الدرس الحادي والستون: الأخبار المعارضة لتأسيس الحكومة زمن الغيبة
التاريخ: 10-03-2011
ثُمّ إنّ هنا روايات عديدة ربّما يقال بدلالتها على عدم جواز إقامة أيّ دولة وحكومة قبل قيام صاحب الأمر (عليه السلام)، فلا محالة تكون معارضة لتلك الأدلّة
ثُمّ إنّ هنا روايات عديدة ربّما يقال بدلالتها على عدم جواز إقامة أيّ دولة وحكومة قبل قيام صاحب الأمر (عليه السلام)، فلا محالة تكون معارضة لتلك الأدلّة.
ولاتّضاح الأمر نقول ـ بعد الفحص الأكيد عن هذه الروايات ـ: إنّ هذه الأخبار تنقسم بحسب المضمون إلى طوائف ثلاث:
إحداها: ما تكون علاوة على دلالتها المدّعاة على المنع المذكور متعرّضة لأمر قيام زيد بن عليّ بن الحسين (عليهما السلام)، وهي روايتان أو روايات ثلاث:
1ـ فمنها صحيحة عيص بن القاسم ـ الّتي رواها الكليني في روضة الكافي ـ قال: سمعت أبا عيد الله (عليه السلام) يقول: عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وانظروا لأنفسكم، فوالله إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الّذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الّذي هو أعلم بغنمه من الّذي كان فيها، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثُمّ كانت الأخرى باقية فعمل (يعمل ـ الوسائل) على ما قد استبان لها ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة، فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آتٍ منّا فانظروا على أيّ شيء تخرجون؟ ولا تقولوا: خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه، إنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولو ظهر لو في بما دعاكم إليه، إنّما خرج السلطان مجتمع لينقضه، فالخارج منّا اليوم إلى أيّ شيء يدعوكم؟ إلى الرضا من آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فنحن نشهدكم أنا لسنا نرضى به، وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد، وهو إذا كانت الروايات والأولوية أجدر أن لا يسمع منّا إلاّ مع مَن اجتمعت بنوا فاطمة (عليها السلام) معه، فوالله ما صاحبكم إلاّ مَن اجتمعوا عليه، إذا كان رجب فأقبلوا على اسم الله عَزّ وجَلّ، وإن أحببتم أن تتأخّروا إلى شعبان فلا ضير، وإن أحببتم أن تصوموا في أهاليكم فلعلّ ذلك أن يكون أقوى لكم (فلعلّ ذلك يكون أقوى لكم ـ الوسائل) وكفاكم بالسفياني علامة[1].
بيان الاستدلال بها بملاحظة جميع الحديث: أنّ الإمام (عليه السلام) في صدر الكلام أمر بوجوب أن يكون كلّ مكلّف مراقباً لتقوى الله تعالى لا سيّما في مسألة اتّباع مَن يخرج على سلاطين الجور، وأن يتوجّه إلى أنّه لا يجعل نفسه في هذا الأمر تحت زعامة كلّ واحد، وذلك أنّه بنفسه يراعي الاحتياط في غنمه الّذي يكون تحت رعاية الراعي، وإذا وجد راعياً أعلم يجعله تحت رعاية هذا الأعلم، فإذا كان هكذا في أمر رعاية أغنامه فلابدّ وأن يكون أشدّ رعايةً بالنسبة إلى نفسه وشخصه، ولا يجعل نفسه تحت رعاية كلّ من خرج لا سيّما وأنّه ليس لكلّ أحدٍ إلاّ نفس واحدة تعيش مرّة واحدة، فإن كان له نفسان لكان هنا مجال لأن لا يراقب كمال المراقبة فيجرّب بإحدى النفسين لكي يستبين له الأمر ثُمّ يعمل مع النفس الأخرى على ما قد استبان لها، ولكن ليس له إلاّ نفس واحدة إذا جرّب بها فقد انقضى الأمر وليس بعده مجال الرجوع، ولذلك فيجب أن يكون الإنسان في كمال رعاية الاحتياط بالنسبة إلى اتّباع مَن يقوم ويخرج قٍبال الطغاة الجائرين.
فبعد ذكر هذه المقدّمة العقلية الدقيقة الواضحة بيّن ما هو المراد الأصيل منها بقوله: «إن أتاكم آتٍ منّا فانظروا على أيّ شيء تخرجون؟» وهو في معنى النهي عن الخروج مع هذا الخارج وأتباعه، وقوله (عليه السلام) بعده «ولا تقولوا: خرج زيد...» ذكر شبهة لجواز الخروج مع غير الإمام (عليه السلام) وأجاب عنها وأكّد النهي عن اتّباع مَن خرج بقوله (عليه السلام): «فالخارج منّا اليوم إلى أي شيء يدعوكم؟ إلى الرضا من آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) فنحن نشهدكم أنّا لسنا نرضى به، وهو يعصينا اليوم...» إلى أن استثنى عن هذا المنع بقوله: «إلاّ مع مَن اجتمعت بنو فاطمة (عليها السلام) معه». وواضح أنّ مراده (عليه السلام) هو الإمام القائم (عليه السلام)، بقرينة قوله (عليه السلام) في بيان تمييز هذا الشخص للناس بقوله (عليه السلام) في آخر الحديث: «وكفاكم بالسفياني علامة» حيث إنّ خروج السفياني من العلامات القطعية لقيام القائم (عليه السلام) على ما وردت به أخبار كثير بل متواترة، فلا محالة يكون مفاد كلامه (عليه السلام) النهي عن اتّباع أيّ أحدٍ كان إلاّ اتّباع صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف، فتدلّ الصحيحة بوضوح على أنّ خروج كلّ أحدٍ لإقامة الحكومة غير مجاز شرعاً، ولذلك كان اتّباع كلّ مَن خرج غير جائز في الشرع إلاّ اتّباع القائم (عليه السلام)، فتدلّ الصحيحة على عدم جواز أقامة الدولة الإسلامية للناس قبل قيام القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف، فإنّ من الواضح أنّ إقامتها لا تتيسّر إلاّ بالخروج في وجه السلاطين والحكّام المتغلّبين على الناس والأمم.
لكن التأمّل في كلامه (عليه السلام) في هذه الصحيحة يعطي بوضوح ضعف هذا الاستدلال، بل به يتّضح أنّ الصحيحة نفسها دليل تامّ على جواز إقامة الدولة الإسلامية بيد المؤمنين المتعهّدين بالإسلام.
أمّا ضعف الاستدلال فلأنّه إنما كان له طريق إلى الصحّة إن كان فيها مجرّد استثناء قيام زيد بن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) بلا زيادة أيّ سرّ وبيان لوجه هذا الاستثناء، مع وضوح أن الأمر ليس كذلك، بل إنّ الإمام بيّن وأوضح سرّه حيث قال: «ولا تقولوا: خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه، إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضَه» فيستفاد من صدر هذه الفقرات أن قداسة قيام زيد كانت مسلّمة وممضاة أيضاً عند الإمام (عليه السلام)، ولهذه الجهة لم يورد أيّ شبهة فيها إلاّ أنّه (عليه السلام) بيّن سرّ هذه القداسة بقوله: «فإن زيدا ... إلخ» وأفاد أنّ سرّ هذه القداسة أنّ زيداً كان عالماً بحكم الإسلام الشريف، فيعلم الجائز الراجح من القيام ومحرّمه، وعلاوة على علمه أنّه كان يعمل جدّاً على طبق ما هو وظيفة، فلم يكن يرى لنفسه في قبال أئمّة الإسلام شأناً لنفسه بل كان يرى حقّ الولاية والإمامة للإمام الأصيل الإلهي المعبّر عنه بالرضا من آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان يدعو الناس إليه، وإنّما قام ليرفعة السلطان الجائر المجتمع وينقضَه لكي يتيسّر قيام الإمام الأصيل مقامه ويقع حقّ الولاية خارجاً في مقامه الأصيل، وكان هو صادقاً في هذه الدعوى ولو ظهر لوفى بما دعا الناس إليه.
فهذا هو سرّ قداسة ورجحان قيام زيد، ومنه يُعلم بوضوح أنّ هذا السرّ والملاك إذا تحقّق في أيّ زمان ومكان وبالنسبة إلى أي شخصٍ كان قيامه مقدّساً راجحاً وأنت تعلم أن موضوع كلامنا الماضي رجحان مثل قيام زيد بالنسبة لزمن غَيبة وليّ الأمر المعصوم (عليه السلام)، وكان مفروضه أن ليس الهدف من تأسيس الدولة إلاّ إقامة الدين الحنيف على ما قرّره الله تعالى.
لا يقال: إنّ هذا المفروض غير ما أيّده الإمام (عليه السلام) في هذه الصحيحة إذ المذكور في الصحيحة أنّ دعاء زيد وهدفه كان تسليم الأمر إلى الوليّ المعصوم (عليه السلام) لا تصدّيه بنفسه لإقامة أمر الولاية، وواضح أنّه ليس هدف القيام في زمن الغَيبة.
فإنّه يقال: نعم، ولكنّ المستفاد جدّاً وبلا شبهة أنّ تسليم أمر الولاية إلى المعصوم (عليه السلام) إنّما هو لفرض حضوره ووصول اليد إليه، وأمّا في زمن الغَيبة فإقامة الأحكام الإلهية لا تكون إلاّ بتصدّي شخصٍ صالحٍ واجد لشرائط الولاية، فلا محالة كانت الوظيفة في ذاك الزمان تسليم الولاية إلى المعصوم، وفي زمن الغَيبة تصدّي صالح لها حتّى يظهر وليّ الأمر ويسلّم الأمر بكمال خضوعٍٍ واطمئنانٍ إليه.
وبالجملة: فضعف الاستدلال المزبور كقوّة دلالة الصحيحة على المطلوب واضحة.
ويؤكد ما ذكرناه أنّ الإمام (عليه السلام) بعد إيضاح سرّ قداسة قيام زيد جاء بصدد بيان عدم جواز سائر النِهاض بقوله (عليه السلام): «فالخارج منّا اليوم...» وأفاد أنّ المتصدين لهذا النِهاض خارجون عن الوظيفة الإلهية وداعون إلى أنفسهم وهم يعصون الإمام المعصوم قبل ظهورهم على أئمّة الجور، ويزيدون في هذا العصيان إذا غلبوا وصار الأمر بيدهم، فبالحقيقة هم أيضاً من الجائرين. ولهذه النكتة حصر الاتّباع الجائر في اتّباع القائم (عليه السلام)، وإلاّ فإن وجد قيام كان هدفه ومسيره كهدف قيام زيد ومسيره كان لا محالة محكوماً بحكمه، وقد عرفت أنّه المفروض في موضوع كلامنا.
2ـ ومثلها صحيحة أخرى عن عيص بن القاسم، ولعلّها اختصار عن صحيحتنا الأولى، وقد رواه الصدوق في العلل بسنده الصحيح عن عيص بن القاسم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اتّقوا الله وانظروا لأنفسكم، فإنّ أحقّ مَن نظر لها أنتم. لو كان لأحدكم نفسان فقدّم إحداهما وجرّب بها استقبل التوبة بالأخرى كان، ولكنّها نفس واحدة إذا ذهبت فقد ذهبت والله التوبة، إن أتاكم منّا آتٍ يدعوكم إلى الرضا منّا فنحن ننشدكم ـ الوسائل) أنّا لا نرضى، إنّه لا يطيعنا اليوم وهو وحده فكيف يطيعنا إذا ارتفعت الرايات والأعلام[2].
فبيان الاستدلال بها: أنّ الإمام (عليه السلام) بعد ذِكر تلك المقدّمة حكم بأنّه (عليه السلام) لا يرضى بقيام وإتيان مَن يقوم وإن كان داعياًَ إلى الرضا منهم ـ أي إلى الإمام المعصوم (عليه السلام) ـ فلا محالة يكون القيام بهذا الداعي الّذي يكون داعياً صحيحاً شرعيّاً أيضاً غير مرضيّ عندهم، فيدلّ على عدم رضاهم (عليهم السلام) بالقيام لأجل هذا الداعي في زمن الغَيبة أيضاً.
لكنّك واقف بضعف البيان المزبور، وذلك أنّه (عليهم السلام) قد بيّن سرّ عدم الرضا بهذا القيام بقوله: «أنّه لا يطيعنا اليوم...» فأفاد أنّ هذا القائم في وجه السلطان الجائر لا يسلك الصراط المستقيم، وهو لا يطيع الإمام (عليه السلام) لا ابتداءاً ولا انتهاءً، فكيف يدلّ كلامه (عليه السلام) على عدم الرضا بقيام مَن لا يكون إلاّ قاصداً لرضاهم وسالكاً لسبيلهم، بل لا يبعد أن يستفاد من التعليل أنّ سرّ عدم رضاهم بقيام مَن ذكره منحصر في عصيانهم للأئمّة (عليهم السلام)، وأنّه لو كان القائم بالأمر سالكاً لسبيلهم متّبعاً لما يرضونه من أحكام الله تعالى كما في زيد لكانوا راضين بقيامه، فتكن هذه الصحيحة أيضاً مثل الصحيحة الأولى دالّة على المطلوب وعلى أنّ تأسيس الدولة على أساس عزّ الإسلام في زمن الغَيبة جائز.
3ـ ومنها ما رواه الصدوق في العيون بسنده عن ابن أبي عبدون عن أبيه قال: لمّا حمل زيد بن موسى بن جعفر (عليه السلام) إلى المأمون وقد كان خرج بالبصرة وأحرق دور ولد العبّاس وهب المأمون جرمه لأخيه عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) وقال له: يا أبا الحسن لئن خرج أخوك وفعل ما فعل لقد خرج قبله زيد بن عليّ فقُتل، ولو لا مكانك منّي لقتلته، فليس ما أتاه بصغير. فقال الرضا (عليه السلام): يا أمير المؤمنين لا تقس أخي زيداً إلى زيد بن عليّ، فإنّه كان من علماء آل محمّد، غضب لله عَزّ وجَلّ فجاهد أعداءه حتّى قُتِل في سبيله، وقد حدّثني أبي موسى بن جعفر (عليهم السلام) أنّه سمع أباه جعفر بن محمّد بن عليّ (عليهم السلام) يقول: «رحم الله عمّي زيداً، إنّه دعا إلى الرضا من آل محمّد، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه، ولقد استشارني في خروجه فقلت له: يا عمّ إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك. فلمّا ولّى قال جعفر بن محمّد: ويلٌ لمن سمع واعيته (داعيته ـ خ ل) فلم يجبه فقال المأمون: يا أبا الحسن، أليس قد جاء في مَن ادّعى الإمامة بغير حقّها ما جاء؟ فقال الرضا (عليه السلام): إنّ زيد بن عليّ لم يدّع ما ليس له بحقّ، وإنّه كان أتقى الله من ذلك، إنّه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد (عليهم السلام)، وإنّما جاء ما جاء في مَن يدّعي أنّ الله تعالى نصّ عليه ثُمّ يدعوا إلى غير دين الله ويضلّ عن سبيله بغير علم، وكان زيد والله ممّن خوطب بهذه الآية : ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾[3]
وهذا الحديث يدلّ على أنّ القيام والخروج على الجبابرة إذا كان بداعي أن يصير القائم به والياً على الأمّة والمفروض أنّه لم ينصّ الشرع على إمامته وولايته فمثل هذا القيام محرّمٌ ممنوع، فلذلك أمكن أن يقال: إنّ القائم بأمر تأسيس الدولة في زمن الغيبة حيث إنّه لم ينص على إمامته فقيامه به ممنوعٌ محرّم.
إلاّ إنّك تعلم أنّ مفاد الحديث غير منحصر في ما ذُكر، بل عمدة نظره أنّ القائم والخارج على الجائر إذا كان مسيره أن يتّبع الحقّ ويجاهد في الله كما كان زيد بن علي (عليه السلام) ففعله ممدوحٌ مرغوبٌ فيه، ولهذا استحسن الأئمّة (عليه السلام) قيام زيد، وقال الصادق (عليه السلام) فيه: «ويلٌ لمن سمع واعيته فلم يجبه» فالملاك كلّ الملاك هو الهدف الّذي يكون لهذا القائم، فأن كان إلهياً فقيامه حسَنٌ مرغوب فيه، وإن كان هدفاً دنيوياً وإضلالاً فقيامه ممنوع محرّم، فلذا كان قيام زيد بن علي بن الحسين قياماً حسناً ممدوحاً وجهاداً في الله، وكان قيام زيد بن موسى بن جعفر قياماً غير مستحسن.
وعليه، فهذا الحديث أيضاً دالّ على استحسان قيام المؤمنين الصالحين بأمر تأسيس الدولة الإسلامية في زمن الغيبة ـ على الحدود الّتي ذكرناها ـ وهذا الحديث من هذه الجهة متحد المدلول مع صحيحة عيص بن القاسم.
نعم، إنّ سند هذا الحديث غير معتبر لكون جميع رواته عدة مجاهيل.
فهذه الأخبار الثلاثة هي جميع روايات الطائفة الأولى، وقد عرفت أنّ الحقّ أنّها لا تدلّ على المنع عن تأسيس حكومة إسلامية في زمن الغيبة، بل تدلّ على جوازه وتستحسنه إذا كانت واجدة للشرائط اللازمة، فالطائفة الأولى من الأخبار بالحقيقة هي من أدلّة الجواز.
الطائفة: الثانية: الأخبار الكثيرة التي تأمر بالسكون أو تنهى عن أيّ تحرّك إلى ظهور أمارات قيام القائم (عليه السلام)، فلا محالة تكون الوظيفة هي عدم القيام بأمر تأسيس الدولة في زمن الغَيبة.
1ـ فمن هذه الأخبار صحيحة سدير ـ المروية في روضة الكافي ـ قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا سدير، الزم بيتك وكن حلساً من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أنّ السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك[4].
فقد أمر بالسكون إلى خروج السفياني، وبما أنّ خروجه من الأمارات المتّصلة بقيام صاحب الأمر (عليه السلام) فالصحيحة تامّة الدلالة على ما ذكرنا.
2ـ ومنها ما رواه الشيخ الطوسي في الأمالي والصدوق في العيون والمعاني عن الحسين بن خالد، وهي في أمالي الشيخ هكذا: «أخبرنا محمّد بن محمّد قال: أخبرني الشريف أبو محمّد أحمد بن محمّد بن عيسى العلوي الزاهد قال: حدّثنا حيدر بن محمّد بن نعيم السمرقندي قال: حدثنا أبو عمر محمّد بن عمر الكشّي قال: حدّثنا حمدويه بن نصير عن محمّد بن عيسى عن الحسين بن خالد قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): إنّ عبد الله بن بكير كان يروي حديثاً ويتأوّله، وأنا أحبّ أن أعرضه عليك، فقال: ما ذلك الحديث؟ قلت: قال ابن بكير: حدثني عُبيد بن زرارة قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) أيّام خروج محمّد بن عبد الله بن الحسن إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت فداك، إنّ محمّد بن عبد الله قد خرج وأجابه الناس فما تقول في الخروج معه؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): اسكن ما سكنت السماء والأرض. فقال عبد الله بن بكير: فإذا كان الأمر هكذا ولم يكن خروج ما سكنت السماء والأرض فما من قائمٍٍ وما من خارج! فقال أبو الحسن (عليه السلام): صدق أبو عبد الله (عليه السلام)، وليس الأمر على ما تأوّله ابن بكير، إنّما قال أبو عبد الله (عليه السلام) اسكتوا ما سكتت السماء من النداء والأرض من الخسف بالجيش[5].
ولفظ الحديث في العيون والمعاني قد يخالف هذا المتن في بعض التعابير بلا إيجاب لتغيير المعنى أصلاً، وجملته الأخيرة هكذا: إنّما عنى أبو عبد الله (عليه السلام) بقوله: ما سكت السماء من النداء باسم صاحبكم وما سكتت الأرض من الخسف بالجيش[6].
فحاصل مفاد الحديث بطوله: أنّ ابن بكير كان يستشكل رواية عُبيد بن زرارة بأنّها تستلزم أن لا يخرج القائم (عليه السلام) قائلاً أنّه لازم الأخذ بإطلاق «ما سكتت السماء والأرض» فإنّ خروج القائم (عليه السلام) يكون حركة ولا يكون معه سكون فكان فهم مفاده مشكلاً، فأفاد الإمام الرضا (عليه السلام) أنّ نصّ ما قاله أبو عبد الله (عليه السلام) أو مراده من قوله هو «اسكتوا ما سكتت السماء من النداء والأرض من الخسف بالجيش». وقد أوضح المراد تعبير العيون أنّه النداء باسم صاحبكم، ومع غمض العين عن تعبيره فهو المراد بالنداء قطعاًٍ، كما أنّ المراد بـ «الخسف بالجيش» خسف جيش السفياني، وكلاهما قرينة بعض الأخبار الأخر الّتي يأتي بعضها إن شاء الله. وعليه فقد أمر الإمام الصادق (عليه السلام) وصوّب أمره الإمام الرضا (عليه السلام) بالسكون قبل ظهور الأمارات المتصلة بخروج صاحب الأمر (عليه السلام)، ومقتضاه أن لا يكون تأسيس دولة إسلامية في زمن الغَيبة.
فدلالة الحديث على المدّعى تامّة.
وأمّا سنده فالحسين بن خالد الراوي عن الإمام (عليه السلام) لا يبعد ثبوت وثاقته بقرينة رواية ابن أبي نصر وابن أبي عمير عنه، وهما لا يرويان إلاّ عن ثقة. وإن كان هو الحسين بن أبي العلاء فوثاقته أبين. وأمّا سائر رجال السند فجميعهم في سند أمالي الشيخ ثقات إلاّ الشريف أبو محمّد أحمد بن محمّد بن عيسى العلوي الزاهد، فإنّه لم ينصّ على وثاقته، واللهمّ إلاّ أن يجعل هذا التعبير الرفيع عنه ولا سيّما إذا كان المعبّر به الشيخ المفيد (قدس سرّه) دليلاً على كونه في أرفع درجات الوثاقة، فإنّ كونه شريفاً وكونه مع ذلك زاهداً يلزم الحدّ العالي من الوثاقة، فسند أمالي الشيخ معتبر. وأمّا سند الصدوق ففيه عُبيد الله بن عبد الله الدهقان الواسطي الّذي عن النجاشي وخلاصة العلاّمة تضعيفه.
3ـ ومنها ما رواه الشيخ في كتاب الغَيبة بسندٍ معتبر ـ بناءً على وثاقة عمرو بن أبي المقدام ـ عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ألزم الأرض ولا تجرّك يداً ولا رجلاً حتّى ترى علامات أذكرها لك وما أراك تدرك: اختلاف بني فلان، ومنادٍ ينادي من السماء، ويجيئكم الصوت من ناحية دمشق بالفتح، وخسف قرية من قرى الشام تسمى الجابية، وسيقبل إخوان الترك حتّى ينـزلوا الجزيرة، وستقبل مارقة الروم حتّى ينـزلوا الرملة، فتلك السنة فيها اختلاف كثير في كلّ أرض من ناحية المغرب، فأوّل أرض تخرب الشام، يختلفون عند ذلك على ثلاث رايات: راية الأصهب وراية الأبقع وراية السفياني[7].
فقد أمر (عليه السلام) بلزوم الإنسان للأرض ونهى عن تحريك يدٍٍ أو رجلٍ إلى أن تظهر العلائم المذكورة الّتي هي علامات متّصلة بقيام صاحب الأمر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، فيدلّ على عدم جواز تأسيس الدولة الإسلامية في زمن الغَيبة كما هو المدّعى.
4ـ ومنها ما رواه النعماني في كتاب الغَيبة بإسناد بعضها معتبر عن الحسن بن محبوب عن عمرو بن أبي المقدام عن جابر بن يزيد الجعفي قال: قال أبو جعفر مجمد بن علي الباقر (عليه السلام): يا جابر، ألزم الأرض ولا تحرّك يداً ولا رجلاً حتّى ترى علامات أذكرها لك إن أدركتها: أوّلها اختلاف بني العبّاس ـ وما أراك تدرك ذلك ولكن حدّث به من بعدي عنّي ـ ومنادٍ ينادي من السماء ويجيئكم الصوت من ناحية دمشق بالفتح، وتخسف قرية من قرى الشام تسمّى الجابية[8]، وتسقط طائفة من مسجد دمشق الأيمن، ومارقة تمرق من ناحية الترك، ويعقبها هرج الروم، وسيقبل إخوان الترك حتّى ينـزلوا الجزيرة، وسيقبل مارقة الروم حتّى ينـزلوا الرملة، فتلك السنة يا جابر فيها اختلاف كثير في كلّ أرض من ناحية المغرب، فأول أرض تخرب أرض الشام، ثُمّ يختلفون عند ذلك على ثلاث رايات: راية الأصهب وراية الأبقع وراية السفياني، فيلتقي السفياني بالأبقع فيقتلون، فيقتله السفياني ومَن تبعه، ثُمّ يقتل الأصهب، ثُمّ لا يكون له همّة إلاّ الإقبال نحو العراق ويمرّ جيشه بقرقيسياء[9] فيقتلون بها، فيقتل بها من الجبّارين مائة ألف، ويبعث السفياني جيشاً إلى الكوفة وعدّتهم سبعون ألفاً، فيصيبون من أهل الكوفة قتلاً وصلباً وسبياً، فبينا هم كذلك إذ أقبلت رايات من قِبَل خراسان وتطوي المنازل طيّاً حثيثاً ومعهم نفرٌ من أصحاب القائم (عليه السلام)، ثُمّ يخرج رجل موالي من أهل الكوفة في ضعفاء فيقتله (فيقتتله، خ ل) أمير الجيش السفياني بين الحرية والكوفة، ويبعث السفياني بعثاً إلى المدينة فينفر المهدي (عليه السلام) منها إلى مكّة، فيبلغ أمير جيش السفياني أنّ المهدي (عليه السلام) قد خرج إلى مكّة، فيبعث جيشاً على أثره، فلا يدركه حتّى يدخل مكّة خائفاً يترقّب على سنّة موسى بن عمران. قال: فينـزل أمير جيش السفياني البيداء، فينادي منادٍٍ من السماء «يا بيداء أبيدي القوم» فيخسف بهم فلا يفلت منهم إلاّ ثلاثة نفر يحوّل الله وجوههم إلى أقفيتهم وهم من كلب، وفيهم نـزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نـزلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا...﴾ الآية[10].
قال (عليه السلام): والقائم (عليه السلام) يومئذٍ بمكة قد أسند ظهره إلى البيت الحرام مستجيراُ به فينادي: يا أيّها الناس، إنّا نستنصر الله فمن أجابنا من الناس؟ فإنّا أهل بيت نبيّكم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ونحن أولى الناس بالله وبمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمن حاجّني في آدم فأنا أولى الناس بآدم، ومَن حاجّني في نوح فأنا أولى الناس بنوح، ومَن حاجني في إبراهيم فإنا أولى الناس بإبراهيم، ومَن حاجّني في محمّد فأنا أولى الناس بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومَن حاجني في النبيين فأنا أولى الناس بالنبيين، أليس الله يقول في محكم كتابه: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[11]؟ فأنا بقية من آدم، وذخيرة من نوح، ومصطفى من إبراهيم، وصفوة من محمّد صلى الله عليهم أجمعين. ألا فمن حاجني في كتاب الله فأنا أولى الناس بكتاب الله، ألا ومَن حاجني في سنّة رسول الله فأنا أولى الناس بسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأُنشد الله مَن سمع كلامي اليوم لمّا بلّغ (أبلغ ـ خ ل) الشاهد (منكم) الغائب. وأسألكم بحقّ الله وحقّ رسوله وبحقّي ـ فأنّ لي حقّ القربى من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إلا (لمّا ـ خ ل) أعنتمونا ومنعتمونا ممّن يظلمنا، فقد أُخِفنا وظُلمنا وطُردنا من ديارنا وأبنائنا، وبُغي علينا، ودُفعنا عن حقّنا، وافترى (فأُوثر ـ البحار) أهل الباطل عليناـ فالله الله فينا، ولا تخذلونا وانصرونا ينصركم الله تعالى.
قال (عليه السلام): فيجمع الله عليه أصحابه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، ويجمعهم الله له على غير ميعاد قزعاً كقزع[12] الخريف، وهي يا جابر الآية الّتي ذكر الله في كتابه ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيبايعونه بين الركن والمقام، ومعه عهدٌ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد توارثته الأبناء عن الآباء. والقائم (عليه السلام) يا جابر رجلٌ من ولد الحسين (عليه السلام)، يُصلح الله له أمره في ليلة، فما أشكل على الناس من ذلك يا جابر فلا يشكلنّ عليهم ولادته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووراثته العلماء عالماً بعد عالم، فإن أشكل هذا كلّه عليهم فأنّ الصوت من السماء لا يشكل عليهم إذا نودي باسمه واسم أبيه وأُمّه[13].
ورواه المفيد بطوله في الاختصاص مرسلاً عن عمرو بن أبي المقدام عن جابر الجعفي[14]. ورواه المجلسي عنهما في البحار[15].
فهذه رواية معتبرة السند ذكرناها بطولها لما فيها من الأمور العالية المرتبطة بقيام صاحب الأمر (عليه السلام)، وهي كسابقتها واضحة الدلالة على الأمر بلزوم الأرض والنهي عن تحرّك يدٍ أو رجلٍ إلى ظهور أمارات قيام المهدي المتّصلة بقيامه الشريف، فهي أيضاً تدلّ كما عرفت على عدم جواز تأسيس الحكومة الإسلامية في زمن الغَيبة.
5ـ ومنها ما رواه النعماني في كتاب الغَيبة أيضاً بسنده عن أبي بكر الحضرمي قال: دخلت أنا وأبان على أبي عبد الله (عليه السلام) وذلك حين ظهرت الرايات السود بخراسان، فقلنا: ما ترى؟ فقال: اجلسوا في بيوتكم، فإذا رأيتمونا قد اجتمعنا على رجلٍ فانهدّوا[16] إلينا بالسلاح[17].
والمراد بالرايات السود رايات أصحاب دعوة بني العبّاس، فقد قال في مجمع البحرين «المسوّدة أصحاب الدعوة العبّاسية لأنّهم كانوا يلبسون ثياباً سوداء» وحينئذٍ فقد سألوا الإمام عن وظيفتهم حينما ظهرت تلك الرايات هل يتبعونها أم لا؟ وأجابهم (عليه السلام) بقوله: اجلسوا... فأمرهم بالجلوس في بيوتهم إلى أن اجتمع أهل البيت على رجل، وحيث إنّ من الواضح أنّ هذا الرجل هو صاحب الأمر (عليه السلام) فلا محالة يكون الناس مأمورين بالجلوس والسكون في بيوتهم إلى قيامه الشريف، ولازمه أن لا يجوز تأسيس دولة إسلامية زمن الغيبة، فدلالة الحديث على المطلوب تامّة إلاّ أنّ في سنده مجهولين فهو غير معتبر.
6ـ ومنها ما في المستدرك عن كتاب جعفر الحضرمي عن جابر قال: قال لي محمّد بن علي (عليهما السلام): يا جابر، إنّ لبني العبّاس راية ولغيرهم رايات، فإيّاك ثُمّ إيّاك ثُمّ إيّاك ـ ثلاثاً ـ حتّى ترى رجلاً من ولد الحسين (عليه السلام) يبايع له بين الركن والمقام معه سلاح رسول الله ومِغفَر[18] رسول الله ودرع رسول الله وسيف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)[19].
فقد منع (عليه السلام) بتكرير «إيّاك» عن اتّباع كلّ راية تكون بصدد تأسيس الدولة الإسلامية زمن الغَيبة، فدلالة هذا الحديث أيضاً تامّة إلاّ أنّ سنده ضعيف.
7ـ ومنها ما فيه عن الكتاب المزبور بذاك السند عن جابر قال: قال محمّد بن عليّ (عليهما السلام): ضع خدّك على الأرض ولا تحرّك رجليك حتّى ينـزل الروم الرميلة والترك الجزيرة وينادي منادٍ من دمشق[20].
فأمره بأن يسكن ولا يتحرّك إلى أنّ تتحقّق الأمور المذكورة، وهذه الأمور كما ظهرت من رواية جابر الطويلة وتظهر من غيرها أيضاً هي الأمارات المتّصلة بقيام صاحب الأمر (عليه السلام)، فهذا الحديث أيضاً بالبيان المتقدّم يدلّ على المنع عن تأسيس الدولة الإسلامية في زمن الغَيبة وقبل قيامه (عليه السلام). إلاّ أنّ سنده ضعيف.
8ـ ومنها خبر آخر عن جابر ـ رواه النعماني في الغَيبة ـ بسنده عنه عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنّه قال: اسكنوا ما سكنت السماوات والأرض ـ أي لا تخرجوا على أحد ـ فإنّ أمركم ليس به خفاء، إلاّ أنّها آية من الله عَزّ وجَلّ ليست من الناس، إلاّ أنّها أضوأ من الشمس لا تخفى على برّ ولا فاجر، أتعرفون الصبح؟ فإنّها كالصبح ليس به خفاء[21].
فالإمام (عليه السلام) كما ترى قد أمر بالسكون مادامت السماوات والأرض ساكنة، وعلّله بأنّ أمركم واضح لا خفاء به أصلاً كالصبح الصادق، والظاهر أنّ المراد به تحديد السكون المأمور به إلى أن يظهر أمر الشيعة، وواضح أنّ ظهوره بقيام صاحب الأمر (عليه السلام)، وعليه فيدلّ الحديث على وجوب السكون وعدم جواز الخروج على أحدٍ قبل قيامه (عليه السلام)، ويستفاد منه حينئذٍ عدم جواز تأسيس الدولة الإسلامية في زمن الغيبة على ما مرّ. فدلالة الحديث تامّة إلاّ أنّ سنده غير معتبر لضعف منخل بن جميل.
9ـ ومنها ما في تفسير العيّاشي عن بريد عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: «اصبروا» يعني بذلك عن المعاصي «وصابروا» يعني التقية «ورابطوا» يعني الأئمّة (على الأئمّة ـ المستدرك) ثُمّ قال: تدري ما معنى لبّدوا (البدوا ـ خ ل) ما لبدنا فإذا تحرّكنا فتحرّكوا؟ «واتقوا الله» ما لبدنا «ربكم لعلّكم تفلحون» ... الحديث[22].
وموضع الاستدلال في هو قوله (عليه السلام): «تدري ما معنى لبّدوا ما لبدنا فإذا تحرّكنا فتحركوا؟» بيان أنّه بعد ما فسّر قوله تعالى: «ورابطوا» بأنّه أمر بالمرابطة والاتّصال اللازم الدائم بالنسبة للأئمة (عليهم السلام) أراد توضيح هذه المرابطة المأمور بها، فسأل أنّكم هل تدرون ما المراد بجملة«لبّدوا ما لبدنا؟» يعني أنّ المراد بالمرابطة هي السكون مادام الإمام (عليه السلام) ساكناً. والجملة الثانية أعني قوله (عليه السلام) «فإذا تحرّكنا فتحرّكوا» بيان ثانٍ ملازم الجملة الأولى وتتميم لها ولمفاد المرابطة بأنّ المرابطة هي السكون مادام الإمام ساكناً والتحرّك بحركته.
فبالجملة: فمفاد الحديث هو الأمر بالسكون مادام الأئمّة ساكنون وساكنون، وأنّ زمان رفع اليد عن هذا السكون إنّما هو إذا تحرّك الإمام (عليه السلام)، فيجب التحرّك إذا تحرّكوا، وعليه فيجب السكون ما لم يقم الإمام صاحب الأمر (عليه السلام)، فيدلّ ـ كما عرفت ـ على عدم جواز تأسيس دولة إسلامية في زمن الغيبة، فدلالة الحديث تامّة إلاّ أنّ سنده مرسل.
10ـ ومنها ما رواه في روضة الكافي بسنده عن المعلّى بن خنيس قال: ذهبت بكتاب عبد السلام بن نعيم وسدير وكتب غير واحد إلى أبي عبد الله (عليه السلام) حين ظهرت المسوّدة قبل أن يظهر ولد العبّاس بأنّا قد قدّرنا أن يؤول الأمر إليك فما ترى؟ قال: فضرب بالكتب على الأرض ثُمّ قال: أفٍّ أفٍّ، ما أنا لهؤلاء بإمام، ألا يعلمون أنّه إنّما يُقتل السفياني[23].
بيان دلالته: أنّه بقرينة جواب الإمام (عليه السلام) يُعلم أنّ مفاد هذه الكتب إنّما هو السؤال عن أنّ هذه الحركة الّتي تحرّك بها المسودّة هل هي مقدّمة لأن يؤول أمر الولاية خارجاً إليهم (عليه السلام) لكي يدخل شيعتهم أيضاً فيها؟ فأجاب (عليه السلام) بنفيه وأنكر عليهم ذاك الاحتمال بأنّ من مقدّمات رجوع أمر الولاية إليهم (عليهم السلام) خروج السفياني وقتله، وهو لم يحصل بعد، ومعه فلا مجال لأن يلحقوا بهذه الحركة، وحينئذٍ فمنه يستفاد أنّ مجوّز الخروج على ولاة الجور منحصر بأن يكون كالمقدّمة لأوّل أمر الولاية إليهم (عليهم السلام)، فإذا لم تكن هذه المقدّمية انتفى الجواز، وهو يؤول إلى وجوب السكون قبل قيامه، وقد عرفت أنّ مقتضاه عدم جواز تأسيس الدولة الإسلامية في زمن الغَيبة.
إلاّ أنّ استفادة تلك الكبرى الكلّية من الحديث مشكلة جدّاً، فإنّ احتمال أن يكون منشأ سؤال هؤلاء أنّهم كانوا في زمن حضور الإمام (عليه السلام) فقد كانوا متهيئين للعمل بوظيفتهم في إيجاد مقدّمات أوّل الأمر إليه، فلذا فقد سألوه عن مجيء زمانه، وأجابهم بعدم مجيئه، وأمّا أنّ ما في أذهانهم السؤال عن بيان ملاك الدخول في أيّ حركة فلا شاهد له، كما أنّ كون الإمام (عليه السلام) بصدد بيان هذه الكبرى الكلّية أيضاً غير واضح. فدلالة الحديث غير مسلّمة مضافاً إلى أن سنده غير معتبر بجهالة صباح بن سيّابة.
11ـ ومنها ما رواه الكليني بسندٍ معتبر عن الفضل الكاتب قال: كتبت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فأتاه كتاب أبي مسلم فقال: ليس لكتابك جواب، اخرج عنّا، فجعلنا يسارّ بعضنا بعضاً، فقال: أيّ شيءٍ تسارّون؟ يا فضل، إنّ الله عَزّ ذكره لا يعجل لعجلة العبادة، ولإزالة جبل عن موضعه أيسر من زوال ملك لم ينقض أجله. ثُمّ قال: إنّ فلان بن فلان حتّى بلغ السابع من ولد فلان، قلت: فما العلامة فيما بيننا وبينك جعلت فداك؟ قال: لا تبرح الأرض يا فضل حتّى يخرج السفياني، فإذا خرج السفياني فأجيبوا إلينا ـ بقولها ثلاثاً ـ وهو من المحتوم[24].
تقريب الاستدلال به: دعوى دلالته على حصر المجوّز للخروج خروج السفياني، ولذلك أجاب (عليه السلام) أبا مسلم بقوله: «ليس لكتابك جواب، أخرج عنّا».
إلاّ أنّه من المحتمل جدّاً أن يكون نظر الحديث إلى الخروج لأجلّ أن يؤول أمر الولاية بيد الإمام (عليه السلام)، فإنّ من علاماته ومقدّماته المتقدّمة خروج السفياني، ولا دلالة ولا نظر له إ لى خروج آخر لتأسيس حكومة إسلامية في زمن الغَيبة مثلاً أصلاً.
12ـ ومنها ما رواه النعماني بسنده عن أبي المرهف قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): هلكت المحاضير، ـ قلت: وما المحاضير؟ قال: المستعجلون ـ ونجا المقرّبون، وثبت الحصن على أوتادها، كونوا أحلاس[25] بيوتكم، فإنّ الغيرة على مَن أثارها، وأنّهم لا يريدونكم بجائحة إلاّ أتاهم الله بشاغل، إلا مَن تعرّض لهم[26].
بيان الاستدلال به: أنّه (عليه السلام) حكم بتّاً بهلاك المستعجلين وأمر بعده بأن يسكن الشيعة ويكونوا أحلاس بيوتهم، فيدلّ على وجوب السكون، وهو مطلق يشمل زمن الغَيبة أيضاً، فلا محالة يدلّ ـ كما عرفت ـ على عدم جواز الخروج وتأسيس حكومة إسلامية في زمن الغَيبة.
إلاّ أنّ الإنصاف أنّ الحديث ناظر إلى أنواع الخروج الّتي كانت في ذلك الزمان، وحكم بأن لا أثر لها إلاّ هلاك الخارجين المعبّر عنهم بالمستعجلين، والسكون المأمور به أيضاً هو السكون عن الالتحاق لهم وليس له إطلاق يشمل زمن الغَيبة لكي يدلّ على عدم جواز تأسيس الدولة الإسلامية فيه.
مضافاً إلى أنّ سند الرواية غير معتبر لجهالة أبي المرهف نفسه ووقوع علي بن الصباح بن الضحّاك المجهول فيه.
13ـ ومنها خبر آخر عن أبي المرهف أيضاًـ رواه الكليني بسنده عنه ـ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الغيرة على مَن أثارها، هلك المحاضير ـ قلت: جعلت فداك وما المحاضير؟ قال: المستعجلون ـ أما إنّهم لن يريدوا إلاّ مَن يعرض لهم ثُمّ قال: يا أبا المرهف، أما إنّهم لم يريدوكم بمجحفة[27] إلاّ عرض الله عَزّ وجَلّ لهم بشاغل. ثُمّ نكث أبو جعفر (عليه السلام) في الأرض ثُمّ قال: يا أبا المرهف، قلت: لبّيك، قال: أترى قوماً حسبوا أنفسهم على الله عزّ ذكره لا يجعل الله لهم فرجاً؟! بلى والله ليجعلنّ الله لهم فرجاً[28].
ولا يبعُد وحدة الحديثين لوحدة عبارتيهما تقريباً، وزيادة الجملات الأخيرة المذكورة هنا من باب الاختصار، إلاّ أنّ اختلاف الإمام (عليه السلام) المروي عنه فيهما لا يجتمع مع الوحدة.
وكيف كان، فبيان الاستدلال بهذه الرواية أيضاً مثل ما مرّ في قبلها، وتأتي هنا أيضاً المناقشة المذكورة، وسندها أيضاً غير معتبر بجهالة أبي المرهف وبضعف محمّد بن عليّ أبي سمينة الصيرفي الواقع في السند.
14ـ ومنها ما رواه الكليني بسند معتبر عن عمر بن حنظلة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: خمس علامات قبل قيام القائم: الصيحة والسفياني والخسف وقتل النفس الزكية واليماني، فقلت: جعلت فداك إن خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات أنخرج معه؟ قال (عليه السلام): لا، فلمّا كان الغد تلوتُ هذه الآية ﴿إِن نَّشَأْ نُنـزلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾[29] فقلت له: أهي الصيحة؟ فقال: أما لو كانت خضعت أعناق أعداء الله عَزّ وجَلّ[30].
والاستدلال به إنّما هو بأن يقال: إن سؤال الراوي وإن كان عن جواز الخروج مع خروج أحد من قرابات الإمام (عليه السلام) قبل حصول العلامات الخمس المذكورة، وقد أجابه الإمام (عليه السلام) بعدم الجواز، إلاّ أنّ العرف يلغي الخصوصية عن مورده إلى كلّ قيام كان القائم به غير صاحب الأمر وإن لم يكن من أهل بيت الإمام (عليه السلام)، فالنفي الواقع في الجواز نفي الجواز أيّ قيامٍ كان.
لكنّك تعلم بأنّ من المحتمل جدّاً اختصاص السؤال وجوابه بمورده، ولعلّه يسأل عن حتمية هذه العلامات أو يمكن أن يقوم صاحب الأمر (عليه السلام) قبلها، فأجابه (عليه السلام) بعدم جواز الخروج مع مَن قام وخرج قبل هذه العلامات، ومردّه إلى أنّ هذه العلامات علائم حتمية لابدّ منها، كما يحتمل أن يكون جهة سؤاله أنّه إذا خرج أحد من أهل بيتكم قبل هذه العلامات وكان ينطبق عليه أنّه القائم فهل يجوز أن تخرج معه؟ فمصبّ السؤال والجواب إنّما هو مثله، ولا إطلاق لهما يعمّ مَن يقوم بهدف تأسيس الدولة الإسلامية معلناً بأنّه ليس هو القائم (عليه السلام). وبالجملة: فدلالة هذا الحديث ممنوعة.
15ـ ومنها ما رواه النعماني في كتاب الغَيبة بسنده عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله وأن تلزم بيتك وتقعد في دهماء هؤلاء الناس، وإيّاك والخوارج منّا، فإنّهم ليسوا على شيء ولا إلى شيء... واعلم أنّه لا تقوم عصابة تدفع ضيماً أو تعزّ ديناً إلاّ صرعتهم المنية والبلية، حتّى تقوم عصابة شهدوا بدراً مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يوارى قتيلهم ولا يرفع صريعهم ولا يداوى جريحهم. قلت: مَن هم؟ قال (عليه السلام): الملائكة[31].
والاستدلال إنّما هو بصدره، بدعوى أنّه (عليه السلام) وإن نهى عن الموافقة والكون مع الناس الّذين كانوا يحدثون حوادث وعطف عليه النهي عن الكون مع الخوارج الّذين منهم (عليهم السلام) إلاّ أنّه لا خصوصية لأولئك الناس ولا لهؤلاء الخوارج، بل تلغى الخصوصية عنهم إلى كلّ مَن خرج على ولاة الجور وكان بصدد تأسيس الدولة بعد الغلبة على الجائرين. فيدلّ على وجوب السكون في جميع الأزمنة ولازمه المنع عن تأسيس الدولة الإسلامية في زمن الغَيبة.
لكنّك خبير بعدم إمكان التصديق بإلغاء الخصوصية العرفي المدّعى واحتمال اختصاص النهي بالكون مع أولئك الّذين خرجوا في ذلك الزمان، فدلالة هذا الخبر غير تامّة، مضافاً إلى أنّ في سنده إرسالاً ووقع فيه عليّ بن عمارة الكناني المجهول.
16ـ وأمّا ما في نهج البلاغة وتمامه من قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبةٍ خطبها بعد النهروان: الزموا الأرض واصبروا على البلاء، ولا تحرّكوا بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتكم، ولا تستعجلوا بما لم يعجّله الله سبحانه لكم، فإنّه مَن مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه عَزّ وجَلّ وحقّ رسوله وأهل بيته صلوات الله عليه وعليهم مات شهيداً ووقع أجره على الله سبحانه واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله وقامت النية مقام إصلاته لسيفه، فإنّ لكلّ شيءٍ مدّة وأجلاًَ لا يعدوه، فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد، ولا تستبطئوا ما يجيء به الغد، فكم من مستعجلٍ بما أن أدركه ودَّ أنّه لم يدركه[32].
فهو كما ترى إنّما يدلّ على الأمر بعدم استعجال الأمور ولا استبطائها، وبملاحظة الأوقات الّتي جعله الله تعالى للأشياء، وهو أمرٌ كلّي مستحسن جدّاً، وليس فيه تعيين مصداق أصلاً ليدلّ على مطلوبية السكون في جميع الأزمنة لكي يعمّ زمن الغَيبة، فيستفاد منه عدم جواز تأسيس الدولة الإسلامية فيه.
هذا كلّ ما وفّقني الله تعالى للعثور على هذه الأخبار، وقد عرفت دلالة تسعة منها على وجوب السكون وأن لا يتحرّك الإنسان حتّى في زمن غَيبة صاحب الأمر (عليه السلام)، ويلزم منه أن لا يجوز تأسيس الدولة الإسلامية زمن الغَيبة، وسند بعضٍ منها وإن لم يكن تاماً إلاّ أنّ فيها أخباراً عديدة معتبرة السند مضافاً إلى أنّ كثرتها توجب الاطمئنان بصدور بعضها، فلا حاجة إلى ثبوت اعتبار بعضها بخصوصه. وحينئذٍ فهذه الطائفة من الأخبار تدلّ على عدم جواز تأسيس الدولة الإسلامية زمن الغَيبة وتكون معارضة للأدلّة الماضية الّتي دلّت على جواز بل وجوب تأسيسها ذلك الزمان.
والتحقيق أن يقال: إنّ دلالة هذه الأخبار على عدم جواز أيّ مصداق من التحرّك قبال ولاة الجور إنّما هو بالإطلاق، فإنّه ليس بشيء منها دالاًّ بالخصوص وبالصراحة على المنع عن تحرّك لم يكن الداعي إليه إلاّ إقامة الدولة الإسلامية وإحياء أحكام الإسلام العزيز بلا نظر إلى حصول رئاسة وإمارة لشخصٍ خاصّ ليس هو بالإمام بل مثله وإن كان بحسب هذه الأخبار ممنوعاً عنه إلاّ أنّه بموجب إطلاق التحرّك له أيضاً. وحينئذٍ فإذا ضمّت إلى هذه الأخبار صحيحة عيص بن القاسم ورواية أبي عبدون المذكورتين في الطائفة الأولى فلا محالة يقيّد إطلاقها بالتحرّك الّذي ليس له هذه الغاية كما هو الشائع في التحرّكات الخارجية، فإنّ صحيحة عيص دلّت بوضوح على أنّ التحرّك على قسمين: قسمٌ له هدف إلهي أصيل كهدف زيد بن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) من خروجه وقيامه، وقسمٌ آخر ليس له إلاّ هدف مادّي إلى حب الرئاسة كأكثر التحرّكات. فالقسم الأوّل جائز بل مندوب إليه وقسم من الجهاد، ولذا كان زيد ممّن خوطب بهذه الآية ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾[33]. والقسم الثاني يكون منهيّاً عنه ولا يرضى به الأئمّة (عليهم السلام) بل يكون المتحرّك به عاصياً غير مطيع لهم (عليهم السلام).
وعليه، فالصحيحة دليل على تقييد التحرّك المنهيّ عنه في هذه الأخبار بخصوص القسم الثاني وعلى خروج القسم الأوّل منها.
الطائفة الثالثة: أخبار تدلّ على حرمة رفع كلّ راية قبل قيام القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف، وعمومها يشمل الراية الّتي أقيمت بهدف إحياء أحكام الدين الحنيف، كما هو موضوع كلامنا.
1ـ فمن هذه الأخبار ما رواه الكليني في الروضة بسندٍ صحيح عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كلّ راية تُرفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يُعبد من دون الله عَزّ وجَلّ[34].
ودلالتها على العموم المذكور واضح، فإنّ الحكم البتّي بأنّ صاحب هذه الرايات طاغوت يُعبد مقابلاً لأن يُعبد الله دليلٌ واضح على حرمة رفعه لهذه الراية، فإنّ الكلام واضح الدلالة على أنّ المنشأ لعدّ أتباعه أتباع الطاغوت ليس إلاّ أنّه رفع راية قبل قيام القائم (عليه السلام)، فلا محالة يكون رفعها محرّماً شرعيّاً كما هو المدّعى.
2ـ ومنها ما رواه النعماني في كتاب الغَيبة عن عبد الواحد بن عبد الله قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن رياح الزهري قال: حدّثنا محمّد بن العبّاس بن عيسى الحسيني عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن مالك بن أعين الجهني عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنّه قال: كلّ راية تُرفع قبل قيام القائم (عليه السلام) صاحبها طاغوت[35].
وهو ـ كما ترى ـ في الدلالة على المطلوب مثل الحديث الأوّل، وإنّما الكلام في سنده، فأنّ عبد الواحد هو ابن عبد الله بن يونس الموصلي وهو ثقة. كما أنّ ابن رياح هو أحمد بن محمّد بن عليّ بن عمر بن رياح وهو أيضاً ثقة. ومحمد بن العبّاس هو أبو عبد الله أو أبو جعفر محمّد بن عباس بن عيسى وهو أيضاً ثقة. إلاّ أنّ الحسن بن عليّ بن أبي حمزة وأباه عليّ بن أبي حمزة البطائني ضعيفان جدّاً. ومالك بن أعين الجهني لم يرد فيه توثيق وإن نقل عنه عبد الله بن مسكان ويونس ابن عبد الرحمن بلا واسطة وهما من أصحاب الإجماع إلاّ أنّ الحقّ أنّ مجرّد نقلهم عن أحدٍ ليس دليلاً على أنّه ثقة. فبالجملة: فسند الحديث غير معتبر.
3ـ ومنها ما في كتاب الغَيبة أيضاً: أخبرنا عليّ بن الحسين قال: حدّثنا محمّد ابن يحيى العطّار بقم قال: حدّثنا محمّد بن حسّان (الحسن، الحسين ـ خ ل) الرازي قال: حدّثنا محمّد بن عليّ الكوفي عن عليّ بن الحسين عن ابن مسكان عن مالك ابن أعين الجهني قال: سمعت أبا جعفر الباقر (عليه السلام) يقول: كلّ راية ترفع قبل قيام القائم (عليه السلام) صاحبها طاغوت[36].
وهو أيضاً واضح الدلالة على المطلوب وأمّا سنده: فعليّ بن الحسين الواقع أوّل السند ثفة جليل القدر بٍناءً على أنّه ابن بابويه القمّي والد الصدوق. وهكذا محمّد بن يحيى العطّار. وأمّا محمّد بن حسان الرازي فعن النجاشي أنّه «يُعرف ويُنكر بين بين» فلم تثبت وثاقته بل هو بين بين. ومحمد بن عليّ الكوفي هو الصيرفي الكوفي وهو محمّد بن عليّ إبراهيم بن موسى يلقّب أبا سمينة هو ضعيف جدّاً عدّ من أشهر الكذابين. وعليّ بن الحسين محتمل الانطباق على عليّ بن الحسين بن عبد ربّه وعلى عليّ بن الحسين بن عليّ أبي طاهر الطبري السمرقندي وعلى عليّ بن الحسين السعد آبادي وثلاثتهم لا سيّما الأوّلين ثقات. ولا ريب في وثاقة ابن مسكان. إلاّ أنّ مالك بن أعين قد عرفت عدم الدليل على وثاقته. فجملة الأمر: أنّ سند الحديث غير معتبر بل ضعيف.
4ـ ومنها ما في كتاب غَيبة النعماني أيضاً قال: أخبرنا عليّ بن أحمد البندينجي عن عُبيد الله بن موسى العلويّ عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن عبد الله بن المغيرة عن عبد الله بن مسكان عن مالك بن أعين الجهني قال سمعت أبا جعفر الباقر (عليه السلام) يقول: كلّ راية تُرفع ـ أو قال: تخرج ـ قبل قيام القائم (صلى الله عليه وآله وسلم) صاحبها طاغوت[37].
وهو في وضوح الدلالة مثل الروايات الثلاث الّتي سبقتها، إلاّ أنّ عن خلاصة العلاّمة وعن القسم الثاني من رجال ابن داود أنّ عليّ بن أحمد البندينجي ضعيف متهافت لا يُلفت إليه, كما أنّ عٌبيد الله بن موسى العلوي مجهول. وقد عرفت عدم ثبوت وثاقة مالك بن أعين. فسند هذا الحديث أيضاً غير معتبر.
فهذه الأخبار الأربعة الّتي ترجع إلى خبرين أحدهما عن الباقر (عليه السلام) والآخر عن الصادق (عليه السلام) تامّة الدلالة على العموم المدّعى، وخبر أبي بصير تامّ السند، وخبر مالك بن أعين غير معتبر السند وإن كان نقله عن مالك مستفيضاً. وكيف كان، فقد كفى في اعتبار هذه الطائفة من الأخبار صحّة سند صحيحة أبي بصير منها، وجميعها دالّة على العموم المذكور. وقد عرفت اقتضاءه لحرمة راية الولاية المرفوعة قبل قيام القائم (عليه السلام) وإن كان الغرض من رفعها إقامة الأحكام الإلهية لا غير، فتكون معارضة للأدلّة المتعدّدة الماضية الدالّة على وجوب تأسيس الدولة الإسلامية في زمن الغَيبة.
أقول: إلاّ أنّ ملاحظة مثل صحيح عيص بن القاسم وجعلها جنب أخبار هذه الطائفة أيضاً تحلّ المشكل ويستكشف منه أنّ الراية الّتي تُرفع قبل قيام القائم إن كانت بهدف أنّ يأتمر رافعها بنفسه وكان يدعو إلى نفسه فصاحبها طاغوت، وأمّا إذا كان لأهداف له إلاّ إقامة أحكام الله تعالى وكان لا يرى الرافع لها لنفسه أنانية أصلاً بل كان متّبعاً لولاية أولياء الخلق من الله تعالى ـ أعنى الأئمّة الهداة المعصومين (عليهم السلام) ـ منتظراً لظهورهم لأن يسلّم الراية إليهم ويدخل هو أيضاً في زمرة رعيّتهم كما كان زيد بن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) على هذا الهدف والغاية فلا عتب عليه بل يدخل لا محالة في مثل المدائح والتوصيفات الواردة في كلماتهم (عليهم السلام) بالنسبة لزيد، ويكون داخلاً في عموم قوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾[38] كما كان زيد كذلك.
وبالجملة: فصحيحة عيص وما يكون بمضمونها تجعل الرايات المرفوعة لإقامة الدولة وتأسيس الولاية على قسمين: تحكم بحرمة ما كان منها بصدد ترأس رافعها وبأنّ هذه الراية مبغوضة عند الأئمة (عليهم السلام) وصاحبها عاصٍ لهم من أوّل الأمر إلى آخره، كما تحكم بمشروعية ومحبوبية ما كان منها بهدف إزالة الموانع عن العمل بأحكام الله تعالى وبهدف إقامة الدين الإلهي وتحكم بأنّ صاحب هذه الراية مخاطب وعامل بقوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ فلا محالة بقرينتها يختصّ عموم «كل راية» الواقع في الطائفة الثالثة من الأخبار بخصوص راية كان رافعها في مقام أن يجعل نفسه رئيساً على الأمّة ويكون هذا الترأُس تمام همّه وغايته، ويخرج عن هذا العموم راية مَن لا يرفع الراية إلا لهدف إقامة الدين ويكون بنفسه تابعاً للأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ومنتظراً لظهورهم لكي يضع الولاية وكلّ ما بيده بأيديهم صلوات الله عليهم أجمعين.
بل ربما أمكن أن يدّعى ـ بملاحظة أنّ الطاغوت في اللغة هو مَن يتجاوز الحدّ في العصيان ويكون رأس الطغيان ـ أنّ هذا العنوان إنّما يصدق على خصوص مَن يكون بصدد الترأس فلذلك ليس ببعيد أن يقال بانصراف العموم الواقع في الطائفة الثالثة إلى خصوص هذا الطاغي، وينصرف عن شموله لمن كان بصدد إقامة الدين. فكيف كان، فلا ينبغي الريب في عدم مانعية لهذه الطائفة الثالثة إمّا لهذا الانصراف وإمّا لتخصيص العموم وخروج ما إذا كانت الراية بهدف إحياء الدين عنها.
فالمتحصّل من الدقّة في جميع هذه الأخبار الّتي قد تعدّ معارضات لأدلّة مشروعية بل إيجاب تأسيس الدولة الإسلامية في زمن الغَيبة أنّ تأسيس الدولة الكذائية لا مانع عنه، بل الجمع بين هذه الأخبار أيضاً جواز تأسيسا بل رجحانه وتكون أدلّة مشروعية تأسيسها بلا معارض أصلاً، والحمد لله تعالى.
ــــــــــــــــــــ
[1] الكافي: ج8 ص264 الحديث 381، عنه الوسائل: الباب13 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص35 الحديث1.
[2] علل الشرائع: ص577 الحديث2، عنه الوسائل: الباب13 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص38 الحديث10.
[3] عيون أخبار الرضا: ج1 ص248 الحديث1، عنه الوسائل: قِطَعٍ منه في الباب 13 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص38 الحديث11. والآية78 من سورة الحجّ.
[4] الكافي: ج8 ص264 الحديث383، عنه الوسائل: الباب 13 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص36 الحديث3.
[5] أمالي الشيخ الطوسي: المجلس 14 ص 412 الحديث74.
[6] عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج1 ص310 الحديث75، المعاني: ص266، عنها الوسائل: الباب 13 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص39 الحديث14.
[7] كتاب الغَيبة للطوسي: ص69، أخرج الوسائل صدره في الباب 13 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص41 الحديث16.
[8] الجابية: قرية في سورية غرب دمشق.
[9] قرقيسياء: بالفتح ثُمّ السكون ـ مدينة في سورية عند ملتقى الخابور بالفرات.
[10] النساء: 47.
[11] آل عمران: 33و34.
[12] القزع: قطع السحاب.
[13] الغَيبة للنعماني: الباب 14 ص279 ـ 282 الحديث67.
[14] الاختصاص: ص255.
[15] البحار: ج52 ص237.
[16] نهد: نهض وبرز. (المصباح المنير).
[17] الغيبة للنعماني: ص197، الحديث6، عنه المستدرك: الباب 12 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص36 الحديث7.
[18] المِغفَر والمِغفَرة: زَرَدٌ يلبسه المحارب تحت القلنسوه.
[19] المستدرك: الباب 12 من أبواب جهاد العدوّ ج 11 ص 38 الحديث13و14.
[20] نفس المصدر.
[21] كتاب الغَيبة للنعماني: ص200 الحديث17، عنه المستدرك: الباب12 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص37 الحديث10.
[22] تفسير العياشي: ج1 ص213، عنه المستدرك: الباب12 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص 38 الحديث12، والآية 200 من سورة آل عمران.
[23] الكافي: ج8 ص331 الحديث509، الوسائل: الباب13 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص27 الحديث8.
[24] الكافي: ج8 ص274 الحديث412، عنه الوسائل: الباب 13 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص 37 الحديث5.
[25] يقال: فلان حلس من أحلاس البيت للّذي لا يبرح البيت. (لسان العرب).
[26] كتاب الغَيبة للنعماني: ص196 الحديث5.
[27] المجحفة: البلية والداهية.
[28] الكافي: ج8 ص273 الحديث411، عنه الوسائل: الباب 13 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص36 الحديث4.
[29] الشعراء: 4.
[30] الكافي: ج8 ص310 الحديث4483، عنه الوسائل: الباب 13 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص37 الحديث7.
[31] الغَيبة للنعماني: ص194 الحديث2.
[32] نهج البلاغة: الخطبة 190 ص282، تمام النهج الخطبة 21 ص 294، عنه الوسائل: الباب 13من جهاد العدوّ ج11 ص40 الحديث 15.
[33] الحج: 78.
[34] الكافي: ج8 ص295 الحديث452، عنه الوسائل: الباب13 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص 38 الحديث6.
[35] الغَيبة للنعماني: ص114 الحديث9، عنه المستدرك: الباب 12 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص34 الحديث1.
[36] الغيبة للنعماني: ص115 الحديث11، عنه المستدرك: الباب 12 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص 34 الحديث2.
[37] الغَيبة للنعماني: ص115 الحديث 12، عنه المستدرك: الباب 12 من جهاد العدوّ ج11 ص 35 الحديث3.
[38] الحجّ: 78. وهذا المدّعى مأخوذ من ذيل خبر أبي عبدون عن الرضا (عليه السلام)، وقد مرّ بتمامه في عداد الطائفة الأولى من الأخبار في ص95.
احدث الاخبار
السيد الحوثي: الاستقرار لن يبقى في المنطقة ما دام الاحتلال مستمر في فلسطين
ثروة باقية؛ المقاومة في لبنان من نشوء الحالة الإسلاميّة إلى التأسيس حتى «طوفان الأقصى»
قائد الثورة الإسلامية: الخلاف بين الجمهورية الإسلامية وأمريكا جوهري، وليس تكتيكيا
التبيين في نهج السيّدة الزهراء عليها السلام*
قيم الحياة الزوجيّة في سيرة أهل البيت عليهم السلام
عمائــــــم سلكت درب الشهادة (1)
الشيخ نعيم قاسم: أمريكا ليست وسيطا نزيها ودعم المقاومة واجب
زوجة القائد"الحاج رمضان" تروي ذكرى من أدب الشهيد قاسم سليماني
العميد نقدي: قدرتنا الصاروخية اليوم أقوى بكثير مما كانت عليه خلال العدوان الصهيوامريكي
الشيخ نعيم قاسم: المقاومة جاهزة للدفاع ولديها ردع يمنع تحقيق العدو لأهدافه
الاكثر قراءة
أحكام الصوم للسيد القائد الخامنئي
ما أنشده الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في حق الإمام الخامنئي
أربعون حديثاً عن الإمام الكاظم (عليه السلام)
أربعون حديثا عن الإمام الهادي (ع)
مختارات من كلمات الإمام الخامنئي حول عظمة السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)
مبادئ الإمام الخميني العرفانية
أربعون حديثاً عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
ماذا يقول شهداء الدفاع عن العقيلة؟.. الشهيد السيد إبراهيم في وصيته: لقد ذهب زمان ذل الشيعة+ صور
شهيد المحراب (الثالث) آية الله الحاج السيد عبد الحسين دستغيب
تقرير مصور عن شهداء الحجاز الذين استشهدوا في جبهات الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية