Skip to main content

الدرس الحادي والسبعون: الاستدلال لإثبات ولاية الفقيه بالروايات (القسم الثاني) مرسلة تحف العقول

التاريخ: 14-07-2011

الدرس الحادي والسبعون: الاستدلال لإثبات ولاية الفقيه بالروايات (القسم الثاني) مرسلة تحف العقول

قال الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرّاني: ومن كلامه ـ يعني من كلام أبي عبد الله الحسين (عَليهِ السَّلام) ـ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويروى عن أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام): «اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه، من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ﴾[1] وقال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ ­ إلى قوله ­ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾[2]

قال الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرّاني: ومن كلامه ـ يعني من كلام أبي عبد الله الحسين (عَليهِ السَّلام) ـ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويروى عن أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام): «اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه، من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ﴾[1] وقال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ ­ إلى قوله ­ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾[2]. وإنما عاب الله ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك، رغبةً في ما كانوا ينالون منهم ورهبةً ممّا يحذرون والله يقول: ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾[3] وقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾[4] فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلّها هيّنها وصعبها، وذلك لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاءٌ إلى الإسلام مع ردّ المظالم ومخالفة الظالم وقسمة الفيء والغنائم وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها.

 

ثم أنتم أيّها العصابة، عصابةٌ بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وبالله في أنفس الناس مهابة، يهابكم الشريف ويكرمكم الضعيف، ويؤثركم من لا فضل لكم عليه ولا يد لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلابها، وتمشون في الطريق بهيبة (بهيأة ـ خ ل) الملوك وكرامة الأكابر، أليس كل ذلك إنّما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحق الله وإن كنتم عن أكثر حقّه تقصّرون، فاستخففتم بحق الأئمة، فأما حق الضعفاء فضيّعتم، وأما حقّكم  بزعمكم فطلبتم، فلا مالاً بذلتموه، ولا نفساً خاطرتم بها للذي خلقها، ولا عشيرةً عاديتموها في ذات الله أنتم تتمنون على الله جنته ومجاورة رسله وأماناً (وأمانةً ـ الوافي) من عذابه. لقد خشيت عليكم أيها المتمنون على الله أن تحل بكم نقمة من نقماته، لأنكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضلتم بها ومن يعرف بالله لا تكرمون، وأنتم بالله في عباده تكرمون، وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذمة رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) محقورة (مخفورة ـ خ ل)[5] والعُمي والبكم والزَمنى في المدائن مهملة لا تَرحمون، ولا في منزلتكم تعملون، ولا مَن عمِل فيها تعنون (تعينون ـ خ ل) وبالادّهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون، كلّ ذلك ممّا أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون.

 

وأنتم أعظم الناس مصيبةً لما غُلِبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون (لو يسعون ـ خ ل) ذلك بأن مجاري الأمور الأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سُلبتم ذلك إلاّ بتفرّقكم عن الحقّ واختلافكم في السنّة بعد البيّنة الواضحة، ولو صبرتم على الأذى وتحمّلتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع، ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم، واستسلمتم أمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات سلّطهم على ذلك فراركم من الموت وإعجابكم بالحياة الّتي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبدٍ مقهور، وبين مستضعفٍ على معيشة مغلوب، يتقلّبون في الملك بآرائهم (بآرائكم ـ خ ل) ويستشعرون الخزي بأهوائهم، إقتداءاً بالأشرار وجُرأةً على الجبّار في كل بلد منهم على منبره خطيب يصقع (مسقع ـ خ ل)[6] فالأرض لهم شاغرة[7]، وأيديهم فيها مبسوطة. والناس لهم خَوَلٌ[8]، ولا يدفعون يدَ لامس، فمن بين جبار عنيد وذي سطوة على الضعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدئ المعيد.

 

فيا عجباً ومالي لا أعجب؟! والأرض من غاشٍّ غشوم[9]، ومتصدّق ظلوم، وعاملٍ على المؤمنين بهم غير رحيم، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه في ما شجر بيننا.

 

اللهم إنّك تعلم أنه لم يكن ما كان منّا متنافساً في سلطان ولا التماساً من فصول الحصام (الخصام ـ الوافي)[10] ولكن لنُريَ (لثرى ـ الوافي) المعالم من دينك، ونظهر (يظهر ـ الوافي) الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك، فأن لم تنصرونا (فإنكم إن لا تنصرونا ـ الوافي) وتنصفونا قويَ الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيّكم، وحسبنا الله وعليه توكّلنا وإليه أنبنا وإليه المصير[11].

 

فهذا الحديث الشريف فيه دلالة واضحة على أن لفقهاء الإسلام العدول، بل عليهم أن يقوموا ويسعوا لأن يتولوا إدارة أمر المجتمع الإسلامي إحياء للدين الحنيف، وذلك أنّ المخاطب لهذه الكلمات الشريفة كما يظهر بوضوح من التأمل في مفادها من أوّلها أنه (عَليهِ السَّلام) نصّ أولاً على سوء فعل أحبار أهل الكتاب وهم علماؤهم لأنهم رأوا من الظلمة المنكر والفساد وسكتوا عن النهي عن المنكر رغبةً في الدنيا، وبعده خاطب المخاطبين بقوله: «ثم أنتم أيّها العصابة، عصابةٌ بالعلم مشهورة» فلا محالة هم علماء يهابهم ويكرمهم شريف الناس وضعيفهم لأنهم علماء الدين ولذلك قال لهم «وبالله في أنفس الناس مهابة» وكان الناس يرجون منهم القيام بحق الله، فهم مع أنهم علماء إلاّ أنهم ـ كما صرح الإمام به ـ كانوا عن أكثر حقّ الله مقصّرون، ولذلك خشي عليهم أن تحلّ بهم نقمة من نقماته لأنهم بلغوا من كرامة الله منزلة فُضلوا بها وهم ومع ذلك لا يفزعون لمنقوضية عهود الله ولا لمحقورية ذمة رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) بل هم بالمصانعة والإدهان عند الظلمة يأمنون.

 

وبالجملة: فلا ينبغي الريب في أنّ هؤلاء العلماء هم علماء الإسلام الذين لم يقوموا مقام العمل بوظيفتهم الإلهية، فتوهّم أن المراد بالعلماء في أثناء الكلام الأئمة المعصومين (عليهم السَّلام) ممنوعة جدّاً.

 

فهو (عَليهِ السَّلام) بعد هذه الكلمات في هؤلاء خاطبهم بقوله: «وأنتم أعظم الناس مصيبةً لما غُلِبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون (تسعون ـ خ ل) ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سُلبتم ذلك إلاّ بتفرّقكم عن الحقّ ... ولو صبرتم على الأذى وتحمّلتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع» فخاطبهم ووبّخهم بأنهم أعظم مصيبة من جميع الناس لأنهم لو كانوا يسعون لغلبوا على منازل العلماء ـ هذا بناءً على قراءة «غلبتم» فعلاً معلوماً ـ أو لأنهم صاروا مغلوبين غلب عليهم الظلمة الطواغيت وأخذوا منهم منزلةً هي للعلماء لو كانوا يسعون، فبعد هذا التقريع والتوبيخ بيّن علّة هذا الذي أفاد بقوله (عَليهِ السَّلام): «ذلك بأنّ...» فلا ريب في أن المراد منه أن مجاري جميع أمور الناس ومجاري الأحكام التي يقضى بها في المحاكم الإسلامية لابدّ وأن تكون على أيدي العلماء بالإسلام وبما أراده الله تعالى، العلماء العدول الذين هم أمناء على حلال الله وحرامه، فإذا كان هذا هو ما أراده الله من العلماء العدول فلابدّ عليهم ولا مفرّ لهم إلاّ أن يقوموا مقام إجراء ما أراده الله منهم، وإن قصّروا صاروا أعظم الناس مصيبة كما خاطبهم به ووبّخهم على تقصيرهم صدراً وذيلاً.

 

 فالحديث يدل على أن القيام بتولي أمور المجتمع وظيفة على الفقهاء العدول فعليهم أن يسعوا إلى تحصيله، لكنّه لا ريب في أن الهدف هو أن يقوم فقيه عادل أمين بهذا الأمر، فإذا قام أحد جامع للشرائط به فقد حصل مطلوب الله تعالى وسقط الوجوب عن الباقين، ولذلك كان واجباً كفائياً.

 

فإن قلت: إن قوله (عَليهِ السَّلام) في آخر هذا الكلام الشريف: «اللهم إنّك تعلم أنه لم يكن ما كان منّا...» لا سيما قوله خطاباً لهم: «فأن لم تنصرونا وتنصفونا قويَ الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيّكم...» دليل على أنه نفسه (عَليهِ السَّلام) قام مقام آخذ تولي الغاصبين ومقام تولي إدارة المجتمع، ولذلك طلب منهم نصرته لئلا يطفأ نور نبي الإسلام (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم).

 

وقد مرّ أن مع قيام الإمام المعصوم (عَليهِ السَّلام) لا ولاية لغيره ولو كان من الفقهاء على الأمة، وبذلك ناقشتم دلالة صحيحة عبد الله بن ميمون والنبوي السابق على تجويز ولاية الفقهاء، فدلالة هذا المرسل أيضاً مخدوشة.

 

قلت: نعم مع حضور المعصوم (عَليهِ السَّلام) وقيامه مقام تصدي إدارة أمور المجتمع لا ولاية لغيره أصلاً إلاّ ولاية جزئية تحت أمره وبتوليته، إلاّ أنه لا ريب في أن ما سبق على هذا الذيل ممّا خاطب به العلماء فيه دلالة واضحة على أنه لابد وأن يقوم العلماء إلى تولّي أمر المجتمع ويسعوا لتحقّقه، وأن اللازم عليهم أن يمنعوا الظلمة من التسلط على أمر الأمة وأن يكون العلماء بحيث أمور الله عليهم ترد وعنهم تصدر وإليهم ترجع، وحينئذٍ فمقتضى التأمل في صدر الكلام وفي هذا الذيل مع العناية إلى ما قدمناه ذيل صحيحة القدّاح أنه مع حضور المعصوم وقيامه لتولّي أمور الأمة أو إمكان قيامه له فليس لأحد أن يتولى إدارة أمور الأمة، وأمّا مع عدم قيامه أو عدم إمكان قيامه فعلى الفقهاء العدول أو يقوموا لتصدّي إدارة أمور الأمة.

 

 بل بهذا البيان تعرف أن الحديث لا يدل على فعلية ولاية الفقهاء حتى يستشكل أن فعلية ولاية جميعهم غير معقولة، بل كما مرّت الإشارة إليه إنّما يدلّ الحديث على وجوب أن يقوم الفقهاء ويسعوا لأن يتصدوا إدارة أمور الأمة وجوباً كفائياً لأن يتحقق الهدف الأصيل منه ـ أعني فعلية تصدي أمور المجتمع بفقيهٍ جامع للشرائط ـ وإذا حصل هذا الهدف سقط الوجوب لأنه مقتضى كون الوجوب كفائياً، فمدلول الحديث أحسن مدلول، ويدلّ على أن على العلماء أن يسعوا لتحصيل هذه الولاية، وعلى أنّ لهم تصدّي هذا المقام بلا لزوم أي محذور أصلاً، فدلالة الحديث على المطلوب تامة.

 

وأما سنده فقد عرفت أنه مرسل، إلاّ أنه مع ذلك فيمكن إثبات اعتباره:

 

وذلك أن مؤلف الكتاب ثقة معتمد عليه، فقد وصفه صاحب الوسائل في الفائدة الرابعة من خاتمة كتابه بالشيخ الصدوق ، وله ترجمة في رياض العلماء وروضات الجنات وأمل الآمل وتنقيح المقال وغيرها، ووصف بأنه عالم فاضل فقيه محدث جليل وأنه عاصر الشيخ الصدوق وتوفي سنة 381 وعن الذريعة (ج3 ص400) يروي هو عن أبي علي محمد بن همام البغدادي الثقة الجليل القدر الذي توفى في سنة 336 ويروي عنه الشيخ المفيد. فالمؤلف من فقهائنا المحدثين ثقة جليل القدر.

 

وقد قال المحدث الحر العاملي ـ كما عن أمل الآمل ـ: إن كتابه «تحف العقول» حسن كثير الفوائد مشهور. وكما عن صاحب الروضات أن كتابه «تحف العقول» معتمد عليه عند الأصحاب. وكما عن الكنى والألقاب للمحدث القمي (ج1 ص318) عن الشيخ الجليل العارف الربّاني الشيخ حسين بن صادق البحراني في رسالته في الأخلاق والسلوك إلى الله: أن شيخنا المفيد ينقل عن هذا الكتاب وهو كتاب لم يسمح الدهر بمثله. فكتابه التحف أيضاً معروف معتمد عليه عند الأصحاب.

 

فهذا العالم الثقة الجليل قال في مقدمة كتابه هذا بشأن ما في الكتاب مقالاً يدل على أن رواياته وإن كانت مرسلة إلاّ أنها مع ذلك قد رواها الثقات. فقد قال في مقدمة الكتاب بعد بيان الحاجة إلى كتاب يشتمل على ما في هذا الكتاب من روايات محتوية على مواعظ شافية ترغّب في ما يبقى وتزهّد عما يفنى وأنه لم ينته إليه من علماء الشيعة كتاب بهذا الشأن ولذلك جمع ما في هذا الكتاب فبعد ذلك قال ما نصّه: «وأسقطت الأسانيد تخفيفاً وإيجازاً وإن كان أكثره لي سماعاً، ولأن أكثره آداب وحكم تشهد لأنفسها» ثم قال: «فتأملوا معاشر شيعة المؤمنين ما قالته أئمتكم (عليهم السَّلام) وندبوا إليه وحضّوا عليه، وانظروا إليه بعيون قلوبكم... ولا تكونوا كأنداكم الذين يسمعون الحجج اللازمة والحِكم البالغة صفحاً... بل خذوا ما ورد إليكم عمّن فرض الله طاعته عليكم وتلقّوا ما نقله الثقات عن السادات بالسمع والطاعة والانتهاء إليه والعمل به وكونوا من التقصير مشفقين وبالعجز مقرّبين»[12].

 

فكما ترى قد صرح أن هذه الروايات كانت عنده مسندة بل أكثرها كان له بها سماع، وأسقط أسانيدها إيجازاً، وبالأخير أمر معاشر الشيعة في مقام الترغيب بالعمل بما في الكتاب بقوله: «وتلقّوا ما نقله الثقات عن السادات بالسمع والطاعة» فقد وصف ما أرسله في كتابه هذا من الروايات بأنه «نقله الثقات عن السادات» وهو شهادة واضحة منه بأن رواة هذا الأحاديث ثقات، وهي شهادة إجمالية بأن الرواة معتبرة في نقلهم لها، فلا محالة يكون مراسل الكتاب معتبرة السند، والحمد لله على كل حال.

 

(الرواية الرابعة) التوقيع المبارك:

 

فقد روى الشيخ في كتابه الغيبة ـ في ظهور المعجزات الدالة على صحّة إمامة صاحب الأمر (عَليهِ السَّلام) في زمن الغيبة ـ بقوله: أخبرني جماعة عن جعفر بن محمد بن قولويه وأبي غالب الزراري وغيرهما عن محمد بن يعقوب الكليني عن إسحاق ابن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري (رحمه الله) أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الدار (صاحب الزمان ـ خ ل) (عَليهِ السَّلام): أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا فاعلم أنه ليس بين الله عز وجل  وبين أحد قرابة، ومن أنكرني فليس مني وسبيله سبيل ابن نوح... وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليكم، وأما محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) وعن أبيه من قبل فإنه ثقتي وكتابه كتابي... وأكثروا الدعاء بتعجل الفرج فإن ذلك فرجكم، والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى من اتبع الهدى[13].

 

ورواه الصدوق في الجزء الثاني من كمال الدين ـ في باب ذكر التوقيعات الواردة عن القائم (عَليهِ السَّلام) ـ بقوله: حدثنا محمد بن محمد بن عصام الكليني (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه)... وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فأنّهم حجّتي عليكم وأنا حجة الله عليهم...[14].

 

ورواه الطبرسي في الاحتجاج عن محمد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري (رحمه الله) ... وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله...[15].

 

وأخرجه الوسائل عن الكتب الثلاثة في أبواب صفات القاضي[16].

 

والكلام تارة في سند الحديث وأخرى في دلالته.

 

أما سنده فسند الشيخ فيه إلى إسحاق بن يعقوب صحيح، فإن الجماعة الذين روى عنهم عن ابن قولويه فيهم المفيد والحسين بن عبيد الله وأحمد بن عبدون على ما صرح به نفسه في ترجمة ابن قولويه، ومن المعلوم وثاقة الشيخ المفيد ولا مغمز من أحدٍ في الحسين بن عبيد الله الغضائري ولا في ابن عبدون، ويظهر من كلام العلامة وثاقتهما، كما أن جعفر بن محمد بن قولويه أستاذ الشيخ المفيد، وقال فيه النجاشي: «كل ما يوصف به الناس من جميل وثقة وفقه فهو فوقه» ومحمد بن يعقوب الكليني (رحمه الله) فوق الوثاقة.

 

وسند كمال الدين فيه محمد بن محمد بن عصام الكليني الذي لم يصرح بوثاقته إلاّ أنه من مشايخ الإجازة. وقال فيه الصدوق في مشيخة الفقيه: «وما كان فيه عن محمد بن يعقوب الكليني رحمة الله عليه فقد رويته عن محمد بن محمد بن عصام الكليني وعلي بن أحمد بن موسى ومحمد بن أحمد السناني رضي الله عنهم عن محمد بن يعقوب الكليني. وكذلك جميع كتاب الكافي، فقد رويته عنهم عنه عن رجاله»[17] فهو من مشايخ الصدوق قد روى له جميع كتاب الكافي وقد ترضى عنه صريحاً، والظاهر أنه كاف في ثبوت وثاقته وجواز الاعتماد عليه.

 

نعم إسناد الطبرسي الذي هو من علماء القرن السادس إلى محمد بن يعقوب الكليني المتوفى سنة 329 مجهول لا اعتماد عليه.

 

فكيف كان، فسند الصدوق والشيخ (قدس سرهما) إلى إسحاق بن يعقوب صحيح معتبر وأما إسحاق نفسه فلم يرد فيه في كتب الرجال توثيق ولا قدح، نعم ورد فيه في آخر هذا التوقيع المبارك: «والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى من اتبع الهدى» وعنايته (عَليهِ السَّلام) بالسلام عليه كاشفة عن علو مكانته عنده (عَليهِ السَّلام) حتى خصّه بالسلام عليه، لكن التوقيع مروي من نفسه، والمفروض عدم ثبوت وثاقته. اللهم إلاّ أن يقال: إن رواية الكليني العظيم عنه لهذا التوقيع ونقل ابن قولويه ـ الذي هو فوق كل فقيه وثقة وجميل للناس ـ لهذه الرواية ونقل هؤلاء الجماعة العلماء العظام عنه لها كاشف عن اعتنائهم بهذا التوقيع المبارك، فهذا كلّه مع متانة متنه يكشف عن اعتناء الأعلام من الفقهاء والمحدثين القدماء به وبتوقيعه، بحيث رأوه أهلاً وصادقاً في نقل التوقيع، وأهلاً أيضاً لأن يكتب إليه صاحب الأمر توقيعاً طويلاً، فلا يبعد ثبوت وثاقته بل أعلى من مجرد الوثاقة، بل هو كما قال المحدث الأستر آبادي في ترجمته بعد ذكر الفقرة الأخيرة من توقيعه: «وقد يستفاد مما تضمّنه علو رتبة الرجل». فالتوقيع معتبر الإسناد.

 

وأما الدلالة فيما يمكن الاستدلال به لمطلوبنا فقرتان:

 

(الفقرة الأولى) قوله (عَليهِ السَّلام): «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا» ببيان أن الحوادث الواقعة عامة لكل أمر حديث يتحقق ويحتاج إلى السؤال فيه، وهو شامل لموضوع كلي حديث لا يعلم حكمه مثل ركوب الطائرة أو السيارة وحفر الآبار العميقة ونحوها فيسأل عن جوازها شرعاً، وشامل أيضاً لموضوع حادث يحتاج إلى أخذ التصميم فيه وهو من الأمور التي لابد من التصميم فيه لإدارة أمر البلاد والمجتمعات فقد أمر (عَليهِ السَّلام) بالرجوع في جميعها إلى رواة حديثهم. ورواة الحديث وإن كان بمعناه اللفظي المطابقي من ضبط الحديث الشامل للقول والفعل بل والتقرير، ولذلك ربما يستشكل دلالته على مرجعية الفقهاء الذين ملاك الصدق عنوان الفقيه عليهم إنّما هو دركهم لمفاد الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، وهو غير مسألة ضبط الحديث، إلاّ أنه لا يبعد دعوى أن ظاهر الإرجاع في تبيين أمر الحوادث إلى رواة الحديث أنّهم لمكان روايتهم لأحاديثهم (عليهم السَّلام) عالمون بالأحكام التي ألقوها إلى الناس في قالب الأحاديث، فرواية الأحاديث طريق عرفي للعلم بمفادها، فرواة الأحاديث عبارة أخرى عن العلماء بمفادها، فعنوان رواة الأحاديث عبارة أخرى عن الفقهاء بالأحكام المدلول عليها بهذه الأحاديث بل وبملاحظة سائر مراجع استنباط الأحكام فرواة حديثهم هم الفقهاء من أهل الحق التابعون في أخذ الشرع للأئمة (عليهم السَّلام) ـ أعني فقهاء الشيعة ـ.

 

فالحاصل: أنه (عَليهِ السَّلام) قد أمر الشيعة بأن يرجعوا في استفتاء الأحكام وفي أخذ العزم المقتضي بالنسبة إلى أمور البلاد والمجتمعات إلى فقهائهم، وهو دال على اعتبار تصميمهم في القسم الثاني أيضاً، وهو عبارة أخرى عن أن لهم أخذ العزم المناسب لما يحدث من الأمور المختلفة، فلهم ولاية الأمر على الأمة كما أن فتواهم أيضاً حجة مقبولة.

 

لكن الحق أن جوابه (عَليهِ السَّلام) لما كان صادراً في مقام حل المشكلات التي كتبها إسحاق بن يعقوب في كتابه إليه فكل ما يذكره في هذا الجواب المكتوب إشارة إلى ما كتبه إسحاق إليه، ولهذا فالحوادث الواقعة أيضاً ناظرة قطعاً إلى ما ذكره السائل، وحينئذ فحيث يحتمل أن تكون الحوادث المكتوبة منه في السؤال خصوص الحوادث الكلية التي لم يعلم حكمها بأن كان قد كتب إليه: أنا إذا حدث لنا أمر جديد لم نبتل بمثله بعد فما لا نعلم حكمه فما وظيفتنا في الوقوف بحكمه؟ فإذا كتب إليه: «وأما الحوادث الواقعة...» فاللام المذكورة لام العهد، ويكون الظاهر منه خصوص تلك الحوادث الكلية المجهولة الحكم لا يعم القسم الآخر، فإذا كما نحتمل اختصاص سؤاله بخصوص هذه الحوادث فلا محالة لا ينعقد له ظهور في العموم فيسقط عن الاستدلال، فالاستدلال بالفقرة الأولى غير تام.

 

(الفقرة الثانية) قوله (عَليهِ السَّلام) في مقام الاستدلال لإثبات ما أفاده في الفقرة الأولى من قوله (عَليهِ السَّلام): «فأنهم حجّتي عليكم، وأنا حجة الله عليكم» كما في الغيبة أو «وأنا حجة الله عليهم» كما في كمال الدين، أو بلا زيادة كما في الاحتجاج.

 

وبيان الاستدلال به: أن الحجة ـ كما في المصباح المنير ـ هو الدليل والبرهان، والجمع صحيح، مثل غرفة وغرف، وحاجّه محاجّة، فحجّه بحجّه ـ من باب قتل ـ: إذا غلبه في الحجّة. فاستدل (عَليهِ السَّلام) لتثبيت وجوب الرجوع إليهم بأنهم دليله وبرهانه على الشيعة ومن بهم يحتج عليهم، ثم إنه (عَليهِ السَّلام) أضاف لفظ «حجّة» إلى ياء المتكلم حتى صار المعنى أن الفقهاء حجة الإمام (عَليهِ السَّلام) على الشيعة، وهذه النسبة إلى نفسه إنّما تناسب أن يكون الفقهاء حججاً في ما يرتبط بالإمام (عَليهِ السَّلام) وما يكون من وظائفه واختياراته. ويعرف بأدنى تأمّل أن من وظائفه (عَليهِ السَّلام) واختياراته تولّي إدارة أمور المجتمع والبلاد الذي يجب على الناس رعاية ما يراه مصلحة لهم، كما أن من وظائفه بيان الأحكام الإسلامية والنظارة لأدائها من الناس، بحيث إن لم يطيعوا فله أن يؤدبهم تعزيراً أو حدّاً. وحينئذ فإذا كان الفقهاء حجته يحتج بهم على الناس كان معناه أنهم أيضاً إذا رأوا أن اللازم إدارة أمور الناس بتلك الكيفية في أي مورد كان فرأيهم هذا معتبر على الناس يجب عليهم إتباعه، وهو كرأي الإمام (عَليهِ السَّلام) نفسه. وليس لأحد الاعتذار في عدم الاعتناء به بأنه كان لا يعلم رأي الإمام الذي هو ولي أمر الأمة، فان الفقيه حجّة الإمام ورأيه معتبر عنده ويحتج به عليهم. وهكذا إذا أجاب الفقيه حكم حادثة الإمام ورأيه معتبر عنده ويحتج به عليهم. وهكذا إذا أجاب الفقيه حكم حادثة فأفتى بتكليف به إلزامي كان جوابه طريقاً وحجّة يحتج به على من لم يعتن به وخالفه.

 

وبالجملة: فإطلاق قوله (عَليهِ السَّلام) في مقام التعليل: «فإنهم حجّتي عليكم» يقتضي اعتبار ما أبرزه الفقيه في إطار الحكم الشرعي الذي استنبطه من الأحاديث والأدلة أو في إطار ما يراه مصلحة الناس في إدارة أمر المجتمع والبلاد. ولا ينبغي الريب في أن العلة عامة يجب الأخذ بعمومها، ولا فرق في كون مدلولها العموم بين أن يكون المراد بالحوادث العموم أو خصوص الحوادث الواقعة المجهولة الحكم التي يكون الرجوع إلى الفقهاء للاستفادة عن حكمها الشرعي، فإن العبرة بعموم التعليل الذي لا ينافيه خصوص المعلل.

 

ومنه تعرف ضعف الإيراد على هذا الاستدلال بأن المراد بالحوادث ـ بقرينة لام العهد أو كونه القدر المتيقن ـ هو خصوص الحوادث المجهولة الحكم لا ما يعم أو يختص الحوادث الجزئية إلى أمرها إلى ولي الأمر كما في الدراسات[18]. فإنه إنّما يوجب ضعف الاستناد إلى عموم الحوادث، وقد عرفت أنا أيضاً استضعفناه إلاّ أنه كما مرّت إليه الإشارة لا ينافي عموم التعليل الذي هو الآن محل الاستشهاد.

 

وأورد عليه في الدراسات أيضاً بقوله: إن الظاهر من الحجية أيضاً هو الاحتجاج بالنسبة إلى كشف الأحكام الكلية الواقعية وتعليل الإمام (عَليهِ السَّلام) بكونهم حجّتي عليكم لعلّه من جهة أنه (عَليهِ السَّلام) هو المأمور أولاً ببيان أحكام الله تعالى، والفقهاء نواب عنه في ذلك[19].

 

والجواب عنه منع الاستظهار المذكور، كيف والحجة كما عرفت بمعنى البرهان والدليل، وإضافتها إلى ياء المتكلم لا تقتضي أزيد من ارتباطه بالأمور المرتبطة إليه (عَليهِ السَّلام)، وقد مر أن من أوضح مصاديق هذه الأمور النظرات التي تبرز في إدارة أمور المجتمع بالنحو الأصلح، فلا محالة هو (عَليهِ السَّلام) يحتج بالفقهاء على الشيعة إن لم يأخذوا آراءهم فيها أو لم يطيعوهم فيها.

 

وما قد يرى في بعض الكتب أو يسمع من بعض الأفواه من أن «حجّتي» بمعنى «وكيلي» وتنصرف وكالتهم عنه (عَليهِ السَّلام) إلى خصوص الجواب عن الحوادث الواقعة التي أمر في الفقرة المتقدمة بالرجوع إليهم، وحيث احتمل اختصاصها بالحوادث الكلية المجهولة الحكم فهذه الفقرة التعليلية أيضاً لا تدل على الوكالة في أزيد منها ممنوع جداً فإنه لو سلّم الانصراف في لفظة «وكيلي» فلا مجال لتفسير الحجّة بالوكيل، بل إن معناها البرهان والدليل، ولا وجه لدعوى الانصراف فيه.

 

ثم أورد أيضاً على استفادة ثبوت الولاية لجميع الفقهاء بأنه قد مرّ الإشكال في مقام الثبوت بأن جعل الولاية الفعلية لجميع الفقهاء في عصرٍ واحدٍ قابل للخدشة[20].

 

والحق أن المستفاد من قوله (عَليهِ السَّلام): «فإنهم حجّتي عليكم» أن الفقهاء قبل أن يرجع الناس إليهم كلهم ـ بالاستغراق والعموم الاستغراقي ـ أي كل واحدٍ منهم حجة على الشيعة والناس، فلا ينبغي الريب في دلالة الجواب على أنّ هذه الحجية ثابتة لهم، وبما أنه تعليل لأمره بالرجوع إليهم فحجية واعتبرا آرائهم هي الموجبة لوجوب الرجوع إليهم، فاعتبار آرائهم وتصميماتهم في إدارة أمر البلاد والمجتمعات ثابت قبل رجوع الناس إليهم، لا أن الرجوع إليهم أوجب اعتبار تصميماتهم، إلاّ أن فعلية الولاية إن أريد بها تحققها الخارجي الذي هو عبارة أخرى عن تصدي إدارة أمور المجتمع وإعمال الولاية فيها فهي لم تحصل إلاّ بعد التصدي، لكن عدم حصولها لا يقتضي عدم حصول الولاية بمعنى آخر وهو ثبوت الاعتبار للتصميمات التي يتخذها الفقهاء في هذه الموارد، فهذا الاعتبار ثابت للتصميمات التي يمكن أن يتخذها. وإن أريد من فعلية الولاية مجرّد هذا الاعتبار فالولاية الفعلية ثابتة لهم.

 

وإن شئت توضيحاً أزيد نقول: كما أن الولاية بالفعل ثابتة للأئمة المعصومين (عليهم السَّلام) بمعنى اعتبار تصميماتهم في أي مورد من الموارد الجزئية لكنه لا ينافي عدم كون إدارة أمور الناس خارجاً تحت أيديهم بل وقوعها تحت أيديهم موقوف على حضور الناس وإعلام الانقياد لهم (عليهم السَّلام) فهكذا الأمر في مورد الفقهاء، فقد قال أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) في آخر الخطبة الشقشقية: «أمّا والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها»[21]. فلا ريب في أن ولايته (عَليهِ السَّلام) فعلية بمعنى اعتبار تصميماته المأخوذة شرعاً، بل لا اعتبار في الشرع إلاّ لخصوص تصميماته، ومع ذلك لم تقع الأمور بعد تحت يده في الخارج. وبهذا المعنى يمكن أن يقال: إن ولايته ليس بفعلية، فهكذا الأمر في الفقهاء هنا فإنهم حجّته (عَليهِ السَّلام) بالفعل ويحتجّ على الناس بوجودهم وحضورهم ويؤاخذهم إن لم يرجعوا إليهم، إلاّ أنه مع هذه الحجية الفعلية لم يقع أمر المجتمع الإسلامي بمجرد هذه الحجّية تحت أيديهم ولا تكون ولايتهم فعلية بهذا المعنى، فعلى الناس أن يرجعوا إلى الفقهاء التي تكون نظرياتهم حجّة ومعتبرةً شرعاً، ويكون حضورهم موجباً لقيام الحجة عليهم ولحصول فعلية الولاية لهم بالمعنى الآخر.

 

فالحاصل: أن أصل الولاية ثابت لهم شرعاً، ويكفي في ثبوتها لهم نفس الفقاهة مع توفر سائر الصفات المعتبرة، ولا حاجة في ثبوت هذه المرتبة إلى رجوع الناس، وثبوت هذه المرتبة لا محذور في ثبوتها لأكثر من واحد، ورجوع الناس إليهم رجوع إلى من هو وليّ بهذا المعنى وإلى من هو حجة للإمام (عَليهِ السَّلام) على الناس، ثم بعد الرجوع تثبت مرتبة فعلية تصدي أمور الناس وثبوت فعلية الولاية بمعنى آخر، وفي هذه المرتبة لابد وأن يكون ولي أمر الأمة واحداً.

 

فالمستفاد من هذا التوقيع ثبوت الولاية الشرعية للفقهاء بمرتبة واقعية شرعية لا يحتاج ثبوتها إلى انتخاب الناس ونصبهم كما مرّ أيضاً بيانه ذيل الخطبة الشقشقية، فتذكر.

 

وأورد عليه في الدراسات أيضا أن المراد بالحوادث التي أرجعها إلى الفقهاء إما بيان الأحكام الكلية وإما فصل الخصومات والأمور الحسبية التي مرجعها القضاة، وأما الحوادث الأساسية المرتبطة الدول فعلى الأولين لا يرتبط الحديث بأمر الولاية، وعلى الثالث فحيث إن حل الحوادث يحتاج إلى إقامة دولة وتحصيل قدرة فيصير مفاد الحديث وجوب الرجوع إلى الفقهاء لتحصل لهم شوكة وقدرة، وهو مناسب لأن يكون حصول الولاية لهم بالانتخاب لا بالنصب الإلهي، مع أن المقصود إثبات ثبوت الولاية لهم بالنصب[22].

 

وفيه: أنك قد عرفت أن الحوادث لم يثبت لها عموم لكي يستدل به لاحتمال اختصاص المراد به غير الأمور المرتبطة بالدول فلا حجّة فيه، وإنما الاستشهاد بالتعليل المدلول به بقوله (عَليهِ السَّلام): «فإنهم حجّتي عليكم». وحينئذٍ فيما أن ظاهر الحديث بل صريحه أن الفقهاء حجّة فعلية له (عَليهِ السَّلام) يحتج بوجودهم وحضورهم على الناس إن لم يرجعوا إليهم أو لم تعتنوا بتصميماتهم وهذه الحجية الفعلية ثابتة لهم وهي الموجبة لوجوب الرجوع إليهم فلا ينبغي الريب أن وجوب الرجوع اليهم معلول كونهم حجّة يحصل بالرجوع اليهم، وهذه الحجية على الناس في هذه الأمور كما عرفت عبارة أخرى عن ثبوت الولاية على أمور الناس بهذه المرتبة كما سبق تقريره.

 

ثم إنه قد يحتمل أو يستظهر من بعض عبارات الشهيد الصدر (قدّس سرّه) أن الحديث المبارك وإن دل على ولاية الفقهاء إلاّ أن غاية مدلوله ثبوت هذا المقام لهم إذا لم يقم الناس بتأسيس دولة إسلامية، وأما إذا قاموا بتأسيسها فلعلّ المرجع في أخذ التصميم بالنسبة إلى الأمور المرتبطة بإدارة المجتمع هو مسؤولو الدولة وإن لم يكونوا من الفقهاء[23].

 

لكنه كما هو واضح مخالف لإطلاق قوله (عَليهِ السَّلام): «فإنهم حجّتي عليكم» فهو (عَليهِ السَّلام) قد جعل المرجع الوحيد للرجوع إليه هو الفقيه وعلّله بهذه العلة، وهو يدل بوضوح على أنّ هذه الحجية ثابتة للفقهاء على الناس مطلقاً ولا محالة، فإذا أقاموا بتأسيس دولة إسلامية فلابدّ أن يكون أخذ التصميم في إدارة أمور البلاد والمجتمع موكولاً إلى خصوص الفقهاء حتى يعمل بمقتضى ما يستفاد من قوله عجّل الله تعالى فرجه الشريف «فإنّهم حجتي عليكم» وبعبارة أخرى أنّ مدلول التعليق مطلق يشمل كلتا الحالتين.

 

فالحاصل: أن التوقيع المبارك معتبر السند وتام الدلالة على ثبوت الولاية للفقيه زمن الغيبة، والحمد لله.

 

ـــــــــــــــــ

 

[1] المائدة: 62.

 

[2] المائدة: 78و79.

 

[3] المائدة: 44.

 

[4] التوبة: 71.

 

[5] في المصباح المنير: خفرت بالرجل ـ من باب ضرب ـ غدرت به.

 

[6] يصقع ويسقع: يصاح ويرفع بصوته، وخطيب مِصقع ـ بكسر الميم ـ بليغ.

 

[7] شغر الأرض: لم يبق فيها من يحميها ويضبطها، فهي شاغرة.

 

[8] الخول: العبيد والخدم والإماء.

 

[9] الغشوم: الظالم.

 

[10] الفصول: الفروع. الحصام: الريح الخارج من الدبر. الخصام: المخاصمة.

 

[11] تحف العقول: ص237، الوافي: ج15 ص 177 ذيل الحديث 17.

 

[12] تحف العقول: ص 3و4 طبع مكتبة الصدوق.

 

[13] الغيبة للطوسي: ص 176 طبعة النجف.

 

[14] كمال الدين: ص 482ـ 484 الحديث 4 طبعة مكتبة الصدوق.

 

[15] الاحتجاج: ج2 ص 542 طبعة الأسوة

 

[16] الوسائل: الباب 11 من أبواب صفات القاضي ج18 ص 101 الحديث 9.

 

[17] من لا يحضره الفقيه: ج4 ص 534 المشيخة.

 

[18] راجع الدراسات: ج1 ص 481.

 

[19] نفس المصدر.

 

[20] الدراسات: ج1 ص 480.

 

[21] نهج البلاغة (صبحي صالح): الخطبة 3 ص 50.

 

[22] الدراسات: ج1 ص 481.

 

[23] ولاية الأمر في عصر الغيبة للسيد الحائري: ص137.

 

 

 

احدث الاخبار

الاكثر قراءة