الدرس الخامس والستون: المقام الثاني، صفات وليّ الأمر زمن الغَيبة ـ القسم الرابع
التاريخ: 28-04-2011
الشرط الثامن: أن يكون طاهر المولد فلا يصلح ولد الزنا لأن يصير وليّ أمر الأمّة الإسلامية
الشرط الثامن: أن يكون طاهر المولد
فلا يصلح ولد الزنا لأن يصير وليّ أمر الأمّة الإسلامية. ولم يتعرّض لهذا الشرط العلاّمة في التذكرة وقيل بعدم العثور على اشتراطه في كلمات أهل الخلاف، ولعلّهم لا يشترطونه، ولعلّ سرّ عدم اشتراطه في كلام العلامة (قدس سرّه) أنّ محلّ كلامه مَن جعلهم الله أئمّة بالتنصيص على أشخاصهم وهم الأئمّة المعصومون (عليهم السلام)، ولذلك فقد ذكر العصمة والنصّ عليه من الشرائط. وغيره من أصحابنا إن لم يتعرّضوا له فإنّما هو لعدم تعرّضهم لشرائط وليّ الأمر زمن الغَيبة أصلاً.
وكيف كان، فلم نجد في الآثار الواصلة إلينا رواية متعرّضة لاشتراطه في خصوص وليّ الأمر، لكنّه يمكن الاستدلال له بعموم بعض الأخبار وبفحوى بعضها الآخر.
أمّا العموم المذكور فهو ما رواه في البحار عن الصدوق في ثواب الأعمال بإسناده عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لا خير في ولد الزنا ولا في بشره ولا في شعره ولا في لحمه ولا في دمه ولا في شيءٍ منهن يعني ولد الزنا[1].
ورواه عن المحاسن أيضاً[2].
والاستدلال به بملاحظة أنّه (عليه السلام) في صدر الحديث نفى أيّ خير في ولد الزنا وأكّد هذا العموم بالجملات الّتي أتى بها بعده حتّى قال: «ولا في شيءٍ منه» فولد الزنا لا خير فيه ولا في شيءٍ منه أصلاً، ومن المعلوم أنّه إذا يجعل أحد وليّ أمر أمّة فلا محالة يرتقب منه ذاك الخير العظيم ـ أعني خير إدارة أمورهم بوجهٍ حسَن ـ فإذا فرض أنّ ولد الزنا لا خير فيه فلا يمكن أن يوصل بولايته إلى ذاك الخير.
وسند البرقي في المحاسن معتبر موثّق قطعاً، فإنّه رواه عن أبيه عن ابن فضّال عن عبد الله بن بكير عن زرارة.
وسند ثواب الأعمال مشترك في هؤلاء الرواة معه، إلاّ أنّه رواه عن عليّ بن أحمد بن عبد الله عن أبيه عن جدّه البرقي صاحب المحاسن إلى الإمام (عليه السلام)، وعليّ ابن أحمد وأبوه لم يوثّقا في كتب الرجال لعدم تعرّض الرجاليّين لحالهما، وهو لا يضرّ بعد اعتبار سند المحاسن.
وأما ما يدلّ للمدّعى بالأولوية القطيعة والفحوى فطوائف من الروايات:
الطائفة الأولى: ما ورد من الروايات في عدم صلاحية ولد الزنا لإمامة الجماعة في الصلاة، فمن هذه الروايات صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) ـ المروية في الكافي ـ ففيها أنّه قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يصلّينّ أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد الزنا، والأعرابيّ لا يؤمّ المهاجرين[3].
والحديث بنفسه ظاهر في بطلان الصلاة خلف ولد الزنا، وانضمام بعض آخر معه ربّما يقال لجواز الصلاة خلفه لا يوجب عدم انعقاد الظهور الّذي هو حجّة، وقد أفتى ببطلان الصلاة خلفه الأصحاب، حتّى ادّعى إجماعهم عليه شيخ الطائفة في كتاب الخلاف فقال في كتاب الجماعة منه: لا يجوز إمامة ولد الزنا. وقال الشافعي: إمامته مكروهة. وقال أبو حنيفة: لا بأس بها. دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط[4].
وفي الباب أخبار معتبرة أخرى دالّة عليه، وتمام الكلام في محلّه.
وهنا نقول: إذا كان عدم طيب المولد مانعاً عن أن يصير ولد الزنا إمام الجماعة في صلاة واحدة فلا ينبغي الريب في أنّه يمنع عن أن يتصدّى الولاية الكبرى على جميع أمّة الإسلام ومَن يعيش تحت لواء الإسلام.
الطائفة الثانية: روايات تدلّ على أنّ ولد الزنا لا تُقبل شهادته، ففي موثّقة زرارة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) بقول: لو أنّ أربعة شهدوا عندي على رجل بالزنا وفيهم ولد الزنا لحددتهم جميعاً، لأنّه لا تجوز شهادته ولا يؤمّ الناس[5].
ودلالتها على عدم قبول شهادته واضحة.
وفي الباب أخبار أخر دالّة على عدم الجواز، وقد أفتى الأصحاب بعدم قبول شهادته حتّى قال شيخ الطائفة (قدس سرّه) في كتاب الشهادات من الخلاف: شهادة ولد الزنا لا تُقبل وإن كان عدلاً. وبه قال مالك إلاّ أنّه قال: إنّها لا تردّ بالزنا. وقال الشافعي وباقي الفقهاء: لا تُقبل. دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم[6].
والصحيحة المذكورة كما دلّت على عدم قبول شهادة ولد الزنا فهكذا تدلّ على عدم جواز إمامته من دون الإقران بمصاحب آخر أصلاً.
وكيف كان، فإذا كانت الولادة من الزنا رافعة لصلاحية ولدٍ الزنا لقبول شهادته في موردٍ مّا فلا ينبغي الريب في أنّها توجب عدم صلاحيته لتصدّي الولاية الكبرى ولإدارة أمور أمّة الإسلام بطريق أولى قطعاً.
وربّما يقال: إنّ قوله (عليه السلام) ذيل الصحيحة المذكورة «ولا يؤمّ الناس» ينفي صلاحية ولد الزنا للإمامة للناس، وليس الإمامة مقيّدة بأن تكون لصلاة الجماعة، بل إنّ إطلاقها يشمل الإمامة الكبرى، فتدلّ الصحيحة على المطلوب بلفظها. إلاّ أنّه يمكن دعوى انصرافها إلى الإمامة في خصوص الصلاة، والله العالم.
الطائفة الثالثة: روايات تدلّ على أنّ دية ولد الزنا دية الذمّي ثمانمائة درهم، فقد روى الشيخ في التهذيب بسندٍ معتبر عن الصفّار عن إبراهيم بن هاشم عن عبد الرحمن بن حمّاد عن إبراهيم بن عبد الحميد عن جعفر (عليه السلام) قال: قال: دية ولد الزنا دية الذمّي ثمانمائة درهم[7].
ورجال السند معتبر، فأنّ سند الشيخ إلى الصفّار صحيح، والصفّار نفسه وإبراهيم ابن هاشم ثقتان، وعبد الرحمان بن حمّاد وإن لم يصرح بوثاقته إلاّ أنّه روى عنه ابن أبي عمير الّذي لا يروي إلاّ عن ثقة، وإبراهيم بن عبد الحميد أيضاً ثقة وإن احتمل كونه واقفياً. والإفتاء بمضمونه مذهب الأكثر ـ كما في المسالك[8] بل نسبه السيد في الانتصار إلى الإجماع فقال: وممّا انفردت به الإمامية الفول بأنّ دية ولد الزنا ثمانمائة درهم وخالف باقي الفقهاء في ذلك، والحجّة بعد الإجماع المتردّد...[9].
وبالجملة: فدليل المسألة رواية معتبرة أفتى بمضمونها جميع الأصحاب أو أكثرهم وقد ورد مضمونها في خبرين آخرين في سندهما إرسال[10] ولا يضرّ باعتبار سند ما ذكرناه. وحينئذٍ فإذا جعل الشارع قيمة دمه قيمة دم الذمّي فهو يكشف عن دناءته، فمثل هذا الإنسان الدني لا يصلح أن يتصدّى أعظم المناصب ـ أعني ولاية الأمّة ـ.
الطائفة الرابعة: ما تدلّ على النهي عن الاسترضاع بلبن امرأة كانت ولد الزنا، ففي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن امرأة ولدت من الزنا هل يصلح أن يسترضع بلبنها؟ قال: لا يصلح، ولا لبن ابنتها الّتي ولدت من الزنا[11].
وفي صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لبن اليهودية والنصرانية والمجوسية أحبّ إليّ من ولد الزنا... الحديث[12].
والنهي وإن كان تنزيهياً إلاّ أنّه يكشف عن دناءة الولادة عن الزنا بحيث أوجبت كراهية الاسترضاع بلبن ولد الزنا وبكونه أخسّ وأدنى من أهل الكتاب فبعد هذه الدناءة لا يصلح ولد الزنا لتصدّي منصب ولاية الأمر قطعاً.
الطائفة الخامسة: ما تدلّ على أنّه أردأ من الكلب والخنزير، فقد روى البرقي في المحاسن والصدوق في عقاب الأعمال بسندٍ معتبر عن حمزة بن عبد الله عن هاشم بن أبي سعيد (هاشم بن سعيد خ ـ ل) الأنصاري عن أبي بصير ليث المرادي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنّ نوحاً (عليه السلام) حمل في السفينة الكلب والخنزير ولم يحمل فيها ولد الزنا، والناصب شرٌّ من ولد الزنا[13].
ودلالتها على ما ذكرنا واضحة، فإذا كان ولد الزنا أردأ من الكلب والخنزير فلا يصلح لتصدّي ذاك المنصب العظيم. هذا إلاّ أنّ حمزة بن عبد الله وهاشم بن سعيد مجهولان.
فالمتحصّل ممّا ذكرنا قيام أدلّة معتبرة على اشتراط طيب المولد في وليّ الأمر وأنّ مَن كان ولد الزنا فلا يصلح لأن يصير وليّ أمر الأمّة.
الشرط التاسع: أن يكون ذا حُسن التدبير
ومآله إلى أن يكون عالماً بما يكون العيش به راغداً وعلى طريقة مستحسنة وشرعية.
بيانه: أنّ ولاية أمر أحدٍ أو جمع إذا جعلت على عهدة شخص فلا محالة يلزمه أن يدبّر أمرهم بما هو الأصلح والأنفع لهم، فإعمال الولاية على الأمّة إنّما يكون بأن يعمل وليّ أمرهم في كلّ موردٍ ما تحتاج الأمّة إليها في حُسن معيشتهم وفي دفع أو رفع المفاسد عنهم، وإذا كانت هذه الولاية في دائرة الإسلام والدين الإلهي فإعمالها لابدّ وأن يكون في دائرة الإسلام والطلبات الإسلامية والإلهية، وقد مرّ ذلك سابقاً عند البحث عن حدود اختيارات وليّ الأمر ووظائفه، وصرّحنا مراراً بأنّ إدارة جميع أمور الأمة إنّما هي تحت اختيار ولي أمرهم، إلاّ أنّه ليس مجرد إعطاء اختيار بل يلزمه ويجب عليه إعمال هذا الاختيار في جميع الموارد بالنحو المطلوب الأحسن.
فبالجملة: إعمال الولاية إنّما يكون برعاية جميع ما يتوقّف حسن معيشة الأمّة ديناً ودنياً عليه، ومن المعلوم أن رعايتها لا تمكن إلاّ إذا كان وليّ الأمر عالماً بخصوصيات تلك الجهات المحتاج إليها حُسن العيش، وحُسن معيشتهم في الدنيا ـ مرعيّاً فيه طلبات الله ـ إنّما يكون بأن يعمل ما يرغد به معيشتهم من الأعمال المختلفة، فمثلاً يعمل ما يحتاج إليه أمر الزراعة من جعل الأراضي مستعدّة للزرع، ورفع ما تكون به مواتاً عنها، وإعداد المياه اللازمة للزرع والغرس فيها بالأنحاء المختلفة كحفر الآبار العميقة أو تفجير الأنهار أو أخذ الماء منها بالطرق الحديثة والإمكانات الجديدة المتقدّمة أو بإحداث الأنهار الطويلة ول كانت بحاجة إلى إيجاد ما يسمّى بالأنفاق في عمق الجبال وغيرها. هذا من ناحية إيجاد الأرض الصالحة والمياه اللازمة.
فبعد إعدادهما فإعمال الولاية الحسنة في أمر الزراعة إنّما يكون بأن يراقب ما يزرع في الأراضي أو يغرس فيها من الأشجار فيعيّن ما يحتاج إليه عيش الناس من الحبوب والثمار والبقول الغذائية ومن العلائف والمراعي للأنعام والدوابّ.
كما لا يكتفى بالوسائل والأدوات القديمة بل ينبغي تهيئة الوسائل الصناعية الحديثة ليكون الزرع والغرس وتعليف الدوابّ والطيور وجميع الحيوانات بأحسن ما يمكن.
فبعد ذلك كلّه يأخذ من الناس ما أوجبه الله عليهم من زكاة المال في الحبوب والأنعام ويصرف ما أخذه في المصارف الشرعية المقرّرة، فإنّه من وظائفه واختياراته كما مرّ بالتفصيل.
ولا يقتصر في أمر الزراعة ونوع الزرع على مجرّد ما يعرفه ويعلمه الناس بالوراثة عن أسلافهم، بل إعمال الولاية بحسن التدبير إنّما يكون بصدد أن يستفيد وليّ الأمر يوماً فيوماً ممّا يحدث في تقدّم علمي، بل يهيّئ الناس ويشوّقهم ويأمرهم بمتابعة التقدّم العلمي الّذي يحصل في العالم يوماً فيوماً بل ساعة وساعة.
وهذا الّذي ذكرناه لا يختصّ بأمر الزرع والغرس بل يجري كلّه في سائر ما يعيش الإنسان به. فإعمال الولاية بوجهٍ حَسن مطلوب يقتضي الاستفادة من السفر بالوسائل النقلية الحديثة.
وهكذا الأمر في وسائل نقل الأموال التجارية وغيرها، وفي كيفية نقلها من حيث السرعة والجودة.
وهكذا الأمر في عرض الخدمات المختلفة العديدة وتأسيس إدارات حديثة، فيحفظ البلاد، واختيار مسؤولين كفوئين للبلديّات، ويراقب أن لا يقع بين الأمّة تنازع، وأن يرفع النزاع بقضاء حسن، ويوسّع الطرق والشوارع داخل البلاد وخارجها ويجعل الطرق أحسن ما يمكن أن تجعل، ويؤسس دائرة القضاء ويجعل لشُعبها مَن يقدر على القضاء فيها بالوجه الإسلامي في التخاصمات وفي إجراء الحدود والتعزيرات.
ويقوم بتوسعة الإسلام الشريف بأمر الجهاد مع الالتفات إلى تهيئة أسبابه الحديثة، والأمر بأن يُهيّئ للناس الأسلحة الحديثة المتطورة، ويعمل في ذلك بمفاد قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾[14] فيلتفت كمال الالتفات إلى أن الواجب هو أن تكون قوّاته المسلّحة في مرتبة يرهبون به غيرهم مسلّحين بالإيمان الكامل والتكنولوجيا الحديثة بالتقدّمات العلمية على أحسن ما يمكن وصول الناس إليه. فهذا كلّه ممّا يتوقّف عليه إعمال الولاية بوجهها الحسن، فلابدّ من مراعاته.
ثُمّ إنّ الإسلام الشريف قد أتى في هذه الموارد بأحكام لازمة للغاية كأحكام القضاء من شرائط القاضي وكيفية القضاء وشرائطه وكالحدود والتعزيرات بنحو ما جعله الإسلام في الذنوب المختلفة. كما أتى بحكم وجوب أداء الخمس والزكاة وجعل أمر أخذهما إلى وليّ الأمر كما مرّ، فإعمال الولاية فيهما لا يكون إلاّ برعاية حكمهما كما جعله الله تعالى.
وكما في أحكام الجهاد الابتدائي والدفاعي من موارد وجوبهما وما يجب أن يكون الجهاد عليه في دعوة الكفّار إلى الإسلام، ثمّ في العمل الشرعي بالغنائم والأسراء والأراضي المفتوحة عنوةً وفيما يعمل مع الكفّار المشركين وأهل الذمّة بما لكلّ من ذلك من أحكامِ عديدةٍ كثيرة.
بل إن للإسلام دعوةً وحثاً على الزرع والصنعة، وبيّن الموارد الّتي يصرف فيها الأموال من الزراعة والصناعة وغيرها إيحاباً أو ندباًَ، والموارد الّتي نهى عن صرفها فيها من إعانة الكفّار والإعانة على الإثم والعدوان، إلى غير ذلك من أحكام عديدة كثيرة في شتّى الموارد لجميع الناس أو طائفة منهم، وجعل الله وليّ أمر الأمّة مسؤولاً على إجراء هذه الأحكام كما أراده الله تعالى بشرح ما مرّ عند البحث عن أنواع وظائف الوليّ واختياراته.
فحاصل المطلب: أنّ إعمال الولاية الحسنة إنّما يكون بأن يراعي ما يحتاج إليه حُسن العيش الديني والدنيوي عليه من الأمور الدخيلة في العيش تكويناً ومن الأحكام الإلهية الّتي جعلها الله تعالى في الإسلام ويكون أمراً إجرائياً إلى وليّ الأمر لاقتضاء إعمال الولاية بالنحو المطلوب به، فحُسن الولاية وإعمالها الحسَن المطلوب موقوف على أن يكون وليّ الأمر ذا قدرة نفسية وشمّ مناسب قويّ يعلم بها جميع هذه الأمور المحتاجة إليها في حسن الولاية تكويناً وجميع الأحكام الشرعية اللازمة الرعاية في الموارد العديدة المختلفة.
ولذلك قلنا: إن حُسن التدبير يحتاج ويؤول إلى علم وليّ الأمر بالأحكام الشرعية وبتلك الأمور المحتاج إليها حسن التدبير.
ولا يخفى أنّ إعمال الولاية لا يشترط فيه مباشرة وليّ الأمر بنفسه في جميع الموارد، فإذا رأى مصلحة في أن يجعل إجراء الأمر إلى شخصٍ آخر فعليه أن يراعي في هذا الشخص صفة أهلّيته لحُسن إجرائه، بل لابدّ وأن يوكل في كلّ موردٍ إلى مَن يقدر على حُسن إعمالها فيما يوكل إليه، فإنه مقتضى ما عرفت من وجوب حُسن إعمال الولاية، ولذلك فلابدّ لوليّ الأمر أن يعرف من الناس مَن لابدّ من إيكال أمر إليه من إدارة البلاد أو القضاء أو الجهاد أو الأمور الزراعية أو الصناعية أو الاقتصادية أو غير ذلك من الأمور الكثيرة المختلفة.
وجيث قد مرّ مراراً أن جعل الولاية لأحدٍ لا ينفكّ عن وجوب قيامه بإعمالها بالنحو المطلوب وعن وجوب إطاعة الأمّة أوامره ونواهيه فلذلك فلا مجال لتوهّم أنّ وليّ الأمر قد لا يقوم بإعمال الولاية بنحوه المطلوب، فإنّ ولي الأمر عادلٌ مطيع للشرع وعاملٌ بوظيفته الإلهية، فلا محالة يقوم بإعمال الولاية بأحسن وجهٍ ممكن ويحتاج في إعمالها إلى العلم بالأمور الشرعية وغير الشرعية على ما أشرنا إليه، وحينئذٍ نقول:
إنّه يمكن الاستدلال لاعتبار العلم بكلا شقّيه في وليّ الأمر بوجوه.
الوجه الأول: أنّ العقلاء لا يرتابون في أنّ من يوكل إليه إتيان عمل فلابدّ وأن تكون له أهلية إتيانه بالنحو المطلوب، ولا يسوغ لديهم إيكال الأمر إلى من لا يُستحسن الإتيان به، ومن الواضح كما عرفت أنّ إعمال الولاية لا يتمّ إلاّ بحُسن التدبير، وهو يؤول إلى أن يكون مَن يعملها على كمال العلم بالإجراء حكماً وموضوعاً في جميع الموارد كما عرفت تفصيله، فمقتضى هذا الحكم القطعي العقلائي اشتراط علم وليّ الأمر بحسن الإجراء وبما ينبغي بل يجب عليه إجراؤه بلا نقيصة في شيء من الموارد أصلاً.
وهذا الحكم البديهي العقلائي قد أمضاه الشارع في صحيحة عيص بن القاسم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وانظروا لأنفسكم، فوالله إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاًَ هو أعلم بغنمه من الّذي هو فيها يُخرجه ويجيء بذلك الرجل الّذي هو أعلم بغنمه من الّذي كان فيها، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثُمّ كانت الأخرى باقية فعمل على ما قد استبان لها ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة، فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آتٍٍ منّا فانظروا على أيّ شيء تخرجون... الحديث[15].
بيان الدلالة: أنّه (عليه السلام) في صدر الحديث أمر المؤمنين بتقوى الله تعالى ثُمّ عطف عليه قوله «وانظروا لأنفسكم» وظاهره أن أمره الأول برعاية تقوى الله تعالى جيء به مقدّمة وتأكيداً وبياناً لأهميّة أمره الثاني، والمراد من النظر للنفس أن يتفكّر حقّ التأمّل في مَن يجعله ولياً لأمره كما تشهد له الفقرات التالية, فبعد ذلك بيّن ما يكون بصدد بيانه بمثال الراعي لأغنام الإنسان الّذي فوّض إليه رعي غنمه وتربيتها وحفظها من العاهات، صرّح بأنّ كلّ أحدٍ يحكم بمقتضى عقله وفطرته أنّه إذا وجد رجلاً ثانياً هو أعلم بإعمال ما فوضّه إلى راعيه أخذ بغنمه وفوّض أمرها إلى هذا الرجل الثاني وأخرج ذاك الراعي الأول غير الأعلم. ثُمّ بعد هذا المثال جاء في تطبيق المطلب على ما هو أصل المقصود وذكر أمراً آخر وهو أنّه ليس لكلّ أحدٍِ إلاّ نفس واحدة إن لم يراقب كاد أن يقع في ضلال ولا يكون له مجال أن يرجع إلى ما ينبغي أن يفعله، فلهذه الجهات أنتم ـ أيّها المؤمنون ـ أحقّ أن تختاروا لأنفسكم أحداً يلي أمركم، وأن تكونوا على دقّة أكثر وأوفر في مَن تأتمّون به وتتولّونه من تلك الرعاية والدقّة الّتي تراعونها في راعي أغنامكم، فإنّ النفس ولا سيما إذا كانت واحدة أحق بالاختيار لها والدقّة فيما يرجع إليها.
هذا حاصل مفاد فقرات الصحيحة المزبورة، وأنت ترى بوضوح أنّ ذكر حديث راعي الأغنام وأنّ الوجدان يحكم بوجوب أن يكون عالماً بأمر الرعي بل أعلم من الغير يكون في معنى إمضاء ما يحكم به العقلاء من اشتراط تأهل مَن يوكل إليه أمر لإثباته على الوجه المطلوب، بل ويؤكد على رعاية أن يفوض الأمر إلى الأعلم.
فالصحيحة ـ كما مرّت سابقاً أيضاً ـ حجّة معتبرة على إمضاء ذاك الحكم العقلائي وقد عرفت أنّ مقتضاه أن يكون وليّ الأمر عالماً يحُسن إتيان ما فوّض إليه من تولّي أمور الأمّة من جهة الأحكام الشرعية الّتي إليه إجراءها ومن جهة ما لابدّ من إعمالها في مختلف الأمور الكثيرة ومن جهة عرفان واجدية شرائط مَن ربما ينصبه لإتيان أمرٍ خاصّ.
إلاّ أن لقاتل أن يقول: إن الصحيحة وإن دلّت على إمضاء القاعدة العقلائية المذكورة إلاّ أنّ غاية ما نسلّم من حكم العقلاء بمقتضى تلك القاعدة أنّ من أوكل إليه إتيان أمر فأن أراد أن يأتي بالمباشر فلابدّ وأن يكون عالماً بكيفية العمل المأتيّ به، وأمّا إذا أراد إيكاله إلى شخصٍ ثالث ـ وكان إيكاله إليه أيضاً جائزاًٍ له ـ فلا يعتبر أن يكون نفسه أيضاً عالماً بكيفية، بل نهاية الأمر أنّه يعتبر في ذلك الثالث أو الرابع. وبعبارة أخرى في المباشر أن يكون عالماً، فاللازم في نفس مَن يفوّض إليه أن يكون إمّا عالماً بكيفية العمل وأحكامه وإمّا عالماً بالخصوصيات اللازمة في ذلك المباشر أو في مَن يوكله إليه. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى حيث إنّه لا يجب على وليّ الأمر أن يباشر إتيان الأمور الّتي يتولاها بنفسه بل يفوّض ولابدّ من تفويض كثير منها إلى أشخاص آخرين يباشرون إتيان تلك الأمور بأنفسهم أو يفوّضون أيضاً إلى آخرين فلا محالة لا تقتضي تلك القاعدة العقلائية وجوب أن يعلم وليّ الأمر بنفسه كيفية إتيان كلّ عمل بل يكفي له أن يعلم أنّه لابدّ من إيكال الأمر إلى مَن كان عالماً بإتيانه أو بإيكاله إلى مَن يعلم به. وعلى هذا بناء تولّي أمور الأمم والشعوب المختلفة في العالم، ولذلك أيضاً كان لكل رئيس دولة وزراء عدّة أوكل إلى كلّ وزير قسم خاصّ من أمور البلاد، ويتولّى الوزير تقسيم ما فوّض إليه إلى عمّال آخرين ومعاونين له، وربّما يتصدّى نفسه مباشرة عملٍ خاصّ.
ولا دليل على أنّ إعمال الولاية في الإسلام لابدّ وأن يكون على شكل آخر وبمباشرة شخص وليّ الأمر، بل الدليل القطعي على خلافه، ولذلك فقد جعل أمير المؤمنين (عليه السلام) ولاية مصر لمالك الأشتر وكتب له كتابه الطويل المعروف، وأمره بأسس ينبغي أن يراعيها في المجالات المختلفة، ولذلك أيضاً كان له (عليه السلام) عمّال وجعل لكلّ بلدةٍ أو ناحية عاملاً خاصّاً.
فالحاصل: أنّ ما تقتضيه القاعدة العقلائية المذكورة ليس أزيد من اعتبار علم من أوكل إليه أمرٌ بإتيان ذاك الأمر بالنحو المطلوب وعلم أن يفوّض كلّ أمرٍ إلى مَن يعلم كيفية إتيانه كما ينبغي، أو يفوضه هو أيضاً إلى آخر أو آخرين إلى أن تصل نهاية الأمر إلى أن يؤتى بالأمر كما هو المراد. نعم لابدّ أن يكون عالماً بأنحاء الأعمال المفوضة إليه، وبأن اللازم عليه أن يفوّض كلّ عملٍ إلى العارف جدّاً بإتيانه، فلابدّ له من أن يعرف الصالح لكلّ مَن يكون جامعاً للشرائط اللازمة. هذا كلّه مقتضى التأمّل في حدود نفس القاعدة.
ومن الواضح أن الصحيحة الماضية أيضاً لا تدلّ على التعبّد بتضييقٍ شرعي في هذه القاعدة وتسلّمها لبداهة وجوب إخراج الراعي غير الأعلم، وتفويض الرعي الى الأعلم لا يدلّ على أزيد من اعتبار العلم ومن تقديم الأعلم على غيره في الأمر المفوّض إلى أحد، وهو لا يخالف القاعدة العقلائية المذكورة ولا يوجب تضييقاً ذاك الذي مرّ فيها، فالصحيحة تمضي تلك القاعدة، وتكون القاعدة مسلّمة ممضاةً بما لها من العرض العريض.
وسنرجع إلى الكلام في اعتبار الاجتهاد في العالم بكيفية الإعمال وأحكامها الشرعية أو الاكتفاء باستناد العلم بها إلى تقليدٍ صحيح، فانتظر.
الوجه الثاني: أنّ الكتاب الكريم يدلّ على اشتراط العلم في وليّ الأمر، فإنّه يمكن أن يستدلّ له أو استدلّ له بآياتٍ عديدة.
1ـ ومنها قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾[16].
وبيان دلالته: أنّ الآية كما ترى قد وردت تقريعاً للمشركين وإبطالاً لشركهم، إلاّ أنّه مع ذلك فقوله تعالى: «أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى» يدلّ على قاعدة مسلّمة كلّية، فقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام إبطال شركهم أن يسألهم أنّه هل يوجد بين شركائكم مَن يهدي إلى الحقّ؟ ومعلوم أنّ جواب هذا السؤال النفي البتّي، فلم يذكره في نصّ الآية وأتى مكانه بقوله: «قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ» ومفاده أنّ الهداية إلى الحقّ خاصّة بالله تعالى ومنفية عن المشركين، فلا محالة أنّه لا مجال لأن يشرك بالله شيء.
ثُمّ بعد ذلك الإبطال جاء بالسؤال الآخر وأرجعهم في الجواب إلى وجدانهم فسألهم بقوله: «أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى» ومن المعلوم أنّ من لا يهدّي فليس حقيقاً بالاتّباع بل الحقيق به هو مَن يهدي إلى الحقّ، فينطبق الجواب على الله الّذي يهدي للحقّ فإنه الحقيق بالاتّباع، وعلى شركائهم الّذي لا يهدون إلى الحقّ فهم لا يحقّ اتّباعهم.
وقوله تعالى بعد هذا السؤال: «فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» تقريعان آخران لدعواهم في صورة سؤالين يكون كلّ منهما في مقام الإبطال أخذهم شركاء الله تعالى، وحاصل المراد من السؤالين أنّه بعد وضوح بطلان الميل إلى اتّباع مَن لا يهتدي بنفسه فمالكم أيّها المشركون حيث اتّبعتم مَن لا يهتدي؟ وكيف تحكمون بخلاف هذا الأمر البيّن وتذهبون سبيلاً بيّن الغيّ؟
وبالجملة: فدلالة الآية المباركة على بطلان اتّباع مَن لا يهتدي واضحة، والسؤالان الأخيران تأكيدٌ على هذا الإبطال. فتوهّم أن لا دلالة فيها على البطلان وعلى المنع واضح الاندفاع.
فالآية الشريفة تحكم ببطلان اتّباع مَن لا يهتدي بنفسه، و«مَن لاَّ يَهِدِّي» عبارة أخرى عن الجاهل، والإتيان بلفظة «أَحَقُّ» في صدر الآية مجرد تلطيف في الكلام ليكون بطلان اتّباع مَن لا يهتدي أنفذ وأثبت عند المخاطبين، فلا مجال أصلاً لتوهّم اشتمال اتّباعه على حقّ حتّى يكون في مرتبةٍ ولو نازلة من الجواز.
وقد وردت ذيل الآية المباركة روايات تشهد أيضا على صدق ما استفدناه منها.
فقد روى في كتاب الحدود من الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لقد قضى أمير المؤمنين صلوات الله عليه بقضية ما قضى بها أحد كان قبله، وكان أوّل قضية قضى بها بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك أنّه لما قُبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأفضى الأمر إلى أبي بكر أتى برجل قد شرب الخمر، فقال له أبو بكر: أشربت الخمر؟ فقال الرجل: نعم. فقال: ولم شربتها وهي محرّمة؟ فقال: إنّني لمّا أسلمت ومنزلي بين ظهرانيّ قومٍ يشربون الخمر ويستحلّونها ولو أعلم أنّها حرام فأجتنبها. قال: فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال: ما تقول يا أبا حفص في أمر هذا الرجل؟ فقال: معضلة وأبو الحسن لها. فقال أبو بكر: يا غلام ادع لنا عليّاًَ، قال عمر: بل يؤتى الحكم في منزله. فأتوه ومعه سلمان الفارسيّ، فأخبره بقصّة الرجل، فاقتصّ عليه قصّته، فقال عليّ (عليه السلام) لأبي بكر: ابعث معه مَن يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار فمن تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه، فإن لم يكن تلا عليه آية التحريم فلا شيء عليه. ففعل أبو بكر بالرجل ما قال عليّ (عليه السلام) فلم يشهد عليه أحد فخلّى سبيله. فقال سلمان لعليّ (عليه السلام): لقد أرشدتهم، فقال علي (عليه السلام): إنّما أرت أن أجدّد تأكيد هذه الآية فيَّ وفيهم: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾[17].
فإن قوله (عليه السلام): «إنّما أردت أن أجدد تأكيد هذه الآية فيّ وفيهم» لا ريب في أنّ المراد منه تجديد تأكيد مفاد الآية فيه (عليه السلام) بأنه حقيق بأن يكون وليّ أمر الأمّة فيتّبع، وفيهم بأنّهم ممّن لا صلاحية لهم لتصدّي ولاية أمر الأمّة لأنّهم لا يهتدون إلاّ إذا هداهم غيرهم فهو الحقّ وهم باطلون. وهذا بعينه ما استفدناه من نفس الآية المباركة، كما عرفت.
وروي في تفسير البرهان ذيل الآية أخباراً في بعضها أيضاً دلالة على ما استفدناه، فليراجع.
فحاصل الكلام: أنّ الآية الشريفة واضحة الدلالة على عدم جواز اتّباع الجاهل الّذي لا يهتدي بنفسه إلى الحقّ، وحيث إنّ وجوب اتّباع وليّ الأمر من المسلّمات لا يمكن المصير إلى عدم وجوبه فلا محالة بما أنّ الجاهل لا يجوز اتّباعه فلا يصلح لأن يكون وليّ أمر الأمّة.
ومفاد الآية الشريفة اشتراط وجوب الاتّباع لأحد في كلّ مورد بأن يكون عالماً به، وبما قد مرّ من احتياج إعمال الولاية على النحو المطلوب بأن يكون عالماً بالأحكام الشرعية الّتي إجراؤها إلى وليّ الأمر وعالماً أيضاً بالأمور المختلفة الّتي يقوم بها حُسن معيشة الأمّة على كثرتها جدّاً إذا أراد أن يأمر نفسه بها، أو بأن يعيّن في كلّ مورد شخصاً عارفاً صالحاً لإدارة الأمور بالنحو المستحسن إذا كان يوكله إلى آخر وحينئذٍ فاللازم أن يكون عالماً بما يحتاج إليه إعمال الولاية. ودلالة الآية على هذا المعنى الوسيع واضحة لا ريب فيها.
2ـ ومن الآيات قوله تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم﴾[18].
بيان دلالته: أنّ هذا الملأ من بني إسرائيل طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكاً. يقاتلون معه كما هو مفاد صدر الآية الأولى فأجاب النبيّ مسألتهم وقال: إنّ الله تبارك وتعالى قد بعث لكم طالوت ملِكاً، فاظهروا عدم قبول هذا الملك بما حاصله: أنّ الملك يحتاج إلى مالٍ وسيع وليس لهذا المبعوث بالملك سعة من المال، فردّهم النبيّ أوّلاً بأنّ الله تعالى اصطفاه عليكم ولا مجال لأحدٍ أن لا يقبل ملك من اختاره الله واصطفاه للمك، فأنّ الله تعالى مالك الناس جميعاً بحقيقة معنى الملك، ومعه فلا معنى لأن لا يطيعه عباده المملوكون له. وثانياً بأنّ هذا الّذي آتاه الله المُلك زاده الله عليكم بسطة في العلم وفي الجسم والملك بحاجة إلى علم من له الملك بكلّ ما ينبغي له أن يفعل ويأمر، فهذا المبعوث ملكاً له بسطةً وسعةً في العلم وليس لأحدٍ غيره هذه السعة، كما أنّه قد زاده الله تعالى بسطةً في الجسم، والبسطة فيه يوجب خضوع الرعية له وخضوع الأعداء الأجانب لديه. فقوله في الجواب وفي مقام ردّ مقالتهم: «زاده الله بسطة في العلم» يدلّ على أنّ للعلم بل ولبسطته دخلاً في حصول الملك الإلهي، فلا محالة يشترط الملك بالعلم بالأمور الّتي بيد الملك إجراؤها والأمر بها. والملك عبارة أخرى عن وليّ الأمر، فتكون ولاية الأمر المقبولة عند الله تعالى مشروطة بعلم وليّ الأمر، وهو المطلوب.
وتوهّم أنّ قوله الأوّل في ردّ الملأ: «إنّ الله اصطفاه عليكم» جواباً وردّاً تامّاً لمقالتهم وزعمهم ولا قيمة أساسية لقوله الثاني: «وزاده بسطة في العلم والجسم» فلا دلالة للآية على الاشتراط مدفوع بأنّه خلاف ظاهر الآية جدّاًَ، فإنّ ظاهرها دخالة كلّ من الأمور المذكورة في حصول التأهّل لمنصب الملك والولاية، فتشترط الولاية بالعلم بما إليه إعمالها بشرح ما مرّ.
كما أنّ احتمال اختصاص هذا الشرط بدين بني إسرائيل ولا دلالة في الآية لعموم هذا الاشتراط في الإسلام مندفع بأن اشتراط الولاية بعلم مَن يتولّى الأمر حيث إنّه مسلّم عند العقلاء يوجب أن يفهموا من اشتراطه في دينهم أنّ هذا الشرط ممّا يشترطه الله تعالى أيضاً في الولاية، وأنّ اشتراطه فيها لا يختص عنده تعالى أيضاً بدينٍ دون دين، والحمد لله.
ويشهد لإرادة اشتراط العلم في مَن يتولّى أمر الأمّة من الآية المباركة ما رواه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في تمام نهج البلاغة أنّه (عليه السلام) ـ في خطبةٍ طويلة خطب بها قبل استشهاده يدعو فيها الناس إلى حرب معاوية ـ فإنّه (عليه السلام) قال فيها: اسمعوا ما أتلو عليكم من كتاب الله المنزل على نبيّه المرسل لتتّعظوا به، فانّه والله عظةٌ لكم فانتفعوا بمواعظ الله وازدجروا عن معاصي الله، فقد وعظكم الله بغيركم فقال لنبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم): «ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل... ـ فتلا إلى قوله تعالى: ـ والله واسعٌ عليم» يا أيّها الناس، إنّ لكم في هذه الآيات عبرة، لتعلموا أنّ الله تعالى جعل الخلافة والإمرة من بعد الأنبياء في أعقابهم وأنه فضّل طالوت وقدّمه على الجماعة باصطفائه إيّاه وزيادته بسطةً في العلم والجسم، فهل تجدون الله عز وجلّ اصطفى بني أمية على بني هاشم وزاد معاوية عليَّ بسطّة في العلم والجسم؟![19].
فتراه (عليه السلام) جعل الآية المباركة الثانية عظة للمسلمين جارية بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وليّ أمر الأمّة، وأنّ العلم والبسطة فيه شرطٌ في وليّ أمر المسلمين، وأنّ هذا الشرط فيه لا في معاوية، ففي كلامه دلالة على صدق ما استظهرناه من العموم من الآية المباركة.
والظاهر أنّ قوله (عليه السلام): «إنّ الله تعالى جعل الخلافة والإمرة من بعد الأنبياء في أعقابهم» إشارة إلى ما تضمّنته روايات عديدة ذيل الآيتين.
منها ما رواه القمّي في تفسيره بسندٍ معتبر عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): إنّ بني إسرائيل بعد موسى عملوا بالمعاصي وغيّروا دين الله وعتوا عن أمر ربّهم... فسلّط الله عليهم جالوت وهو من القبط فأذلّهم وقتل رجالهم... ففزعوا إلى نبيّهم وقالوا: سل الله أن يبعث لنا ملِكاً نقاتل في سبيل الله، وكانت النبوة في بني إسرائيل في بيت والملك والسلطان في بيتٍ آخر، لم يجعل الله لهم الملك والنبوّة في بيتٍ واحد، فمن ذلك قالوا: «ابعث لنا ملكا»[20].
فالحديث دالّ على أنّ الملك والإمرة في بني إسرائيل كان في بيتٍ منهم وبنو إسرائيل كلّهم أعقاب النبيّ إسرائيل، فيدلّ الحديث أيضا على ما قاله الأمير (عليه السلام) في خطبته الشريفة.
3ـ ومنها قوله تعالى ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾[21].
بتقريبٍ أنّه يدلّ باستفهامه الإنكاري دلالة واضحة على أنّ الّذين يعلمون لا يستوون مع الّذين لا يعلمون، وشدّة وضوح انتفاء الاستواء بين الطائفتين أوجبت تعقيب هذا الاستفهام بقوله تعالى: «إنّما يتذكّر أولوا الألباب» يعني أنّ كلّ ذي لبّ يدرك أنّهما لا يستويان، فعدم استوائهما في كمال البداهة، فإذا لم يكونا مستويين كان لازمه أن يصلح الّذين يعلمون لولاية الأمر ولا يصلح الّذين لا يعلمون قضاءً لنفي الاستواء.
أقول: وأنت خبير بعدم تمامية التقريب المذكور، فإنّ عدم استواء الطائفتين يكفي في صدقه أن يكون في بعض الموارد مزية وتقدّم للّذين يعلمون على الّذين لا يعلمون، كما في القنوت آناء الليل ساجداً وقائماً المذكور صدر الآية، فلعلّ جواز التصدّي لولاية أمر الأمة كان مشتركاً بينهما كما يشتركان في الحاجة إلى الغذاء والتنفس وغيرهما من أمور كثيرة، فلا حجّة في الآية على نفي الاستواء بينهما في موضوع الكلام.
4ـ ومنها قوله تعالى ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[22].
وتقريب الاستدلال بها أنّ الرجل الأوّل الّذي لا يقدر على شيء ولا يأتي بخير في شيء من الموارد لا محالة يكون جاهلاً بصواب الأمور حتّى يختاره ويأتي به، والرجل الثاني عالمٌ بصواب الأمور ولذلك يأمر بالعدل وهو على صراطٍ مستقيم فالأوّل جاهلٌ محض والثاني عالمٌ بالأمور، وقد سأل الله هنا أيضاً استفهاماً إنكارياً عن أنّهما هل يستويان؟ وجواب هذا الاستفهام نفي الاستواء بينهما، ونفي الاستواء معناه عدم صلوح الجاهل للإمرة، بخلاف العالم كما عرفت.
وهنا أيضاً تأتي المناقشة المتقدّمة من عدم اقتضاء نفي الاستواء بينهما أن لا يتساويا في موردٍ أصلاً، فلعلّ جواز تصدّي الولاية على الأمّة مشترك بينهما كاشتراكهما في أمور أخر كثيرة، ويكفي لصدق نفي الاستواء بينهما مجرّد ما ذكره صدر الآية، فهذه الآية أيضاً مثل سابقها لا حجّة فيها على المطلوب.
5ـ ومنها قوله تعالى ـ حكايةً عمّا قاله يوسف لملِك مصر ـ: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾[23].
بتقريب أنّ قوله: «إنّي حفيظ عليم» تعليلٌ لطلبه منه أن يجعله على خزائن الأرض، ففيه دلالة على اشتراط العلم في مَن يوكل إليه أمر، وهو في الآية حفظ خزائن الأرض كما ينبغي.
إلاّ أنّ فيه: أوّلاً أنّه لا دلالة في الآية على الاشتراط، بل يجتمع التعليل مع الأنسبية المحظة غير الواصلة حدّ الاشتراط. وثانياً لا عموم لها بالنسبة لجميع الأمور. وثالثاً أنّه كلام يوسف ولا شهادة فيه على أنّ مدلول كلامه بيان الاشتراط من جانب الله تعالى، فلعلّه إنّما جاء به ترغيباً للمِلك في ما يستحسنه العقلاء وبالجملة: فلا حجّة فيه، غاية الأمر أنّ فيه إيماء إلى الاشتراط.
6ـ ومنها قوله تعالى ـ حكاية لما قالته إحدى بنتي شعيب لأبيها ترغيباً له في أن يستأجر موسى ـ: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾[24].
بيان أنّ القوّة والأمانة تعليلٌ لكون استيجاره خيراً، وهما إنّما تنفعان في حُسن العمل إذا اجتمعتا مع العلم، ففي الحقيقة أنّ المنشأ لخيرية الاستيجار أن يكون عالماً، فيؤول الأمر إلى اشتراط العلم في مَن يوكل إليه أمر كالأجير.
وفيه جهات عديدة من الإيراد: فأوّلاً أنّ المذكور هو نفس القدرة والأمانة والفعل الّذي أريد أن يستأجر له لم يعلم أنّه أزيد من سقي الدوابّ الّذي ربما يعلمه كلّ أحد، فلو استفيد من التعليل الاشتراط فإنّما يكون الشرط نفس القدرة والأمانة، وهما مطلوبتان جدّاً في مَن يستأجر لأمرٍ ويفوّض إليه. وثانياً أنّ مفاد التعليل الخيرية والأنسبية لا الاشتراط. وثالثاً لعلّ القائل إنّما استند إلى أمر عقلائي لا شرعي كما مرّ في آية يوسف، فلا حجّة في هذه الآية أيضاً على المطلوب.
7ـ ومنها قوله تعالى ـ حكايةً لما قاله بعض أخيار أصحاب سليمان له في مسألة الإتيان بعرش ملكة سبأ له ـ: ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾[25].
ببيان أنّ التعبير عن هذا الرجل بقوله تعالى: «الّذي عنده علم من الكتاب» فيه دلالة على أنّ كونه عالماً هو الملاك الملتفت إليه فيه، وأنّ العلم هو الّذي يشترط في تفويض أمرٍ إلى أحد، وهو المطلوب.
وفيه أيضاً ما لا يخفى من الضعف، أمّا أوّلاً فلأنّ الوصف المذكور له أنّه عنده علمٌ من الكتاب، فهو علمٌ خاصّ منيع لا يوجد إلاّ لمثل الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) وبعض أولياء الله المقرّبين، ولهذا العلم آثار عجيبة منها تمكّن صاحبه من الإتيان بالأشياء البعيدة طرفة عين كما في مورد الآية، فلا ربط له بمجرّد العلم ويكون الغرض من ذِكره تعظيم صاحبه لا اشتراط مثل هذا العلم أو مطلقه. وأمّا ثانياًَ فلعدم دلالته على الاشتراط بل يجتمع ذكره مع أن يكون وجود العلم فيمن يوكل إليه أمراً حَسن وإن لم يبلغ حدّ الاشتراط واللزوم، وأمّا ثالثاً فلا دلالة فيه على العموم كما مرّ في بعض ما سبق. وبالجملة: فلا حجّة في هذه الآية أيضاً.
فتحصّل: أنّ المقبول إنّما هو دلالة آية سورة يونس وآية سورة البقرة، فتذكّر.
الوجه الثالث: أنّه يدلّ على اشتراط العلم في وليّ الأمر علاوةً على صحيحة عيص بن القاسم الماضية[26] روايات عديدة.
1ـ ومنها ما رواه في أصول الكافي بسندٍ معتبر عن سدير بن حكيم عن أبي جعفر (عليه السلام) قاتل: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال: ورعٌ يحجزه عن معاصي الله، وحلمٌ يملك به غضبه، وحُسن الولاية على مَن يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرحيم.
قال الكليني: وفي رواية أخرى: حتّى يكون للرعية كالأب الرحيم[27].
بيان دلالته: أنّ المراد بالإمامة هي ولاية أمر الأمّة، كما يشهد به التعبير بـ«الولاية على مَن يلي» وتصوير الرعية له، فقد صرّح (صلى الله عليه وآله وسلم) باشتراط الولاية بصفات ثلاث لا تصحّ الولاية بفقدان واحدة منها، وجعل ثالثها حسن الولاية، وقد عرفت أنّ حسن الولاية لا يمكن إلاّ بعد أن كان وليّ الأمر عالماً بما جعله الله من الأحكام الّتي على الولاة إجراؤها، وعالماً أيضاً بالتصميمات المتوقّف عليها حسن الولاية ويلزم واجدية مَن يوكل إليه أمراً للشرائط اللازمة، فلا محالة حسن الولاية موقوفٌ على علم وليّ الأمر بهذه الأحكام والخصوصيات، فالعلم بها شرط تولّي أمر الأمّة.
نعم، يأتي هنا أيضاً ما قدّمناه من الكلام ذيل الاستدلال بالقاعدة العقلائية، فإنّ حسن الولاية هنا يتوقّف على علم وليّ الأمر بتلك الأحكام والخصوصيات اللازمة الإتيان إذا أراد مباشرته لإتيان الأمور، وإلاّ فأنّ جاز وأراد أيكال بعض الأمور إلى شخصٍ يكون عاملاً له أو أميراً من قِبله فلا يعتبر أزيد من علمه بكون هذا العامل أو الأمير واجداً للشرائط اللازمة الّتي منها العلم كما مرّ:
2ـ ومنها ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبةٍ خطب بها قبل أيّام من استشهاده، نذكره بجملٍ زائدة على ما في نهج البلاغة ذكرها في تمام نهج البلاغة، قال (عليه السلام): (أيها الناس) إنّ مثل معاوية لا يجوز أن يكون أميناً على الدماء والأحكام والفروج والمغانم والصدقة (فهو) المتّهم في نفسه ودينه، المجرّب بالخيانة للأمانة، الناقض للسنّة، المستأصل للذمّة، التارك للكتاب، اللعين ابن اللعين، لعنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عشرة مواطن، ولعن أباه وأخاه[28]، وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين (وأمور المؤمنين ـ التمام) البخيل فتكون في أموالهم نهمَتُه، ولا الجاهل فيضلّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه...[29].
ومورد كلامه (عليه السلام) كما تشهد به الجمل الزائدة الواردة في مثل معاوية الّذي كان بصدد تولّي أمور الأمّة ويشهد به أيضاً ذكر موارد عليه الولاية وسيّما ذكر إمامة المسلمين وأمور المؤمنين هو ذكر الموانع عن تصدّي ولاية أمر الأمّة، وقد عدّ منها أن يكون الوالي جاهلاً، وبيّن سرّ كونه مانعاً وهو أنّه يضلّ المسلمين بجهله، فهو واضح الدلالة على أنّ الجهل مَِن يتصدّى ولاية أمر الأمّة مانع شرعاً عن ولايته، ولا ينبغي الريب في دلالته على أنّ الجهل مانع، فإنّ إضلال الأمّة بالجهل ممّا لا يحتمل تجويز الشارع له، بل نفس قوله (عليه السلام) في صدر بيان هذه الموانع «وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي...» واضحة الدلالة على أنّ مانعية هذه الموانع كانت بيّنة عند المسلمين واضحة لديهم وبما ذكر هذه الموانع في مقام بيان عدم صلوح مثل معاوية اللعين ابن اللعين الّذي لا ريب في عدم جواز تصدّيه لأمر الولاية على الأمّة، فلا مجال أصلاً لتوهم أنّ استعمال لفظة «لا ينبغي» لا دلالة له على المنع البتّي، مضافاً إلى ما عرفت من أنّ سرّ كون الجهل مانعاً ـ أعنى إضلال الأمّة بجهله ـ أيضاً دليل آخر على إرادة البتّ.
وهذا الكلام قد جعل الجهل مانعاًَ، فلابدّ من علم مَن يلي أمور الأمّة بلا تطرق احتمال خصوصية بعض الموارد أصلاً.
3ـ ومنها ما عنه (عليه السلام) في نهج البلاغة وتمامه: أيّها الناس، إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله عليه (وأعلمهم به ـ التمام) فإن شغب شاغب استُعتب، فإن أبى قوتل، ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك سبيل، ولكن أهلها يحكمون على مَن غاب عنها، ثُمّ ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار... وقد فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة، ولا يحتمل هذا العَلَم إلاّ أهل البصر والصبر والعلم بمواضع الحقّ[30]. ألا[31] وأني حاملكم على منهج نبيّكم (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنفِّذ فيكم ما أمِرت به ما استقمتم لي، والله المستعان.
وبيان دلالته: أنّه (عليه السلام) قد حكم في صدر هذا المقال بأنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أعلمهم بأمر الله فيه، ولا ريب في أنّ المشار إليه بهذا الأمر هو أمر الولاية على الأمّة الإسلامية كما يشهد له التعرّض بعده لأمر انعقاد أمر الإمامة بالبيعة، فأنّ هذه الإمامة هي نفس ولاية أمور المسلمين. ويؤكّده التعرّض لأمر فتح باب الحرب بين المخاطبين وبين أهل القبلة، فإنّ المنشأ لهذه الحرب أيضاً هو تولّيه (عليه السلام) لأمر الأمّة، فقام في قباله العصاة مثل معاوية فانفتح باب الحرب. وبالجملة: فلا ريب في أنّ المراد بهذا الأمر هو أمر الولاية على المسلمين.
وحينئذٍِ فإذا كان أعلمهم بأمر الله في باب الولاية على الأمّة أحقّ الناس به فالأعلمية بما يجب أن يفعل إذا أوجبت الأحقّية ومنع غير الأعلم، فيدلّ بوضوح أنّ للعلم بما يأمر به الله فيه دخلاًَ قوياً تامّاً، وأنّه إذا لم يكن الإنسان بما أوجبه الله على وليّ الأمر فلا يجوز له تصدّي الولاية أصلاً.
ثُمّ إنّ أمر الله في الولاية يعمّ الأحكام الإلهية الّتي جعل الله أجراءها من اختيارات ووظائف وليّ الأمر، كما في الأمور المالية الراجعة إليه وكباب الجهاد بطوله وكسائر الموارد الّتي عددناها عند البحث عن اختيارات وليّ الأمر. ويعمّ أيضاً جميع ما يحتاج إلى سعة عيش الأمّة على رعايته، كما ذكرناه في أوّل بحثنا عن اشتراط العلم، فهذا المقال يدلّ على اشتراط تصدّي ولاية الأمر بالعلم بجميعها. هذا بالنسبة إلى صدره.
ثُمّ إنّ قوله (عليه السلام) في ذيله «ولا يحتمل هذا العَلَم إلاّ أهل البصر والصبر والعلم بمواضع الحقّ» أيضاً يدلّ على المطلوب، وذلك أنّ المشار إليه لهذا العَلَم هو عَلَم الحرب الّذي حمله بيد وليّ الأمر بالأصالة أو نفس عَلَم الولاية، وإيّهما كان فقد نفى جواز حمله عن غير مَن كان عالماً بمواضع الحقّ، ولا شبهة في أنّ مواضع الحقّ هو نفس الموضوعات المحكومة في الدين الحقّ، وبموجبه يحكم، فلا يجوز حمل لواء الولاية إلاّ لمن كان عالماً بجميع ما حكم الله تعالى به وبمواضع كلّ حكم حتّى يعمل كما أراده الله تعالى ويعلم به.
فهذا المقال صدراً وذيلاً تامّ الدلالة على اعتبار العلم في وليّ الأمر بلا ريب أصلاً.
4ـ ومنها أخبار عديدة تدلّ على اعتبار الأعلمية بأحكام الله تعالى في مَن يتولّى إدارة أمور المسلمين نذكر قسماً منها:
أ: ففي صدر ما مضى آنفاً عن نهج البلاغة ـ أعني قوله: «إنّ أحق الناس بهذا الأمر... أعلمهم بأمر الله فيه» ـ دلالة واضحة عليه، كما عرفت.
ب: وفي صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي ـ المنقولة في الكافي ـ الواردة في دخول جمع من رؤساء المعتزلة بايعوا محمّد بن عبد الله بن الحسن بالولاية، فدخلوا على أبي عبد الله (عليه السلام) طالبين منه الدخول معهم، ففيها أنّ الصادق (عليه السلام) سألهم عن مسائل في باب تعيين وليّ الأمر وفي كيفية المعاملة مع الكفّار إذا ظهروا عليهم في الحرب وفي مصرف خمس الغنائم الحربية وفي مصرف نفسها وفي مصرف الصدقات الواجبة فلم يعلموا بحكم الله تعالى فيها ثُمّ أقبل (عليه السلام) على عمر بن عُبيد ـ وهو منهم ـ فقال له: اتّق الله، وأنتهم أيها الرهط فاتّقوا الله، فأنّ أبي حدّثني ـ وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب الله عَزّ وجَلّ وسنّة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين مَن هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف[32].
ودلالتها على اشتراط أن يكون مَن يريد التصدّي لولاية أمر الأمّة أعلم الناس بأحكام الله الّتي بيد وليّ الأمر إجراؤها، وقد عرفت أنّ إليه وعليه شرعاً أيضاً أخذ التصميمات المتوقّف عليها أيضاً أخذ التصميمات المتوقّف عليها حسن عيش العباد ديناً ودنياً، فكلّها أحكام شرعية على وليّ الأمر إجراؤها، فلابدّ وأن يكون أعلم الناس بها. وقدّ مرّ وسيجيء إن شاء الله تعالى أنّ لازم اشتراط الأعلمية قطعاًٍ وأنّ العلم بالأحكام شرط في وليّ الأمر.
ج: وفي خبر الفضيل بن يسار ـ الّذي رواه النعماني في كتاب الغَيبة في باب ما روي في مَن ادّعى الإمامة ومَن زعم أنّه إمام وليس بإمام ـ قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: مَن خرج يدعوا الناس وفيهم مَن هو أفضل (أعلم ـ الوسائل) منه فهو ضالّ مبتدع، ومَن ادّعى الإمامة من الله وليس بإمام فهو كافر[33].
فالمراد من قوله (عليه السلام): «مَن خرج يدعو الناس...» أي مَن خرج من بين جماعة الناس، والخارج من بينهم لا محالة يخرج عن مسيرهم ـ أعني اتّباع وليّ أمر الناس ـ ولذلك فالمراد مَن يدّعي الإمامة ويخرج به عن مسير جماعة الناس فحكم (عليه السلام) عليه بأنّه ضالٌ مبتدع إذا كان في الناس أفضل وأعلم منه. فالخبر من أدلّة المطلوب إلاّ أنّ في سنده عليّ بن أحمد البندليجي عن عُبيد الله بن موسى، وقد روى عنهما النعماني مراراً في كتاب الغَيبة، إلاّ أنّه عن العلامة في الخلاصة وعن ابن داود أنّ عليّ بن أحمد ضعيف متهافت، وأمّا عُبيد الله بن موسى فهو غير مذكور في الرجال مجهول، فسند الخبر غير معتبر، إلاّ أنّ دلالته تامّة.
د: قد روى البرقي في المحاسن عن أبيه عن القاسم الجوهري عن الحسين ابن أبي العلاء عن العرزمي عن أبيه ـ رفع الحديث إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ قال: من أمّ قوماً وفيهم مَن هو أعلم منه أو أفقه منه لم يزل أمرهم في سفال إلى يوم القيامة[34].
وروى الصدوق في عقاب الأعمال بسندٍ معتبر إلى محمّد بن خالد نفس سند المحاسن أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من أمّ قوماً وفيهم من هم أعلم منهم وأفقه لم يزل أمرهم إلى سفال إلى يوم القيامة[35].
ورواه في علل الشرائع بسندٍ معتبر إلى داود بن الحصين عن سفيان الحريزي عن العرزمي عن أبيه ـ رفع الحديث إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ قال: من أمّ قوماً وفيهم مَن هو أعلم منه لم يزل أمرهم إلى سفال إلى يوم القيامة[36].
والظاهر أنّ الرواية خبر واحد ومضمونها كما ترى واحد، يدلّ بوضوح على أنّه إذا أمّ أحد قوماً وفي القوم أعلم منه فيذهب أمر هذا القوم إلى سفال أبداً وإلى يوم القيامة. وهذا المحذور عبارة أخرى عن عدم ترتّب المقصود الأصلي شرعاً من الإمامة والولاية على ولاية هذا الّذي هو غير أعلم، فلا يصل الناس إلى الهدف الأصيل من الولاية إلاّ بولاية الأعلم، فالخبر تامّ الدلالة على المطلوب.
إلاّ أنّ سنده غير معتبر، فإنّ العرزمي وهو عبد الرحمن بن محمّد بن عُبيد الله الفزاري العرزمي وإن كان ثقة إلاّ أنّ أباه مجهول، على أنّه رفع الحديث إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والوسائط غير معلومة، فلا حجّة على اعتبار سند الحديث وإن أغمض النظر عن بعض مَن وقع في السند قبل العرزمي.
ه: وروى المفيد في الاختصاص مرسلاً بقوله: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مَن تعلّم علماً ليباري به السفهاء ويباهي به العلماء ويصرف به الناس إلى نفسه يقول: أنا رئيسكم فليتبوّأ مقعده من النار. ثمّ قال: إنّ الرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها، فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم مَن هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة[37].
وهذا الخبر أيضاً غير معتبر السند بالإرسال وإن كانت دلالته تامّة، فإنّه قد حكم أوّلاً بأنّ الرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها والرئاسة وإن لم ترادف الولاية إلاّ أنّ الولاية أيضاً لمّا كانت موجب لرئاسة وليّ الأمر على الأمّة فإطلاقها شاملة لرئاسة وليّ الأمر، وقد فرّع على عدم صلاحية الرئاسة إلاّ لأهلها قوله: «فمن دعا الناس إلى نفسه تشمل الدعوة إلى ولاية نفسه، وقد رتّب عليها أنّه لم ينظر الله إلى هذا الداعي يوم القيامة، ولا ريب في أنّه عقاب على دعوته فتكون دعوته هذه إلى نفسه غير مشروعة، فيدلّ هذا المرسل أيضاً على اعتبار الأعلمية في وليّ أمر الأمّة وهو المطلوب.
و: وفي تحف العقول: وقال الصادق (عليه السلام): مَن دعا الناس إلى نفسه وفيهم مَن هو أعلم منهم فهو مبتدع ضالّ[38].
ودعوة الناس إلى نفسه لا ينبغي الريب في أنّها تشمل دعوتهم إلى ولاية نفسه إن لم تختصّ بها ولو بالانصراف، فحكم (عليه السلام) بأنّ هذا الداعي ضالٌ مبتدع إذا كان في الناس أعلم منه. فهو أيضاً تامّ الدلالة على المطلوب. إلاّ أنّ سنده ضعيف بالإرسال.
ز: وفي كتاب سُليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أفينبغي أن يكون الخليفة على الأمّة إلاّ أعلمهم بكتاب الله وسنّة نبيّه؟! وقد قال الله ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى﴾[39] وقال ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾[40]. وقال ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ﴾[41]. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما ولّت أمّة قط أمرها رجلاً وفيهم أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب مقالاً حتّى يرجعوا إلى ما تركوا»، يعني الولاية، فهي غير الإمارة على الأمّة[42].
فقد أكّد (عليه السلام) على اعتبار كون وليّ الأمر أعلم الناس والأمّة بكتاب الله وسنّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قالب الاستفهام التقريري، ثُمّ استشهد له بالآيات الثلاث، وأخيراً بما حكاه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وجملة «ولّت...» المذكورة في الرواية يراد منها ظاهراً قبول ولاية غير الأعلم والدخول تحت لوائه، وحكمت بأنّ تولّيه يوجب ذهاب أمر الأمّة إلى السفال ولا منجي منه إلاّ أن يرجعوا عنه. فالحديث تامّ الدلالة على المطلوب.
وأما سنده فلا كلام عليه إلاّ أن يقال بضعف سند كتاب سُليم بن قيس، لكنّ الظاهر أنّ له سندين، وأحدهما ـ أعني ما رواه حمّاد بن عيسى عن إبراهيم بن عمر اليماني. عن سُليم بن قيس ـ معتبر، والظاهر أنّ سُليماً نفسه أيضاً ثقة، فالحديث معتبر السند تامّ الدلالة على اعتبار الأعلمية في وليّ الأمر.
وقد روى هذا الحديث الشيخ الطوسي في أماليه بسندٍ معتبر إلى عليّ بن حسّان الواسطي الثقة عن عبد الرحمن بن كثير عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عليّ بن الحسين (عليهم السلام)، فإنّه (عليه السلام) نقل خطبة الحسن بن علي (عليه السلام) بمحضر اللعين معاوية وفيها: وإنّ معاوية بن صخر زعم أنّي رأيته للخلافة أهلاً ولم أرَ نفسي لها أهلاً، فكذب معاوية وأيم الله لأنا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، غير أنّا لم نزل أهل البيت مخيفين مظلومين مضطهدين منذ قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالله بيننا وبين مَن ظلمنا حقّنا ونزل على رقابنا... ولكن أقسم بالله قَسماً تالياً لو أنّ الناس سمعوا قول الله عَزّ وجَلّ ورسوله لأعطتهم السماء قطرها والأرض بركتها، ولما اختلف في هذه الأمّة سيفان، ولأكلوها خضراء خضرة إلى يوم القيامة وما طمعت فيها يا معاوية، ولكنّها لمّا أخرجت سالفاً من معدنها وزحزحت عن قواعدها وتنازعتها قريش بينها وترامتها كترامي الكرة حتّى طمعت فيها أنت يا معاوية وأصحابك من بعدك، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما ولّت أمّة أمرها رجلاً قط وفيهم مَن هو أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتّى يرجعوا إلى ما تركوا»... ثُمّ ذكر ولاية أبيه أمير المؤمنين على الأمّة بعد رسول الله ثُمّ ولايته عليهم بعده، فراجع[43].
وقد عرفت تمامبة دلالة الحديث على المطلوب، إلاّ أنّ عبد الرحمن بن كثير الهاشمي الراوي عن الإمام (عليه السلام) ضعّفوه، فعن النجاشي «كان ضعيفاً غمز أصحابنا عليه وقالوا: كان يضع الحديث». فسنده غير معتبر.
ورواه أيضاً في الأمالي بسند معتبر إلى عبد الرحمن بن محمّد بن عُبيد الله العرزمي عن أبيه عن عثمان أبي اليقظان عن أبي عمر زاذان في خطبة لأبي محمّد الحسن بن عليّ المجتبى (عليهما السلام) بمحضر معاوية أنّه قال: وأقسم بالله لو أنّ الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأعطتهم السماء قطرها والأرض بركتها وما طمعتَ فيها يا معاوية، فلمّا خرجت من معدنها تنازعتها قريش بينها فطمعت فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء أنت وأصحابك، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما ولّت أمّة أمرها رجلاً قط وفيهم مَن هو أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتّى يرجعوا إلى ما تركوا»[44].
ودلالته واضحة، والمراد بالرجوع إلى ما تركوا تولّي الأعلم، فإنّه المتروك عندهم، فعليهم أن يرجعوا إليه حتّى تعمّهم بركات الله. إلاّ أنّ سنده لا اعتبار به لجهالة محمّد بن عُبيد الله وعثمان أبي اليقظان وأبي عمر زاذان.
ح: وروى المجلسي في البحار عن تفسير النعماني بإسناده عن إسماعيل بن جابر عن الصادق (عليه السلام) رواية طويلة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفات الإمام ما لفظه: يكون فيه ـ يعني الإمام ـ ثمان خصال يتميّز بها عن المأمومين: أربع منها في نعت نفسه ونسبه، وأربع صفات ذاته وجلاله... أما اللواتي في صفات ذاته فإنه يجب أن يكون أزهد الناس وأعلم الناس وأشجع الناس وأكرم الناس، وما يتبع ذلك لعلل تقتضيه... وأمّا إذا لم يكن عالماً بجميع ما فرضه الله تعالى في كتابه وغيره قَلب الفرائض فأحلّ ما حرّم الله فضلّ وأضلّ[45].
وفي نفس الرواية أيضاً ـ عند ذِكر ما جعله الله سبحانه من حدود دعائم الإسلام الخمس الّتي عدّ خامسها الولاية ـ: وأمّا حدود الإمام المستحقّ للإمامة فمنها... والثاني أن يكون أعلم الناس بحلال الله وحرامه وضروب أحكامه وأمره ونهيه وجميع ما يحتاج إليه الناس، فيحتاج الناس إليه ويستغني عنهم... وأمّا وجوب كونه أعلم الناس فإنّه لو لم يكن عالماً لم يؤمن أن يقلب الأحكام والحدود ويختلف عليه القضايا المشكلة فلا يجيب عنها بخلافه[46].
ومفاد كلامه (عليه السلام) كما ترى في الموردين واحد، وقد اشترط في الإمام ووليّ الأمر أن يكون أعلم الناس بجميع الأحكام الإلهية الّتي جعلها للناس ويحتاجون إليها. وعلّله بأنّه إذا لم يكن عالماً بحكم الله تعالى في مورد فلا يؤمن عليه أن يقلب أو لا يمكنه الجواب الصحيح عنها، فالعمدة هو أن يكون عالماً بجميع ما يحتاج إليه الناس وهو ـ في الخارج ـ مساوق لأن يكون أعلم الناس.
وبالجملة: فالرواية وإن صرّحت باشتراط أن يكون وليّ الأمر أعلم الناس إلاّ أنّها في مقام ذكر علّته بيّنة بوجوب أن يكون عالماً بجميع الأحكام، فهذه الرواية نفسها أيضاً تصرّح باشتراط العلم بالأحكام وإن كنّا قد ذكرنا أنّه مقتضى اشتراط الأعلمية أيضاً، فتذكّر.
فدلالة الرواية على المطلوب تامّة إلاّ أنّ سندها محلّ كلام، فإنّ أحمد بن يوسف بن يعقوب الجعفي الواقع فيه مجهول، والحسن بن عليّ بن أبي حمزة وعلي بن أبي حمزة الواقعان فيه كلاهما ضعيفان.
ط: وفي كتاب طويل لأمير المؤمنين (عليه السلام) أمر أن يُقرأ على الناس كلّ يوم جمعة ـ بعد التعرّض لانحراف الناس عن أن يكون هو (عليه السلام) وليّ أمرهم وذكر هذا الأمر بالتفصيل ـ: ولم يكونوا لولاية أحدٍ أشدّ كراهية منهم لولايتي عليهم، لأنّهم كانوا يسمعونني عند وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا أحاج أبا بكر وأقول: يا معشر قريش، إنّا أهل البيت أحقّ، أنا والله أولى بهذا الأمر منكم، وأنتم أولى بالبيعة لي، وإنما حجّتي أني وليّ هذا الأمر دون قريش أن نبيّ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الولاء لمن أعتق، فجاء رسول الله يعتق الرقاب من النار ويعتقها من السيف، وهذان لمّا اجتمعا كانا أفضل من عتق الرقاب من العتق فكان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولاء هذه الأمّة، وكان لي بعدها ما كان له.
أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم على العرب بالقرابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً وظلماً، ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما كان محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) منكم؟ فأعطوكم المقادة وسلّموا إليكم الإمارة، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار والعرب، أنا أولى برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منكم حيّاً وميّتاً، وأنا وصيّه ووزيره ومستودع علمه وسرّه، وأنا الصديق الأكبر، أوّل من آمن به وصدّقه، وأحسنكم بلاءً في جهاد المشركين، وأعرفكم بالكتاب والسنة، وأفقهكم في الدين، وأعلمكم بعواقب الأمور، وأذريكم لساناً وأثبتكم جَناناً.
فما جاز لقريش من فضلها على العرب بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) جاز لبني هاشم على قريش، وما (جاز) لبني هاشم على قريش برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاز لي على قريش، لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم غدير خمّ: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» إلاّ أنّ تدّعي قريش فضلها على العرب بغير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن شاؤوا فليقولوا ذلك. فعلامَ تنازعونا هذا الأمر؟! أنصفونا من أنفسكم إن كنتم تخافون الله (تؤمنون بالله ـ خ ل) واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفته الأنصار لكم، وإلاّ فبوؤا بالظلم وانتم تعلمون[47].
فإنّه (عليه السلام) استدلّ لأولويته على سائر الناس في تولّي أمور المسلمين بوجهين: أحدهما أنّ له ولاء الأمّة كما كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وثانيهما أنّه أقرب إلى رسول الله من غيره في جهات عديدة، منها ما في كلامه (عليه السلام): «أنا... أعرفكم بالكتاب والسنّة، وأفقهكم في الدين، وأعلمكم بعواقب الأمور» فيدلّ بوضوح على أنّ الأعلمية بالأحكام الشرعية وبعواقب الأمور موجبة لتقدّم الأعلم على غيره في تولّي أمر الأمّة، وظاهره أنّ نفس الأعلمية كافيه في هذه الأولوية والتقدّم من غير اختصاص لها بأولوية خصوص الإمام المعصوم (عليه السلام)، بداهة أنّ ملاك التقدم المذكور مجرّد الأعلمية من دون أيّة إشارة إلى اعتبار وصف العصمة، كما هو واضح.
ولا مجال لتوهّم أنّ حقيقة الدليل الثاني مجادلة محضة على قريش وسائر العرب، فلعله جدال محض من دون أن يكون محتواه أمراً صحيحاً مقبولاً.
وذلك أنّه (عليه السلام) معتقد لصحّة مدلوله كما يظهر بملاحظة قوله: «أنا وصيّه ووزيره ومستودع علمه وسرّه» وأيضاً قوله بعد هذه الملاكات: «لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم غدير خمّ: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» فهذه الأمور ملاكات واقعية توجب تعيّنه (عليه السلام) للولاية، ولذلك أيضاً قال مفرّعاً على ما أفاد: «أنصفونا من أنفسكم إن كنتم تخافون الله... وإلاّ فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون».
وبالجملة: فلا مجال للشبهة في تمامية دلالته أصلاً.
ي: وفي كتاب لأمير المؤمنين (عليه السلام) إلى معاوية ومَن معه من الناس: ثُمّ إنّ أولى الناس بأمر هذه الأمّة قديماً وحديثاً أقربهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعلمهم بكتاب الله عَزّ وجَلّ وأفقههم (أنبههم ـ البحار) في دين الله وأوّلهم إسلاماً وأفضلهم جهاداً وأشدّهم بما تحمّله الأئمّة من أمر الأمّة اضطلاعاً (وزاد في البحار: وأشدّهم إطّلاعاً بما تجهله الرعية من أمرها)[48].
فكتابه (عليه السلام) كما ترى في مقام إثبات أنّه (عليه السلام) هو الأولى والمتعيّن في تصدّي الولاية على أمّة الإسلام، وذكر لهذه الأولوية عللاً، منها أعلميته بالأحكام الشرعية وبسائر ما تجهله الرعية أنفسهم من أمورهم، فيدلّ على أنّ الأعلم هو المتعيّن لتصدّي الولاية، وأنّه لا تصل معه النوبة إلى غيره، وهو المطلوب.
ك: ما في احتجاج الطبرسي في رواية قال في اعتبارها: «عن أبي المفضّل محمّد بن عبد الله الشيباني بإسناده الصحيح عن رجالٍ ثقة أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج في مرضه الّذي توفيّ فيه إلى الصلاة» فذكر أمر هذه الأيّام، ومسألة جيش أسامة وتخلّف مَن تخلّف، ثُمّ مسألة بيعة المسلمين لأبي بكر على الولاية وأنّ الناس بايعوه، وانصرف عليّ إلى منزله ومعه بنو هاشم، وأنّ عمر وجماعة جاؤوا إليهم وأحضروهم وأمروهم بالبيعة. وفيها هاهنا ما لفظه:
«فلمّا رأى ذلك بنو هاشم أقبل رجل رجل فجعل يبايع حتّى لم يبق ممّن حضر إلاّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فقالوا له: بايع أبا بكر، فقال عليّ (عليه السلام): أنا أحقّ بهذا الأمر منه، وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعطوكم المقادة وسلّموا لكم الإمارة؟ وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار، أنا أولى برسول الله حيّاً وميّتاً، وأنا وصيّه ووزيره ومستودع علمه، وأنا الصدّيق الأكبر والفاروق الأعظم، وأوّل من آمن به وصدّقه، وأحسنكم بلاءً في جهاد المشركين، وأعرفكم بالكتاب والسنّة، وأفقهكم في الدين، وأعلمكم بعواقب الأمور، وأذربكم لساناً، وأثبتكم جَناناً، فعلامَ تنازعونا هذا الأمر؟ انصفونا إن كنتم تخافون الله على أنفسكم، ثُمّ أعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفته الأنصار لكم، وإلاّ فبوؤا بالظلم والعدوان وأنتم تعلمون.
وجاء في الرواية أنّ عمر وجمعاً آخر بالغوا في أن يبايع أبا بكر وامتنع منها، وقال لهم بعد ذلك: يا معشر المهاجرين والأنصار، الله الله لا تنسوا عهد نبيّكم إليكم في أمري، ولا تُخرجوا سلطان محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن حقّه ومقامه في الناس، فوالله يا معشر الجمع إنّ الله قضى وحكم ـ ونبيّه أعلم وأنتم تعلمون ـ أنّا أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم، أما كان القارئ منكم (أما كان منّا القارئ ـ البحار) لكتاب الله[49] الفقيه في دين الله المضطلع بأمر الرعية؟ والله إنّه لفينا لافيكم، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحقّ بُعداً، وتفسدوا قديمكم بشرٍّ من حديثكم[50].
وأنت إذا لاحظت الفقرات الأولى الّتي نقلناها من متن الرواية متذكراً لما قدّمناه ذيل الكتاب الماضي تعترف بدلالتها التامّة على أن الأعلم أولى وأقدم في تصدّي ولاية الأمّة الإسلامية على غير الأعلم كما أنّ الفقرات الأخيرة على نسخة البحار وأربع نسخ أخرى ذكرناها في الهامش دالّة على اعتبار أصل العلم بالأحكام في وليّ الأمر وإن كانت نسخة «أما كان القارئ منكم لكتاب الله...» لا دلالة فيها على أزيد من الاحتجاج على المخاطبين بأنّهم عالمون بأحكام الله، وظاهره أنكم إذا كنتم عالمين بأحكام الله وبأنّه مَن هو اللائق بأمر الولاية بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يتوقع منكم أن تطلبوا منِّي البيعة لأبي بكر، بل ولا أن تبايعوه أنتم بأنفسكم. فعلى هذه النسخة لا دلالة لها على اعتبار العلم بالأحكام في وليّ أمر المسلمين.
فهذه الأخبار الّتي كثير منها معتبرة السند دلّت على اعتبار الأعلمية في وليّ أمر الأمّة، وأنّ مع وجود الأعلم لا يصلح غير الأعلم للولاية. ولا ينبغي الريب في أنّ المستفاد منها أنّ أصل العلم بالأحكام الشرعية الموكولة إجراؤها إلى أولياء الأمر لازم شرعاً في ولي ّالأمر وأنّ اعتباره أكيدٌ جدّاً بحيث أوجب تقدّم الأعلم على غير الأعلم، فبهذه الجهة تكون هذه الأخبار من أدلّة اعتبار أصل العلم أيضاً.
ثُمّ إنّا لا ندّعي انحصار أخبار اعتبار الأعلمية في هذه المذكورات منها، فلعلّ المتتبّع المتأمّل ظفر بأخبار أخر أيضاً، إلاّ أنّا اكتفينا بها لتمامية دلالتها واستفاضتها ووجود أخبار معتبرة السند فيها.
5ـ ومن الأخبار الدالّة على اعتبار العلم بالأحكام الشرعية في وليّ الأمر ما رواه صاحب تحف العقول عن السبط الشهيد أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ضمن كلام له طويل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال (عليه السلام) فيه: ... ثُمّ أنتم أيّتها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وبالله في أنفس الناس مهابة، يهابكم الشريف، ويكرمكم الضعيف... ـ إلى أن قال ـ أليس كلّ ذلك إنّما نلتموه بما يُرجى عندكم من القيام بحقّ الله وإن كنتم عن أكثر حقّه تقصّرون... لقد خشيت عليكم أيّها المتمنون على الله أن تحلّ بكم نقمة من نقماته، لأنّكم بلغتم من كرامة الله منزلةً فُضّلتم بها، ومن يُعرف بالله لا تُكرمون، وأنتم بالله في عباده تُكرَمون، وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذمّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) محقورة (محفورة ـ خ ل) والعُمي والبكم والزَمنى في المدائن مهملة لا تَرحمون، ولا في منزلتكم تعملون، ولا مَن عمِل فيها تعنون (تعينون ـ خ ل) وبالادّهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون، كلّ ذلك ممّا أكرمكم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون.
وأنتم أعظم الناس مصيبةً لما غُلِبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون (تسعون ـ خ ل) ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سُلبتم ذلك إلاّ بتفرّقكم عن الحقّ واختلافكم في السنّة بعد البيّنة الواضحة، ولو صبرتم على الأذى وتحمّلتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع، ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم، واستسلمتم أمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات سلّطهم على ذلك فراركم من الموت وإعجابكم بالحياة الّتي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبدٍ مقهور، وبين مضعفٍ على معيشة مغلوب، يتقلّبون في الملك بآرائهم (بآرائكم ـ خ ل) ويستشعرون الخزي بأهوائهم، اقتداءاً بالأشرار وجُرأةً على الجبّار... فيا عجباً ومالي لا أعجب؟! والأرض من غاشٍّ غشوم، ومتصدّق ظلوم، وعاملٍ على المؤمنين بهم غير رحيم، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه في ما شجر بيننا... الحديث[51].
فمخاطب الإمام (عليه السلام) في هذه الخطابات العلماء المعبّر عنهم ـ «عصابة بالعلم مشهورة» فقد نكّر عليهم ترك نهيهم عن المنكر الّذي يعملونه أولياء الأمور الجائرون في أعلى حدوده، وهؤلاء العلماء لا يقولون عليهم كلمة، بل بالادّهان والمصانعة عند أولئك الظلمة يأمنون. وبعد استنكار فعالهم خاطبهم بقوله: «أنتم أعظم الناس مصيبة لما غُلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسعون» وظاهره بل صريحه أنّ منازل العلماء بشرط أن يسعوا ولا يهملوا هي أن يتصدّوا هذه الأمور الّتي بيد الجائرين، إلاّ أنّهم إذا لم يسعوا بل أهملوا غلبت عنهم هذه المنازل، وأوضحه وبيّن سرّ هذه المغلوبية بقوله (عليه السلام) «ذلك بأنّ مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة وما سُلبتم ذلك إلاّ بتفرّقكم عن الحقّ واختلافكم في السنّة بعد البيّنة الواضحة، ولو صبرتم على الأذى وتحملّتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع...» فهذه الجمل تدلّ دلالة واضحة على أنّ ولاية أمر المسلمين قد جعلها الله تعالى بأيدي العلماء بالله، ولا ريب في أنّ المراد بالعلماء بالله ليس خصوص المعصومين (عليه السلام)، فإنّ الإمام (عليه السلام) رأى من أوّل الأمر هذا العنوان منطبقاً عليهم واستنكر فعالهم، ثُمّ ذكر منزلتهم الّتي جعلها الله تعالى لهم. فتدلّ هذه الجمل على اعتبار وصف العلم بالأحكام في مَن جعل الله أمر الولاية له. فدلالة الحديث على اعتبار العلم في وليّ الأمر واضحة.
إلاّ أنّ سنده كما في أخبار التحف مرسل، إلاّ أنّه ليس ببعيد لو ادّعى احدٌ حصول الاطمئنان بصدوره عن المعصوم (عليه السلام) لعلوّ مضامينه بحيث لا يقدر على إيرادها في الكلام سواء، والله العالم.
ومن جميع ما مرّ تبيّن بوضوح اعتبار شرط العلم في مَن يتصدّى ولاية الأمر في زمن الغَيبة.
ـــــــــــــــــ
[1] بحار الأنوار: ج5 ص285، عنه عقاب الأعمال: ص309 الحديث9.
[2] المحاسن: ج1 ص195 الحديث2.
[3] الكافي: ج3 ص 376 الحديث4، عنه الوسائل: الباب 15 من أبواب صلاة الجماعة ج5 ص400 الحديث6.
[4] الخلاف: ج1 ص548 المسألة 287.
[5] الكافي: ج7 ص396 الحديث8، عنه الوسائل: الباب31 من أبواب الشهادات ج18 ص 276 الحديث4.
[6] الخلاف: ج6 صص309 المسألة 57.
[7] التهذيب: ج10 ص 315 الحديث 14 و 12 و 13، عنه الوسائل: الباب 15 من أبواب ديات النفس ج 19 ص 164 الحديث 3 و 1 و 2.
[8] مسالك الأفهام: ج 15 ص323.
[9] الانتصار: ص544 المسألة 305.
[10] التهذيب: ج10 ص 315 الحديث 14 و 12 و 13، عنه الوسائل: الباب 15 من أبواب ديات النفس ج 19 ص 164 الحديث 3 و 1 و 2.
[11] الوسائل: الباب 75 من أبواب أحكام الأولاد ج15 ص 184 الحديث 1و2، أخرجه عن الكافي.
[12] نفس المصدر.
[13] المحاسن: ج1 ص296، عقاب الأعمال: ص252 الحديث22.
[14] الأنفال: 60.
[15] الكافي: ج8 ص 264 الحديث381، عنه الوسائل: الباب13 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص35 الحديث1.
[16] يونس: 35.
[17] الكافي: ج7 ص249 الحديث4.
[18] البقرة: 246 و247.
[19] تمام نهج البلاغة: الخطبة 61 ص510.
[20] تفسير القمّي: ج1 ص81.
[21] الزمر: 9.
[22] النحل: 76.
[23] يوسف: 55.
[24] القصص: 26.
[25] النمل: 40.
[26] قد تقدمت الإشارة إليه.
[27] الكليني: ج1 ص407 الحديث8، وقد مرّ ذِكرها في ص177.
[28] هنا انتهاء الزيادة في تمام نهج البلاغة، نقلها عن دعائم الإسلام: ج2 ص531.
[29] نهج البلاغة (صبحي صالح): الخطبة 131 ص 189 ـ تمام نهج البلاغة: الخطبة 61 ص508. وقد تقدّم ذكرها
[30] نهج البلاغة (صبحي صالح): الخطبة 173 ص247، تمام نهج البلاغة: الخطبة 44 ص414.
[31] من هنا الزيادة من تمام نهج البلاغة، حكاها عن شرح الأخبار: ج1 ص370.
[32] الكافي: ج5 ص 23 ـ 27 الحديث1، عنه الوسائل: الباب9 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص28 الحديث2 والباب 41 منها ص85 الحديث 3 وقد تقدّم ذِكرها في ص121.
[33] الغَيبة للنعماني: ص15 الحديث13، عنه الوسائل: الباب10 من أبواب حدّ المرتدّ ج18 ص 564 الحديث36.
[34] المحاسن: ج1 ص177 الحديث59 طبع المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام).
[35] عقاب الأعمال: ص246.
[36] العلل: ج2 ص326.
[37] الاختصاص: ص251.
[38] تحف العقول: ص375.
[39] يونس: 35.
[40] البقرة: 247.
[41] الأحقاف: 4.
[42] كتاب سُليم: ص118.
[43] أمالي الطوسي: المجلس 21 ص561 الحديث1.
[44] المصدر السابق: المجلس 20 ص559 الحديث9.
[45] البحار: ج93 ص44.
[46] البحار: ج93 ص64 و65.
[47] تمام نهج البلاغة: الكتاب 75 ص 877.
[48] البحار: ج32 ص75، تمام نهج البلاغة: الكتاب 48 ص827.
[49] عن نسختين من الاحتجاج هنا: «ما كان القارئ لكتاب الله...» وعن نسختين آخرين: «أما كنت القارئ لكتاب الله...».
[50] الاحتجاج: 70 ـ 74. وقد ذكر الخلاصة ـ الّتي ذكرناها في الصدر ـ الراوندي في الخرائج والجرائح: ص171 ـ 182، والفقرات الأولى في ص 180، والأخيرة في ص 182. وكلّها من طبعة انتشارات أسوة.
[51] تحف العقول: ص237.
احدث الاخبار
السيد الحوثي: الاستقرار لن يبقى في المنطقة ما دام الاحتلال مستمر في فلسطين
ثروة باقية؛ المقاومة في لبنان من نشوء الحالة الإسلاميّة إلى التأسيس حتى «طوفان الأقصى»
قائد الثورة الإسلامية: الخلاف بين الجمهورية الإسلامية وأمريكا جوهري، وليس تكتيكيا
التبيين في نهج السيّدة الزهراء عليها السلام*
قيم الحياة الزوجيّة في سيرة أهل البيت عليهم السلام
عمائــــــم سلكت درب الشهادة (1)
الشيخ نعيم قاسم: أمريكا ليست وسيطا نزيها ودعم المقاومة واجب
زوجة القائد"الحاج رمضان" تروي ذكرى من أدب الشهيد قاسم سليماني
العميد نقدي: قدرتنا الصاروخية اليوم أقوى بكثير مما كانت عليه خلال العدوان الصهيوامريكي
الشيخ نعيم قاسم: المقاومة جاهزة للدفاع ولديها ردع يمنع تحقيق العدو لأهدافه
الاكثر قراءة
أحكام الصوم للسيد القائد الخامنئي
ما أنشده الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في حق الإمام الخامنئي
أربعون حديثاً عن الإمام الكاظم (عليه السلام)
أربعون حديثا عن الإمام الهادي (ع)
مختارات من كلمات الإمام الخامنئي حول عظمة السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)
مبادئ الإمام الخميني العرفانية
أربعون حديثاً عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
ماذا يقول شهداء الدفاع عن العقيلة؟.. الشهيد السيد إبراهيم في وصيته: لقد ذهب زمان ذل الشيعة+ صور
شهيد المحراب (الثالث) آية الله الحاج السيد عبد الحسين دستغيب
تقرير مصور عن شهداء الحجاز الذين استشهدوا في جبهات الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية