ذكرنا هذه الأخبار عند تعرّضنا لمثل هذه العبارة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) لدى الاستدلال به في الوجه الخامس من الوجوه المختارة، فراجع.

 

وذكر في عداد هذه الأخبار بقوله:

 

4ـ صحيحة محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كلّ مَن دان الله عَزّ وجَلّ بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول وهو ضالّ متحيّر... والله يا محمّد من أصبح من هذه الأمّة لا إمام له من الله عَزّ وجَلّ ظاهر عادل أصبح ضالاً تائها، وإن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق. واعلم يا محمّد أنّ ائمّة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله قد ضلّوا وأضلّوا... الحديث[43].

 

5ـ ما في الاختصاص عن محمّد بن عليّ الحلبي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): مَن مات وليس عليه إمام حيّ ظاهر مات ميتةً جاهلية.

 

6ـ ما في الاختصاص أيضاً عن أبي الجارود قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: مَن مات وليس عليه إمام حيّ ظاهر مات ميتةً جاهلية. قال: قلت: إمام حيّ جعلت فداك؟ قال: إمام حيّ[44].

 

ثُمّ قال في بيان الاستدلال بهذا الروايات الثلاث ما حاصله: قد مرّ منّا أن أنس أذهاننا بإمامة الأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام) أوجب انصراف لفظ «الإمام» عندنا إليهم، وإلاّ فاللفظ وضعٌ للقائد الّذي يؤتمّ به إمّا في الصلاة أو في الحجّ أو في الشؤون السياسية ونحو ذلك سواء كان بحقّ أو بباطل، ومنه قوله تعالى ﴿فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾[45]. وعليه، فالإمام المذكور في الأخبار الثلاثة يعمّ القائد غير المعصوم وتقتضي وجود القائد في جميع الأزمنة، ولا مجال لاستغراب أن يكون موت مَن ليس عليه إمام ظاهر حقّ ميتة الجاهلية، فإنّ إمام الحقّ هو الحارس للإسلام، ووجود الإمام ليس أهون من الوصية بالنسبة إلى مالٍ جزئي، وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مَن مات بغير وصية مات ميتةً جاهلية[46].

 

وقد روى الكليني في أصول الكافي بسندٍ صحيح عن داود الرقّي عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: إنّ الحجّة لا تقوم لله على خلقه إلاّ بإمامٍ حتّى (حيّ ـ خ ل) يُعرف[47].

 

ورواه في الاختصاص أيضا عن داود وفيه: «حيّ يعرف»[48].

 

وروى مثله في الكافي بإسناده عن الرضا عن أبي عبد الله (عليه السلام)[49].

 

ورواه في الاختصاص أيضاً مرسلاً[50] وروى مثل الكافي عن محمّد بن عمّار عن الرضا (عليه السلام)[51].

 

وفي الاختصاص مرسلاً عن الرضا (عليه السلام) قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن الحجّة لا تقوم لله على خلقه إلاّ بإمام حيّ يُعرف[52].

 

فرواية عمر بن زيد مثل الروايات الثلاث، فيمكن الاستدلال بها أيضاً مثلها، كما أنّ الروايات الأخر أيضاً يمكن الاستدلال بها حيث أنّها مطلقة تشمل زمن الغَيبة أيضاً، وقد دلّت على أنّه لا تقوم الحجّة لله على خلقه إلاّ بإمام حيّ يُعرف ـ كما في الاختصاص وبعض نسخ الكافي ـ أو «إلاّ بإمام حتّى يُعرف» فإنّ لفظ «الإمام» فيها مطلق يشمل القائد غير المعصوم أيضاً على البيان الّذي بيّنه المستدلّ، فمقتضى هذه الروايات أيضاً وجوب أن يكون في كلّ زمن قائد سياسي يعرفه المسلمون ويكون حجّة من الله عليهم، فلا محالة يثبت قائد سياسي وإمام على الناس في زمن الغَيبة أيضاً، وهو غير الإمام الغائب (عليه السلام).

 

وبعد ذلك أن الاستدلال بصحيحة محمّد بن مسلم إمّا لأجل إيجاب أن يكون لكلّ أحد إمام حيّ ظاهر وإمّا لحكمه بأنّ مَن لم يكن له إمام فإنّما يعبد الله ضلالاً، ببيان أنّ الإمام المذكور فيها مطلق يشمل كلّ وليّ حارس للإسلام وإن كان غير المعصوم. فلابدّ وأن يكون في كلّ زمان وليّ حتّى زمن الغَيبة.

 

كما أنّ الاستدلال بمثل الصحيحة الرقّي بملاحظة أنّه جعل الإمام الحيّ حجّة من الله على الخلق وصرّح بأنّ الحجة لا تقوم لله على الخلق إلاّ بالإمام وحيث إنّ الإمام يشمل بإطلاقه كلّّ وليّ حارسٍ للدين فلا محالة على ثبوت هذا الوليّ في زمن الغيبة أيضاً.

 

هذا هو إجمال بيان الاستدلال بكلتا الطائفتين.

 

وأمّا المناقشة فيهما فمن وجهين:

 

(أحدهما) وجود روايات عديدة واضحة الدلالة على أنّ الهداية إنّما هي بالأئمّة المعصومين، ومَن لا يكون له إمام معصوم فهو ضالٌ فلا محالة يختصّ الإمام المذكور في مثل صحيحة ابن مسلم بالإمام المعصوم، وهكذا بالنسبة إلى أخبار الطائفة الثانية.

 

أمّا بالنسبة لمفاد صحيحة محمّد بن مسلم:

 

1 ـ ففي معتبر جابر قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إنّما يعرف الله عَزّ وجَلّ ويعبده مَن عرف الله وعرف إمامه منّا أهل البيت، ومَن لا يعرف الله و (لا) يعرف الإمام منّا أهل البيت فإنّما يعرف ويعبد غير الله، هكذا والله ضلالاً[53].

 

2ـ وقد جاء في أخبار عديدة أنّ النبيّ والأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم هم الهادون، فلا محالة إذا لم يأتمّ بهم أحد لا يكون له هادٍ وكان ضالاً، فمن هذه الروايات صحيحة بريد العجلي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عَزّ وجَلّ: ﴿أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾[54] فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المنذر، ولكلّ زمان منّا هادٍ يهديهم إلى ما جاء له نبيّ الله، ثُمّ الهداة من بعده عليّ ثُمّ الأوصياء واحدٌ بعد واحد. والأخبار متعدّدة فراجع هذا الباب من أصول الكافي مثلاً[55].

 

3ـ كما قد جاءت أخبار عديدة بأن الأئمّة المعصومين هم نور الله الّذي أنـزله، فلا محالة فهم يهدون الناس بأحكام الله، فمن لم يأتمّ بهم لا يعرف أحكامه تعالى ويكون ضالاً، وهي وإن كانت متعدّد إلاّ أنّا نذكر منها من باب الأنموذج ما رواه الكليني في معتبر أبي خالد الكابلي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنـزلْنَا﴾[56] فقال: يا أبا خالد، النور والله الأئمّة، يا أبا خالد، لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار، وهم الّذين ينوّرون قلوب المؤمنين، ويحجب الله نورهم عمّن يشاء فتظلم قلوبهم وتغشاهم بها[57]. وأنت تعلم أن ظلمة القلب عبارة أخرى عن ضلالة.

 

ومثله موثّق أبي الجارود وخبر صالح بن سهل المرويّان في الكافي[58].

 

4ـ ومثل هذه الأخبار الروايات الواردة في أصول الكافي في باب أنّ الأئمّة (عليه السلام) أركان الأرض كما سيأتي بعضها.

 

وأما بالنسبة لمفاد صحيحة داود الرقّي: 1ـ فقد جاء في حديث سعيد الأعرج قال: دخلت أنا وسليمان بن خالد على أبي عبد الله (عليه السلام) فابتدأنا فقال: يا سليمان، ما جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) يؤخذ به، وما نهى عنه يُنتهى عنه، جر له من الفضل ما جرى لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الفضل على جميع مَن خلق الله، المُعيب على أمير المؤمنين (عليه السلام) في شيءٍ من أحكامه كالمُعيب على الله عَزّ وجَلّ وعلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والرادّ عليه في صغيرة أو كبيرة على حدّ الشرك بالله، كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه باب الله الّذي لا يؤتى إلاّ منه، وسبيله الّذي مَن سلك بغيره هلك، وبذلك جرت الأئمّة (عليهم السلام) واحد بعد واحد، جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بهم، والحجّة البالغة على مَن فوق الأرض ومَن تحت الثرى... الحديث[59]. ومورد الاستثناء هو قوله (عليه السلام): «والحجّة البالغة...» حيث يدّل على أنّ الأئمّة (عليهم السلام) هم حجج الله تعالى على مَن في الأرض، فيكون تفسيراً للأخبار المتّحدة المضمون لصحيحة داود الرقّي.

 

2ـ ومثله خبر أبي الصامت الحلواني ـ المروي في الكافي ـ عن أبي جعفر (عليه السلام)، فراجع[60].

 

3ـ وقد روى الكليني عن أبي عبد الله ابن الراشد[61] قال: قال أبو الحسن (عليه السلام): إنّ الأرض لا تخلو من حجّة وأنا والله ذلك الحجّة[62]. فصدره متعرّض للحجّة الّتي لابدّ منه، وذيله يبيّن أنّ الحجّة المذكورة هو (عليه السلام) وهو إنّما يكون بما أنّه إمام معصوم، فيكون تفسير الحجّة بالأئمّة المعصومين.

 

4ـ وقد روى أيضاً في صحيح بريد العجلي قال:  قلت لأبي جعفر (عليه السلام): قول الله تبارك وتعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[63] قال (عليه السلام): نحن الأمّة الوسط، ونحن شهداء الله تبارك وتعالى على خلقه وحججه في أرضه... الحديث[64]. فقوله (عليه السلام): «نحن... حججه في أرضه» بيان وتفسير للحجّة المذكور في مثل صحيحة الرقّي.

 

5ـ ومثله خبر سُليم بن قيس الهلالي ـ المروي في الكافي ـ عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وخبر بريد العجلي المرويّان في أصول الكافي أيضاً[65].

 

6ـ وقد روى الكليني في الصحيح عن عبد الله بن أبي يعفور قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا ابن أبي يعفور، إنّ الله واحد متوحّد بالوحدانية متفرّد بأمره، فخلق خلقاً فقدّرهم لذلك الأمر فنحن هم، يا ابن أبي يعفور، فنحن حجج الله في عباده وخزّانه على علمه والقائمون بذلك[66]. ودلالته واضحة.

 

والمتتبع يظفر بروايات أخر أكثر من ذلك في كلتا الطائفتين، ونحن نقتصر على ما ذكرنا لما فيه من الكفاية.

 

(الوجه الثاني) من الجواب: أنّه قد ورد روايات متعدّدة تدلّ على أنّ الإمام بلا قيد أيضاً يُذكر ويُراد به الإمام المعصوم (عليه السلام)، وعليه فلا إطلاق في لفظ «الإمام» المذكور في شيءٍ من الطائفتين.

 

1ـ ومنها ما مرّ آنفاً في معتبر أبي خالد الكابلي من قول أبي جعفر (عليه السلام) «النور والله الأئمّة».

 

2ـ ومنها ما رواه الكليني بسنده عن الجعفري قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: الأئمّة خلفاء الله في أرضه[67]. فأنّه لا ريب في أنّ المراد بالأئمّة هو خصوص المعصومين (عليهم السلام).

 

3ـ ومنها ما رواه عن أبي عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله جلّ جلاله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾[68] قال (عليه السلام): هم الأئمة[69]. ولا ريب في أنّ المراد بالأئمّة فيها هم الأئمة المعصومين (عليهم السلام) كما يشهد له سائر الروايات الواردة في ذيل الآية، فراجع تفسير البرهان[70].

 

4ـ ومنها ما رواه المفيد في الاختصاص بإسناده عن عمّار الساباطي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الإمام: أيعلم الغيب؟ قال (عليه السلام): لا، ولكن إذا أراد أن يعلم الشيء أعلمه الله ذلك[71].

 

5ـ ومنها ما رواه الكليني عن أبي عُبيدة المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك[72].

 

ومثله خبران آخران قبله في نفس الباب[73].

 

6ـ ومنها ما في الاختصاص عن عبد الله بن مسكان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا والله ما فوّض الله عَزّ وجَلّ إلى أحدٍ من خلقه إلاّ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى الأئمّة (عليهم السلام) فقال في كتابه ﴿إِنَّا أَنـزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ﴾ وهي جارية في الأوصياء[74].

 

والإنصاف أنّ الروايات الواردة بهذا المضمون كثيرة تظهر للمتدبّر، ونحن نكتفي بما ذكرناه.

 

ثُمّ إنّ هذه الروايات السبع هي عمدة ما نقله من الروايات الكثيرة البالغة ثلاثاً وأربعين ذيل عنوان «الدليل العاشر» وقد عرفت عدم ثبوت دليل في هذه السبع. وأما سائر الأخبار الّتي ذكرها فلا دلالة فيها، وذلك أنّها يمكن تقسيمها إلى قسمين:

 

فقسمٌ منها موضوعه الإمام العادل وعدّوه تسعة عشر حديثاً، مثل ما عن نهج البلاغة خطاباً لعثمان: فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدِيَ وهَدي، فأقام سنّة معلومة وأمات بدعةً مجهولة... وإنّ شرّ الناس عند الله إمامٌ جائر ضَلّ وضُلَّ به، فأمات سنّة مأخوذة وأحيا بدعةً متروكة...[75] ولا مجال للاستدلال به إلاّ من باب دعوى إطلاق جملته الأولى: «إن أفضل عباد الله عند الله إمامٌ عادل» ليدّعى دلالته على تنفيذ إمامة كلّ عادل حتّى مَن تولّى أمور المسلمين زمن الغَيبة. وأنت تعلم أنّه لا إطلاق له، بل إنّما هو بصدد الترغيب إلى رعاية العدالة لمن تولّى إدارة أمور المسلمين، ولا يتوهّم أحدٌ دلالته على تصحيح ولاية كلّ عادل. وهكذا الأمر في سائر ما يساوقه.

 

وقسمٌ آخر منها يبلغ عدده ستّة عشر حديثاً فلا يدلّ على المدّعى المذكور أصلاً في حين أنّ مضامينها مختلفة، مثل ما رواه عن إثبات الهداة عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾[76] قال (عليه السلام): إمامهم الّذي بين أظهرهم وهو قائم أهل زمانه[77].

 

أقول: عدم دلالته على ذاك المدّعى واضح، فإنّ الظاهر أنّ المراد من كلام الإمام بأنّ المراد من «إمامهم» هو مَن قام في كلّ زمان وتبعه أهل ذاك الزمان، فكلُّ أناس يُدعى بإمامهم. وواضح أنّ الإمام بهذا المعنى وسيع لا يدّعي أحدٌ ثبوت ولايته شرعاً، وإن أُريد بالقائم المزبور القائم بالحقّ أي مَن ولاّه الله وأعطاه الولاية وجعل له أمر الأمّة فلعلّ مصداقه الواقعي هو الإمام المعصوم (عليه السلام). ومثله من هذه الجهة سائر الأخبار، فراجع.

 

فتحصّل: أنّه قد قامت أدلّة متعدّدة معتبرة على لزوم تأسيس الدولة الإسلامية في زمن غَيبة وليّ الأمر (عليه السلام) يتولّى غير المعصوم وإن كانت عدّة أخرى ممّا عدّ من أدلّة إثباته غير تامّة الدلالة كما عرفت.

 

ــــــــــــــــ

 

[1] الدراسات: ج1 ص183. والآية من سورة آل عمران.

 

[2] آل عمران: 103.

 

[3] تفسير البرهان: ج1 ص671.

 

[4] الدراسات: ج1 ص183. والآية 10 من سورة الحجرات.

 

[5] الحجرات: 9 و10.

 

[6] الكافي: ج2 ص174 الحديث 15، عنه الوسائل: الباب 122 من أبواب أحكام العِشرة ج8 ص542 الحديث 2.

 

[7] الكافي: ج2 ص172 الحديث9، عنه الوسائل: الباب 122 من أبواب أحكام العِشرة ج8 ص542 الحديث3.

 

[8] الكافي: ج2 ص166 الحديث3و5، عنه الوسائل: الباب 122 من أبواب أحكام العِشرة ج8 ص543 الحديث4و6.

 

[9] الكافي: ج2 ص172 الحديث9، عنه الوسائل: الباب 122 من أبواب أحكام العِشرة ج8 ص542 الحديث3.

 

[10] الوسائل: الباب 122 من أبواب العِشرة ج8 ص 548 الحديث 19، عن أمالي الصدوق.

 

[11] الفتح: 29.

 

[12] الحجرات: 13.

 

[13] المجادلة: 22.

 

[14] الدراسات: ص183. والآية 200 من سورة آل عمران.

 

[15] تفسير القمّي: ج1 ص129.

 

[16] تفسير البرهان: ج1 ص730.

 

[17] الدراسات: ج1 ص183. والآية 208 من سورة البقرة.

 

[18] التبيان: ج2 ص185، مجمع البيان: ج1 و2 ص 303 الطبعة الإسلامية.

 

[19] التبيان: ج2 ص185، تفسير أبو الفتوح: ج3 ص163.

 

[20] محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): 35.

 

[21] الكافي: ج1 ص417 الحديث29.

 

[22] تفسير البرهان: ج1 ص346.

 

[23] التبيان: ج2 ص185، مجمع البيان: ج1 و2 ص302.

 

[24] الدراسات: ج1 ص183، عن الكافي: ج1 ص403 الحديث1.

 

[25] الخصال : ص149، الأمالي: ص 211 ، عنهما الوسائل : الباب 31 من أبواب قصاص النفس ج 19 ص 55 الحديث 1 و2.

 

[26] الدراسات: ج1 ص183، عن الكافي: ج1 ص405 الحديث4و5.

 

والجذم: هو القطع، أي أقطع اليد.

 

[27] الدراسات: ج1 ص184، عن نهج البلاغة: الخطبة 127 ص184.

 

[28] تمام نهج البلاغة: الخطبة 144 ص 670.

 

[29] نهج البلاغة: الخطبة 127 ص 184.

 

[30] تمالئوا: اتّفقوا وتعاونوا.

 

[31] فيالة الرأي: ضعفه.

 

[32] الدراسات: ج1 ص184، عن نهج البلاغة: الخطبة 169 ص244.

 

[33] تمام نهج البلاغة: ص411.

 

[34] نهج البلاغة: الخطبة 169 ص244. تمام نهج البلاغة: الخطبة 42 ص414.

 

[35] الدراسات: ج1 ص184، عن مسند أحمد: ج4 ص405.

 

[36] الدارسات: ج1 ص184. والخبر في صحيح مسلم (شرح النووي): ج12 ص242.

 

[37] صحيح مسلم: ج12 ص241.

 

[38] الدراسات: ج1 ص185، عن آمالي المفيد: ص14 الحديث2.

 

[39] راجع الدراسات: ج1 ص184 و194.

 

[40] نفس المصدر.

 

[41] الدراسات: ج1 ص194، عن الاختصاص: 263.

 

[42] المصدر السابق: ج1 صث195 الرقم 2 و3 وص 202 الرقم36.

 

[43] المصدر السابق: ج1 ص195، عن الكافي: ج1 ص183 الحديث8.

 

[44] الدراسات: ج1 ص195، عن الاختصاص: ص269.

 

[45] التوبة: 12.

 

[46] الدراسات: ج1 ص196، والنبوي المنقول عن الوسائل: الباب1 من كتاب الوصايا ج13 ص351 الحديث1.

 

[47] الكافي: ج1 ص177 الحديث1ـ3.

 

[48] الاختصاص: ص269و268.

 

[49] الكافي: ج1 ص177 الحديث1ـ3.

 

[50] الاختصاص: ص269و268.

 

[51] الكافي: ج1 ص177 الحديث1ـ3.

 

[52] الاختصاص: ص269و268.

 

[53] الكافي: ج1 ص181 الحديث4.

 

[54] الرعد: 7.

 

[55] الكافي: ج1 ص191 و192 الحديث 1ـ4.

 

[56] التغابن: 8.

 

[57] الكافي: ج1 ص 195 الحديث4.

 

[58] المصدر السابق: ج1 ص194 و195 الحديث3و5.

 

[59] الكافي: ج1 ص197 و198 الحديث2و3.

 

[60] نفس المصدر.

 

[61] الظاهر أنّه الحسن بن راشد مولى آل المهلّب.

 

[62] الكافي: ج1 ص179 الحديث9.

 

[63] البقرة: 143.

 

[64] الكافي: ج1 ص191 و190 الحديث4و5و2.

 

[65] نفس المصدر.

 

[66] الكافي: ج1 ص193 و194 الحديث5و1و3.

 

[67] نفس المصدر.

 

[68] النور: 55.

 

[69] الكافي: ج1 ص193 و194 الحديث5و1و3.

 

[70] تفسير البرهان: ج4 ص89.

 

[71] الاختصاص: ص286.

 

[72] الكافي: ج1 ص258 الحديث3و1و2.

 

[73] نفس المصدر.

 

[74] الاختصاص: ص331 الحديث2.

 

[75] الدراسات: ج1 ص197 الرقم 10، عن نهج البلاغة: الخطبة 114 ص234.

 

[76] الإسراء: 71.

 

[77]  الدراسات: ج1 ص200 الرقم 28، عن إثبات الهداة ج1 ص89.

 

 

 

احدث الاخبار

الاكثر قراءة