الدرس الثالث والسبعون: الاستدلال لإثبات ولاية الفقيه بالروايات ـ القسم الرابع
التاريخ: 11-08-2011
(الرواية السابعة) صحيحة عبد الله بن ميمون القدّاح: فقد روى الكليني في أصول الكافي في باب ثواب العالم والمتعلم عن محمد بن الحسن وعلي بن محمد عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى عن أحمد بن محمد جميعاً عن جعفر بن محمد الأشعري عن عبد الله بن ميمون القدّاح، وعلي بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد بن عيسى عن القدّاح عن أبي عبد الله (عَليهِ السَّلام) قال: قال رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم): «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاَ إلى الجنة، وان الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به، وأنه ليستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وأن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظٍّ وافر[1]
(الرواية السابعة) صحيحة عبد الله بن ميمون القدّاح:
فقد روى الكليني في أصول الكافي في باب ثواب العالم والمتعلم عن محمد بن الحسن وعلي بن محمد عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى عن أحمد بن محمد جميعاً عن جعفر بن محمد الأشعري عن عبد الله بن ميمون القدّاح، وعلي بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد بن عيسى عن القدّاح عن أبي عبد الله (عَليهِ السَّلام) قال: قال رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم): «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاَ إلى الجنة، وان الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به، وأنه ليستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وأن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظٍّ وافر[1].
ورواه الصدوق في ثواب الأعمال في باب ثواب طالب العلم عن أبيه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عبد الله بن ميمون القدّاح مثله، إلاّ أن فيه: وأن العلماء ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء...[2].
ورواه في أماليه في المجلس الرابع عشر عن الحسين بن إبراهيم عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عبد الله بن ميمون مثله، بحذف لفظة الواو كما في الكافي[3].
ورواه الصفّار في بصائر الدرجات عن أحمد بن محمد عن الحسين بن السعيد عن حماد بن عيسى عن عبد الله بن ميمون القدّاح عن أبي عبد الله عن أبيه (عَلَيهِما السَّلام) قال: قال رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم)... نحوه، وذيله مثل الكافي[4].
والحديث كما ترى صحيح السند بالإسناد الآخر من الكافي، وإن فرض عدم ثبوت وثاقة جعفر بن محمد الأشعري، كما أن سند ثواب الأعمال وبصائر الدرجات صحيح، وأما سند أمالي الصدوق فهو معتبر إن اكتفي في ثبوت وثاقة الحسين بن إبراهيم بكونه من مشايخ الصدوق وإلا فهو مجهول. فبالجملة الرواية معتبرة السند بل صحيحة.
وقد روى الكليني في أصول الكافي في باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن خالد عن أبي البختري عن أبي عبد الله (عَليهِ السَّلام) قال: إن العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه، فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين[5].
ورواه الصفّار في بصائر الدرجات قال: حدثني أحمد بن محمد عن محمد بن خالد عن أبي البختري، والسندي بن محمد عن أبي البختري مثله، بتبديل «وذاك» بـ«وذلك» وتبديل «لم يورثوا» بـ«لم يورّثوا» وتبديل «أورثوا» بـ«ورّثوا»[6].
وروى المفيد في الاختصاص عن محمد بن الحسين عن محمد بن الحسن بن أحمد عن محمد بن الحسن الصفّار عن السندي بن محمد عن أبي البختري عن أبي عبد الله (عَليهِ السَّلام) مثل ما في البصائر[7].
وأخرجه صاحب الوسائل عن الكافي وبصائر الدرجات، كما أخرجه المستدرك عن الاختصاص[8].
وسند الحديث في جميع المتون إلى أبي البختري معتبر إلاّ أبا البختري ضعيف، فإن عن النجاشي فيه: «روى عن أبي عبد الله (عَليهِ السَّلام) وكان كذاباً» كما عن الشيخ فيه في الفهرست: «ضعيف عامّي المذهب» وعن الكشي عن علي القتيبي عن الفضل بن شاذان «كان أبو البختري من أكذب البرية». فلا محالة سند هذا الحديث ضعيف جدّاً.
ومحل الاستدلال قوله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) في صحيحة القدّاح «وأن العلماء ورثة الأنبياء» ببيان أن العلماء في كلامه هم الذين طلبوا العلم وتعلموه كما ذكر حديثهم وفضلهم في صدر الصحيحة حتى صاروا علماء، ولا ريب أن المراد منهم كما ويشهد له ذيل الحديث: «إن الأنبياء... الخ» هم علماء الدين والعلماء بما جاء به الأنبياء، فلا محالة هم الفقهاء باصطلاح الشيعة فحكم عليهم بأنهم ورثة الأنبياء، والإرث عن أحدٍ إنّما هو انتقال ما كان له إلى الوارث بعد أن مات، ولا محالة يختص الإرث بما يبقى من المورث وكان قابلاً للانتقال إلى غيره. وحيث إن العلماء ورثة الأنبياء فإذا مات الأنبياء فتبقى منهم العلوم والمعارف الإلهية وهي القابلة للإرث والانتقال إلى وارثهم، كما يبقى أيضاً من بعضهم وهم الذين أعطاهم الله الولاية على المجتمع الإنساني كأنبياء أولي العزم الذين أشرفهم نبي الإسلام صلوات الله عليهم، والولاية أيضاً أمر قابل للانتقال إلى الآخرين كما هو أمر ظاهر بين الناس جداَ وكما هو أمر مسلم في الإسلام قطعاً فشمول «الأنبياء» المذكور في الرواية لنبي الإسلام يقتضي أن يرث فقهاؤنا الولاية على المجتمع أيضاً عن النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) بعد موته، فإن من مناصبه التي أعطاها الله إياه هو أنه كان أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فهذا المنصب أيضاً يرثه العلماء بعد موته عملاً بعموم لفظ الأنبياء له وبإطلاق عنوان الإرث منه لها.
وربما يورد على الاستدلال بها لإثبات ولاية الفقيه تارةً بأنّ المحتمل قوّياً أن يراد بالعلماء الأئمة (عليهم السَّلام)، كما ورد عنهم (عليهم السَّلام): «نحن العلماء وشيعتنا المتعلمون وسائر الناس غثاء»[9]، وقد فسر أولو العلم وأهل الذكر وأشباههما الواردة في الكتاب بهم (عَليهِم السَّلام)[10].
إلاّ أن الإنصاف ضعف هذا الإيراد جدّاً، وذلك ـ مضافاً إلى أن هذا التخصيص بهم خلاف ما هو ظاهر المستفاد من هذا المشتق، فإن العلم بمفهومه شامل لكل علم، والمشتق من له العلم، فيعم المعصوم (عَليهِ السَّلام) وغيره ـ أنّ صدر الصحيحة وذيل هذه الفقرة منها شاهدان على أن المقصود من العلماء إنّما هو من يسلك طريقاً يطلب فيه علماً ومن هو طالب العلم، ومن أخذ من العلم الذي بقي من الأنبياء، وهذه العناوين مختصة الشمول بغير المعصومين الذين ليس علومهم اكتسابية. وهكذا الكلام في ظهور خبر أبي البختري، فإنه (عَليهِ السَّلام) بعد ذكر هذه الفقرة وذكر أن ما أبقاه الأنبياء هو أحاديثهم قال: «فمن أخذ بشيٍء منها أخذ حظاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه، فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين...» وحاصل مفاد الجملة الأولى الترغيب إلى القيام لأخذ أحاديث النبي، كما أن مفاد الفقرات الأخر تبيين أن من يجب الأخذ عنه هو خصوص الأئمة (عليهم السَّلام) ومن كان علمه ناشئاً منهم وانضمام هذه الفقرات إلى ما أفاده أولاً بقوله: «إن العلماء ورثة الأنبياء» يوجب ظهور الكلام في أن هؤلاء العلماء المذكورين إنّما هم من اخذوا علمهم عن هذه المناشئ المعتمدة وهم طالبو العلم من عامة الناس غير المعصومين (عليهم السَّلام). وبالجملة: فلا ينبغي الريب في عدم اختصاص المراد من العلماء بالمعصومين (عليهم السَّلام).
وأخرى: يورد عليه بان المذكور في هذه الكبرى هو عنوان الأنبياء والأنبياء جمع النبي والنبي صفة مشتقة من النبأ، فالأنبياء هم من يأتون بالنبأ من الله تعالى، وتعليق حكم الإرث على هذا العنوان يوجب ظهور مورد الإرث بخصوص النبأ الذي يأتون به، وهذا النبأ عبارة أخرى عن الأحاديث والمعارف الإلهية التي جاؤوا بها للناس عن الله تعالى، فلا محالة يكون الموروث هو خصوص أخذ الأحاديث، ولا يعم إرث منصب الولاية على الأمة.
وفيه منع أن يكون ظاهر عنوان الأنبياء عند العرف هو الآتون بالنبأ، بل كما لا ريب في عدم إرادة الإطلاق من هذا العنوان فلا يعم غير الأنبياء الإلهيين من سائر الناس وإن أتوا بالأحاديث الشرعية فهكذا يفهم العقلاء منه المرسلون من الله تعالى إلى الناس، ألا ترى إلى أنه تعالى في القرآن المجيد في مقام بيان أنّ لرسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) هذا المقام قال: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾[11] ولا ينقدح في ذهن أي مخاطب أن المراد به هو نفس هذا الشخص العظيم لا أن النبي ـ بمعناه اللغوي ـ بما أنه نبي له هذا الشأن، وهذا ليس إلاّ لانصراف ذهن الناس عن أخذه من مبدأ النبأ، فهكذا الأمر في «الأنبياء» المذكور في هذا الكبرى الكلية. فهذا الإيراد أيضاً غير وارد.
وثالثة: يورد عليه بأن ظاهر الحديث أن ما يرثه العلماء هو خصوص العلوم التي تبقى بعد الأنبياء، ولا يراد منه إرث مثل مقام الولاية، بل بتعبير المحقق الأصفهاني في تعليقة المكاسب: أنّ الخبر المتضمن للإرث يعيّن الموروث وهو العلم[12].
ووجه هذا الاستظهار ليس مجرد أن الخبرين في مقام ذكر فضائل العلماء فلا يناسبه إرادة الإرث لهاذ المقام، وذلك أنا ننكر عدم التناسب جدّاً، فإنّ أخذ العلم بحيث يصدق عليه العالم كما يوجب أن تضع الملائكة أجنحتها تحت قدميه وأن يستغفر له كل شيء وأن يفضل على كل عابد، فهكذا يوجب إعطاء مقام ولاية الأمر له، فهو أيضاً فضيلة كسائر ما ذكر من الفضائل.
كما ليس وجهه استعمال لفظة «إنّما» في خبر أبي البختري الدالة على أن ما يبقى من الأنبياء ليس إلاّ خصوص الأحاديث، فلا محالة لا يورث منهم إلاّ الأحاديث لا أنه يورث منهم مثل مقام الولاية، فإنه قد تحقق في أنّ «إنّما» لا تدل على أزيد من التحقيق والتأكيد، على أنه لا يستفاد منها هنا إلاّ حصراً إضافياً في قبال أن يضم الأموال والجهات المادّية إلى الأحاديث، ومضافاً إلى أن هذه اللفظة لم تذكر في صحيحة القدّاح فيبقى ظهور الكبرى فيها في العموم على حاله.
بل إن سرّه أنه (عَليهِ السَّلام) بعد ذكر قوله: «إن العلماء ورثة الأنبياء» أفاد قوله: «إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً ولكن ورّثوا العلم» ويستفاد منه عرفاً أنه في مقام تبيين ملاك كون العلماء ورثة الأنبياء ويكون مفهومه العرفي أنّ ما يبقى من الأنبياء ليس أموالاً مادية حتى يقال: إن العلماء لا يرثون أموال الأنبياء، فكيف يقال: إنهم ورثة الأنبياء؟ بل ما يبقى منهم هو العلوم الإلهية التي بينوها للناس، فمن أخذها أخذ بحظ وافر ويصدق عليه أنه وارث عن النبي، ولا طريق لإنكار هذا الظهور إلاّ أن يقال: إن هذا الذيل في مقام بيان مجرّد تصحيح صدق لفظ الوارث على العلماء، فذكر أن ملاك الصدق موجود بالبيان المذكور، فبعد صدق الوارث بهذا البيان يجيء الكلام في أن هذه الوراثة في أي شيء؟ وإطلاق الوراثة يقتضي أن يرث العلماء مقام الولاية أيضاً كما مرّ بيانه عند تقرير الاستدلال.
لكنه مما لا يمكننا التصديق به بل احتمال أن يكون في مقام بيان ما يرثه العلماء عن الأنبياء قوى جداًَ، ومع هذا الاحتمال لا مجال للاستدلال به أصلاً.
ورابعة: يمكن أن يورد عليه بأنّ إرادة هذا الإطلاق من الإرث المذكور في الكبرى غير ممكنة، وذلك أن مقتضاها ثبوت الولاية الكلية بعد النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) لكل واحد من العلماء بحيث يكون كل عالم ذا ولاية كلية على المجتمع الإسلامي، فإن هذه الولاية كانت ثابتة للنبي الأعظم (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) بموجب مثل قوله تعالى ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾[13] هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى قد قامت أدلة معتبرة قطعية على أن وليّ أمر الأمة بعده (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) إنّما هو الأئمة المعصومين (عليهم السَّلام) لا غيرهم، وقد مرّ ذكر عدد كثير من هذه الروايات ذيل البحث عن الاستدلال بالنبوي: «اللهم ارحم خلفائي...»[14]. حيث أشرنا إلى روايات عديدة تدل على أن خلافة الرسول بمعنى القيام مقامه في إدارة أمر المجتمع بل المجتمعات بعده إنّما هي لخصوص المعصومين (عليهم السَّلام) كل في زمنه بعد مضي المعصوم الذي قبله، بل إن هذا الانحصار فيهم هو الأصل الاعتقادي الذي يبتني عليه مذهب التشيع، فبعد وجود هذه الروايات وهذا الأصل القطعي المذهبي لا يمكن إرادة الإطلاق من الوراثة المذكورة في تلك الكبرى.
فإن قلت: غاية الأمر وقوع التعارض بين هذه الكبرى وتلك الروايات، والجمع العقلائي بينهما حمل الولاية المدلول عليها بالكبرى على الولايات الجزئية التي يمكن ثبوتها للعلماء تحت زعامة الإمام المعصوم (عَليهِ السَّلام) كما ثبتت لمالك الأشتر بتولية أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) له على مصر.
قلت: لا مجال لهذا الجمع ولا يكون جمعاً عقلائياً أصلاً، وذلك أنّ هذه الكبرى إنّما تثبت للعلماء المنصب الذي كان للنبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم)، ولا ريب أن هذا المنصب هو الولاية الواسعة على الأمة الإسلامية بل على كل المجتمعات والبلاد، فان كان لها إطلاق يدل على ثبوت الولاية الوسيعة للعلماء فقد عرفت أنه لا يمكن أن يؤخذ به.
وحينئذ فالجمع العقلائي بين هاتين الطائفتين أن يحمل إطلاق هذه الكبرى ـ إن سلّم أصله ـ على خصوص الوراثة في خصوص أخذ السنن النبوية والمعارف الإلهية التي تبقى بعده،. وبالنهاية لا مجال للاستدلال بالصحيحة لإثبات الولاية للفقيه أصلاً.
وممّا ذكرناه تعرف ضعف ما في كلمات سيدنا الأستاذ (قدّس سرّه) ذيل الكلام عن الصحيحة، فراجع[15].
(الرواية الثامنة) مقبولة عمر بن حنظلة:
فقد روى الكليني في أصول الكافي في باب اختلاف الحديث عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن داود ابن الحصين عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله (عَليهِ السَّلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك؟ قال (عَليهِ السَّلام): من تحاكم إليهم في حق أو باطن فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾[16].
قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران (إلى) من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله.
قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما واختلفا في ما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر... ثم سأل أسئلة مختلفة عن أقسام اختلافهما في الحديث وأجاب الإمام (عَليهِ السَّلام) عنه[17].
ورواه أيضاً بهذا الإسناد في كتاب القضاء والأحكام في باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور مثله إلى قوله (عَليهِ السَّلام): وهو على حدّ الشرك بالله[18].
ورواه الشيخ في التهذيب باب الزيادات في القضايا والأحكام بإسناده المعتبر إلى محمد بن علي بن محبوب عن محمد بن عيسى مثله إلى آخر الحديث[19].
ورواه في الباب الأول من أبواب كتاب القضايا والأحكام من التهذيب بإسناده الصحيح عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسن بن شمون عن محمد بن عيسى... مثله إلى قوله (عَليهِ السَّلام): وهو على حد الشرك بالله عز وجل[20].
ورواه الطبرسي في الاحتجاج نحوه مرسلاً عن عمر بن حنظلة إلى آخر الحديث[21].
وروى صاحب الوسائل عن جميع هذه المصادر في كتاب القضاء فراجع[22].
والكلام في الحديث تارة في سنده وأخرى في دلالته.
وأما سنده، فسند الكافي والشيخ في باب الزيادات معتبر إلى عمر بن حنظلة. نعم محمد بن الحسن بن شمّون الواقع في سند التهذيب في الباب الأول من أبواب القضايا والأحكام ضعيف جداً، كما أن سنده في الاحتجاج مرسل، إلاّ أنهما لا يضر باعتبار سند الكافي ولا باعتبار سند التهذيب في المورد الآخر، فلا محالة يبقى الكلام في نفس عمر بن حنظلة.
ووثاقته وإن كانت محل الخلاف إلاّ أن الحق أنه ثقة، وذلك لوجهين:
(أحدهما) أنه قد روى عنه صفوان بن يحيى الذين قال فيه الشيخ في كتاب العدة ـ عند البحث عن ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر ـ ما نصه: وإذا كان أحد الراويين مسنِداً والآخر مرسِلاً نظر في حال المرسِل، فإن كان ممن يعلم أنه لا يرسل إلاّ عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره، ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات ـ الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلاّ عمّن (ممّن ـ خ ل) يوثّق به ـ وبين ما أسنده غيرهم، ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم[23]. فقد حكى عن الطائفة الإمامية العمل بمراسيلهم وعلّله بأنهم عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلاّ عمن يوثق به. فقوله «لا يروون» يشمل أخبارهم المسندة أيضاً، ويدل دلالة واضحة على أن كل من روى أحد هؤلاء الثلاثة عنه فهو موثوق به.
ولا مجال لأن يقال: إن حكاية الشيخ في هذه مستفادة لديه من إجماع الكشي على تصحيح جماعة منهم هؤلاء الثلاثة، وإذا كانت هذه الاستفادة غير صحيحة ـ كما مرّ في كلماتنا السابقة ـ فلا وجه للاستناد إلى حكايته. والشاهد على ابتنائها على الإجماع المذكور قوله هنا عطفاً عليهم: «وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلاّ عمّن يوثق به» فهؤلاء الذين عرفوا عند الأصحاب بذلك لا يكونون إلاّ أصحاب إجماع الكشي، وعليه فلا يجوز الاعتماد على هذه الحكاية.
وسرّ عدم الاعتناء به أن الشيخ قد نصّ في هؤلاء الثلاثة العظام بهذه المكانة لهم، ولا دليل على أن هذا الغير هو جميع من ذكره الكشي في أصحاب الإجماع، فلعلّ أولئك الثقات جمع آخرون لا نعرفهم نحن ولم يذكره أصحاب الرجال في كتبهم وبالجملة: فمجرد الاحتمال لا يوجب خروج ولا سقوط نقل الشيخ (قدّس سرّه) عن الاعتبار مع أنه عالم بأحوال الرجال، فقد حكى الشيخ أن الطائفة الإمامية قد عرفوا هؤلاء الثلاثة العظام بأنهم لا يروون إلاّ عن الثقة، فالطائفة الإمامية يشهدون بوثاقة من يروي عن أحد هؤلاء الثلاثة عنه وشهادتهم معتبرة كما لا يخفى.
فإن قلت ـ كما في معجم رجال الحديث: ج 1 ص 66 ـ: قد ثبت رواية هؤلاء الثلاثة عن الضعفاء في موارد... فهذا صفوان روى عن علي بن أبي حمزة البطائني كتابه، ذكره الشيخ، وهو الذي قال فيه علي بن الحسن بن فضال: «كذاب ملعون». وروى محمد بن يعقوب بسند صحيح عن صفوان بن يحيى عن علي بن أبي حمزة[24]. وروى الشيخ بسند صحيح عن صفوان وابن أبي عمير عن يونس بن ظبيان[25]، ويونس بن ظبيان ضعّفه النجاشي والشيخ. وروى الكليني بسندٍ صحيح عن صفوان بن يحيى عن أبي جميلة[26]، وأبو جميلة هو المفضّل بن صالح ضعفه النجاشي. وروى أيضاً بسند صحيح عن صفوان عن عبد الله بن خدّاش[27]، وعبد الله بن خدّاش ضعفه النجاشي... إلى آخر ما أفاد في ابن أبي عمير وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي.
قلت: إن الحق أن ما قاله هذا السيد الجليل غير مضر ـ لا أقل ـ بما قاله الشيخ في صفوان بن يحيى، وذلك أما بالنسبة إلى نقل كتاب علي بن أبي حمزة فلأن البطائني لم يظهر منه كذب إلاّ بعد موت الإمام الكاظم (عَليهِ السَّلام) لذهابه حينئذٍ إلى الوقف بل هو من عمد الواقفة، وإلاّ فأنه كان محل اعتماد عند الإمام الكاظم (عَليهِ السَّلام) أودعه أمواله (عَليهِ السَّلام)، فلعلّ كتابه الروائي الذي ألفه حين ذاك كان مثل المؤلف له ثقة عند صفوان وغيره. وهكذا الكلام في الأخبار التي يروي عنه صفوان أو ابن أبي عمير. وأما يونس بن ظبيان فقد روى أيضاً وثاقته، فيكون نقل صفوان وابن أبي عمير عنه أيضاً مثل هذه الرواية. ومثله بعينه عبد الله بن خدّاش. وأما أبو جميلة المفضل بن صالح الأسدي فلم يذكره النجاشي في رجاله بعنوان نفسه وإنما قال فيه في ترجمته لجابر بن يزيد الجعفي: «وروى عنه جماعة غمز فيهم وضعفوا منهم عمرو بن شمر ومفضل بن صالح ومنخل بن جميل ويوسف بن يعقوب» فلم يضعفهم النجاشي نفسه بل إنّما حكى تضعيفه عن غيره، والشيخ في الفهرست والرجال ذكره بلا تضعيف، وهكذا البرقي في رجاله. نعم عن ابن الغضائري فيه: «إنه ضعيف كذاب يضع الحديث» ولعل العلامة في الخالصة أخذ عنه فعبر بعبارته. وفي قبال هذه الأمور فقد وقع في إسناد كامل الزيارات وفي تفسير علي بن إبراهيم الذي ربما لا يرويان فيهما إلاّ عن الثقات، وحكى ميل الوحيد (قدّس سرّه) إلى إصلاح حاله لرواية الأجلّة وبعض أصحاب الإجماع عنه. فمن كان هذا حاله فلا مجال للقطع بضعفه بل يكون نقل صفوان بن يحيى عنه شاهداً على وثاقته.
وبالجملة: فلا تقوم من هذه الجهات حجّة على نقد وتضعيف ما أسنده الشيخ إلى الطائفة الإمامية بالنسبة لصفوان، وأما ابن أبي عمير والبزنطي فللكلام فيهما مجال آخر.
فالحاصل: أن رواية صفوان بن يحيى بن عمر عن عمر بن حنظلة دليل معتبر على أنه ثقة.
وأما موارد نقل صفوان عن عمر بن حنظلة فقد روى الصدوق بإسناده الصحيح عن صفوان بن يحيى عن عمر بن حنظلة قال: قلت لأبي عبد الله (عَليهِ السَّلام): أتزوج المرأة شهراً بشيء مسمّى، فتأتي بعض الشهر ولا تفي ببعض الشهر، قال: تحبس عنها من صداقها بقد ما احتبست عنك، إلاّ أيام حيضها فإنها لها[28].
وروى الشيخ في التهذيب في باب أوقات الصلاة بإسناده الصحيح عن سعد بن عبد الله عن موسى بن الحسن عن الحسين بن الحسين اللؤلؤي عن صفوان بن يحيى عن الحرث بن المغيرة النصري وعمر بن حنظلة عن منصور بن حازم (في الوسائل: ومنصور بن حازم) قالوا: كنا نعتبر الشمس بالمدينة بالذراع، فقال: لنا ابو عبد الله (عَليهِ السَّلام): إلاّ أنبئكم بأبين من هذا؟ قالوا: بلى، جعلنا الله فداك، قال: إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر إلاّ أن بين يديها سبحة وذلك إليك، فإن أنت خففت سبحتك فحين تفرغ من سبحتك، وإن أنت طوّلت فحين تفرغ من سبحتك[29].
وسعد بن عبد الله وموسى بن الحسن الأشعري القمّي ثقتان، وهكذا الحسن بن الحسين اللؤلؤي كوفي ثقة كثير الرواية وإن استثنى ابن الوليد من روايات نوادر محمد بن يحيى ما تفرّد به الحسن بن الحسين اللؤلؤي، فإن مضمون حديثه هذا لم ينفرد به، فإنه قد روى هذا الحديث في الكافي أيضاً بسند معتبر آخر، بل قد ورد مضمون الحديث في روايات عديدة أخرى فراجع[30].
هذا هو الوجه الأول لإثبات وثاقة عمر بن حنظلة.
(الوجه الثاني) ما رواه الكليني في الكافي ـ والشيخ أيضاً في التهذيب بإسناده الصحيح عن الكليني ـ عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن يزيد بن خليفة قال: قلت لأبي عبد الله (عَليهِ السَّلام): إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال أبو عبد الله (عَليهِ السَّلام):إذاً لا يكذب علينا، قلت: ذكر أنك قلت: إن أول صلاة افترضها الله على نبيّه (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) الظهر وهو قول الله عز وجل ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾[31] فإذا زالت الشمس لم يمنعك إلاّ سبحتك... قال: صدق[32].
فظاهر تصديقه (عَليهِ السَّلام) لما أتى به عمر بن حنظلة في الوقت بقوله (عَليهِ السَّلام): «إذاً لا يكذب علينا» أن عمر بن حنظلة صادق فلا يكذب علينا، وهذا الظهور لا فرق فيه بين قراءة «لا يكذب» مبنياً للمعلوم أو المجهول، فإن مفاده العرفي أن عمر بن حنظلة صادق فلا يكذب هو علينا، أو فلا يكذب هذا الوقت علينا بعد ما كان الآتي به عنّا عمر بن حنظلة. وكيف كان، فيكون قوله (عَليهِ السَّلام) في آخر الحديث «صدق» تأكيداً لصدقه.
لكّنه قد يقال: إن يزيد بن خليفة راوي الحديث المذكور لم تثبت وثاقته وهو وإن ذكر تأييداً لنفسه عن الإمام (عَليهِ السَّلام) أيضاً إلاّ أن راوي التأييد أيضاً نفسه فلا مجال لإثبات وثاقته به، فلا محالة لا يثبت مفاد الحديث لكي تثبت وثاقة ابن حنظلة.
أقول: إلاّ أنه يمكن وثاقة يزيد بن خليفة أيضاً من طريق أن صفوان بن يحيى قد روى عنه مراراً، وهو دليل أنه ثقة كما عرفت، فقد نقل روايته عنه في الكافي والفقيه والتهذيب. فممّا في الكافي ـ في باب الورع ـ عن أبي علي الأشعري عن محمد ابن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى عن يزيد بن خليفة قال: وعظنا أبو عبد الله (عَليهِ السَّلام) فأمر وزهّد ثم قال: عليكم بالورع فإنه لا ينال ما عند الله إلاّ بالورع[33].
ومما فيه ـ في باب كفارة الصوم وفديته ـ ما رواه بنفس الإسناد المذكور عن يزيد بن خليفة قال: شكوت إلى أبي عبد الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) فقلت: إني أصدع إذا صمت هذا الثلاثة الأيام ويشق عليّ، قال (عَليهِ السَّلام): فاصنع كما أصنع إذا سافرت، فإني إذا سافرت تصدّقت عن كل يوم بمد من قوت أهل الذي أقوتهم به[34]. إلى غير ذلك.
فتبين أن عمر بن حنظلة ثقة، فالحديث معتبر السند. هذا مضافاً إلى أن هذه الرواية قد قبلها الأصحاب وعملوا بها في كتاب القضاء وفي باب التعادل والترجيح في الخبرين المتعارضين حتى يعبّر عنها بالمقبولة. ولا ينبغي الريب في أن عمل الأصحاب برواية مع إعلانهم بأعلى الصوت بأن الخبر غير الثقة لا يعبأ به دليل على ثبوت اعتبار سند الرواية عندهم، فبعده لا مجال للريب في اعتبار سند الرواية أصلاً.
وأما دلالتها فموضع الاستدلال ما أجاب به الإمام (عَليهِ السَّلام) عن السؤال الثاني: «قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران (إلى) من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً...» ببيان أنه جعل المرجع لرفع المشكل من كان فقيهاً شيعياً وأمر بالرجوع إليه. وعلل سرّ وجوب الرجوع إليه بقوله (عَليهِ السَّلام): «فإني قد جعلته عليكم حاكماً» والحاكم هو من يتولى إدارة أمور الناس ويحكم بينهم بما يرى في جميع الموارد المبتلى بها، فيدل علي أن الفقيه منصوب من قبل الإمام (عَليهِ السَّلام) لإدارة أمر الأمة الإسلامية، وهو المطلوب.
إلاّ أنك خبير بعدم تسلم إرادة ولاية الأمر من الحكم المأخوذ منه الحاكم، إذ يحتمل إرادة الحكم الذي يحكم به القاضي لرفع التشاجر المتخاصمين ومفروض سؤاله أيضاً وقوع التنازع بين رجلين من الشيعة في دين أو ميراث فيحتمل إرادة حكم القاضي فليس في الحديث حجة على أزيد من ثبوت حق القضاء للفقيه الإمامي.
وقال سيدنا الأستاذ (قدّس سرّه) في تقريب الاستدلال بالمقبولية وبيان تعميم الحكم فيه ما حاصله: إن الإمام (عَليهِ السَّلام) علل منعه عن التحاكم إلى السلطان وقضائه بآية النهي عن التحاكم إلى الطاغوت، وملاحظة هذه الآية والآيتين قبلها تعطي أن المراد بالحكم الواقع فيها هو الأعم، فإن قوله تعالى في الآية الأولى ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ أمر بالحكم بالعدل أعم من أن يكون من القاضي أو الوالي. كما أنّ قوله تعالى في الآية الثانية ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ...﴾ أمرٌ بالرجوع إلى الرسول ومن ينصبه لرفع التنازع، سواء كان تنازعاً في ثبوت أمر شرعي أم في ثبوت حق شخصي أم في مورد جزئي مما يرفع الأمر فيه إلى الوالي، وكما أن التحاكم المذكور في الآية الأخيرة تحاكم إلى الوالي الذي هو طاغوت فيكون أعم من غير موارد القضاء ـ وهو الغالب ـ ومن موارد القضاء وحينئذٍ فيما أن تعيين أمر الشيعة كان مع النظر إلى هذه الآيات التي يكون الحكم فيها بالمعنى الأعم فقوله (عَليهِ السَّلام): «فإني قد جعلته عليكم حاكماً» ظاهر أنه (عَليهِ السَّلام) قد جعل الفقيه حاكماً في ما هو من شؤون القضاء وما هو من شؤون الولاية[35].
أقول: ومع ذلك كلّه فالاستظهار المذكور محل كلام، وذلك أنا وإن سلّمنا إرادة العموم من الحكم أو التحاكم الواقع بين الآيات إلاّ أنه لا ريب في صدق هذا المفهوم العام على حكم القاضي أيضاً في خصوص رفع التشاجر بين المتخاصمين، ولا ريب في أن مفروض سؤال الراوي يبين حكم ما إذا وقع بين رجلين من الشيعة منازعة في دين أو ميراث فسأل الإمام عن حل التحاكم لرفعها إلى القضاء أو السلطان، فمنعه الإمام (عَليهِ السَّلام) وأمره بأن اللازم هو الرجوع إلى فقيه إمامي، لأنه (عَليهِ السَّلام) قد جعله حاكماً عليهم، فقد طبّق عليه عنوان الحاكم. ولا ريب في أن هذا الفقيه بملاحظة ما أريد من الرجوع إليه فيه كان قاضياً، ويصح إطلاق الحاكم عليه بمجرد قضائه وحكمه الرافع لهذه المنازعة بلا حاجة إلى إرادة التعميم من عنوان الحاكم المذكور فيه. وذكر آية المنع عن التحاكم إلى الطاغوت لا يصير شاهداً على إرادة إثبات التعميم من جعل الفقيه حاكماً، إذ يكفي في ذكر الآية كون مورد السؤال مصداقاً للمعنى العام وصحة انطباقه على مورد السؤال، كما يكفي في صحّة إطباق الحاكم ـ بمعناه العام ـ على القاضي أيضاً مجرد عمومه لحكم القاضي من دون أن تتوقف صحة انطباقه على أن يثبت للفقيه القاضي جواز تولّيه لإدارة أمور المجتمع وجواز حكمه في غير ما هو من مناصب القاضي.
وبعبارة أخرى: إن قوله «جعلته عليكم حاكماً» إنما يقتضي ثبوت معنى للفقيه يصحّ به إطلاق هذا المعنى العام عليه وإن كان في خصوص ما هو ثابت للقاضي وحيث إن ثبوته له قطعي بقرينة مورد السؤال فليس في إطلاقه شهادة على إرادة أزيد منه كما لا يخفى. فالاستدلال بالمقبولية لولاية الفقيه غير تام.
ثم إن صاحب الدراسات أورد على هذا الاستدلال الماضي ذكره إيرادات لا بأس بذكرها والتأمل فيها:
1ـ فمنها: أنّا معشر الشيعة نعتقد أن الولاية كانت للإمام الصادق والأئمة المعصومين (عليهم السَّلام) فما معنى نصب الفقهاء ولاةً بالفعل مع وجودهم وظهورهم؟ واختصاص هذا النصب بزمن الغيبة إخراج لمورد السؤال وغير صحيح قال: اللهم إلاّ أن يقال: إن المقصود دلالة المقبولة على جعل الأمارة للفقهاء كما في العمّال المنصوبين من قبلهم كمالك الأشتر[36].
والجواب عنه ـ كما مضى في بعض كلماتنا ـ: أنّا مع اعتقادنا بولايتهم (عليهم السَّلام) لا نستنكر أن يكون للفقهاء في زمن ظهورهم أيضاً ولاية الأمر، ببيان أنّ خلفاء الجور إذا كانوا مانعين عن إقامة الدولة الإسلامية تحت إشراف الأئمة (عليهم السَّلام) فلا مانع من تجويز إقامتها للفقيه العادل إذا أمكن له إقامتها. ولعلّ البحث عنه مستوفىً يأتي بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
2ـ ومنها: أن الإمام الصادق (عَليهِ السَّلام) لم يكن يتدخل عملاً في الأمور الولائية، فلا معنى لنصبه لأخذ بعنوان ولي أمر الأمة، واختصاص النصب بزمن الغيبة غير ممكن كما مرّ، والمحتاج إليه في ذلك الزمان وجود قاضٍ لرفع المشكلات. قال: اللهم إلاّ أن يقال: إنه قد نصب وليّ الأمر لأن يستفاد في ذلك الزمان من قضائه في زمن الغيبة من ولايته أيضاً، ويشهد لإرادة الولاية تعبيره بقوله: «فإني قد جعلته عليكم حاكماً» فإن الإتيان بلفظ الإستعلاء دليل إرادة الولاية، وإلا كان يقول: «بينكم حاكماً»[37].
والجواب: إن تدخّله العملي في الأمور المرتبطة بولاية الأمر إذا كان ظاهراً فهو منافٍ لسيرته (عَليهِ السَّلام)، وإلاّ فلا ريب في أنه كان مخالفاً لولاية أئمة الجور، وقد بين هو وأبوه (عَلَيهِما السَّلام) حرمة إعانة ولاة الجور. وحينئذٍ فإذا قام بصدد نصب الفقيه والياً وكان غير علني لم يكن فيه منافاة لسيرته، بل نقول: إن ذاك النصب العام وإن كان بعناية الاستفادة منه في أمر القضاء فلا ريب في كونه منافياً لسيرته إذا كان بنحو العلن بخلاف ما إذا كان بنحو الخلفاء فكما أن خلفاء الأمر ملاك الجواز واللامنافاة في ما اختاره وارتضاه فهكذا إذا أريد منه العموم.
وأما التأييد لإرادة معنى الولاية من الحكم بإتيان لفظة الاستعلاء فمخدوش بأنه لعل سرّ الإتيان بتلك اللفظة أن قدرة الولاية والدولة القائمة خارجاً ليست ضمانة إجرائية لتحقق ما يقضي به الفقيه، بل الضامن له إيمان المتخاصمين وقولهما لولاية الإمام (عَليهِ السَّلام)، ولذلك جعل نصبه للفقيه ضماناً للقضاء وعبّر بقوله: «جعلته عليكم» فلا تأييد فيها لإرادة الولاية.
وبالجملة: فالعمدة عدم تمامية دلالة ألفاظ الحديث وإلاّ لم يكن فيه إيراد.
3ـ ومنها: أن الحكومة ومشتقاتها قد غلب استعمالها في الكتاب والسنّة في معنى القضاء كما في قوله تعالى ﴿وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾[38] المفسر في الحديث بالقضاة، بل إن إطلاق الحاكم على الوالي إنّما هو لتصديه للقضاء لا لاشتراك الحاكم لفظاً بين الوالي والقاضي، فما ذكره الإمام (قدّس سرّه) من تقسيم التنازع إلى قسمين وإرادة استفادة جعل الولاية الكبرى من هذا الطريق قابل للخدشة جدّاً[39].
وفيه: أن المستفاد من اللغة والمناسب لموارد الاستعمال أن الحكم هو إبراز النظر الجزمي فيما كان مختلفاً فيه أو مظنة للخلاف، وبهذا المعنى الواحد العام يصحّ إطلاقه على نظر القاضي الرافع بنظره الجزمي للمنازعة بين المتخاصمين وعلى ما يحكم به الوالي في الأمور المرتبطة بإدارة أمر البلاد، فإن كل مورد يحدث يكمن فيه أن تبرز فيه آراء مختلفة، فالوالي يبرز نظره الجزمي وينسد باب إبراز النظرات الأخر، وهذا المعنى العام جارٍ وصادق على ما جاء في القرآن الكريم مراراً من أن الله تعالى يحكم يوم القيامة بين الناس فيما هم فيه يختلفون[40].
وبالجملة: فنحن ننكر أن يكون معنى مادة الحكم هو القضاء بل إنما هو إبراز النظر الجازم، ولم يكن سيدنا الأستاذ (قدّس سرّه) بصدد تفسير الحكم بالولاية بل إنّما هو بصدد بيان أن الحكم له معنى وسيع شامل لحكم القاضي وحكم الوالي في غير موارد القضاء وأريد منه هذا المعنى الوسيع في المقبولة، والصحيح في الرد عليه أنه لا دليل على إرادة هذا العموم في قوله (عَليهِ السَّلام): «فإني قد جعلته عليكم حاكماً» كما مرّ، وإلاّ فإن صح الاستظهار لن يرد عليه هذا الإيراد.
4ـ ومنها: أن الشيعة في زمن الإمام الصادق (عَليهِ السَّلام) كانوا قليلين مستهلكين في سائر الناس، ولا ريب في أن الخطاب في المقبولة متوجّه إليهم، فمع قلّتهم لا يتصور لهم تأسيس دولة إسلامية، فلا مجال لنصب ولي الأمر لهم، ولذلك قد أرجعهم إلى قاضي التحكيم[41].
وفيه: أن النصب المذكور إذا لم يكن مختصاً بزمن قلّتهم فلا بأس بنصب الفقيه والياً للأمر حتى يستفاد منه مهما أمكن، بل إن القلّة لا تنافي النصب في زمن القلة أيضاً لكي يلتفت الشيعة أن ولي الأمر هو الفقيه الإمامي فيحدث بذلك لكل من أعضاء الشيعة أن اللازم أن يقوموا في وجوه أولئك الطغاة لأن تحكم في الأرض الولاية الإلهية لا أن يجلسوا ويصيروا محكومين في ظل أية دولة طاغوتية، وهذا الأمر هو الذي أوجب للشيعة الإمامية القيام ضد الطواغيت في زماننا. نعم كان هذا القيام بهداية علماء الدين حتى وفقهم الله لتأسيس حكومة إسلامية.
وأما ما أفاده في الذيل من أنه (عَليهِ السَّلام) جعل للشيعة قاضي التحكيم فهو مخدوش جدّاً، وذلك أنه (عَليهِ السَّلام) أمر المتخاصمين بأن يرضوا بحكومة الفقيه العادل، وعلّل وجوب رضاهم بها بأنه (عَليهِ السَّلام) قد جعله عليهم حاكماً. فحاصل مفاد الحديث: أنه بملاحظة أن الإمام (عَليهِ السَّلام) قد جعل الفقيه الإمامي حاكماًَ عليهم فعليهم أن يرجعوا إليه ويرضوا به حكماً، فوجوب الرجوع إليه متفرّع على أنه حاكم بنصب الإمام لا أن مراجعتهم إليه أوجبت أن يكون حاكماً، وما ذكرناه واضح لا يخفى، ومن ذلك قلنا في كتاب القضاء أنه لا دليل على مشروعية قاضي التحكيم.
ومما ذكرناه من ضعف إرادة قاضي التحكيم من المقبولة تعرف النقاش في وجه آخر من إيراداته فلا نعيد[42].
5ـ ومنها: أنه إن سلمنا كون مفهوم الحكم هو ما يشتمل على البتّ والفصل إلاّ أن عنوان «حاكماً» هنا محمول ومقدمات الحكمة لإثبات الإطلاق لا تجري في المحمول وأجاب عنه بنفي صحة عدم إجراء مقدمات الإطلاق في المحمول، إلاّ أن يكون في البين قرينة كالانصراف توجب انعقاد الظهور في بعض المصاديق، وهاهنا لا قرينة على الاختصاص بالقضاء، إلاّ أن التنازع هو مورد السؤال وهو لا يوجب أن يصير قرينة الانصراف بعد كون الجواب عاماً وبعد كون عمومه محل فائدة أكثر[43].
وفيه: أنا ننكر انعقاد الإطلاق لقوله (عَليهِ السَّلام): و«وقد جعلته عليكم حاكما» فإنه ليس مفاد هذا القول إلاّ ذكر العلة لوجوب الرجوع في رفع التنازع إلى الفقيه، فالفقيه مع قطع النظر عن التعليل لا محالة يكون قاضياً، »أي حاكما بحكم يصدر من القاضي، وحينئذٍ فلا ينبغي الريب في أن المناسب ذكر علّة لصحّة أن يكون قاضياً وحاكماً، وبعده فقوله: «فإني قد جعلته عليكم حاكماً» لا معنى له عرفاً إلاّ أنه حاكم بحكم القضاء، وقد مر في جوابنا عن استدلال الإمام (قدّس سرّه) توضيح أزيد، فتذكر.
هذا تمام الكلام حول بيان سيدنا الأستاذ (قدّس سرّه) للاستدلال بالمقبولة.
وعن السيد الجليل الآية البروجردي (قدّس سرّه) بيان لإثبات ولاية الفقيه يمكن أن يكون بياناً آخر للاستدلال بالمقبولة ويمكن أن يعد وجعاً مستقلاً، فلا بأس بذكره والتأمل فيه.
قال (قدّس سرّه) ما حاصله: إن في المجتمع أموراً من وظائف الأشخاص مختصة بهم وأموراً أخر ليست مرتبطة بالأشخاص بل من الأمور العاملة الاجتماعية، كحفظ النظام الداخلي وسد الثغور، وهذه الأمور في المجتمعات المختلفة تكون من وظائف زعيم المجتمعات. ثم لا ريب في أن في الإسلام أيضاً هذين القسمين، فمثلاً الصلاة والصيام وظائف شخصية والجزئيات من القصاص والديات والحدود وأحكام القضاء من الأمور الاجتماعية، وقد اتفق المسلمون جميعاً على لزوم زعيم يدبّر أمور المسلمين وإن اختلفوا في شخصه وفي أن تعيينه بالانتخاب العمومي أو بالنصب الإلهي، ثم إن هذا الزعيم كان رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) وبعده الخلفاء وكانت المساجد مركزاً لإجراء سياستهم وبيان جميع الوظائف، ونحن معاشر الشيعة نعتقد بأن هذه الوظيفة كانت مجعولة من الله تعالى بعد نبي الإسلام للأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وهذا الاختصاص بهم (عليهم السَّلام) أمر واضح لا سيما لأصحاب الأئمة وعظمائهم، مثل محمد بن مسلم وزرارة، وحيث إن هذه الأمور الاجتماعية كانت موضع ابتلاء للأصحاب فلا محالة كانوا يراجعون الأئمة ويسألونهم عن وظيفتهم إذا لم يتمكنوا من الرجوع إلى أشخاص الأئمة (عليهم السَّلام)، ولا ريب في أنهم كانوا ينهون عن الرجوع إلى ولاة الجور، وبعد النهي عنهم فلا ينبغي الريب في تعيين من يرجع إليه الشيعة لحل هذه المشاكل كما لا ينبغي الشبهة في أنهم يعينون الفقهاء بأحكام الدين لذلك ولابد ـ بلا شبهة ـ من أن يكون الفقيه الإمامي عادلاً، فهذا البيان يثبت نصب الأئمة (عليهم السَّلام) للفقهاء الإماميين العدول لذلك، كما تتم بهذا البيان دلالة مقبولة عمر بن حنظلة على هذا[44].
أقول: ويكمن أن يناقش فيه أولاً: بأنه بعد ما كان الله تبارك وتعالى قد جعل ولاية أمر الأمة للنبي الأكرم (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) وبعده للأئمة المعصومين (عليهم السَّلام)، فهؤلاء الولاة المنصوبون من الله تعالى إذا قاموا بإدارة أمور المسلمين لم يبق حاجة إلى تعيين والٍ آخر إلاّ العمال الذين ينصبونهم لتولّي أمور خاصة وفي بلاد وقرى خاصة، إلاّ أن قوماً من المسلمين عصوا حكم الله ومنعوا تولي إدارة أمور المجتمع بأيدي هؤلاء الولاة مما أدى إلى محرومية الناس من هذا الأمر المبارك، فلا ملزم عقلي يوجب نصب الأئمة (عليهم السَّلام) لولي الأمر ولاية كبرى، بل كما أن الناس قد حرموا الوصول إلى الأحكام الإسلامية التي عند الإمام المعصوم (عَليهِ السَّلام) ولأجله قد غاب الإمام عنهم غيبة كبرى ولا بأس بوقوعها عقلاً فهكذا مسألة حرمانهم من بركات ولاية الأئمة المعصومين المنصوبين ولاة لإدارة أمور المجتمع حرفاً بحرف، فليس هذا الاستدلال تامَاً لإثبات ولاية الفقيه لا استقلالاً ولا موجباًَ لكون المقبولة في مقام بيان هذا المطلب.
وثانياَ: إن سلمنا تمامية الاستدلال استقلالياً إلاّ أنه لا يوجب حمل الجواب في المقبولة على بيان أن للفقيه ولاية كلية، بل حيث إن مورد السؤال فيها حل مشكلة المتخاصمين فلذلك لا حاجة لحلّها إلى أزيد من نصب قاضِ يرجع إليه من الفقهاء. وبالجملة: فبعد أن لم تكن المقبولة ظاهرة في نصب ولي الأمر لا يوجب هذا البيان أن نؤوّلها إلى النصب أصلاً.
وثالثاًَ: إن سلّم إيجاب إراءة طريق حل للمسائل الاجتماعية فليس طريقه منحصراً في نصب من يتولى إدارة الأمور الإجتماعية، بل يتصور ويحتمل أن يرجعوا الشيعة إلى انتخاب فقيه لولاية الأمر، فلا يتم الاستدلال المزبور لإثبات ولاية الفقيه بالنصب. وهذا الوجه الأخير ذكره صاحب الدراسات في نقده.
ثم إنك بالتأمل في ما ذكرناه ذيل المقبولة تعرف أن لا مجال للاستدلال لإثبات ولاية الفقيه بمعتبر أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عَليهِ السَّلام): إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم شيئاً من قضايانا (قضائنا ـ خ ل) فاجمعوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه[45].
فإن بيان الاستدلال به أن موضوع كلام الإمام (عَليهِ السَّلام) هو التحاكم إلى أهل الجور، والتحاكم إليهم أعم من أن يكون للقضاء وان يكون لسائر الأمور الاجتماعية، فقد نهى أن يتحاكم الشيعة إليهم وجعل مكانه من كان من الشيعة عالماً بقضائهم فيجب التحاكم إليه في كل ما يتحاكم إلى أهل الجور، فلا محالة له أيضاً أن يحكم في كلا الموردين، وهو عبارة أخرى عن ولاية الأمر.
ويناقش الاستدلال المذكور بأن الإمام (عَليهِ السَّلام) عبرّ عن سرّ الإرجاع إلى هذا الرجل الشيعي بقوله (عَليهِ السَّلام): «فإني قد جعلته قاضياً» فهو (عَليهِ السَّلام) قد جعله قاضياً، ومن الواضح أن القاضي غير ولي الأمر، وقوله (عَليهِ السَّلام) بعده «فتحاكموا إليه» تفريع على كونه قاضياً، فلا إطلاق للحكم المأخوذ منه التحاكم لأكثر من حكم القاضي كما لا يخفى.
هذا مضافاً إلى أن المنصوب للقضاء ـ بحسب هذه الرواية ـ لم يشترط فيه الفقاهة بل إنما اشترط فيه العلم بشيء من قضاياهم «أو من قضائهم (عليهم السَّلام)، وهو لا يلازم الفقاهة كما هو واضح، والأمر سهل.
وممّا ذكرناه تعرف ضعف الاستدلال بخبرٍ آخر عن أبي خديجة عن أبي عبد الله (عَليهِ السَّلام) فراجع[46]، فإن اختصاصه ببات القضاء أوضح من الخبر الذي نقلناه.
فقد تحصل مما ذكرنا أن الأخبار التي يحتمل الاستدلال بها لولاية الفقيه زمن الغيبة أخبار ثمانية، وأن دلالة أربعة منها غير تامّة، وأربعة أخر منها تامة الدلالة ومعتبرة السند، وهي: معتبرة علي بن أبي حمزة البطائني، وذيل الخطبة الشقشقية، وخبر تحف العقول، والتوقيع المبارك عن وليّ الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف. فهذه الروايات معتبر السند وتامة الدلالة على ولاية الفقيه الإمامي الواجد لجميع الشرائط اللازمة«، وعلى أن له أن يتصدى إدارة أمر الأمة.
إلاّ أن لصاحب «الدراسات» هنا إيراداً في إمكان فعلية هذه الولاية للفقهاء إذا كان الواجد للشرائط منهم أكثر من واحد، قال: وإذا فرض عدم الإمكان ثبوتاً لم تصل النوبة إلى مقام الإثبات، ولو فرض وجود ظاهر يدل عليه وجب تأويله بأن يحمل على بيان الصلاحية لا الفعلية وإنما تتحقّق الفعلية بالرضا والانتخاب[47].
وقال في بيان الإيراد الثبوتي ما حاصله: إن ولاية الأمر حين تعدد الفقهاء إما أن تكون لجميعهم بالعموم الاستغراقي فيكون لكل منهم بانفراده ولاية فعلية وحقّ إعمالها استقلالاً، وإما أن تكون الولاية لجميعهم استغراقاً إلاّ أنه لا يجوز إعمالها إلاّ لواحدٍ منهم، وإما إن تكون لواحدٍ منهم مستقلاً إلا أنّه لم يعين في الشرع، وإما أن تكون لجميعهم استغراقاً إلاّ أن إعمالها لكل واحد مشروط بالاتفاق مع الآخرين، وإما أن تكون الولاية المجموع من حيث المجموع، فالمجموع بمنزلة إمام واحد ويجب إطباقهم في إعمال الولاية.
ثم أورد على الاحتمال الأول: أولاً بقبح هذا النصب على الشارع المقدس بملاحظة اختلاف آراء المتعدّدين وعدم حصول انتظام أمر الأمة ـ الذي هو المطلوب من ولي الأمر ـ بولايتهم. وثانياًَ بدلالة أدلة وأخبار عديدة على اشتراط أن يكون وليّ أمر الأمة واحداًَ.
وعلى الاحتمال الثاني: بأن عدم تعيين هذا الواحد يجرّ إلى اعتبار الانتخاب في تعيين وليّ الأمر الذي يجوز له إعمال الولاية مضافاً إلى أن جعل الولاية للآخرين حينئذٍ لغو.
وعلى الاحتمال الثالث: أنه لابد في الانتفاع بولايته من التعيين فلابد من الانتخاب ومع الحاجة إليه ، فيصير نصبه من ناحية الشرع لغواً.
وعلى الاحتمالين الآخرين أنهما مخالفان لسيرة العقلاء والمتشرعة، فلا مجال لهما ولا لسائر الاحتمالات.
فثبوت الولاية الفعلية من ناحية الشرع بأحد الاحتمالات الخمسة غير صحيح ثبوتاً، ولا يحتمل له احتمال سادس ولا زائد، فثبوت الولاية للفقيه بنصبٍ شرعي باطل، ولابدّ من الانتخاب[48].
أقول: إن مبنى هذا الإيراد إنّما هو أن يكون مفاد الأخبار المذكورة فعلية الولاية لكل فقيه واجد لجميع الشرائط، وإلا فإذا كان مفادها صلاحية كل فقيه لأن يتصدى إدارة أمر المجتمع وتتوقف فعليّتها على قيامه بإدارة الأمر بأن يثبت له من ناحية الشرع جواز أن يقوم بنفسه بلا اشتراط انتخاب أحد له لإدارة أمر الأمة فلا يرد عليه شيء أصلاً، وذلك أنه بما أن الشرع جوز له ذلك فلا حاجة إلى الانتخاب بل الأمة موظفة بتولّيه حينئذٍ وإطاعة أمره في جميع موارد وجوب الإطاعة، فإذا تصدى إدارة الأمور سقطت هذه الوظيفة عن سائر الفقهاء وبعبارة أخرى، علاوة على جواز تصدي إدارة أمر الأمة يجب على كل فقيه تصديها إلاّ أن هذا الوجوب لا ريب في أن الهدف الأصيل منه أن لا تكون إدارة الأمر الاجتماعي بلا متصد أصلاً، فإذا حصل هذا الهدف فلا مورد ولا محال لبقاء الهدف فيكون الوجوب وجوباً كفائياً لا يؤول إلى فعلية ولاية أكثر من واحد لكي يلزم المحاذير المزبورة.
ودلالة الأخبار المزبورة على مشروعية تصدي كل فقيه بنفسه وبلا احتياج إلى مثل انتخاب الناس له مثلاً واضح لا شبهة فيه، وإنما اللازم ملاحظة مفاد كل منها بالخصوص ليتضح أن مدلوله إنّما هو إثبات جواز التصدي لإدارة أمور المجتمع لا فعلية الولاية، فنقول:
إنا قد ذكرنا عند بيان دلالة كل من هذه الأخبار الأربعة اختصاص مفاد كل منها بجواز بل وجوب هذا التصدي للفقهاء إلاّ أنه لا بأس بتكراره لاتضاح أكثر.
فإما معتبر علي بن أبي حمزة فموضع الاستدلال هو قول الإمام (عَليهِ السَّلام): «... لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها» فقد صرّح (عَليهِ السَّلام) بأن كل فقيه حصن الإسلام، فكونه حصناً للإسلام، بحكم شرعي جزمي إلاّ أن فائدة حصن المدينة هي الدفاع عن أضرار محتملة الإصابة بالمدينة، بمعنى أنه إذا جاء مجال توجّه ضرر ولو محتمل إلى المدينة فالسور يدافع عنها، فهكذا على الفقيه أن يقوم بالدفاع عن الإسلام إذا حان حينه. ومن الواضح أنّ هذا الوجوب عليه ليس عبارة أخرى عن ولايته على الأمور بل إنه إذا قام بالمدافعة فقيامه بها تصد لإدارة أمر الأمة وكان ولاية فعلية له، فالواجب عليهم القيام بالدفاع وهو واجب على كل فقيه، إلاّ أنه لهدف أن يحصن الإسلام، وإذا قام به أحد وحصن بقيامه الإسلام سقط الوجوب عن الآخرين وحصلت للقائم بالدفاع ولاية فعلية. فوجوب القيام بالدفاع واجب على الجميع وجوباً كفائياً، والولاية الفعلية تثبت لخصوص القائم المدافع ولا إشكال.
وأما ذيل الخطبة ـ أعني قوله (عَليهِ السَّلام): « أمّا والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها ـ فمحل الاستدلال عموم العلماء في كلامه (عَليهِ السَّلام) لكل عالم ديني، ودلّت هذه الجملة على وجوب قيام العلماء بدفع ظلم الظالم والدفاع عن المظلوم بتصدي ولاية أمر الأمة، وهذا الوجوب هو الموجب له (عَليهِ السَّلام) لقبول تصدي أمورهم، فالواجب على الفقهاء هو القيام لإدارة أمر الأمة. ومن المعلوم أنّ هذا الوجوب بنفسه ليس ولاية أمر الأمة بل إذا عمل الفقيه بوظيفته هذه وتصدى إدارة أمور الأمة صار بذلك عملا متصدياً لإدارة أمر المجتمع وولي أمرهم بالفعل، وقد مرّ آنفاً أنّ هذا الوجوب كفائي لهدف أن يكون للأمة متصدي إدارة أمورهم، وأنه إذا قام به أحد حصل الهدف وسقط الوجوب عن الآخرين، بل على كل الأمة حتى الفقهاء الآخرين ترتيب آثار الولاية الفعلية للفقيه القائم بالأمر، ومع ذلك فلا يكون احتمال ثبوت الولاية لأكثر من واحد وإن شئت توضيحاًُ أزيد فراجع ما قدّمناه[49].
وأما خبر تحف العقول فدلالته على أن ولاية أمر الأمة خاصة للعلماء وأنها إنّما تحصل بقيامهم وعدم تفرقهم عن الحق وأن المخاطبين من هؤلاء العلماء إنما سلبوا تلك المنزلة لعدم قيامهم وعدم صبرهم على الأذى وعدم تحملهم للمؤونة المحتاج إليها واضحة، فلا تدل إلاّ على وجوب قيام الفقهاء لأن يتصدوا ولاية الأمر وعلى أن هذه المنزلة لا تحصل إلاّ عقيب قيامهم وهو عين ما ادعيناه. وقد مر بيان أن هذا الوجوب كفائي، إذا قام لامتثاله أحدٌ وتحقق هدف جريان الأمور على أيدي الفقيه سقط عن الآخرين. وقد مرّ أيضاً أنه إذا صار أحد ولي أمر الأمة كان على جميع أفراد الأمة حتى الفقهاء إتباع أمره، فلا يبقى مجال لاحتمال أن تكون الولاية الفعلية لأكثر من واحد.
وأما التوقيع المبارك فقد عرفت أن الاستدلال لولاية الفقيه إنّما هو قوله (عَليهِ السَّلام) في مقام الاستدلال لوجوب الرجوع إلى العلماء: «... فإنهم حجّتي عليكم وأنا حجة الله عليكم» كما في نسخة الغيبة، أو «وأنا حجة الله عليهم» كما في نسخة كمال الدين، أو بلا ذكر لهما (عليكم، عليهم) كما في الاحتجاج الطبرسي. فدلالته على المطلوب إنّما هي لأجل كونهم حجة للإمام (عَليهِ السَّلام) على الأمة، وأن الحجية تقتضي وجوب الرجوع إلى العالم والأخذ بما يراه حتى في أمور المجتمع التي يرجع فيها إلى ولي الأمر. وأنت تعرف أنه إنّما يقتضي وجوب العمل بما أبداه الفقيه من الرأي في إدارة أمر المجتمع، وأنه لا يدل على ثبوت الولاية له قبل تصديه لإدارة أمور المجتمع بالتوجه إليها وإبداء الرأي فيها بل إذا أبدى رأيه لزم اتّباعه، ولزوم اتّباع رأيه عبارة أخرى عن ولايته الفعلية بل أثر لها. ومن الواضح إذا أبدى فقيه رأيه بعد قيامه بتصدي أمور الأمة فلا يبقى مجال للرجوع إلى فقيهٍ آخر، بل إن اتّباع رأي هذا الفقيه القائم بتصدي أمر الأمة واجبٌ على جميع الأمة الذين منهم الفقهاء الآخرون أيضاً، فلا يبقى حينئذٍ مجال للرجوع إلى فقيهٍ آخر، ولا لاحتمال أن تكون فعلية الولاية لأكثر من واحد.
ــــــــــــــــ
[1] الكافي: ج 1 ص 34 الحديث 1.
[2] ثواب الأعمال: ص 161.
[3] الأمالي: ص 37.
[4] بصائر الدرجات: الباب 2 من ج1 ص 3 الحديث 2.
[5] الكافي: ج1 ص 32 الحديث 2.
[6] البصائر: الباب 6 من ج 1 ص 10 الحديث 1.
[7] الاختصاص: ص4.
[8] الوسائل: الباب 8 من أبواب صفات القاضي ج 18 ص 53 الحديث 2، المستدرك: الباب 8 من أبواب صفات القاضي ج 17 ص 299 الحديث 45.
[9] الكافي: ج1 ص 35 الحيدث4.
[10] راجع تعليقة المحقق الأصفهاني على المكاسب: ج 1 ص 213.
[11] الأحزاب: 6.
[12] التعليقة: ج1 ص 213.
[13] الأحزاب: 6.
[14] راجع الرواية الخامسة ص 405 ـ 408.
[15] كتاب البيع: ج2 ص 650.
[16] النساء: 60.
[17] الكافي: ج1 ص 67 الحديث 10.
[18] الكافي: ج7 ص 412 الحديث5.
[19] التهذيب: ج 6 ص 301 الحديث 52.
[20] التهذيب: ج6 ص 218 الحديث6.
[21] الاحتجاج: ج2 ص 260 طبعة الأسوة.
[22] الوسائل: الباب 11 من أبواب صفات القاضي ج18 ص 98 الحديث1.
[23] العدة: ج1 ص 154.
[24] الكافي: ج1 ص 104 الحديث 1.
[25] التهذيب: ج5 ص 32 الحديث95، الاستبصار: ج2 ص 157 الحديث 21.
[26] الكافي: ج 6 ص 531 الحديث7.
[27] الكافي: ج7 ص 87 الحديث4.
[28] من لا يحضره الفقيه: ج3 ص 461 الحديث 4596.
[29] التهذيب: ج2 ص 22 الحديث 14. الكافي: ج3 ص 276 الحديث 4، عنهما الوسائل: الباب 5 من أبواب المواقيت ج 3 ص 96 الحديث 2و1.
[30] راجع الأبواب المذكورة من الوسائل والكافي والتهذيب.
[31] الإسراء: 78.
[32] الكافي: ج3 ص 275 الحديث1، التهذيب: ج2 ص 20 الحديث 7، عنهما الوسائل:الباب 5 من أبواب المواقيت ج3 ص 97 الحديث5.
[33] الكافي: ج2 ص 76 الحديث3.
[34] المصدر السابق: ج4 ص 144 الحديث6.
[35] كتاب البيع: ج2 ص 638 ـ 642.
[36] الدراسات: ج1 ص 465 و467.
[37] نفس المصدر:
[38] البقرة: 188.
[39] الدراسات: ج1 ص 448.
[40] كما في الآية 113 من سورة البقرة، والآية 124 من سورة النحل، والآية 69 من سورة الحج، وغيرها.
[41] الدراسات: ج1 ص 451.
[42] راجع الدراسات: ج1 ص 453 ذيل قوله «السابع».
[43] الدراسات: ج1 ص 451.
[44] الدراسات: ج1 ص 456، عن البدر الزاهر: ص52.
[45] الوسائل: الباب1 من أبواب صفات القاضي ج18ص4الحديث5، أخرجه عن الفقيه والكافي والتهذيب.
[46] الوسائل: الباب 1 من أبواب صفات القاضي ج18 ص 100 الحديث 6، أخرجه عن التهذيب.
[47] الدراسات: ج1 ص 445.
[48] الدراسات: ج1 ص 409 ـ 415.
[49] في ص 386 ـ 388.
احدث الاخبار
السيد الحوثي: الاستقرار لن يبقى في المنطقة ما دام الاحتلال مستمر في فلسطين
ثروة باقية؛ المقاومة في لبنان من نشوء الحالة الإسلاميّة إلى التأسيس حتى «طوفان الأقصى»
قائد الثورة الإسلامية: الخلاف بين الجمهورية الإسلامية وأمريكا جوهري، وليس تكتيكيا
التبيين في نهج السيّدة الزهراء عليها السلام*
قيم الحياة الزوجيّة في سيرة أهل البيت عليهم السلام
عمائــــــم سلكت درب الشهادة (1)
الشيخ نعيم قاسم: أمريكا ليست وسيطا نزيها ودعم المقاومة واجب
زوجة القائد"الحاج رمضان" تروي ذكرى من أدب الشهيد قاسم سليماني
العميد نقدي: قدرتنا الصاروخية اليوم أقوى بكثير مما كانت عليه خلال العدوان الصهيوامريكي
الشيخ نعيم قاسم: المقاومة جاهزة للدفاع ولديها ردع يمنع تحقيق العدو لأهدافه
الاكثر قراءة
أحكام الصوم للسيد القائد الخامنئي
ما أنشده الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في حق الإمام الخامنئي
أربعون حديثاً عن الإمام الكاظم (عليه السلام)
أربعون حديثا عن الإمام الهادي (ع)
مختارات من كلمات الإمام الخامنئي حول عظمة السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)
مبادئ الإمام الخميني العرفانية
أربعون حديثاً عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
ماذا يقول شهداء الدفاع عن العقيلة؟.. الشهيد السيد إبراهيم في وصيته: لقد ذهب زمان ذل الشيعة+ صور
شهيد المحراب (الثالث) آية الله الحاج السيد عبد الحسين دستغيب
تقرير مصور عن شهداء الحجاز الذين استشهدوا في جبهات الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية