Skip to main content

الدرس السادس والستون: المقام الثاني صفات وليّ الأمر زمن الغَيبة ـ القسم الخامس

التاريخ: 10-05-2011

الدرس السادس والستون: المقام الثاني صفات وليّ الأمر زمن الغَيبة ـ القسم الخامس

الشرط العاشر: أن يكون ذا قوّة وشجاعة نفسية   ومن الشروط الّتي لابدّ أن تتوفّر في وليّ الأمر ـ الّذي قد فرض أنّه غير معصوم ـ أن يكون قويّاً شجاعاً على إبراز ما رآه لازم الرعاية من الأعمال والتروك وما إليه، وأن يكون أيضاً ذا قاطعية لتعقيب ما يأمر به أو ينهى عنه حتّى يكون الأمر في مقام الإجراء كما أراد، ولعلّه يرجع إلى شرطين ثانيهما تتميم للأول

الشرط العاشر: أن يكون ذا قوّة وشجاعة نفسية

 

ومن الشروط الّتي لابدّ أن تتوفّر في وليّ الأمر ـ الّذي قد فرض أنّه غير معصوم ـ أن يكون قويّاً شجاعاً على إبراز ما رآه لازم الرعاية من الأعمال والتروك وما إليه، وأن يكون أيضاً ذا قاطعية لتعقيب ما يأمر به أو ينهى عنه حتّى يكون الأمر في مقام الإجراء كما أراد، ولعلّه يرجع إلى شرطين ثانيهما تتميم للأول.

 

وربّما يستدلّ لاعتبار هذا الشرط فيه بعدّة من الآيات المباركات:

 

1ـ منها قوله تعالى في مقام إبرام أنّ طالوت ملك: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾[1].

 

بيان أنّ كون البسطة في الجسم موجباً لأن يستحق الملك عليهم لا معنى له عند العقلاء، إلاّ أنّ تلك البسطة توجب شجاعة صاحبها وقدرته الروحية وتكون كناية عنها فيؤول اعتبارها إلى هذا الشرط الّذي هو محلّ الكلام[2].

 

لكنّه محلّ إشكال بل منع لقوّة احتمال أن يكون سرّ اعتبار بسطة الجسم أنّ صاحبها يكون بها ذا نفوذ ومقبولية عند الناس، فإذا كان هنا اثنان متساويان في الصفات وكان لأحدهما خاصّة بسطة الجسم فهو يصير بهذه الصفة أرجح في نفوذ التصميمات، فلعلّه لذلك كانت مزيّة لا لما أفيد، فلا دلالة في هذه الآية المباركة على اعتبار الشرط المذكور.

 

2ـ ومنها قوله تعالى حكايةً عن يوسف في مقام إثبات صلاحيته لأن يكون أمينا على أموال الدولة وخزائن الأرض: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾[3].

 

بتقريب أنّ إثبات صلاحيّته لهذا الأمر بكونه حفيظاً ـ بعد فرض أنّه عليم بوجوه الحفظ ـ دليل على اعتبار صفة الحفظ للأموال في مَن يحوّل إليه حفظها، فيدلّ بطريق أولى على اعتبار مثله في من يوكل إليه أمر إدارة المجتمع الإسلامي بأن يكون بحيث يبرز الآراء اللازمة في كلّ مورد ويكون قاطعاً ومعقّباً لأن تتحقّق آراؤه كلّها، وهو المطلوب.

 

وفيه (أولاً) أنّه كلام ليوسف استدلّ به على تحصيل موافقة ملك مصر على هذا المعنى ولم يسند إلى أنّه أمر إلهي، فلعلّه استدلال بمجرّد ما عليه العقلاء أنفسهم من دون أن يكون فيه حجة شرعية.

 

و(ثانياً) أنّه إن دلّ على أنّه أمر إلهي فلا حجّة فيه على أنّه شرطٌ في تصدّي ذاك المنصب بل يجتمع مع أن يكون فيه مجرّد رجحان.

 

و(ثالثاً) أنّه لا دليل فيه على اشتراط هذا الشرط في الدين الإسلامي الحنيف أصلاً.

 

3ـ ومنها قوله تعالى حكاية عن بنت شعيب في مقام إثبات أن استيجار موسى لرعي دوابّهم ذو مصلحة: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾[4].

 

وبيان دلالته قريب ممّا مرّ ذيل الآية الماضية، ويرد عليه أيضاً مثل الإيرادات الثلاثة.

 

4ـ وقريب منها قوله تعالى حكايةً لما قاله عفريت من الجنّ لسليمان في مقام إيكال الإتيان بعرش ملكة سبأ: ﴿قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾[5].

 

فأثبت صلاحيّته لإيكال هذا العمل إليه بقوّته، فهو قادر على أن يأتي به، وزاد عليها أمانته فلا يخون أصلاً، فدلّ على اشتراط تصدّي مثل هذا العمل الصغير بالقوّة، فلا محالة اشتراطها في تصدّي ولاية أمور المجتمع الإسلامي بطريق أولى.

 

ويرد على الاستدلال به أيضاً مضافاً إلى الأمور الثلاثة الماضية أنّ الآية إنّما تعرّضت لأنّ هذا العفريت قويّ على العمل المذكور ومجرّد القوّة غير إعمال ما هو عليه قادر، فلا ارتباط له بما نحن فيه.

 

5ـ ومنها قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[6].

 

فقد نفى الاستواء بينهما، فالأوّل منها لا يقدر على شيء ولا يأتي بخير فلا يستوي هو ومَن يأتي بالخيرات وهو على صراط مستقيم، فالأوّل فاقد لشرط إبراز الرأي اللازم في موارده بخلاف الثاني، فلا محالة يكون الأول لازم الطرد فاقد الاعتبار لا يصلح لتصدّي إمارة البلاد والمجتمع قطعاً.

 

لكنّك ترى أنّ المفروض في الأوّل أنّه لا يقدر على شيءٍ ولا يأتي بخير أصلاً، فلا محالة لا ينطبق على مَن كان واجداًَ للصفات العديدة اللازمة الماضية ولم تكن له الشجاعة والقدرة النفسانية الموجبة لإبراز الرأي اللازم في جميع الموارد أو لتعقيب أن يعمل ما أبرزه، ولا مجال لإلغاء الخصوصية عن مفروض الآية إلى غيره من المورد المذكور. مضافاً إلى أنّ نفي الاستواء بين هذا الأدنى وذلك الأفضل لا دلالة فيه على أنّ هذا الأدنى لا يصلح لمثل الولاية، بل لعلّ عمدة النظر إلى اختلافها عند الناس في الآثار المترتّبة خارجاً عليهما.

 

وبالجملة: فلا دلالة في هذه الآيات الكريمة على إثبات المطلوب إلاّ أنّه يمكن الاستدلال لإثباته بوجوهٍ عديدةٍ أخر:

 

أحدهما: أنّه لا ينبغي الريب في أنّ الهدف الأصيل من جعل وليّ الأمر لمجتمع أن يكون هو المتصدّي لجميع أمورهم بحيث يجعل كلّ أمرٍ على مسير ينبغي أن يكون عليه ويصلح جميع الأمور ـ كما مضى بيانه ـ على ما ينبغي، وهذا الهدف هدف العقلاء من تولية أمورهم لواليهم، ولا معنى للولاية عندهم إلاّ ذلك، كما يشهد له ولاية الآباء لأمر أولادهم والولاية على المجانين، والشارع المقدّس قد أعلن ولاية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمّة الإسلام بمثل قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾[7] وعلى ولايته وولاية الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بمثل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ...﴾ وأمر رسوله بإعلان جعل هذه الولاية للأمير (عليه السلام) من الله بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ...﴾[8] ولمّا بلّغه الناس بعد استشهاده الناس بالسؤال عنهم: «ألست أولى بكم من أنفسكم» وجوابهم بأن قالوا: بلى، فبلغهم ولاية الأمير (عليه السلام) من الله بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَن كنت مولاه فعليٌّّ مولاه» ولتعظيم أمر هذه الولاية في الإسلام انزل الله تعالى قوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾[9]. فولاية ولاة الأمر كان بها إكمال الدين وإتمام النعمة على الإسلام وموجبة لرضاه تبارك وتعالى بالإسلام ديناً لنا، فما في أذهان العقلاء فهو أيضاً أمرٌ قد عنى الله تعالى في القرآن المجيد به، فالهدف الأصيل من جعل وليّ الأمر هو أن يراقب أمر الأمّة ويجعله كما ينبغي أن يكون. وهذا الهدف قد نصّ عليه في الأخبار المعتبرة العديدة:

 

ففي صحيح إسحاق بن غالب عن الصادق (عليه السلام) قال: كلّما مضى منهم إمام نصب لخلقه مَن عقبه إماماً عَلماً بيّناً، وهادياً نيّراً، وإماماً قيّماً، وحجّة عالماً، أئمّة من الله يهدون بالحقّ وبه يعدلون، حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه، يدين بهداهم العباد، وتستهلّ بنورهم البلاد، وينمو ببركتهم التلاد... فإذا انقضت مدّة والده... فمضى وصار أمر الله إليه من بعده، وقلّده دينه، وجعله الحجّة على عباده، وقيّمه في بلاده... وجعله حجّة على أهل عالمه، وضياءً لأهل دينه، والقيّم على عباده، رضي الله به إماماً لهم، استودعه سّره... واسترعاه لدينه، وانتدبه لعظيم أمره، وأحيا به مناهج سبيله وفرائضه وحدوده، فقام بالعدل عند تجبّر أهل الجهل وتحيير أهل الجدل بالنور الساطع والشفاء النافع بالحقّ الأبلج والبيان اللائح من كلّ  مخرج على طريق المنهج الّذي مضى عليه الصادقون من آبائه (عليهم السلام)، فليس يجهل حقّ هذا العالم إلاّ شقيّ، ولا يجهده (ولا يجحده ـ ظ) إلاّ غويٌ، ولا يصدّ عنه إلاّ جريٌّ على الله جلّ وعلا[10].

 

فكما ترى قد وصف الإمام بأنّه قيم يهدي الناس بالحقّ، وبأنّ الأئمّة رعاة من الله على خلقه يدين بهداهم العباد وينمو ببركتهم التلاد، ونصّ بأنّ الإمام الّذي يجعله الله إماماً بعد مضيّ والده الإمام قد قلّده الله دينه وجعله قيّمه في بلاده والقيّم على عباده وأحيى به مناهج سبيله وفرائضه وحدوده، وهذا الإمام يقوم بالعدل كما مضى عليه آباؤه الصادقون (عليهم السلام).

 

وهذه التعبيرات كما ترى واضحة الدلالة على أنّ المطلوب من الإمام الّذي هو وليّ الأمر أن يقوم بإجراء هذه الوظائف الّذي هو مقتضى كونه قيّماً من الله على العباد والبلاد، وراعياً منه تعالى للعباد وللدين، وعلى أنّ القيام بأداء هذه الوظائف هو الوظيفة الّتي كان الأئمة المعصومون الصادقون قائمين بأدائها. وقد مضى منّا الكلام مستوفىً في أنّ هذه الأمور هي أمور واجبة الأداء على أولياء أمر الأمّة وذلك عند البحث عن الوظائف والاختيارات الّتي لوليّ الأمر، فراجع وتذكّر[11].

 

فقد تبيّن ممّا ذكرنا أنّ الهدف الأصيل من نصب أحدٍ لولاية الأمر على المجتمع الإسلامي هو أن تتحقّق هذه المقاصد العالية الدينية والدنيوية على حدّ الكمال، فإذا كان هذا هدف جعل الوليّ فلا ريب في أنّه يعتبر قطعاًٍ في وليّ الأمر أن يكون بهذه الكيفية، وهو عبارة أخرى عن اعتبار أن يكون ذا شجاعة في إبراز الرأي وذا قطعية كاملة في تعقيب إجراء ما أبرزه لمصلحة الناس وأراد.

 

ثانيها: أن يستدلّ لاعتباره بأدلّة اشتراط العلم والأعلمية بالأحكام والموضوعات وبأدلّة اعتبار العدالة في وليّ الأمر ببيان أنّ المستفاد عرفاً من اعتبار العلم أن يكون ولي الأمر ذا بصيرة بما يجب وينبغي أن يفعله، لكن لا لمجرّد تحقّق هذا الوصف له بل لأن يعمل بمقتضاه في إدارة أمر المجتمع. وبالحقيقة أنّ العمل بمقتضى هذا العلم هو الهدف الأصيل من اعتباره، وبعد ذلك فزيادة اشتراط العدالة أيضاً تأكيد على أن لا يضع العمل بعلمه يل يجب عليه العمل به، والعدالة ضمان إجرائي له، فإذا كان العمل بمقتضى العلم هو الهدف الأصيل من اعتباره فيؤول الأمر إلى وجوب أن يكون وليّ المر ذا شجاعة وقاطعية لكي يترتّب على علمه الهدف المذكور.

 

وهذا الّذي استظهرناه من نفس اعتبار أدلّة العلم يدلّ عليه ويشهد له بعض أدلّة اعتباره بالخصوص، فمثلاً أنّ قوله تعالى: ﴿أفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى﴾[12] الّذي كان من أدلّة اعتبار العلم فإنّ المذكور فيه بالمطابقة هو هداية العالم للناس إلى الحقّ في كلّ مورد، والهداية ـ كما تعلم إعمال لذلك العلم، فيدلّ بوضوح على أنّ العمل بالعلم هو الهدف الأصيل، فيدلّ على المطلوب على ما مرّ.

 

وهكذا أنّ من أدلّة اعتبار العلم بل الأعلمية في وليّ الأمر ـ كما مرّ ـ صحيحة عيص بن القاسم الّتي بيّن فيها الإمام الصادق اعتبار العلم في وليّ الأمر بذكر اعتباره بل اعتبار الأعلمية في راعي الأغنام، ومن المعلوم قطعاً أنّ اعتباره فيه ليس إلاّ لأن يرعى الغنم بالنحو الأوفى فالمطلوب الأصيل هو العمل على طبق ذلك العلم أو تلك الأعلمية وهو يؤول إلى اعتبار شجاعة وليّ الأمر وقاطعيته كما عرفت.

 

وثالثها: أن يقال: لا ريب في أنّ العقلاء يعتبرون في كلّ من يفوّض إليه الإتيان بأمرٍ أن يكون ـ علاوةً على قدرته وعلمه بحسن الإتيان بما فوّض إليه ـ ذا شجاعة من ناحية إبراز الرأي بما رآه صلاحاً وذا قاطعية أيضا في تعقيب إرادته لكي يتحقق مقتضاها في الخارج، ولذلك يرون هذه الشجاعة والقاطعية لازمة التحقّق في أولياء الأمور، فإنّهم إنّما جعلوا أولياء الأمر بهدف أن يعملوا للمجتمع ما هو المصلحة الأوفى لهم، فلابدّ وأن يكونوا ذا شجاعة وقاطعية في مقام إبداء الرأي وتحقيق مقتضاه فاعتبارهما في وليّ الأمر عند العقلاء لا ريب فيه. وقد عرفت أنّ الشارع الأقدس تبارك وتعالى قد أمضى هذا البناء العقلائي على ما مرّ بيانه مستوفيً ذيل توضيح المستفاد من صحيحة عيص بن القاسم، فراجع[13].

 

ورابعها: أن يستدلّ له بالروايات، فإنّ فيها أيضاً أخباراً تدلّ على اعتبار هذا الشرط:

 

1ـ فمن هذه الأخبار صحيحة سدير بن حكيم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تصلح الإمامة إلا لرجلٍ فيه ثلاث خصال: ورعٌ يحجزه عن معاصي الله، وحلمٌ يملك به غضبه، وحُسن الولاية على مَن يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرحيم[14].

 

وبيان دلالته أن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) اشترط في الإمام الّذي يلي أمر المجتمع الإسلامي «حسن الولاية على من يلي» ومن المعلوم جدّاً أنّ حسن الولاية عليهم لا يتحقق إلاّ بأن لا يفوت من الوالي معرفة ما هو الأصلح لهم ثُمّ العزم القاطع على إيجاده، بداهة أنّ من لم يكن همّه العزم أو القاطعية إعمال ما عزم عليه في الموارد المستحسنة فلا يكون ذا ولاية حَِسنة، وهكذا الأمر في العزم على دفع المفاسد عنهم أو رفعها إذا ابتلوا بها. فالصحيحة دليل معتبر على اشتراط الشجاعة والقاطعية في وليّ الأمر كما تشترطان في ولاية الوالد الرحيم بالنسبة لأولاده.

 

2ـ ومنها قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: أيّها الناس! إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل[15].

 

فقد نصّ بأنّ أحقّ الناس بتصدّي أمر الولاية على المجتمع الإسلامي في الشريعة المطهّرة أقواهم عليها، وهذه الأحقٍّية أحقّية إلزامية لا استحسانية، وذلك بدليل أنّه فرّع عليها أنّه إنّ شغب شاغب وهيّج الفساد في أمر ولاية هذا الوليّ المتصدّي الأحقّ يقابل أوّلاً بالاستعتاب ـ أعني أنّه يطلب منه الرضا ورفع يده عن الشكوى ـ فإن أصرّ بعده على شغبه وأبى قوتل. فالحديث يدلّ بوضوح على أنّه لا توضع اليد عنه ولا يتحمّل تهييجه للفساد في قبال ولاية وليّ الأمر بل يقابل أوّلاً بالاستعتاب وإن أبى فبالقتال. فوجوب مقابلته بالقتال دليلٌ واضحٌ على حرمة  تهييجه للفساد وعلى أنّ ولاية هذا الأحقّ لازم الإتّباع متعيّنة شرعاً.

 

فقد اشترط الإمام (عليه السلام) أنّ الأقوى في حُسن إعمال الولاية مقدّم على غيره، واشتراط الأقوائية شاهدة على أنّ أصل القوّة على إجراء الولاية بالنحو المطلوب والمستحسن معتبرة في تصدّي الولاية وأنّها بحدّ من الاعتبار يوجب تقدّم الأقوى على غير الأقوى وإن كان واجداًَ لأصل القوة، ومن المعلوم أنّ القوّة على حسن الأعمال لا تكون إلاّ إذا كان وليّ الأمر ذا شجاعة على أخذ التصميم اللازم بلا توانٍ وإهمال وذا قاطعية بعد أخذ ذاك التصميم، وهو ما ذكرناه من الشرط.

 

3ـ ومنها قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في رواية رواها الطبرسي في الاحتجاج واصفاً لها بالصحّة، فقد قال (عليه السلام) في مقام إثبات أنّ الولاية على المسلمين حقّ شرعيّ له، وأنّه (عليه السلام) أولى بالولاية من أبي بكر وغيره من المهاجرين، وأنّ الناس ظلموا أهل البيت (عليهم السلام) في دفع وصول هذا الحقّ إليهم فقال: أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعطوكم المقادة وسلّموا لكم الإمارة، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار، أنا أولى برسول الله حيّاً وميتاً وأنا وصيّه ووزيره... وأعرفكم بالكتاب والسنّة، وأفقهكم في الدين، وأعلمكم بعواقب الأمور، وأذربكم لساناً، وأثبتكم جَناناً، فعلامَ تنازعونا هذا الأمر؟! أنصفونا إن كنتم تخافون الله على أنفسكم، ثُمّ أعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفته الأنصار لكم، وإلاّ فبوؤا بالظلم والعدوان وأنتم تعلمون[16].

 

وقريب منه ـ بل لعلّه هو ـ ما رواه في كتاب تمام نهج البلاغة ضمن الكتاب الطويل الّذي كتبه الأمير (عليه السلام) وأمر أن يقرأ على الناس أيام الجمع في البلاد، وقد نقلنا عين عباراته أيضاً في عداد الأخبار الّتي  تدلّ على اعتبار الأعلمية في وليّ الأمر، فتذكر وراجع[17].

 

وبيان دلالتهما أنّه (عليه السلام) في مقام إثبات أولويّته بأمر الولاية وليس الاستدلال جدليّاً محضاً كما يشهد له أنّه (عليه السلام) في مقام إثبات أن المخاطبين من المهاجرين غاصبون ـ كما في صدر الكلام ـ وقد فرّع على استدلاله في آخر كلامه أنّه قال لهم: «اعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفته الأنصار لكم وإلاّ فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون» فمن هنا يعلم أنّه استدلال برهاني. وقد ذكر من جملة أدلّته لإثبات أولويته في تصدّي الولاية قوله: «أنا... أذربكم لساناً وأثبتكم جناناً» وذرب اللسان ـ في اللغة ـ بمعنى كونه حديداً ماضياً، وثبوت الجنان هو كون القلب قويّاً في الشدائد، فيدلّ كلامه على اعتبار ذرب اللسان وقوّة قلب وليّ الأمر بحدٍّ يوجب تقدّم الأذرب والأثبت على من لا يبلغ هذه الأذربية والأثبتية، فلا محالة يكون ذرب اللسان وثبوت القلب وقوّته شرطاً في الوالي، وأنت تعلم أنّ ذرب اللسان لا يكون إلاّ إذا كان صاحبه ذا قوّة وشجاعة لازمة بيدي العزم اللازم بقوّة وحدّة ويكون قاطعاً في تعقيب إجراء ما أجراه بالحدّة على لسانه، ويكون مع ذلك قوّة قلبه وتأييداً آخر لهذه الحدّة والقاطعية، فهذا الكلام أيضاً دليل على اشتراط الشجاعة في إبداء ما هو لازم الإتيان والقاطعية في تعقيب أعماله.

 

وتوجد ضمن الأخبار روايات أخر أيضاً تدلّ على المطلوب نعرض عن ذكرها ونقتصر على خصوص ما نقلناه لعدم الحاجة إليها بعد تمامية هذه الأدلّة الدالّة على المطلوب وعدم معارض لها أصلاً.

 

فالحاصل: أنّه لا ريب في أنّه يشترط في وليّ الأمر أن يكون شجاعاً ذا همّة عالية في إبداء الرأي اللازم لإدارة أمر الأمّة بلا تأخير عن أوّل الوقت، وأن يكون أيضاً قاطعاً في تعقيب رأيه حتّى يتحقّق مقتضاه بلا تأخير ولا توانٍ.

 

وبعد ثبوت اشتراط هذا الشرط فإذا كان هنا رجلان أو أكثر كلّ منهم واجد لهذا الشرط ولسائر الشرائط وكان واحدٌ منهم أشجع وأقطع من الآخرين فهل يتقدّم هذا الأقوى على الآخرين؟

 

لا يبعد أن يقال بتقدّم هذا الأقوى، وأنّه معه لا مجال للآخرين أن يتصدّوا ولاية أمر الأمّة، وذلك لوجهين:

 

أحدهما: أنّه كما مرّ، فإنّ العقلاء في بنائهم يرون هذا الشرط لازماً لأن لا يفوت عن الأمّة الوصول إلى المصالح اللازمة الوصول ولا يقعوا في أيّة مفسدة أصلاً، فإذا كان هذا المعنى هو سرّ اعتبار الشجاعة والقاطعية في وليّ الأمر عندهم فإذا ألقى إليهم من الشارع الأقدس أدلّة أنّ الشرع أيضاً يعتبر في وليّ الأمر هذين الوصفين فهموا بهذا الارتكاز الثابت لهم أنّ الشارع أيضاً يرى هذا السرّ لازم التحقّق في ولاية ولاة الأمر، فحينئذٍ إذا كان أحد أقوى في هذين الوصفين من الآخرين فلا محالة كان تحقّق ذاك الهدف الأصيل من ولايته أحسن وأولى، ويكون هذا الهدف أولى بالوصول إليه من تولّيه إذا قيس إلى تولّي الآخرين، وحيث إنّ الوصول إلى هذا الهدف هو الأصل فكلّما كان للوصول إليه أقرب كانت رعايته وإتّباعه أولى. وقد مرّ قريب من هذا البيان في إثبات تقدّم الأعلم على غيره.

 

ويستفاد من السيد المرتضى علم الهدى (قدس سرّه) في كتاب الذخيرة في بيان صفات الإمام ما يمكن استنباط موافقته أيضاً لتقدّم الأقوى شجاعة وقاطعية، قال في هذا الفصل: ومنها (يعني من صفات الإمام) أن يكون أشجعهم ـ إلى أن قال ـ وكونه أشجع الأمة مبنيّ على وجوب الجهاد وأنّه إمام الأمّة فيه، وهذا مستند إلى السمع[18].

 

وقال أيضاً فيه: أمّا الّذي يدلّ على كونه أشجع من رعيته أنّه رئيس عليهم في ما يتعلّق بجهاد الأعداء وحرب أهل البغي، وذلك متعلّق بالشجاعة، فيجب أن يكون أقواهم حالاً في ذلك كما قلنا في العلم وغيره، لأنّ من شأن الرئيس أن يكون أفضل من الرعية في ما كان رئيساً لهم، لما قدّمنا بيانه في قبح تقديم المفضول على الفاضل فيما كان أفضل منه[19].

 

فضمّ الفقرة الثانية من كلامه إلى الأولى يعلم منه أنّ المراد من قوله في الفقرة الأولى: «وهذا مستند إلى السمع» أنّ وجوب الجهاد على الأمّة مستند إلى السمع، وإلاّ فإذا وجب جهاد الأعداء وأهل الحرب عليهم فلا ريب أنّ الإمام ووليّ الأمر إمام الأمّة فيه، وانّه إذا كان الجهاد إلى وليّ الأمر لأنّه رئيس الأمّة فيما أن الولاية على الجهاد تحتاج إلى شجاعة وليّ الأمر الّذي هو رئيسهم فالعقل يحكم حينئذٍ بأنّه لابدّ وأن يكون الرئيس أقوى من الرعية في ذلك لئلاّ يلزم تقديم المفضول على الفاضل الّذي هو قبيح بحكم العقل.

 

ثُمّ إنّ مورد كلامه (قدس سرّه) وإن كانت الشجاعة اللازمة في الجهاد إلاّ أنّه يستفاد منه أنّ اعتبار أقوائية الإمام لا يختصّ بخصوصها بل كلّ شرط اعتبر في وليّ الأمر، فلابدّ وأن يكون وجوده فيه أقوى وأشدّ من غيره لئلاّ يلزم تقديم المفضول على الفاضل الّذي هو ممنوع لقبحه بحكم العقل في جميع الموارد، وحينئذٍ فإذا كانت الشجاعة على أخذ التصميم السريع ذي المصلحة أو الدافع للمفسدة والقاطعية في مقام إجرائه لازما في وليّ الأمر فلابدّ وأن يكون الأقوى فيهما أقدم على غيره حذراً من المحذور العقلي المزبور.

 

وثانيهما: أنّه يدلّ عليه قول الأمير (عليه السلام) الماضي حيث قال: «إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه» فقد نصّ بأنّ الأقوى في إدارة أمر الأمة أولى وأقدم على غيره وقد تقدّم أنّ الشجاعة والقاطعية مقوّم للقدرة، وإذا كان هنا أكثر من واحد فالأقوى منحصر الوجود في خصوص الأشجع والأقطع، ولا محالة يكون هو الأحقّ بتصدّي الولاية ولا مجال معه لغيره في تصدّيها. ولعلّ المتأمّل قدر على وجهٍ آخر أيضاً. فلا ينبغي الريب في تقدّم الأقوى فيهما على مَن لم يكون بهذه المثابة من القوة.

 

ومنه يتبيّن أنّه إذا دار الأمر بين رجلين أو أكثر جميعهم واجد لجميع الشرائط إلاّ أنّه كان أحدهم أقوى من الآخرين في خصوص وصف الشجاعة على أخذ الرأي وإبدائه فقط أو في خصوص وصف القاطعية فقط فهذا الأقوى أيضاً مقدّم على الآخرين لاقتضاء كلا الوجهين المذكورين له.

 

الشرط الحادي عشر: سلامة الأعضاء والحواسّ

 

قال العلامة في تذكرة الفقهاء في تعداد شرائط الإمام ـ بمعنى وليّ الأمر ـ: التاسع: أن يكون صحيح السمع والبصر ليتمكنّ من فصل الأمور، وهذه الشرائط غير مختلف فيها. العاشر: أن يكون صحيح الأعضاء كاليد والرجل والأذن. وبالجملة: اشتراط سلامة الأعضاء من نقصٍ يمنع من استيفاء الحركة وسرعة النهوض، وهو أولى قولي الشافعية [20].

 

وقوله: «وهذه الشرائط غير مختلف فيها» يراد به أنّ الشرائط التسعة الماضية الّتي منها هذا الشرط التاسع لم يختلف في اعتبارها أحدٌ من الخاصّة والعامّة، فهو بمعنى نقل اتّفاق العلماء من الفريقين على اشتراط هذا الشرط.

 

وقال قبله السيد المرتضى في الذخيرة في فصل صفات الإمام: وكونه أصبح الخلق وجهاً غير واجب، لأنّه لا تعلّق له بشيء من ولاياته ورياساته، إلاّ أنّه لا يجوز أن يكون سيّئ الصورة فاحش الخلقة، كما لا يجوز ذلك في الرسول لأجل التنفير[21].

 

فيستفاد من ذيل كلامه أنّ كلّ ما يوجب من نقص خلقته في حواسّه وأعضائه تنفّر الناس عنه فهو مانع عن صلوحه للولاية لكون التنفّر عنه يؤول إلى عدم توفيقه في حُسن الولاية المطلوبة من الوالي، فيستفاد منه اعتبار سلامة الحواسّ والأعضاء إذا كان انتفاؤها يورث تنفّراًَ.

 

والذي ينبغي أن يقال: إنّ الشرط المبحوث عنه هنا ربّما رجع إلى شرطين كما ذكرهما في التذكرة، إلاّ أنّه لمكان وحدة الدليل عليهما ووحدة سرّ الاعتبار ـ كما سيأتي ـ جعلناهما شرطاً واحداً.

 

وبالجملة: فربما استدلّ على اعتبار سلامة الحواسّ باتّفاق العلماء على اعتبارها كما في التذكرة، إلاّ أنّك خبير بأنّ احتمال استناد جلّ القائلين ـ لا أقلّ ـ ببعض الأدلّة الآتية يجعله محتمل المدرك، ومعه فيسقط عن صحّة الاستناد به.

 

فنقول: إنّ النقص الواقع في إحساس الحواسّ أو في سلامة الأعضاء ربما يكون بحيث لا يوجب نقصاً وفتوراً في الإتيان بالوظائف الواجبة على وليّ الأمر، ولا تنفراً للناس عنه، فيكون هو أيضاً كغيره ممّن لا نقص في حواسّه وأعضائه يتولّي إمارة الأمّة ويأتي بوظائفه كالسالمين، فحينئذٍ لا دليل على اشتراط السلامة من مثل هذا النقص لكنّه ربما يكون موجباً لعدم اقتداره على أداء بعض الوظائف أو لتنفّر الناس عنه الّذي في معنى عدم تحقّق الوظائف المطلوبة كما ينبغي عنه، فيمكن الاستدلال لاعتبار سلامته من هذا النقص بوجوه عديدة من الكتاب الكريم والسنّة الشريفة بل وغيرهما أيضاً .

 

أما الكتاب فيدلّ عليه:

 

(أوّلاً) قوله تعالى حكاية عن قومٍ من بني إسرائيل ونبيهم قال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ...﴾[22].

 

وبعد ما مرّ من أنّ ما تفيده الآية المباركة ليس مختصّاً بدين بني إسرائيل بل يجري مفادها في الشريعة الإسلامية أيضاً فبيان الاستدلال به أنّ نبيّهم في مقام الإتيان بطلبتهم منه حيث سألوه أن يبعث لهم ملكاً قال: «إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً» فقومه لم يقبلوا ملك طالوت بأنّه لا يصلح للولاية عليهم بقولهم: «قالوا أنّى يكون له المُلك علينا ونحن أحقّ بالملك منه ولم يؤت سعةً من المال». وحاصل دليلهم على عدم أحقُيّته بالملك عليهم أنّ المُلك على جمع لابدّ فيه أن يكون صاحب الملك ذا وجاهةٍ عند قومه، وهذه الوجاهة تتوقّف على مالكية مالٍ وسيع وطالوت فاقد لها لأنّه لم يؤت سعةً من المال، فأجابهم النبيّ بقوله: «قال إنّ الله اصطفاه عليكم وزاده بسطةً في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء» فجوابه هذا متضمّن لإقامة الدليل على تقدّمه على قومه في تولّي الأمور.

 

فأولاً: أنّ أمر الناس بما أنّهم عباد الله تعالى وبيده اختيارهم إلى الله وهو تعالى اصطفى طالوت على قومه وآتاه المُلك وهو يؤتي ملكه من يشاء فلا مجال لأحدٍ من العباد أن لا يقبل من اصطفاه الله وآتاه المًلك.

 

وثانياً: أنّ طالوت زاده الله تعالى على الناس ببسطة علمه وبسطة جسمه، ومن المعلوم أنّ وجدان العلم بأداء الوظائف المحوّلة إلى وليّ الأمر معتبر عند العقلاء أيضاً وأنّه إذا كان هنا أكثر من واحد يتّصف الكلّ بذلك العلم، فمن زاد علمه على الآخرين فهو مقدّم عليهم، وعلاوة على زيادة علمه فقد زاده الله بسطةً في الجسم، فإنّ الإمارة تحتاج إلى جسم مناسب، ومع تعدّد ذويه فمن كان جسمه أنسب وذا بسطة في الجسم فهو مقدّم على غيره.

 

فالفقرة الأخيرة من الآية المباركة دالّة بوضوح على اشتراط أن يكون مَن يلي أمر الأمة ذا جسم مناسب وأنّ ذا الجسم الأبسط أولى وأقدم من غيره، وهو المطلوب. فمن كان ذا نقص في جسمه أو حواسه يوجب عدم اقتداره على أداء وظائف الولاية فلا يليق بتولّي الأمور.

 

فإن قيل: إنّ طالوت بنصّ الآيات المباركة قد بعثه نبيّ بني إسرائيل ملِكاً عليهم فهو منصوب النبي والنبيّ نفسه أعلى مكاناً من منصوبه فهذا المِلك كأمير يولّّيه وليّ الأمر بإمارة فتكون صحّة الجسم شرطاً فيه ولا دلالة فيه على اشتراطها في وليّ أمر الأمّة.

 

قلنا: (أوّلاً) أن المستفاد من الآيتين المباركتين أنّ الملك إنّما يعطيه الله تعالى وقد كان هذا المعنى مسلّماً عند الناس أن قالوا لنبيّهم أوّلاً: «ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله» والشاهد عليه قول النبي لهم: «وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً» وقوله أيضاً في مقام الردّ على استنكاره: «إن الله اصطفاه عليكم... والله يؤتي ملكه من يشاء» فطالوت بعثه الله تعالى ملكاً لهم واصطفاه عليهم وآتاه الله الملك، فليس للنبي إلاّ سمة إعلام مُلكه من الله عليهم، فقد جعل ملكاً من الله تعالى، والملك هو الولاية.

 

و(ثانياً) أنّ المستفاد من أخبار عديدة أنّ الإمامة على الناس الّتي هي عبارة أخرى عن الولاية أمر أرفع من مطلق النبوة وأن الأنبياء لم يعطوها إلاّ قليلاً منهم، فمن هذه الأخبار:

 

1ـ ما رواه الكليني بسندٍ معتبر ـ فإن درست بن أبي منصور الواقع في السند ثقة بشهادة رواية ابن أبي عمير (الّذي لا يروي إلاّ عن ثقة) عنه، وأبا يحيى الواسطي أيضاً قيل فيه: إنّه شيخنا المتكلّم، وهو كافٍ في ثبوت وثاقته ـ عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات: فنبيٌّ منبّأ في نفسه لا يعدو غيرها، ونبيٌ يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ولم يُبعث إلى أحدٍٍ وعليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط (عليهما السلام)، ونبيّ يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك وقد أرسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا كيونس (عليه السلام)، قال الله ليونس ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾[23] ـ قال: يزيدون ثلاثين ألفاً ـ وعليه إمام، والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل أولي العزم. وقد كان إبراهيم (عليه السلام) نبيّاً وليس بإمام حتّى قال الله ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾ فقال الله ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[24] مَن عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً[25].

 

ودلالته على ما قلناه واضحة لا يحتاج إلى بيان.

 

2ـ ومنها ما رواه هو أيضاً بسند فيه إرسال عن زيد الشحّام قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم (عليه السلام) عبداً قبل أن يتّخذه نبياً، وإنّ الله اتخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً، وإنّ الله اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً، وإنّ الله اتّخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً، فلمّا جمع له الأشياء قال: «إني جاعلك للناس إماماً» قال: فمن عظمها في عين إبراهيم قال: «ومن ذرّيتي قال لا ينال عهدي الظالمين» قال: لا يكون السفيه إمام التقيّ[26].

 

وهو أيضاً واضح الدلالة على أنّ مرتبة الإمامة أعلى شأناً من النبوة بمراتب.

 

3ـ ومنها ما رواه هو أيضاً عن أبي محمّد القاسم بن العلاء، رفعه عن عبد العزيز بن مسلم قال: كنّا مع الرضا (عليه السلام) بمرو، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها، فدخلت على سيدي (عليه السلام) فأعلمته خوض الناس فيه، فتبسّم ثُمّ قال: يا عبد العزيز، جهل القوم وخدعوا عن آرائهم، إنّ الله عَزّ وجَلّ لم يقبض نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تبيّان كلّ شيء... وأنزل في حجّة الوداع وهي آخر عمره (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾[27] وأمر الإمامة من تمام الدين، ولم يمض (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى بيّن لأمّته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحقّ، وأقام لهم عليّاً (عليه السلام) عَلماً وإماماً، وما ترك (لهم) شيئاً يحتاج إليه الأمّة إلاّ بيّنه، فمن زعم أنّ الله عَزّ وجَلّ لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب الله، ومن ردّ كتاب الله فهو كافر به. هل يعرفون قدر الإمامة ومحلّها من الأمّة فيجوز فيها اختيارهم؟ إنّ الإمامة أجلّ قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جناناً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماماً باختيارهم، إنّ الإمامة خصّ الله عَزّ وجَلّ بها إبراهيم الخليل (عليه السلام) بعد النبوة، والخِلّة مرتبة ثالثة وفضيلة شرّفه بها وأشاد بها ذِكره، فقال ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ فقال الخليل سروراً لها: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ قال الله تبارك وتعالى ﴿قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[28] فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة... الحديث[29].

 

والكلام في الحديث تارة ً في السند وأخرى في الدلالة.

 

أما سنده: فالقاسم بن العلاء ـ كما عن السيد ابن طاووس ـ من وكلاء الناحية، فهو من الأعاظم العلماء الثقات، إلاّ أنّه رفعه عن عبد العزيز بن مسلم فهو مرفوع، وقد ذكره الصدوق في أسانيده أنّه القاسم بن مسلم رواه عن أخيه عبد العزيز، وهو وإن كان يزيل الرفع إلاّ أنّ كِلا الأخوين مجهولان لن يُذكرا بثقة ولا مدح في كتب الرجال، وقد روى الصدوق هذا الحديث بطوله في إكمال الدين وعيون أخبار الرضا بسندين، وفي معاني الأخبار والأمالي بسندٍ واحد[30] وليس في شيءٍ منها رفع لكن جميع الأسناد مشتمل على هذين الأخوين وبعضها على رجال آخرين أيضاً لا يثبت وثاقتهم، فسند الحديث في النهاية غير معتبر من ناحية الرواة، اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّ اشتماله على ذِكر صفاتٍ عالية ومقاماتٍ شامخة وكلماتٍ ومعانٍِ سامية دليلٌ قطعي على أنّه لا يصدر إلاّ عن الإمام المعصوم (عليه السلام)، فيصير من حيث الصدور في كمال الاعتبار.

 

وأمّا دلالته: فما ذكره الإمام (عليه السلام) في صدره دالّ بوضوح على أنّ المراد بالإمامة المذكور فيه وفي الآية المباركة هو ولاية أمر الأمّة، فإنّها الّتي أقام بها عليّاً (عليه السلام) وبلّغه رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الغدير فيه، ونزل فيها قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ وقد بينّاه فيما مرّ أوائل الكتاب، فهذه الولاية لأمر الأمّة مرتبة عالية ثالثة بعد النبوّة والخلّة خصّ الله بها إبراهيم الخليل، فالإمامة بمعنى الولاية مرتبة أرفع من النبوّة، وهو المطلوب كما ذكرناه ذيل الأخبار الماضية.

 

4ـ ومنها ما رواه أيضاً في الكافي بالإسناد المعتبر عن إسحاق بن عبد العزيز أبي السفاتج عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إنّ الله اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبيّاً، واتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً، واتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً، واتّخذه خليلاً قبل أن يتّخذه إماماً، فلمّا جمع له هذه الأشياء ـ وقبض يده ـ قال له: يا إبراهيم «إني جاعلك للناس إماماً» فمن عِظمها في عين إبراهيم (عليه السلام) قال: يا ربّ «ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين»[31].

 

والإمامة في الحديث كما عرفت بمعنى الولاية على الأمة، ودلالته على أنّها أقدم وأعلى رتبة من النبوّة واضحة، فالحديث تامّ الدلالة على المطلوب إلاّ أنّه لم تثبت وثاقة إسحاق بن عبد العزيز أبي السفاتج وإن كانت في قول الغضائري فيه على ما في الخلاصة: «روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) نعرف حديثه تارةً وننكره أخرى، ويجوز أن يخرّج شاهداً» إشارة إلى أنّه لم يكن مسلّم الضعف وإلاّ لم يعرف حديثه أصلاً، ففيه إشارة ما إلى الوثوق عليه إجمالاً، والظاهر أنّ المراد بجابر هو ابن يزيد الجعفي الثقة.

 

وبالجملة: فكون الإمامة ـ أعني ولاية الأمر ـ أعلى رتبة من الإمامة أمرٌ ثابت بهذه الأخبار الّتي فيها معتبرات.

 

(ثانياً) ويدلّ على اعتبار سلامة أعضاء وليّ الأمر وصحّة حواسّه بحيث لا يعرضه ضعف وفتور عن أداء وظائفه الآيات العديدة الدالّة على إثبات الولاية له لقوله تعالى: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾[32] وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ...﴾[33] وكآية الغدير بملاحظة ما ورد ذيلها من بيان الرسول لما أنزل إليه من ربّه بأولوية أمير المؤمنين على المؤمنين من أنفسهم.

 

وبيان دلالتها هو ما عرفت عند بيان الاستدلال بها على إثبات الشرط السابق، فإنّ الهدف الأصيل من ولاية أحدٍِ على شخصٍ أو جمعٍ أن يقوم الوالي برفع جميع حوائجهم الدينية والدنيوية، فلابدّ وأن يكون قادراً على أداء جميع وظائفه في جميع الموارد، فالعاجز عنه ولو في بعض منها غير صالح للولاية كما مرّ.

 

وأما السنّة فممّا ذكرناه آنفاً يظهر أنّه يدلّ على اعتبارها أيضا الأخبار العديدة الماضية الدالّة على ثبوت الولاية على الأمّة لوليّ أمرهم، فإنّ مقتضاها أن يكون قادراَ على أداء هذه الوظيفة العامّة في جميع الموارد، فمن فقد سلامة الأعضاء أو الحواس بالنحو المذكور لا يصلح لتصدّي ولاية أمرهم على ما عرفت.

 

ويدلّ عليه أيضاً أنّه يشترط في وليّ الأمر ـ كما صرّح به في معتبر سدير الماضي ـ حٍُسن الولاية، وذلك أنّ حًسن الولاية لا يكون إلاّ بالقدر على إعمالها المطلوب في جميع الموارد، فالفاقد لسلامة الأعضاء أو الحواس بالنحو الّذي ذكرناه غير صالح لها.

 

ويدلّ عليه أيضاً قول الأمير (عليه السلام): «أيّها الناس، إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه» فإنّه يعلم من أحقية الأقوى وأقدميّته على غير الأقوى أنّ القوة على أصل إعمال الولاية معتبرة في وليّ الأمر بحدّ يوجب ازديادها في أحدٍ تقدمه على غيره، وعليه فمن لا يقدر على إعمال الولاية أصلاً أو لا يقدر عليه في بعض الموارد كما في مفروض الكلام فهو لا يصلح للولاية.

 

وهكذا تدلّ عليه أيضاً أدلّة اعتبار العلم والأعلمية والعدالة في وليّ الأمر من الآيات والروايات لما مرّ من أن اعتبار كل منها إنّما هو لمكان أن يعمل وليّ الأمر كما ينبغي بما يعلمه، فلا محالة قدرته على إعمال ما يعلم شرطه في قبول ولايته، فمن لا قدرة له أصلاً أو في بعض الموارد على إعماله ـ كما في مفروض الكلام ـ لا يصلح لتصدّي ولاية الأمر أصلاً.

 

وبالجملة: فاعتبار سلامتهما شرط بلا شبهة ولا إشكال.

 

الشرط الثاني عشر: الحرّية

 

قال السيد المرتضى في الذخيرة ـ في فصل بيان صفات الإمام ـ: ومن حقّه أيضاً لا يد فوق يده، وراعياً لا مرعيّاً[34]. وحيث إنّ يد السيد فوق يد المملوك والمملوك مرعيّ سيّده فالعبارة دالّة على اعتبار الحرّية. وقال العلامة في التذكرة ـ في عداد الشرائط المعتبرة في وليّ الأمر غير المختلف فيها ـ: أن يكون حرّاً، فإنّ العبد مشغول بخدمة مولاه لا يتفرّغ للنظر في مصالح المسلمين، ولأنّ الإمامة رئاسة عامّة والعبد مرؤوس، وهي من المناصب الجليلة فلا تليق به[35].

 

وفي زماننا هذا وإن ألغوا الرقّية بحسب الظاهر إلاّ أنّ الرقّية والحرّية حكمان شرعيّان، ومع فرض انعقاد الحكومة والولاية الإسلامية فإلى تحقّق مَن يكون رقّاً بمثل الاغتنام في الجهاد من الكفّار سبيل، وكيف كان فلابدّ من البحث عن اعتبار الحرّية وعدم اعتبارها في وليّ الأمر زمن الغَيبة، فنقول:

 

إنّ من المحتمل جدّاً أن يكون دليل جمعٍ ممّن أفتى باعتبارها نفس الوجوه المذكورة في التذكرة أو المشار إليها في عبارة الذخيرة أو بعض الوجوه النقلية الّتي سيأتي الكلام عنها، فعدم الاختلاف المدّعى في التذكرة أو الإجماع على اعتبارها محتمل المدرك جدّاً لا مجال لأن يستند إليه في الكشف عن حكم الله الواقعي.

 

إلاّ أنّ من الممكن أن يستدلّ على اعتبار الحرّية في مَن يتولّى أمر الأمّة في زمن الغَيبة في الجملة بالكتاب الكريم.

 

بيان المطلب: أنّه قد يفرض العبد إنساناً مستقلاً عن مولاه ويراد تولّيه لأمر الأمّة وقد يفرض انضمام إذن مولاه وما بحكمه ويراد تولّيه له: فإذا فرض مستقلاً عن إذنه فيمكن الاستدلال لعدم صلوحه له بقوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ﴾[36].

 

وموضع الاستدلال هو صدر الآية ـ أعني قوله تعالى: «ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيءٍ» ببيان أنّه تعالى وصف العبد المملوك بأنّه لا يقدر على شيءٍ، وكما أنّ وصف المملوكية للعبد صفة توضيحية لهذا فهكذا وصف عدم قدرته على شيءٍ، والمراد بعدم القدرة القانونية له في محيط الشرع والعقلاء بما أنّه عبد، وهذا بخلاف الحرّ الّذي له ـ بمقتضى القوانين ـ أن يأتي بالعقود والإيقاعات المختلفة وتترتّب عليها الآثار المتوقّعة منها، وحينئذٍ فلا صلاحية للعبد أن يصير وليّ أمر الأمّة، فإنّ بيد وليّ الأمر جميع أمور الأمّة، ولابدّ وأن ينفّذ جميع تصرفاته وتصميماته العظيمة الأصلية الّتي لا يصلح العبد أن يأتي بها بمقتضى الآية المباركة.

 

فأن قلت: إن ما ذكرتم من المفاد غير مسلّم الإرادة من الوصف المذكور فإنّ من المحتمل أن يراد بعدم القدرة على شيء أن يعرض على العبد آفة ومرض جسماني أوجب عليه أن لا يكون له قدرة إتيان عمل ويعجز عن الأعمال بالمرّة، ومن الواضح أنّ هذا الوصف وصف عارضي يكون قيداً احترازياً، فلا يتم مع هذا الاحتمال ذاك الاستدلال.

 

قلت: إنّ ذاك الاحتمال احتمال بدويّ تدفعه الأخبار العديدة المعتبرة السند الواردة ذيل الآية المباركة، وتدلّ هذه الأخبار على أنّ ما استفدناه منه هو المراد فيتمّ الاستدلال.

 

1ـ فمن هذه الأخبار ما رواه الشيخ في التهذيبين في الصحيح عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل ينكح (أنكح ـ الاستبصار) أمته من رجل أيفرّق بينهما إذا شاء؟ فقال: إن كان مملوكه فليفرّق بينهما إذا شاء، إنّ الله تعالى يقول: ﴿ عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ﴾ فليس للعبد شيءٌ من الأمر، وإن كان زوجها حرّاً فإنّ طلاقها صفقتها[37].

 

2ـ ومنها ما رواه الشيخ في التهذيبين والصدوق في من لا يحضره الفقيه بسندٍ صحيح عن زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: المملوك لا يجوز طلاقه ولا نكاحه إلاّ بإذن سيّده، قلت: فإنّ السيد كان زوّجه، بيد مَن الطلاق؟ قال: بيد السيد ﴿ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ الشيء الطلاق. وفي الاستبصار مكان الجملة بعد الآية: ليس الطلاق بيده. وفي من لا يحضره الفقيه: والشيء الطلاق. وعن نسخة منه: فشيء الطلاق. وفي الوسائل نقلاً عن من لا يحضره الفقيه: أفشيء الطلاق[38].

 

ولا ينبغي الريب في أنّ مراد الإمام (عليه السلام) تطبيق عموم لفظة «شيء» على الطلاق، وأنّ العبد ليس بيده طلاق زوجته مستقلاً وإن جاز طلاقه ونكاحه بإذن سيّده كما صرّح به.

 

3ـ ومنها ما رواه الشيخ في التهذيبين بسندٍ معتبر عن شعيب بن يعقوب العقرقوفي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل وأنا عنده (أسمع ـ الاستبصار) عن طلاق العبد، قال: ليس له طلاق ونكاح، أما تسمع الله تعالى يقول: ﴿عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾، قال: لا يقدر على طلاق ولا نكاح إلاّ بإذن مولاه[39].

 

4ـ ومنها ما رواه الكليني في الكافي والشيخ في التهذيبين بسندٍ غير معتبر عن ليث المرادي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العبد هل يجوز طلاقه؟ فقال: إن كانت أمتك فلا، إنّ الله عَزّ وجَلّ يقول: ﴿عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ وإن كانت أمة قومٍ آخرين أو حرّة جاز طلاقه[40].

 

ووجه عدم اعتبار الحديث وجود المفضّل بن صالح في السند، وقد قيل فيه: إنّه ضعيف كذّاب يضع الحديث.

 

فهذه الأخبار الأربعة الّتي ثلاثتها الأولى معتبرة السند واضحة الدلالة على أنّ المراد بالفقرة الأولى من الآية المباركة أنّ العبد بنفسه ليس له قدرة قانونية على الإتيان بشيء من العقود كالنكاح والإيقاعات كالطلاق، وأنّه لا يجوز ولا يصحّ طلاقه ولا نكاحه مثلاً مستقلاً إلاّ بإذن سيّده، والثلاثة الأولى المعتبرة السند بمثل الصريح في هذا المدلول، وبها يدفع الاحتمالات الأخر المتوهّمة في الآية الشريفة ويتمّ الاستدلال بها على المطلوب.

 

5ـ ومنها ما رواه الشيخ في التهذيبين في الموثّق عن الحسن بن زياد العطّار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلٍ أمر مملوكه أن يتمتّع بالعمرة إلى الحجّ أعليه أن يذبح عنه؟ قال: إن الله تعالى يقول: ﴿عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾[41].

 

فمورد السؤال العبد والمملوك بما أنّه عبد، ولم يفرض فيه أمرٌ آخر، والظاهر من جواب الإمام أنّه (عليه السلام) بصدد نفي وجوب الذبح عنه على سيّده، واستدلّ لهذا المعنى بالآية المباركة. وبهذه القرينة يُعلم أنّ المقصود بالآية أنّ العبد بما أنّه مملوك لا يعد إنساناً قادراً في قانون الشرع على الإتيان بشيء كما في غيره من الأحرار، فلا يقدر بنفسه ـ قانوناً ـ على الإتيان بحجّ التمتّع، وعليه وإن أمره مولاه بحجّ التمتع، إلاّ أنّه مع ذلك لا يتوجّه إليه التكليف بذاك الحجّ تامّاً حتّى يجب الذبح عنه على مولاه، بل لا يجب عليه أن يذبح عنه.

 

فبهذا التقرير يكون هذا الموثّق أيضاً مؤيّداً لتلك الأخبار، بل يزيد عليها في أن عموم لفظة «شيء» الواقعة في الآية الشريفة لا يختصّ بالعقود والإيقاعات بل هو شامل لمثل الحجّ أيضاً، وهو لا يضر بالمطلوب كما عرفت. ومع هذا التقرير الّذي هو موافق لظاهره لا مجال لتوهّم معارضته لما دلّت عليه الأخبار الأربعة الماضية كما هو ظاهر.

 

ومما ذكرناه نعرف أنّه لا محال لما قد يقال: «إنّ الظاهر من عدم القدرة في الآية عدم القدرة عرفاً لا شرعاً حيث إنّ العبد لوقوعه تحت سلطة الغير خارجاً ينعزل عم النشاطات إلاّ في ما أمر به المولى»[42].

 

 وذلك أنّ الروايات الماضية سيّما الأربعة الأولى واضحة الدلالة أو صريحتها على أنّ العبد ليس بمنزلة الحرّ، ولا يصحّ منه بنفسه شيء من العقود والإيقاعات بل وسائر العبادات أصلا، فالاستدلال بهذه الفقرة من الآية المباركة على عدم صلوح العبد لأن يتولّى أمر الأمة تامّ على ما عرفت.

 

إلاّ أنّه قد صرح بعض هذه الأخبار ـ وهو صحيح زرارة ومعتبر شعيب ـ بصحّة طلاقه ونكاحه بإذن سيّده، فعدم الاعتناء بإنشاءاته إنّما هو إذا كان مستقلاً عن إذن السيد، وإلاّ فأن انضمّ إذن السيّد كان عقده وإيقاعه ماضيين، وقد وردت أخبار كثيرة أخر أيضاً بصحّة عقوده وإيقاعاته مع إذن السيد، والظاهر أنّ نفس الآية المباركة أيضاً لا تدلّ على أزيد من أنّ العبد بما أنّه عبد مملوك لا يقدر في القانون على الإتيان بعملٍ إنشائي صحيح وأمّا إذا أذن له السيّد فقد حصل له ركن ركين وتكون إنشاءاته مستندة إلى هذا الركن، فإذا صحّت فلا تنافي عدم الاعتبار بإنشاءات نفسه، فلا دليل على عدم الاعتناء بالعبد مع إذن سيّده، إلاّ أنّ مجرّد كون العبد صحيح التصرّف إذا إذن له المولى غير كافٍ في جواز تصدّيه لولاية أمر الأمّة، وذلك أنّ المملوك إذا أذن له السيّد في تولّيه فهو مع ذلك تحت سلطة المولى وبحسب القانون الإلهي لمولاه أن يرفع اليد عن لقاء الإذن، فيكون حينئذٍ أمر ولاية المسلمين بيد اختيار هذا المولى، ولا دليل على مشروعية مثل هذه الولاية، ومقتضى الأصل عدم ثبوتها، ولا مجال لقياس ارتفاع إذن المولى بطروّ الموت على وليّ الأمر، فإنّ الموت أمرٌ عامٌ يطرأ على كلّ أحدٍ، فلا محالة ليس احتمال عروضه مانعاً عن كونه مَن يلي أمر الأمّة صالحاً بخلاف ارتفاع إذن المولى.

 

نعم، إن أمكن جعل المولى بحيث لم يجز له رفع اليد عن إذنه كأن يستأجر منه عبده ما دام حيّاً لتولّي أمر الأمّة كان طريقاً وحيلةً لدفع هذا المانع، فلا يجوز للمولى أن يرفع الإذن فإنّ عقد الإجارة من العقود اللازمة. لكنّ الكلام في مَن يستأجر العبد لهذا الهدف، وأنّه إذا استأجره له فهذه المنفعة الخاصّة من العبد تصير ملكاً له وتحت اختياره، ويصير هو بمنزلة المولى بيده إدامة أمر ولاية أمور الأمّة بحيث مهما أراد بعزل العبد المستأجر عنها، وفي مثله أيضاً لا دليل على مشروعيّة الولاية، ومقتضى الأصل عدم ثبوتها، والظاهر أنه إليه يرجع ما أفاده السيد في الذخيرة وما أفاده العلامة في آخر كلامه في التذكرة في الاستدلال لاعتبار الحرّية بقوله: ولأنّ الإمامة رئاسة عامّة والعبد مرؤوس، وهي من المناصب الجليلة فلا تليق به.

 

وقد يزعم دلالة بعض الأخبار العامّة على جواز ولاية العبد، فقد روى أحمد في مستنده ومسلم في صحيحه عن يحيى بن الحصين عن أمه أو جدّته قالت: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعرفات يخطب في حجّة الوداع يقول: يا أيها الناس، اتّقوا الله واسمعوا وأطيعوا وإن أمّر عبد حبشي مجدّع ما أقام فيكم كتاب الله عَزّ وجَلّ[43]. وفي بعض التعبيرات في المسند وصحيح مسلم: «لو استعمل عليكم عبد...». وقد رواه في المسند عن العيزار بن الحريث عم أمّ الحصين الأحمسية أيضاً[44].

 

وزعم الدلالة بلحاظ أنّ التأمير واستعمال العبد عبارة أخرى عن تولية العبد ولايةً، فيدلّ الحديث على مشروعية ولايته ووجوب الإطاعة لأوامره.

 

لكن فيه أنّ التأمير والاستعمال عبارة أخرى عن تولية العبد من ناحية من هو فوقه كما هو المرسوم في جعل العمّال والولاة والأمراء من جانب وليّ أمر الأمّة، كما ولّى أمير المؤمنين (عليه السلام) مالكاً على مصر، فالحديث متعرض لهذه الولايات الفرعية ولا يعمّ الولاية الكبرى، وتصدّيه لهذه الولايات الفرعية لا دليل على عدم جوازه، بل مقتضى إطلاق أدلّة ولاية وليّ الأمر أنّه لا بأس به. هذا مضافاً إلى عدم اعتبار سنده.

 

فالمتحصل: أنّ مقتضى الأدلّة اعتبار الحريّة في ولي الأمر زمن الغيبة.

 

فهذه الشرائط الاثنا عشر قد قام الدليل على اعتبارها في وليّ الأمر زمن الغيبة. وهنا أمور أخر ريما أمكن أن يقال باعتبارها لابدّ من التعرّض لها.

 

ـــــــــــــ

 

[1] البقرة: 247.

 

[2] الدراسات: ج1 ص321.

 

[3] يوسف: 55.

 

[4] القصص: 26.

 

[5] النمل: 39.

 

[6] النحل: 76.

 

[7] الأحزاب: 6.

 

[8] المائدة: 67.

 

[9] المائدة: 3.

 

[10] الكافي: ج1 ص203 الحديث2.

 

[11] راجع ج 1 ص312 المقام الأول مع فصوله الإثني عشر.

 

[12] يونس: 35.

 

[13] قد تقدّمت في ص 120 و203 من الكتاب.

 

[14] الكافي: ج1 ص407 الحديث8، وقد تقدّم ذكرها في ص 177 و215 وة234.

 

[15] نهج البلاغة الخطبة 173 ص 247، وقد تقدّم ذكرها في ص217 و251.

 

[16] الاحتجاج: ج1 ص73، وقد تقدّم ذكرها في ص228.

 

[17] قد مضى في ص 226.

 

[18] الذخيرة: ص429 و436.

 

[19] الذخيرة: ص429 و436.

 

[20] التذكرة: ج9 ص394.

 

[21] الذخيرة: ص437.

 

[22] البقرة: 247.

 

[23] الصافات: 147.

 

[24] البقرة: 124.

 

[25] الكافي: ج1 ص174 الحديث 1، وقد تقدّم ذكره في ص 150.

 

[26] الكافي: ج1 ص175 الحديث2.

 

[27] المائدة: 3.

 

[28] البقرة: 124.

 

[29] الكافي: ج1 ص198 الحديث1.

 

[30] إكمال الدين: ص 675 الحديث31، العيون: ج1 ص216 الحديث1، معاني الأخبار: ص96، الأمالي: 774، عنها البحار: ج 25 ص 120 الحديث4.

 

[31] الكافي: ج1 ص175 الحديث4.

 

[32] الأحزاب: 6.

 

[33] المائدة: 55.

 

[34] الذخيرة: 429.

 

[35] التذكرة: ج9 ص393.

 

[36] النحل: 75.

 

[37] التهذيب: ج7 ص 340 الحديث23، الاستبصار: ج3 ص 207 الحديث10، عنهما الوسائل: الباب 64 من أبواب نكاح العبيد والإماء ج 14 ص 575 الحديث8.

 

[38] التهذيب: ج7 ص 247 الحديث: 50، الاستبصار: ج2 ص 214 الحديث1، ومن لا يحضره الفقيه: ج3 ص541 الحديث4860، عنها الوسائل: الباب45 من أبواب مقدّمات الطلاق ج 15 ص 343 الحديث1.

 

[39] التهذيب: ج7 ص247 الحديث52، الاستبصار: ج3 ص 215 الحديث 3، عنهما الوسائل: الباب 66 من أبواب نكاح العبيد والإماء ج 14 ص 576 الحديث2.

 

[40] الكافي: ج6 ص 168 الحديث2. التهذيب: ج 7 ص 248 الحديث 54، الاستبصار: ج2 ص 216 الحديث6، عنها الوسائل: الباب66 من أبواب نكاح العبيد والإماء ج 14 ص 577 الحديث4.

 

[41] التهذيب: ج5 ص 200 و 482 الحديث 4و 359، الاستبصار: ج2 ص 262 الحديث 1، عنهما الوسائل: الباب 2 من أبواب الذبح ج 10 ص 89 الحديث 3.

 

[42] الدراسات: ج1 ص 372.

 

[43] مسند أحمد: في مواضع عديدة منها في ج6 ص 402 حديث أمّ الحصين الأحمسية، صحيح مسلم: كتاب الإمارة ج 12 ص 225.

 

[44] نفس المصدر.

 

 

 

احدث الاخبار

الاكثر قراءة