الدرس الخامس والسبعون: تعيين ولي أمر الأمة بالانتخاب
التاريخ: 05-09-2011
قد يقال بأنّ الأدلة المعتبرة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل لا دلالة لها على فعلية الولاية للفقيه الجامع لجميع الشرائط، وأنّ انتخاب الأمة لأحدٍ واجد للشرائط لأن يكون وليّ الأمر هو الطريق الوحيد لثبوت الولاية الفعلية الشرعية له
قد يقال بأنّ الأدلة المعتبرة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل لا دلالة لها على فعلية الولاية للفقيه الجامع لجميع الشرائط، وأنّ انتخاب الأمة لأحدٍ واجد للشرائط لأن يكون وليّ الأمر هو الطريق الوحيد لثبوت الولاية الفعلية الشرعية له. ويستدل لاعتبار الانتخاب في هذا الهدف بوجوه متعدّدة.
أقول: وأنت بعد التأمل في ما قدّمناه تعرف ثبوت ولاية الأمر للنبي والأئمة المعصومين (عليهم السَّلام) كل بعد الآخر وذلك لدلالة آيات عديدة وأخبار كثيرة معتبرة السند بل متواترة قطعية الدلالة على فعلية ولايتهم ينصب من الله تبارك تعالى. وقد مرّ أيضاً أن لا دخل لقبول الأمة ولا لبيعتهم لا في ثبوت الولاية لهم (عليهم السَّلام) ولا في وجوب الإطاعة عنهم، بل يجب على الأمة الحضور والتسليم لأوامرهم في الأمور الاجتماعية كلّها، نعم إن عصى الناس ولم يمتثلوا أوامرهم لم يمكن إعمال الولاية وكان أولياء الأمر عاجزين عن العمل بوظائفهم وسقط التكليف عنهم بالعجز، ولذلك قال أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) في الخطبة الشقشقية: «أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها»[1]. فإنه واضحة الدلالة على أن تولي أمور الأمة عهد أخذه الله عليهم. وأنّ حضور الأمة موجب لقيام الحجة عليهم وتنجّز ذاك التكليف الإلهي، ولا محالة إذا لم يحضروا كان التكليف ساقطاً عنهم لعدم إمكان العمل به، وهو ما ذكرناه.
فبالجملة: لا ينبغي الريب في أنّه لا أثر ولا دخل لانتخاب الأمة في ثبوت الولاية الشرعية الكبرى للمعصومين (عليهم السَّلام)، وأما الفقهاء الواجدون للشرائط فقد عرفت أيضاً تمامية دلالة أخبار أربعة معتبرة السند على أنّ للفقيه الواجد للشرائط بل عليه أن يتصدى إدارة أمور الأمة، وأن بذاك التصدي تثبت له الولاية الفعلية من ناحية الشرع من دون دخل في ثبوتها لانتخاب الأمة ولا لبيعته أصلاً، فالفقيه التام الشرائط أيضاً منصوب لولاية أمر الأمة بشرط القيام للتصدي أيضاً، وقد مرّ بيان الوظيفة الشرعية لتعرّف وليّ الأمر في ما إذا تعدد الفقهاء، فتذكر.
ففعلية ولاية الفقيه أيضاً لا دخل لانتخاب الأمة فيها، بل إذا صار فقيه بتصديه لإدارة أمر الناس ولي أمرهم شرعاً فتترتب عليه آثار ولي أمر الأمة، فيجب عليه إدارة أمور الناس، ويجب على الناس أنّ يطيعوه في الأمور الاجتماعية مثل ما كان في ولاية المعصومين (عليهم السَّلام).
وبذلك تعرف أن لا دخل ولا أثر لانتخاب الأمة في ثبوت الولاية الكبرى للفقيه المذكور أيضاً، وبعده لا مجال للرجوع إلى وجوه تدل على ترتب الأثر للانتخاب أصلاً بعد ما كان المفروض أن هذه الوجوه إنّما يدعى دلالتها إذا لم يكن دليل على ثبوت ولاية الأمر للفقيه مع قطع النظر عنها.
إلاّ أن صاحب «الدراسات» لما اعتقد عدم تمامية دلالة الأخبار على ثبوت الولاية للفقيه قام في كتابه هذا في مقام الاستدلال على مشروعية انتخاب الأمة لأحد من الفقهاء الواجدين للشرائط لأن يكون ولي أمر الأمة.
ولا بأس بأن نتعرض نحن أيضاً لهذه الوجوه ـ بعد تسليم اعتقاده ـ ليعلم أنها تامة الدلالة على هذا الفرض أم أنها لا دلالة فيها لإثبات المدعى المذكور أصلاً؟ فنقول:
إنه قد ذكر ستة وعشرين أمراً استدل بكل منها لانعقاد الإمامة وولاية الأمة بها، ونحن نذكرها بالترتيب.
1ـ قال: الأمر الأول حكم العقل الذي هو أمّ الحجج، وبيانه: أنّ العقل يحكم جزماً بوجوب إقامة نظام الاجتماع تحت ظل دولة، والدولة إما أن توجد بالنصب من الله وهو مفروض العدم، وإما بقهر قاهر وهو ظلم يحكم العقل بقبحه، وإما بالانتخاب من قبل الأمة وهو المتعيّن. ولأجل هذا الحكم العقلي استمرت سيرة العقلاء في جميع الأعصار على الاهتمام بذلك. والله تعالى جعل في الإنسان غريزة الانتخاب، ومدح عباده الذين ينتخبون المصداق الأحسن فقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾[2].
أقول: أنت بالتدبّر تجد ضعف هذا الوجه جداًَ، وذلك أن الحكم العقلي المذكور يراد منه حكم بتّي قطعي لا يحتمل فيه خلاف أصلاً، وإلاّ فالظنون محكومة بعدم الاعتبار عقلاً وشرعاً إلاّ أن يقوم دليل خاص على اعتباره في مورد. وعلى ذلك فنخن إذا نراجع وجداننا لا نرى حكم العقل ذاك الحكم البَتّي باعتبار انتخاب الأمة وانعقاد الإمامة والولاية به، كيف هو؟! وإن كان العقل حاكماً به لكان حاكماً باعتبار انتخاب الأمة في جميع الأشخاص، وكان النصب من ناحية الشرع حتى في المعصومين (عليهم السَّلام) غير صحيح، لأن الأحكام العقلية يمتنع تحقق خلافها في جميع الموارد، ولذلك كان اجتماع النقيضين أو الضدين ممتنعاً حتى من ناحية الله تعالى أيضاً، نعم ربما انقدح في الذهن الظنّ باعتبار الانتخاب مع فقدان النصب الشرعي، لكن الأصل في الظنون كما قلنا عدم الاعتبار.
وأما الآية المباركة التي استند بها لاعتبار انتخاب المصداق الأحسن من العباد فدلالتها ممنوعة، وذلك أن مفادها مدح إتباع القول الأحسن الذي يستمعه الإنسان، ومن الواضح أن مقابل الأحسن هو الحسن, فقد فرض هنا قولان كلاهما حسن، ومدح من اتّبع الأحسن منهما. ومن الواضح أنّ اتّصاف الكلام بالحسن موجب قطعاً لجواز إتباعه، فالأحسن من القولين أيضاً جائز الإتباع، والآية الشريفة حكمت بأن اتّباع الأحسن أحسن، وهو لا يدل على الاعتبار بالانتخاب في مورد لم يثبت أصل الجواز كما في ما نحن فيه، فإن الاعتماد والبناء على ولاية الأمة لمن لا دليل على ولايته غير الانتخاب أول الكلام.
2ـ وقال: الأمر الثاني استمرار سيرة العقلاء على انتخاب والي الأمر، فإنّ بناءهم على الاستنابة لا سيما في ما يعسر إنفاذه مباشرة ويحتاج إنفاذه على مقدمات كثيرة وقوات متعاضدة، كما في الأمور التي يتصداها رؤساء الدول، فالاستنابة والتوكيل فيها أمر عقلائي استمرت عليه سيرة العقلاء وأمضاها الشرع أيضاً. وفي نهج البلاغة في كتاب له (عَليهِ السَّلام) إلى أصحاب الخراج: «فإنكم خزّان الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة»[3] [4].
أقول: وهذا الوجه ضعيف أيضاً، فإن سيرة العقلاء على المراجعة إلى انتخاب الناس لمن يكون ولي أمرهم وإن سلمت إلاّ أن نفسها ليست بحجة بل تحتاج حجيتها ـ كما في كلامه ـ إلى إمضاء الشارع، ومن الواضح »أن الشارع لم يرتض هذه السيرة، فإن الشرع الأقدس قد نصب أولياء الأمة بنفسه كما مرّ آنفاً وسابقاً، وولاية هؤلاء الأولياء مستوعبة لجميع الأزمنة إلى يوم القيامة، لكن أكثر المسلمين لم يتبعوا بعد النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) لهؤلاء الأولياء، فالشارع تبارك وتعالى قد ردع العقلاء في سيرتهم هذه وجعل أمر تعيين الوالي بيده المباركة.
وأما الجملة المنقولة من كتاب أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) إلى عماله في الخراج المعتبرة عنهم بوكلاء الأمة فمن الواضح أن وكالتهم عن الأمة ليست بتوكيل الأمة لهم واستنابتهم عن أنفسهم، بل إنهم صاروا عمالاً على الخراج بنصب ولي الأمر لهم عمالا، ولذلك عطف بالواو على هذا التعبير قوله (عَليهِ السَّلام): «سفراء الأئمة» فسّر التعبير عنهم بوكلاء الأمة أن الخراج الذي يأخذونه من أموال الأمة كما قرر في بحث الأراضي المفتوحة عنوة، فلا دليل في كتابه (عَليهِ السَّلام) أيضاً على الاعتبار بانتخاب الأمة شرعاً حتى في مورد الكتاب أيضاً.
3ـ وقال: الأمر الثالث فحوى قاعدة السلطنة، فإن العقل العملي يحكم بسلطة الناس على أموالهم، واستمرت عليما سيرة العقلاء في حياتهم ومعاملاتهم ويحكمون لحرمة التعدي على مال الغير وكونه ظلماًَ، ونفّذ الشارع أيضاً ذلك بحيث صار من مسلمات فقه الفريقين. وفي رواية عوالي اللآلي عن النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم)، «إن الناس مسلّطون على أموالهم»[5]، إلى غير ذلك من الأخبار. فإذا فرض كون أمر مال المسلم بيده فهم بطريق أولى مسلطون على أنفسهم، فإنّ السلطة على فرع ونتيجة للسلطة على النفس التي فكرها وقوّتها منشأ اغتنام المال، ولذلك فالناس أحرار بيدهم انتخاب من يتولى إدارة أمورهم. نعم مع وجود نص الله مالك الملوك على أحد ـ كما في المعصومين (عليهم السَّلام) ـ لابد من إتباعه، وأما مع عدمه كما هو المفروض فالمتّبع هذه الأولوية[6].
أقول: وفيه أن الأولوية المدّعاة إن سلمت فإنما هي ظنية، ومن المسلم أن الأصل في الظنون عدم الحجية، ومن الشواهد على أنها غير قطعية وغير معتبرة أن السلطنة على المال في حدّها المشروع ثابتة للعقلاء والمسلمين في زمن الرسول والأئمة (عليهم السَّلام) إلى آخر الأبد، فلو كانت الأولوية قطعية لكان مقتضاها عدم إمكان نصب أحد للولاية على الأمة فإنه خلاف تلك الأولوية القطعية، وهذه الحرية الثابتة تنافي عدم الاعتناء بها وإن كان بنصب المعصوم لتولي الأمور، فمن هذا النصب المقطوع نعرف أنها ليست بقطعية بل هي من المظنونات التي لا اعتبار بها، فالاستدلال بهذا الأولوية أيضاً غير تام.
4ـ وقال: الأمر الرابع عموم ما دل على صحة العقود، مثل قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ﴾[7] وما دل على الاعتبار شرعاً بكل شرط لا يخالف الكتاب، كما في صحيح عبد الله بن سنان عن الصادق (عَليهِ السَّلام): «المسلمون عند شروطهم إلاّ كل شرط خالف كتاب الله عز وجل فلا يجوز»[8] بناءً على شمول الشرط للقرار الابتدائي أيضاً كما لا يبعد. وتقرير الاستدلال بها أن انتخاب الأمة لوليّ الأمر وتفويض الأمور لها وقبول ذاك الوالي له نحو عقد وشرط بين الناس وبينه، فتقتضي عموم الأدلة المذكورة اعتباره، وبنا أن إقدام الناس على الانتخاب المذكور أمر دارج بين العقلاء وهو كما مرّ شرط وعقد بين العقلاء وبين ذاك المنتخب فليست الآية أو الأخبار منصرفة عنه بل تقتضي اعتباره[9].
أقول: وفيه (أولاً) أن هذا الأمر الذي يفعله كل أحد إنّما هو جعل منتخبه ولياً للأمة لا أنه يجعله وكيلاً لنفسه فيما يرجع إلى شخصه ففعل الناس في هذا الانتخاب هو إعمال لما عبّر هو في الأمر الثاني بالسيرة. ومن الواضح أن حقيقة تلك السيرة أن كل أحد يجعل منتخبه وليّاً للناس وعليهم، فهذا هو حقيقة انتخاب كل أحدٍ، وقد مرّ هناك أن الشرع المقدس قد ردع عن هذه السيرة، وقد قام الله تبارك وتعالى على نصب أولياء الأمر للأمة ولم يفوضه إلى الأمة. وبالجملة: ليست حقيقة انتخاب الناس بحسب الدقة في مغزى عملهم إلاّ تعيين كل منهم لولي الناس، لا جعل هذا المنتخب وكيلاً من قبل نفسه في ما يرجع إليه من الأمور الاجتماعية، فهو عمل بتلك السيرة المردوعة.
و(ثانياً) ـ بعد التسليم أنه يرجع إلى عقود وشروط متعددة بين ذاك المنتخب من ناحية وبين كل من الناس من ناحية أخرى ليكون جميع هذه العقود والشروط راجعاً إلى نصب وليّ الأمر من قبل الناس ويكون وجوب الوفاء بها والالتزام بها من جانب الشرع المقدس إمضاءً شرعياً لهذا المنصب ـ أن الذي يلزم من هذا الإمضاء إنّما هو اختصاص وجوب الوفاء والالتزام بخصوص من أقدم على هذا العقد والشرط، وأما من لم يقدم على انتخاب أحد أصلاً أو أقدم وعقد هذا العقد وشرط ذاك الشرط مع منتخبٍ آخر لم يظفر أكثرية الآراء فيما إذا كان الأفراد الذين في معرض الانتخاب كثيراً فلا دليل على وجوب وفاء أولئك بهذا العقد والشرط، فإن وجوب الوفاء يختص بالمتعاقدين وبمن وقع الشرط بينهما وليس على غيرهما إلاّ الاعتراف بثبوت هذا الوجوب عليهما وترتيب آثاره، وأما ترتّب أثر الإمارة والولاية مثلاً على غير المتعاقدين فليس عليه دليل، بل يكون مقتضى الأصل العملي عدم ثبوت الولاية وعدم ترتب حكمها على غير المتعاقدين.
ومثل هؤلاء الذي لم يقدموا على انتخاب أحد بالمرّة أو أقدموا وانتخبوا غير واجد أكثرية الآراء الأطفال الذي لم يبلغوا ـ وقت الانتخاب ـ سنّ الشركة في عقد الانتخاب ولو بزمن قليل، فإن هؤلاء أيضاً لا محالة لم يدخلوا في المتعاقدين ويصلون تدريجاً سن البلوغ اللازم وهم جماعة كثيرون ويزيد على عددهم بالتوالد والتناسل، فلا دليل على ثبوت ولاية أمر المنتخب عليهم، بل الأصل العملي يقتضي خلافه، كما عرفت.
ثمّ إن القائل المذكور تفطّن للإيراد الثاني في المسألة التاسعة من المسائل الستّ عشرة المهمّة، وأجاب عنه بأنّ الإنسان مدني بالطبع وله مضافاً إلى الحياة الفردية والعائلية حياة اجتماعية ولا تتم له الحياة إلاّ في ظل المجتمع بإمكانياته ودخول الإنسان في ظل المجتمع يقتضي طبعاً التزامه بكل لوازمه، وإذا بدت فكرتان مختلفتان في حفظ النظام فاستقراره يتوقف على ترجيح إحداهما وهي ما عليه الأكثر، ففي الحقيقة قد وقع اتّفاق العقلاء على الأخذ بفكرة الأكثر، وعليه استقرت سيرة العقلاء في انتخاب وليّ الأمر إذا كانت هناك آراء متخالفة، ولا يضرر تضرّر الأقلية أو القصّر ـ بل ومَن لم يقدم على انتخاب ولي الأمر أيضاً ـ أحياناً في ظل المجتمع ومقرّراته بعد ما يكون غنمهم ببركة المجتمع أكثر بمراتب، ومن له الغنم فعليه الغرم يحكم به العقل والوجدان[10].
أقول: إن هذا الجواب يمكن أن يعد صحيحاً إذا كان لنا دليل معتبر شرعي على جواز أو وجوب إتباع سيرة العقلاء في ما نحن فيه، وقد عرفت أن لا دليل على اعتبارها، وهذا القائل أيضاً في استدلاله بوجوب الوفاء بالعقود والالتزام بالشروط في مقام إثبات اعتبار مثل هذه السيرة، والعمدة والمهم إنّما هو الأخذ بما تقتضيه آية الوفاء بالعقود وأخبار الالتزام بالشرط على خصوص المتعاقدين وخصوص من بينه وبين غيره شرط، ولا يدل شيء منها على وجوب الوفاء والالتزام على غيرهما. نعم كل أهل الإسلام يرون بمقتضى حجّة الآية والأخبار وجوب التزام خصوص الطرفين بما عقدا عليه واشترطا به، وهو غير وجوب التزام غيرهما بما عقد هذان الطرفان من ولاية من انتخباه، كما هو واضح.
5ـ وقال: الأمر الخامس ما دلّ من الآيات والروايات على الحث على الشورى والأمر بها في الأمر والولاية كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾[11] وعن رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم): إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم (وأمركم ـ في التحف) شورى بينكم فظهر في الأرض خير لكم من بطنها[12].
وفي العيون عن الرضا (عَليهِ السَّلام) بإسناده عن النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) قال: من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه، فإن الله عز وجل قد أذن ذلك[13]. إذ الظاهر منه ثبوت الولاية بالمشورة، بناءً على كون المراد المشورة في التصدي لأصل الولاية لا المشورة في أعمالها.
قال: وكلمة «الأمر» في الآية الشريفة وفي الروايات تنصرف إلى الحكومة أو هي القدر المتيقن منه كما في نهج البلاغة: فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة[14]. وكما عن رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم): لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة[15]. وفي كتاب الإمام المجتبى (عَليهِ السَّلام) إلى معاوية: ولاّني المسلمون الأمر من بعده[16]، إلى غير ذلك من موارد استعمال الكلمة.
وعلى هذا فالولاية تنعقد بشورى أهل الخبرة وانتخابهم، وبتعقّبه انتخاب الأمة ورضاهم بها كما هو المشاهد في جميع الملل، وقد جعل أكثر المسلمين أساساً للخلافة بعد النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) ونحن الشيعة وإن ناقشناهم فيه لثبوت النص على ولاية الأئمة المعصومين (عليهم السَّلام) ولكن عند فقد النص كما في عصر الغيبة وصلت النوبة إلى الشورى قهراً بمقتضى عموم الآية والروايات.
لا يقال: الموضوع في الآية أمور المؤمنين وكون الولاية منها أول الكلام لأنها مع عهد الله تعالى كما يشهد به قوله تعالى في قصة إبراهيم وطلبه إياها لذريته: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[17] فالولاية عهد الله وأمره لا أمر المؤمنين، فإنه يقال: لا منافاة بين كونها أمر الله وعهده بعناية وبين كونها من أمور الأمة كما تشهد به ـ مضافاً إلى وضوح ارتباطها بهم ـ التعبيرات الواردة في الأخبار، وقد مرّ بعضها[18].
ولعل من بعض الأخبار الذي قد مرّ هو قول أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) في كتاب له إلى أصحاب الخراج «فإنكم... وكلاء الأمة».
أقول: العمدة في استدلاله بآية الشورى والروايتين جعل المراد من «أمرهم» و«أمرها» و«أموركم» هي الحكومة ولو بالانصراف، وهو ممنوع جداً، فإن الأمر ـ كما قاله الخليل في كتاب العين ـ: واحد من أمور الناس، وقوله تعالى ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ﴾ في مواضيع ثلاثة من كلامه الكريم[19] كقوله تعالى: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ في سورة النازعات شاهد على استعماله في هذا المعنى، بل إن استعماله في هذا المعنى في القرآن المجيد كثير جدّاً. نعم له معنى آخر أيضاً شائع وهو ما يقابل النهي، وحينئذ فقوله تعالى في سورة الشورى في عداد صفات عديدة ذكرت للمؤمنين ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ يدل على أن من الصفات المحمودة للمؤمنين اعتناء كل منهم بالآخرين، بحيث يستفيد كل منهم من المشاورة مع غيره ليجمع عقل الناس مع عقله، فيكون ما يختاره أوثق وأتقن. فيدل على حسن الالتجاء إلى المشاورة، إلاّ أن العازم على الأمر بعد المشورة إنّما هو من الأمر له، وإنما غاية الأمر أنه ربما يستفيد من المشورة فيعزم على ما يراه حسناً، كما يشير إلى هذا المعنى ـ علاوة على الروايات الكثيرة الواردة في باب المشاورة ـ قوله تعالى خطاباً لنبيه الأكرم (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم): ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾[20] فهو وإن أمر بالمشاورة إلاّ أنه بالنهاية هو الذي يعزم.
وحاصل الكلام: أن حسن الشورى ليس في معنى أن المشاورين أن يبدوا رأيهم ويكون لمن ذهب إليهم للمشورة هو أيضاً رأي واحد ثم يكون المتّبع أكثر الآراء، بل إنما غاية الأمر أن يستفيد صاحب الأمر من المشورة معهم ثم يكون العازم هو نفسه فلا يكون حسن الشورى بمعنى لزوم أو حسن إتباع أكثر الآراء وإن سلم دلالة حسنها على حسن إتباع آراء الأكثرين، فأمرهم المذكور في الآية المباركة معناه الأمر الذي هو لكل أو جمع من الناس المؤمنين فيعم جميع الأمور، وغاية الأمر أن يكون أمر تعيين ولي الأمر أيضاً داخلاً في هذا العموم، فتدل الآية بعمومها على اعتبار آراء الأكثرين في مسألة تعيين ولي الأمر أيضاً.
إلاّ أنه لا ينبغي الارتياب في أنّ الشارع الأقدس قد منع الناس عن اختيار أنفسهم لوليّ أمر الأمة بل إن ولي أمرهم إنّما كان ينصب من الله تعالى كما قال تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾[21]، وقال تعالى أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾[22] وكان هذا الذي أنـزل الله إليه وبلّغه يوم الغدير هو ولاية أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام)، وهكذا الكلام في ولاية غيره من الأئمة المعصومين (عليهم السَّلام). فأصل ولاية أمر وليّ الأمر كانت من الله تعالى، وولاية الولاة الذين لهم الولايات الفرعية أيضاً كانت بيد وليّ الأمر الأصلي كما كان يفعله أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) في أيام إعمال ولايته في السنوات القليلة.
وبالجملة: فلا ريب في أن الولاية الكبرى التي تنحصر في النبي والأئمة المعصومين (عليهم السَّلام) إنّما كانت من جانب الله تعالى، وليس للناس في ثبوتها ولا في وجوب طاعة ولي الأمر عليهم شأن أصلاً، بل عليهم أن يطيعوا من جعله الله تعالى ولي أمرهم، وقد مضى البحث عن هذا الكلام مستوفىً.
فغاية الأمر أن يقتضي إطلاق «أمرهم» المذكور في آية الشورى اعتبار أكثرية الآراء في انتخاب ولي الأمر، لكن هذا الإطلاق قد قيد شرعاً بغير انتخاب وليّ أمر الأمة، وولاية أمر الأمة قد أخذها الله تعالى بيده ونصب أولياء الأمر من عند نفسه، وهو أمر مسلم عند الشيعة بل عليه صحّة عقيدتهم ومذهبهم كما هو واضح.
ثم إن من هذه الأدلة الدالة على أن أمر إمامة الأئمة وولاية ولاة الأمة بيد الله تعالى قوله تعالى في إبراهيم: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[23] وبيانه: أن الإمامة المذكورة فيه هي ولاية الأمر، وإذا سألها إبراهيم لذريته قال الله تعالى جواباً عن طلبته بقوله: «لا ينال عهدي الظالمين» فدل الجواب على أن الإمامة والولاية عهد الله، ولا ينبغي نيلها كل الناس بل لمن يليق أن ينالها شرائط وصفات، ومن جملتها أن لا يكون من الظالمين. فالآية المباركة دالّة على أن ولاية أمر الناس وإن كانت من باب أنها تولي أمورهم مرتبطة بالناس إلاّ أنها مع ذلك فهي عهد الله تعالى لا يليق أن ينالها إلاّ من كانت له صفات ممتازة. وقد مرت رواية عبد العزيز بن مسلم عن أبي الحسن الرضا (عَليهِ السَّلام) وأن الإمام قد ذكر الآية ونص على أن الإمامة المذكورة فيها هي ولاية أمر الناس وأن هذه الولاية مختصة بطائفة خاصة من الناس هم إبراهيم والصفوة من ذريته، وأن الصفوة منهم بعد بعثة النبي الأكرم هم النبي والمعصومون من آله، وقد نص فيها مراراً على أن ليس أمر انتخاب وليّ الأمر بيد الناس بل جعل وليّ الأمر بيد الله تعالى، ليس للناس فيه نصيب أصلاً، فراجع الرواية المذكورة[24].
ومنه تعرف ضعف ما أجاب به عن الإيراد الذي أورده بقوله «لا يقال» فتذكر.
ثم قد عرفت أن الأمر واحد من أمور الناس، ولا اختصاص له ولا انصراف إلى خصوص ولاية أمر الأمة. نعم إذا كانت في البين قرينة فلا مانع من إرادة خصوصها كما في سائر الألفاظ، والموارد الثلاثة التي استشهد بها من هذا القبيل. فأما النبوي فقد روى الترمذي في سننه بإسناده عن أبي بكر قال: عصمني الله بشيء سمعته من رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم)، لما هلك كسرى قال: من استخلفوا؟ قالوا: ابنته، فقال النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم): لن يفلح قوماً ولّوا أمرهم امرأة. قال: فلما قدمت عائشة تعني البصرة ذكرت قول رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) فعصمني الله به. قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح[25].
وهكذا لفظ الحديث في صحيح البخاري عن أبي بكرة: نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) أيام الجمل بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم قال: لما بلغ رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال: لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة[26].
ومثلهما سنن النسائي[27]، وما رواه الحاكم في المستدرك[28].
ومن المعلوم أنّ ما قبل النبوي دليل على إرادة ولاية الأمر من «أمرهم» هنا.
وأمّا ما في نهج البلاغة فهو ذيل الخطبة الشقشقية الواردة في بيان غصب ولاية الأمر عن أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) الحاكية بهذه الجملة لما وقع عليه (عَليهِ السَّلام) بعد أن بويع بالخلافة من نكث بيعة طائفة، فلا محالة يراد بالأمر أمر إدارة أمور الأمة بالولاية.
ومثله بعينه العبارة المحكية عن كتاب الإمام المجتبى (عَليهِ السَّلام) إلى معاوية. فلا شاهد للمطلوب في شيء منها، هذا كله حول الآية الشريفة.
وأما النبوي المذكور عن تحف العقول وسنن الترمذي فتمامه فيهما هكذا: ففي التحف مرسلاً، وفي السنن بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم): إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأمركم (أموركم ـ في السنن) شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها. وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها[29].
فالحديث كما ترى قد فرض فيه للمسلمين أمراء وافترض لهؤلاء الأمراء أن يكونوا خيار المسلمين أو أن يكونوا شرارهم، فوليّ أمر المسلمين بالولاية الكبرى داخلة في هذا الجمع المذكور، فلا محالة فقد فرض وليّ أمر الأمة وغيره من الأمراء الذين يتأمرون بتأمير وليّ الأمر الأعظم. وعليه فليس المراد من «أمورهم» التي تكون شورى بينهم أو تكون إلى نسائهم أمر تعيين وليّ الأمر وانتخابه بل سائر الأمور التي تعرض لهم، وذلك أن ولاية ولي الأمر الأعظم مفروضة التحقّق، وبعده لا معنى لإدارة أمر تعيينه وانتخابه أصلاً، فلا مجال للتمسك بالنبوي للاعتبار بأخذ الآراء في تعيين وليّ الأمر.
وأما النبوي المذكور عن عيون الأخبار فالمفهوم من جملته الأولى: «من جاءكم يريد أن يفرّق الجماعة» أن للمسلمين قبل مجيء هذا الجاني جماعة والجماعة لا تكون إلاّ وليّ أمر لها، وحينئذٍ فقوله في الفقرة التالية «ويغصب الأمة أمرها» دليلٌ على عدم صلاحية الجاني لتولي أمر الأمة، وأن توليه لها غصب وحرام. ومسبوقية هذه الفقرة بالفقرة الأولى التي شرحناها قرينة إرادة أمر تولي أمور الناس من لفظة «أمرها». وكيف كان فقوله في الفقرة الثالثة «ويتولى من غير مشورة» وإن استشعر منها دخل ما للمشورة في تولي أمور الناس إلاّ أنه لا يبعد دعوى أنها كالتأكيد للفقرة الثانية الناصة على أن تولي هذا الجاني لأمر الأمة غصب له وحرام، وان توليه المستند بعدم الاعتماد بأحدٍ واستبداده به ممنوع، وإلا فإن رجع إلى الضوابط التي عليها الناس لم يتول أصلاً.
فالحاصل: أن النبوي في فقراته الثلاث ناظر إلى نفي مشروعية مجيء هذا الجاني وأفعاله الاستبدادية غير المبنية على رعاية ضوابط الشريعة لا إلى كيفية ثبوت ولاية أمر الأمر بالأسباب المقررة حتى يعد منها مشورة الناس. هذا، بل لو سلّمت دلالتها على أن المشورة منها فقد مضى أن ليس مقتضي المشورة اعتبار أكثرية الآراء، فتذكر. بل قد عرفت أن الأخبار العديدة المتواترة دالّة على عدم الاعتناء شرعاً بانتخاب الناس ولا باختيارهم وآرائهم في تعيين وليّ الأمر أصلاً بل إن مبنى مذهبنا المبنى المسلم القطعي أن ولاية ولاة الأمر لا تكون إلاّ بنصب الشارع الأقدس، والحمد لله تعالى.
6ـ وقال: الأمر السادس الآيات والروايات المتضمنة للتكاليف الاجتماعية التي خوطب في غالبها الأمة مع توقف تنفيذها على القدرة وبسط اليد، كقوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾[30]، وقوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا﴾[31]، وقوله تعالى ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ﴾[32]، إلى غير ذلك من آيات الجهاد وقتال الفئة الباغية، والروايات الواردة بهذا المضمون في الحدود والجهاد وغيرهما. فعلى المجتمع الإسلامي أن يقوم بإجراء جميعها، وحيث إن إجراءها متوقف على جماعة متفرغة لها قدرة متركزة وأدوات لازمة فيجب مقدّمة لإجرائها أن يعد هذا المجتمع أن يشكل دولة مقتدرة، وتشكيلها على ما هو المتعارف في جميع العالم إنّما هو بانتخاب وليّ الأمر ليقوم بإعداد ما إليه الحاجة من الأشخاص والإدارات، فإيجاب إجرائها دليل على وجوب إيجاد هذه الدولة مقدمة له، وطريقه العقلائي هو الانتخاب[33].
أقول: الجواب القاطع عن هذا الأمر ظاهر بأدنى تأمل، فإن هذه الآيات وما بمعناها من الروايات ألقيت إلى عامة المسلمين زمن حضور النبي الأكرم والأئمة (عليهم السَّلام)، وألقيت إليهم أيضاً تلك الآيات الدالة على أن الله تعالى جعل الرسول والأوصياء أولياء أمر الأمة، والروايات المتواترة السند القاطعة الدلالة على أن الأمة ليس بأيديهم نصب وليّ أمر الأمة وليس لهم اختيار تعيين ولي الأمر، بل إن تعيينه بيد الله تعالى وإن ولاية الأمر هي عبارة أخرى عن الإمامة، والإمامة عهد الله لا يناله إلاّ من أراده ونصبه، فبعد وجود هذه الأخبار القاطعة السند والدلالة كيف يحتمل أن يراد من الآيات المزبورة والروايات إيجاب تعيين ولي أمر الأمة على الناس ولو إيجاباً مقدمياً؟ فراجع ما قدّمناه ذيل الجواب عن وجهه الخامس.
7ـ وقال: الأمر السابع الآيات الدالّة على استخلاف الله للإنسان أو المؤمنين في الأرض أو على استعماره لهم فيها، فمثلاً قد قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ﴾[34]، وقال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾[35]، وقال تعالى أيضاً: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾[36].
ببيان أن الاستخلاف هو جعل الإنسان خليفة له تعالى، والخليفة له أن بفعل ما كان يفعله الأصيل نفسه، فكما أن له تعالى جعل أحد ولي أمر على الأمة فكذلك للإنسان الذي بمجموع أفراده خليفة له. ومن الواضح أن جعل الولاية منهم لأحد إنما هو بانتخابهم له لها. كما أن الاستعمار هو طلب العمران في الأرض من الإنسان، والعمران يشمل الأعمال الخارجية التي يعملها الزرّاع والصناع وأمثالهم، وكذا يشمل جعل وليّ أمر لجميع الناس لكي يراقب أعمال الأمة وتكون تلك الأعمال في ظل نظامه.
وأجاب هو نفسه عن هذا الوجه بعدم ظهور الاستخلاف في جعل الإنسان خليفة لله تعالى، بل لعل المراد جعله خليفة لمن سبق من الناس السابقين وبأن ظهور الاستعمار في ذاك العام غير واضح، ولا يبعد اختصاصه بالعمران التكويني، فلا دلالة في شيء من الطائفتين على المدّعى[37].
أقول: ومن الشواهد على إرادة الاستخلاف عن السابقين أنه قد ذكر في بعض الآيات المشتملة على الاستخلاف أن بعض هؤلاء الخلائف يكفرون بالله تعالى وهو منافٍ لكونه خليفة له تعالى: فقد تلا الآية الأولى المذكورة قوله: ﴿فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾[38]، ومن الواضح أنه تفريع على سابقه وتوبيخ على كفر هؤلاء الخلائف. وقريبٌ منه ما جاء في سورة الأعراف حكاية لما قاله هود لقومه الذين لم يؤمن به إلاّ قليل منهم : ﴿وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾[39]، ولما قاله صالح لقومه ﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ﴾[40]، إلى غير ذلك من الآيات ومن القرائن.
هذا، مضافاً إلى ما عرفت من أن تعيين وليّ أمر الأمة ليس بيد المكلفين في شريعة الإسلام قطعاً، وورد بهذا المعنى أخبار متواترة قطعية الدلالة، فكيف يحتمل إرادة هذا المعنى من آيات الاستخلاف أو آية الاستعمار؟!
8ـ وقال: الأمر الثامن ما في نهج البلاغة لما أرادوا بيعته (عَليهِ السَّلام) بعد قتل عثمان قال (عَليهِ السَّلام): «دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول وأن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكّرت (وزاد في تمام نهج البلاغة هنا: فقالوا له: ننشدك الله ألا ترى الإسلام؟! ألا ترى الفتنة؟! فقال (عَليهِ السَّلام)) واعلموا (اعلموا ـ في التمام) أني أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب. وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم وأنا (فأنا ـ التمام) لكم وزيراً خيرٌ لكم مني أميراً[41].
قال: ونحوه في تاريخ الطبري والكامل لابن أثير. يظهر منه أنّ الأمر امر المسلمين وأن توليته بأيديهم. لا يقال: هذا منه (عَليهِ السَّلام) جدل في قبال المنكرين لنصبه، فإنه يقال: نعم، لكنّه ليس جدلاً بأمر باطل خلاف الواقع، بل النصّ كما عرفت مقدم على الانتخاب، وحيث إنهم لم يسلّموا نصبه ذكر الانتخاب المتأخر عنه رتبةً[42].
أقول: هو لم يذكر بعد قوله: «التمسوا غيري» قوله: «واعلموا... الخ» وما زدنا عليه استتممناه من نهج البلاغة وتمامه.
وكيف كان، فيرد عليه أنه لا ريب في أن كلامه هذا جدل في قبال من لم يسلّم نصبه المسلم القطعي، كيف لا؟ فهو الذي أبدى خلاف الخلفاء السابقين وعدم اعتنائهم بما هو وظيفة إلهية لهم ولجميع المسلمين في مواضع عديدة، منها ما تضمنته الخطبة الشقشقية وقد صرّح (عَليهِ السَّلام) هناك بقوله: «أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الحاضر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقرّوا (لا يقاروا ـ النهج) على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها»[43]. فالسرّ الحقيقي لقبوله لأن يتولى أمر الأمة تنجز هذا العهد الذي أخذه الله منه بوجود الناصر، و ليس ولا يكون سرّه أن تولية وليّ الأمر بيد الناس، فلا ريب في أنّ ما قاله هاهنا قول لهم بلسان القوم الذي جاؤوا لبيعته، بل إن ما زاده تمام نهج البلاغة هنا شاهد على أن قبوله لتصدي الولاية إنّما هو لما يرى من الفتنة على الإسلام والمسلمين.
وبالجملة: فلا ينبغي الريب في أن كلامه هنا جاء به جدلاً على الناس بلحاظ اعتقادهم الباطل، فلا مجال لأن يكون فيه دلالة على أن أمر تولي ولي الأمر بيد تعيين الناس وبيعتهم، وقد مرّ ما يوضح هذا المدعى ما قدمناه في حقيقة البيعة وفوائدها، فتذكر.
9ـ وقال: الأمر التاسع ما في تاريخ الطبري بسنده عن محمد ابن الحنفية قال: «كنت مع أبي حين قُتل عثمان فقام فدخل منـزله فأتاه أصحاب رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) فقالوا: إن هذا الرجل قد قُتل ولابد للناس من إمام ولا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم)، فقال: لا تفعلوا، فإني أكون وزيراً خيرٌ من أن أكون أميراً، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال (عَليهِ السَّلام): ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون خفيّاً (خفيّة) ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين[44]. فجعل (عَليهِ السَّلام) لرضا المسلمين اعتباراً وجعل الإمامة ناشئة عنه[45].
أقول: أنت كما ترى قد استدل ممّا نقله بخصوص الفقرة من كلامه (عَليهِ السَّلام) ـ أعني قوله: «ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين» ـ لكن الاستدلال به إنّما له وجه إن كانت هذه الفقرة سبقت في مقام بيان الحكم الواقعي لا في مقام الجدل والتكلم للناس على مذاقهم واعتقادهم الباطل، وقد مرّ آنفاً أن ولايته (عَليهِ السَّلام) على الأمة بعد رحلة رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) ثابتة بنصّ ونصب من الله تعالى على ما هو مدلول أدلّة قطعية السند والدلالة من الآيات والأخبار، وقد ذكره هو (عَليهِ السَّلام) في مواضع عديدة، منها ما في الخطبة الشقشقية، فهو (عَليهِ السَّلام) لا يحتاج في ثبوت الولاية إلى بيعة أحد أصلاً، بل هو وليّ أمر المسلمين من دون حاجة إلى بيعة أصلاً، بل تجب البيعة معه على المسلمين. نعم إعمال هذه الولاية محتاجة إلى متابعة الناس وحضورهم مطاوعين، وهذا الحضور المكشوف عنه بالبيعة لا يتحقّق إلاّ برضا المسلمين ومبايعتم في المجمع العمومي الذي كان ويكون حينذاك في مسجد النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم)، فالولاية لا تنشأ عن رضا المسلمين بل البيعة وإظهار الطاعة اللازمان لإعمال الولاية لا يتحقّقان عن رضا المسلمين في مثل مسجد النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم). وبالجملة: فلا ريب في عدم دلالة كلامه (عَليهِ السَّلام) على دخالة رضا المسلمين في ثبوت الولاية أصلاً.
10ـ وقال: الأمر العاشر ما في الكامل بعد ما مرّ منه: ولما أصبحوا يوم البيعة ـ وهو يوم الجمعةـ حضر الناس المسجد وجاء علي (عَليهِ السَّلام) فصعد المنبر وقال: «أيها الناس ـ عن ملأ وإذن ـ إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلاّ من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم، ألا وإنه ليس لي دونكم إلاّ مفاتيح مالكم، وليس لي أن آخذ درهما دونكم[46].
أقول: ومحل الاستدلال فيه صراحة قوله (عَليهِ السَّلام) في مقام استخلاف الناس له ومبايعتهم إياه على الخلافة والإمارة: «إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلاّ من أمرّتم» في أن مسألة الإمارة على المسلمين بأيدي الناس، ولا يجوز أن يتأمر أحد عليهم ولا أن يتولى أمورهم إلاّ من أمروه وجعلوه وليّ أمرهم. وهو عبارة أخرى عن مشروعية الانتخاب فقط كما نحن بصدده، والجملات الأخيرة أيضاً كما ترى مؤيّدة وموضحة لهذا المعنى.
لكنك بتذكر ما قدمناه تعلم أن إبراز مثل هذه المطالب منه (عَليهِ السَّلام) لا يكون إلاّ جدلاًَ على طبق ما زعمه الناس، وإلا فلا ريب أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم بنصب من الله تعالى، وقد بينه النبي الأعظم (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) مرّات عديدة منها في يوم الغدير امتثالاًَ لأمر الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾[47] وقد ذكر حقيقة الأمر هو نفسه (عَليهِ السَّلام) في مواضع منها ما في الخطبة الشقشقية، وكيف لا؟! وقد مضى أن من المسلّم المقطوع انه ليس أمر تولية وليّ الأمر في الإسلام إلاّ بيد الله تبارك وتعالى، فلا مساغ لمثل هذه الكلمات إلاّ المشي الجدلي، أي على مذاق الناس ومزعمتهم الباطلة.
11ـ وقال: الأمر الحادي عشر ما في نهج البلاغة: وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضاً، فإن خرج عن أمرهم خارجٌ بطعنٍ أو بدعةٍ ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبي قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين وولاة الله ما تولّى[48].
أقول: ودلالته على ما أراد واضحة، إلاّ أن الأخذ به مرجعه إنكار أن يكون هو (عَليهِ السَّلام) وليّ أمر الأمة بجعل من الله تعالى بيّنه النبي للناس، وهو مخالف للأدلة القطعية السند والدلالة، ولما صرّح به هو (عَليهِ السَّلام) في مثل الخطبة الشقشقية وغيرها ولما عليه اعتقادنا فلا محالة إنّما هو قول جدلي لإثبات ولايته حتى على من يزعم أن أمر التولّي بيد الناس. ولا دلالة فيه على حجيّة الانتخاب أصلاً.
12ـ وقال: الأمر الثاني عشر ما في كتاب أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) إلى شيعته: وقد كان رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) عهد إليّ عهداً فقال: يا ابن أبي طالب لك ولاء أمتي، فإن ولوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما فيه.
وقال: فإن الولاء وإن كان لأمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) بالنصب عندنا، ويدلّ عليه الخبر أيضاً، ولكن يظهر منه أن لتولية الأمة أيضاً أثراًَ، وأن الأمر أمرهم، فيكون في طول النصّ وفي الرتبة المتأخرة، فتأمل[49].
وأنا أقول: إنه قد نقل الفقرات المزبورة من كشف المحجّة لابن طاووس: ص 180، ونسخته ليست عندي. وكيف كان، فلهذه الفقرات في كتابه (عَليهِ السَّلام) صدر وذيل يظهر للناظر فيهما أنه (عَليهِ السَّلام) لا يرى للناس في أمر تولّيه (عَليهِ السَّلام) أي أثر أصلاً، فقال (عَليهِ السَّلام) في هذا الكتاب هنا كلاماً نذكر بعضه، قال: (عَليهِ السَّلام): وإنما حقي على هذه الأمة كرجل له حق على قوم إلى أجل معلوم، فإن أحسنوا وعجلوا له حقه قبِله حامداً، وإن أخّروه إلى أجله أخذه غير حامد، ولا يعاب المرء بتأخير حقه، إنّما يعاب من أخذ ما ليس له، وقد كان رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) عهد إلي عهداً فقال: يا ابن أبي طالب لك ولاء أمتي من بعدي فإن ولوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما فيه، فإن الله سيجعل لك مخرجاً. فنظرت فإذا ليس لي معين ولا رافد ولا ذابٌ ولا معي ناصر ولا مساعد إلاّ اهل بيتي، فظننت بهم عن الموت والمنية، ولو كان لي بعد رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) عمّي حمزة وأخي جعفر لم أبايع كرها، ولكني بليت برجلين حديثي عهد بالاسلام: العباس وعقيل، فأغصيت عيني على القذى، وجرعت ريقي على الشجا، وصبرت من كظم الغيظ على أمرّ من طعم العلقم وآلم للقلب من وخذ الشفار وأخذ الكظم[50].
فهذه الجملات وما قبلها وما هو مثلها دليل واضح على أن ولاية أمر الأمة كانت حقاً شرعياً إلهياً له، وأنه ليس للناس إلاّ الإطاعة والبيعة، لكن الناس اختلفوا عليه وخالفوا الله ورسوله في منعه (عَليهِ السَّلام) لحقّه، وأنه (عَليهِ السَّلام) إنّما لم يقم بأخذ حقّه لمكان عدم الناصر له إلاّ أهل بيته الذين ظنّ بهم عن الموت، وعليه بل وعلى الإسلام فليبك الباكون.
وبالجملة: فلا ريب في عدم دلالة كتابه (عَليهِ السَّلام) هذا على مشروعية انتخاب الناس في الولاية أصلاً.
13ـ وقال: الأمر الثالث عشر ما في شرح ابن أبي الحديد عن رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) أنه قال: «إن تولّوها عليّاً تجدوه هادياً مهدياً» فنسب (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) التولية إلى الأمة[51].
يعني والتولية جعل احد وليّ الأمر، فالأمة هم الذين يعطون الولاية لعلي (عَليهِ السَّلام)، وقد نسبها إليهم رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم)، فتوليتهم مشروعة، وهي عبارة أخرى عن مشروعية الانتخاب.
لكن الحق أن يقال: إن التولية وإن كانت بمعنى جعل الولاية لأحدٍ إلاّ أن لهذا الجعل يتصور مرحلتين: مرحلة إثبات منصب الولاية له في مقام الثبوت، ومرحلة وضع الأمور بيده خارجاً، الذي هو عبارة عن إعمال ذاك المنصب بحضور الأمة وتهيؤها، وحيث إن من المسلّم المقطوع بحسب الأدلة أن الله تعالى قد أعطى علياً (عَليهِ السَّلام) في مقام الواقع ونفس الأمر سمة الولاية على الأمة كما أعطاها النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) وبيّنه نبي الإسلام للناس مراراً ومنها يوم الغدير، فلا محالة أن مرحلتها الأولى كانت ثابتة لعلي (عَليهِ السَّلام) بجعل من الله وإعطائه له. وما يبقى من المرحلتين فإنما هي مرتبة التولية له في مقام العمل، وهي بيد الأمة، ويجب عليهم أن يولّوه ويبايعوه ويطيعوه، فالرسول الأعظم (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) ناظر في كلامه المنقول عنه إلى هذه المرحلة وفي مقام آثار ولايته الفعلية، فقال (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم): «إن تولّوها علياً تجدوه هادياً مهدياً» وعليه فلا صلة لكلامه هذا بأن أمر إعطاء الولاية له (عَليهِ السَّلام) بيد الأمة، ولا يدل على مشروعية انتخاب من يريد أن يتولى أمر الأمة.
بل وهذا المعنى هو المراد من التولية المذكورة في النبوي المنقول في كتاب علي (عليه السلام) الذي قد مرّ في الأمر السابق علاوةً على ما ذكرنا ذيله، فتذكر.
14ـ وقال: الأمر الرابع عشر في كتاب الحسن بن علي (عَليهِ السَّلام) إلى معاوية: «إن علياً (عَليهِ السَّلام) لما مضى لسبيله... ولاّني المسلمون الأمر من بعده... فدع التمادي في الباطل وأدخل في ما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك» يظهر من الحديث أن التولية حق للمسلمين[52].
لكنك تعلم ما بينّاه ذيل نبويّ شرح ابن أبي الحديد أن التولية هنا لابد وأن يراد منها جعل أحد ولي الأمر في مقام إعمال حقّه الثابت له، وذلك لدلالة الأدلة الكثيرة القطعية السند والدلالة على ثبوت منصب ولاية الأمر للإمام المجتبى (عَليهِ السَّلام)، بل ولسائر الأئمة المعصومين (عليهم السَّلام) في مقام الثبوت، ونفس الأمر بجعل من الله تعالى بلا أي نقش في ثبوته له ولهم للأمة أصلاً، بل إنما على الأمة الطاعة والبيعة، وهذه الإطاعة العملية عبارة أخرى عن تولية الأمة لهم، أي التهيؤ والحضور اللازم لأن يعمل ولي الأمر ما تقتضيه ولاية أمر الثابتة له بجعل من الله وإعطائه، فالتولية في كتابه يراد منها المرحلة الثانية منها، وهذه المرحلة وظيفة شرعية واجبة على الناس والأمة، ولا يراد منها مرحلة إعطاء الولاية لهم فإنه حقّ خاصّ لله تعالى، وإنما للأمة بل عليهم الاتباع والطاعة، فلا يدل هذا الكتاب أيضاً على مشروعية الانتخاب أصلاً.
15ـ وقال: الأمر الخامس عشر ما في كتاب صلح الحسن (عَليهِ السَّلام) مع معاوية: «صالحه على أن يسلّم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) وسيرة الخلفاء الصالحين، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين» يظهر من الحديث أنه مع عدم التمكن من العمل بالنص بأي دليل كان تصل النوبة إلى شورى المسلمين وآرائهم، فتأمل[53].
أقول: والاستدلال كما ترى بالجملة الأخيرة المنقولة عن الكتاب، ولا شك في ابتنائه على كون الجملة بياناً للحكم الإلهي الأولي، إلاّ أنه مقطوع العدم وذلك لما عرفت من قيام الأدلة القطعية على ثبوت حق تولّي أمور المجتمع لخصوص الإمام المجتبى (عَليهِ السَّلام) بعد أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام)، وهذه الولاية قد ثبتت له بإعطاء الله تعالى، وليس لرأي الأمة في ثبوتها أي نقش وأثر على الناس، بل الواجب عليهم أن يطيعوا أولي أمرهم وأن يبايعوهم وأن لا يقصّروا في الإطاعة عنهم طرفة عين أبداً. ولا ريب في أنه مع هذه الأدلة ليس لشورى المسلمين أي أثر ودخل أصلاً كما لم يكن في ولاية النبي الأكرم (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) أثراً أبداً، وحينئذٍ فذكره في الكتاب لأن يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين لا وجه له إلاّ ابتلاؤه بالأمة المخدوعة عن الطريق الإلهي المستقيم والزاعمة خطأ أن أمر ولاية أولي الأمور موكول إلى شوراهم وإن كان معاوية لا يعتقد بالشورى ولا يغير ما يؤدي إلى ولاية أمر نفسه أو ولي العهد بعده أصلاً. وبالجملة: فلا ينبغي الشبهة في عدم دلالة الحديث على مشروعية الانتخاب أصلاً.
16ـ وقال: الأمر السادس عشر ما رويناه بطرق مختلفة عن رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) أنه قال: «ما ولّت أمه قط أمرها رجلاً وفيهم أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا». إذ دلالته على كون الأمر أمر الأمة وأن توليته بأيديهم واضحة[54].
أقول: قد ذكرنا آنفاً أن التولية لها مرحلتان مرحلة مقام الثبوت وإعطاء الولاية ومرحلة وضع أمر إدارة أمور الأمة بيد من يتولى أمورهم. ولا ريب في أن إعطاء الولاية للنبي والأئمة صلوات الله عليهم كان من الله تعالى، وما يمكن أن يكون بيد الناس هو وضع إدارة الأمور بأيديهم الذي هو البيعة لهم والإطاعة عنهم. وقد مر أنها واجبة على الأمة. والاستدلال بهذا النبوي مبنيّ على إرادة إعطاء الولاية ثبوتاً من التولية المذكورة فيه، ومن المحتمل جدّاً أن يراد بها البيعة ووضع الأمور بيد من يتولى إدارتها خارجاً بل هو المراد جزماً كما تدل عليه عباراته الماضية. ففي أمالي الشيخ الطوسي قد ذكر ما قبله وما بعده هكذا:
وأقسم بالله لو أن الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) لأعطتهم السماء قطرها والأرض بركتها وما طمعتَ فيها يا معاوية، فلمّا خرجت من معدنها تنازعتها قريش بينها، فطمعت فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء أنت وأصحابك، وقد قال رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم): «ما ولّت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا». وقد تركت بنو إسرائيل هارون وهم يعلمون أنه خليفة موسى واتبعوا السامري. وقد تركت هذه الأمة أبي وبايعوا غيره وقد سمعوا قول رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) يقول: «أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلاّ النبوة» وقد رأوا رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) نصب أبي يوم غدير خم وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب... الحديث[55].
فترى أنه في صدره ذكر أن اللازم على الناس المبايعة لعلي (عَليهِ السَّلام)، والمبايعة تولية بمرحلتها الثانية كما نصّ بعد نقل كلام النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) على التمثيل لتولية من ليس بأهل بترك بني إسرائيل لهارون خليفة موسى وإتباعهم للسامري. وبترك هذه الأمة علياً (عَليهِ السَّلام) والمبايعة لغيره مع أنهم كانوا يعلمون بأنه (عَليهِ السَّلام) وليّ أمرهم من الله تعالى بنص النبي الأكرم (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) على ذلك قولاً وفعلاً فلا يحتمل في النبوي من التولية إلاّ المبايعة، ولا ربط له بانتخاب وليّ الأمر أصلاً.
17ـ وقال: الأمر السابع عشر ما في العيون عن الرضا (عَليهِ السَّلام) بإسناده عن النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) قال: «من جاءكم يريد أن يفرّق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه». إذ الظاهر من إضافة الأمر إلى الأمة كون اختياره بيدها، فتأمل[56].
أقول: الاستظهار كما ترى مبني على اقتضاء إضافة لفظ «أمر» إلى ضمير «ها» الراجعة إلى الأمة. وأنت تعلم أن صدق الإضافة يكفي فيه أدنى ارتباط وتلبّس، وهو هنا حاصل قطعاً، ضرورة أن جميع الأمور أمور راجعة إلى الأمة والناس، فإن الولي إنّما يتولّى إدارة أمور الناس، فالإضافة ليست دليلاً على كون أمرها بأيديهم، فلا حجة في الرواية على اعتبار الانتخاب في وليّ الأمر أصلاً.
18ـ وقال: الأمر الثامن عشر ما مر عن البخاري وغيره من قول النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة». ودلالته كسابقه[57].
أقول: ويردّه ما تقدم في سابقه. مضافاً إلى أن الحديث ورد في مقام الطعن والتقريع على أهل فارس حينما ملّكوا أمرهم امرأة، فإن الحديث على ما عن صحيح البخاري هكذا: «لما بلغ رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) أن أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى قال: لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» ومن الواضح أنه (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) ليس في مقام بيان لأهل فارس أن يملّكوا أحداً على أنفسهم، لكنه لا يجوز أن يكون امرأة حتى يدل إضافة لفظة «أمر» إلى ضمير «هم» أن اختيار أمورهم بيد أنفسهم، وإنما هو بصدد تقبيح تمليك امرأة على أنفسهم، فلا يدل على مشروعية الانتخاب أصلاُ.
وقد نقل النبوي عن الترمذي مصححاً له، وعن مسند أحمد وعن سنن النسائي وعن تحف العقول مرسلاً أيضاً[58].
19ـ وقال: الأمر التاسع عشر ما في كتاب سليم عن أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) قال: «والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل... أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً ولا يبدأوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة يجمع أمرهم». حيث يظهر من الحديث وجوب اختيار الناس وكونه منشأ للأثر، ولكن في الرتبة المتأخرة عن اختيار الله، فإذا لم يكن منصوب ـ كما في زمان الغيبة مثلاً ـ فاختيار الناس هو الذي به تنعقد الإمامة، فراجع تمام الحديث[59].
أقول: لا ينبغي الريب في أن الواجب على المسلمين إذا ما مات الإمام أن يتفحصوا ويعرفوا الإمام المعصوم الذي جعله الله تعالى إماماً عليهم، وهو المراد بانتخاب الإمام هنا، بداهة أنه ليس للمسلمين أن ينتخبوا بآرائهم الإمام اللازم الاتباع، فلا محالة لا يراد بالانتخاب في الحديث جعل أحد بآراء الناس إماماً بل تعرّفه واتباعه، فلا يدل في مورده على الاعتبار شرعاً برأي الناس لكي يراد منه هذا المعنى في غير زمن حضور المعصومين (عليهم السَّلام).
وممّا يشهد لإرادة ما ذكرناه من الحديث قول أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) في نفس الحديث حيث قال (عَليهِ السَّلام): «وإن أوّل ما ينبغي للمسلمين أن يفعلوه أن يختاروا إماماً يجمع أمرهم إن كانت الخيرة لهم ويتابعوه ويطيعوه، وإن كانت الخير إلى الله عز وجل وإلى رسوله فإن الله قد كفاهم النظر في ذلك والاختيار، ورسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) قد رضي لهم إماماً وأمرهم بطاعته وإتباعه... الحديث[60].
فصرّح (عَليهِ السَّلام) بأنه مع اختيار الله ورسوله إماماً لهم فليس لهم الخيرة بل هم المأمورون بالطاعة والاتّباع حينئذٍ، فمع غضّ العين عما قدّمناه فهذا الذيل قرينة على إرادة ما قلناه من تلك الأسطر المتقدمة.
20ـ وقال: الأمر العشرون ما في كتاب أعاظم الكوفة إلى سيد الشهداء (عَليهِ السَّلام) وما في جوابه.
ففي كتابهم إليه: «أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزّها أمرها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضاً منها». وفي جوابه (عَليهِ السَّلام) إليهم: «وإني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإن كتب إليّ أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدّمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فإني أقدم إليكم وشيكاً».
فأعاظم الكوفة أمثال حبيب بن مظاهر عدّوا الإمامة أمر الأمة واعتبروا فيها رضاها، والإمام (عَليهِ السَّلام) جعل الملاك رأي الملأ وذوي الحجى والفضل أي أهل الحلّ والعقد المستعقب قهراً لرضا الأمة ورأيها[61].
أقول: وأنا على عجبٍ منه كيف رضي بأن ينسب إلى أمثال حبيب أنه لم يكن يعرف أن الإمامة والولاية للإمام أبي عبد الله الحسين (عَليهِ السَّلام) كانت أمراً ثابتاً له من الله تعالي لكي يحتاج ثبوتها له إلى رضا الأمة. بل أعجب منه أنه رضي بأن ينسب هذا المعنى إلى الإمام نفسه (عَليهِ السَّلام) أيضاً مع قطعية دلالة الأدلة على خلافه، وضرورة أن أمر ولايتهم بيد الله سبحانه، وان لا اختيار للناس فيه أصلاً، بل عليهم الإطاعة والإتباع ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾[62].
بل لا ينبغي الريب في أن أعاظم الكوفة وهكذا الإمام (عَليهِ السَّلام) ناظرون إلى المرحلة الثانية للتولية، أعني إعطاء إدارة الأمور خارجاً إلى من يتولى الأمر، ففي هذه المرحلة وإن كان الواجب على الناس إعطاء الأمر إلى الإمام أبي عبد الله الحسين (عَليهِ السَّلام) إلاّ أنه مع ذلك لا يمكن في الخارج التصدي لإدارة الأمور إلاّ إذا كان الناس ـ لا أقل ـ بالمقدار اللازم حاضرين وناصرين، بل وهكذا أمر تولّي من يتولّى إدارة أمر الناس جوراً أيضاً، فإنّ للناس حين فعلية تولّي إدارة الأمور كمال النقش والدخل، ولذلك كتبوا أعاظم الكوفة أن تأمّر الجائر الجبار العنيد على هذه الأمة كان بغير رضاًَ منها بل جبراً عليها، وجعل الإمام (عَليهِ السَّلام) لاجتماع رأي الملأ وذوي الحجى والفضل من الناس على تولية الإمام (عَليهِ السَّلام) في هذه المرحلة دخلاً أساسياً. وكيف كان، فليس في الجواب ولا الكتاب دلالة على الاعتبار بانتخاب الناس للإمام والوليّ أصلاً.
21ـ وقال: الأمر الحادي والعشرون ما في الدعائم عن جعفر بن محمد (عَلَيهِما السَّلام) أنه قال: «ولاية أهل العدل الذين أمر الله بولايتهم وتوليتهم وقبولها والعمل لهم فرضٌ من الله» إذ الظاهر منه أن التولية من قبل الأمة فريضة من الله فتكون صحيحة نافذة فيها[63].
أقول: ومما مرّ تعرف أن المراد بالتولية هو إعطاء تولّي الأمور خارجاً، وقد عرفت أنه واجب على الناس لا أنه اختيار منهم وجعل الولاية منهم لأحد. فلا دلالة فيه على الاعتبار الشرعي بآراء الناس وانتخابهم أصلاً.
22 ـ وقال: الأمر الثاني والعشرون ما في تاريخ اليعقوبي في غزوة مؤتة ما ملخّصه: أن رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) قال: «أمير الجيش زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فإن قتل فليرتض المسلمون من أحبّوا». فوّض (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) انتخاب الأمير بعد ابن رواحة إلى أنفسهم، فيظهر منه صحّة ذلك وانعقاد الإمارة له بأحكامها ولوازمها التي منها لزوم التسليم والطاعة[64].
أقول: نعم، إلاّ أن التعدي من مورده إلى تعيين وليّ الأمر ذي الإمامة الكبرى قياسٌ بعد عدم وجود أولوية قطعية فيه، بل لا مجال لقياس ولاية الأمر بتعيين أمر الجيش، فليس في البين قياس مساواة أصلاً بعد أن ليست حجيّة في القياس.
23ـ وقال: الأمر الثالث والعشرون ما في سنن أبي داود بسنده عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) قال: إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم»... وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمر وأن رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) قال: «لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلاّ أمروا عليهم أحدهم». فيعلم بذلك أن الاجتماع لا يصلح ولا ينتظم إلاّ بأمير، وأنه تصلح الأمة لانتخابه إذا لم يكن منصوباً[65].
أقول: إلاّ أن إلغاء الخصوصية عن الإمارة لجمع قليل كالثلاثة وما يقاربها إلى جميع الأمة الإسلامية غير ممكن، وقياس الحكم في وليّ الأمة بأمير نحو ثلاثة نفر لا حجة له، بل أدلة بطلان القياس رادعة عنه، لاسيما وقد وردت أخبار عديدة بأنه ليس للناس اختيار وليّ الأمر بل اختياره بيد الله والرسول.
24ـ وقال: الأمر الرابع والعشرون ما في معاهدة النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) مع أهل مقنا: «وأن ليس عليكم أمير إلاّ من أنفسكم أو من أهل رسول الله، والسلام» وظاهره انتخابهم لأحد من أنفسهم[66].
أقول: فيه علاوة على ما ذكرنا في سابقيه من عدم الاعتبار بالقياس أن المستفاد منه ليس أزيد من اشتراط أن يكون الأمير من إحدى الطائفتين وهو لا ينافي أن يكون نصبه بالإمارة بوجهٍ خاص، فكما لا يدل على أن مجرّد كونه من أهل رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) كافياً في أمارته فهكذا كونه من أنفسهم، فتدبّر جيداًَ.
25 ـ وقال: الأمر الخامس والعشرون فحوى ما أفتوا به من الاختيار والانتخاب في ما إذا تعدد المفتي أو القاضي أو إمام الجماعة، وجواز انتخاب قاضي التحكيم من قبل المترافعين، اللهم إلاّ أن يقال: إن الانتخاب هنا بعد تحقق النصب العام وتحقق المشروعية به[67].
أقول: مضافاً إلى أن الاقتداء بكل من الإمامين أو الأئمة جائز وإلى عدم تمامية مشروعية قاضي التحكيم.
25ـ وقال: الأمر السادس والعشرون آيات وأخبار البيعة بكثرتها على ما هو الأظهر من كونها من طرق إنشاء الولاية وعقدها[68]. وأخذ بالبحث عن هذه الأدلة في فصل مستقل.
أقول: قد مرّ البحث عن البيعة وأدلّتها في كلماتنا مستوفى، وأثبتنا بوضوح أن ولاية ولاة الأمر بالولاية الكلية قد ثبتت بجعل من الله ونصبه، وأنه لا يشترط أصل ثبوت الولاية لهم ولا وجوب الإطاعة عنهم بالبيعة، وان البيعة وإن كانت واجبة مع من جعله الله وليّاً ويترتب عليها أيضاً وجوب العمل بمقتضاها وجوباً آخر إلاّ أنه لا مجال مع ذلك لتوهم اشتراط ثبوت الولاية أو وجوب الطاعة بها، فراجع ما قدّمناه.
فالمتحصل من جميع ما مرّ عدم قيام دليل أصلاً على الاعتبار بالانتخاب، وقد حققنا ثبوت الولاية للفقيه الواجد للشرائط بنحو ما قدمنا بيانه، والحمد لله أوّلاًَ وأخيراً.
هذا، وقد ثبت بوضوح مما قدمنا ذكره أنّ النبي والأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين قد نص الله تعالى على أنّ كلاً منهم ولي أمر الأمة الإسلامية بما فيهم من أهل الذمة، وأن الله تعالى زمن الغيبة قد جعل الفقيه الواجد للشرائط الماضية صالحاً لأن يتولى إدارة أمرهم، وأنه بتصديه لها تصير ولايته فعلية كما مرّ ذلك كله مستوفى، فالمعصومون والفقهاء قد جعلهم الله أولياء أمر الأمة، ولا يتوقف فعلية ولايتهم ولا وجوب الإطاعة عنهم على بيعة الناس لهم وإن كانت البيعة لهم واجبة على الناس، والبيعة أيضاً توجب على من بايع إتباع البيعة، كما مر هذا كله بالتفصيل وذكرنا الدليل عليه بوضوح.
ـــــــــــــــــــ
[1] نهج البلاغة (صبحي الصالح): الخطبة 3 ص 50.
[2] الدراسات: ج1 ص 493. والآية 17 و18 من سورة الزمر.
[3] نهج البلاغة: الكتاب 51 ص 425.
[4] الدراسات: ج1 ص494.
[5] البحار: ج2 ص 272 الحديث 7.
[6] الدراسات: ج1 ص 495.
[7] المائدة: 1.
[8] الوسائل: الباب 6 من أبواب الخيار ج12 ص 353 الحديث2.
[9] الدراسات: ج1 ص 496.
[10] الدراسات: ج1 ص 563.
[11] الشورى: 38.
[12] سنن الترمذي: الباب 78 من كتاب الفتن ج4 ص 539 الحديث 2266، وتحف العقول: ص 36 في مواعظ النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم).
[13] عيون أخبار الرضا (عَليهِ السَّلام): الباب 31 ج2 ص 62 الحديث 254.
[14] نهج البلاغة: الخطبة الشقشقية الخطبة 3 ص 49.
[15] سنن الترمذي: الباب75 من كتاب الفتن ج4 ص527 الحديث2262، صحيح البخاري: كتاب المغازي باب كتاب النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) إلى كسرى وقيصر الباب198 ج6 ص316 الحديث 2.
[16] مقاتل الطالبيين: ص36.
[17] البقرة: 124.
[18] الدراسات: ج1 ص 497.
[19] يونس: 3، الرعد: 3، السجدة: 5.
[20] آل عمران: 159.
[21] الأحزاب: 6.
[22] المائدة: 67.
[23] البقرة: 124.
[24] الكافي: ج1 ص 198 الحديث1.
[25] سنن الترمذي: الباب 75 من كتاب الفتن ج4 ص 527 الحديث 2262.
[26] صحيح البخاري: كتاب المغازي باب كتاب النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) إلى كسرى وقيصر الباب 198 ج6 ص 316 الحديث 4 ـ طبعة دار القلم ـ بيروت.
[27] سنن النسائي: كتاب آداب القضاء ج8 ص 227.
[28] المستدرك: ج3 ص 119.
[29] تحف العقول: ص 36، سنن الترمذي الباب 78 من كتاب الفتن ج4 ص 529 الحديث 2266.
[30] النور:2.
[31] المائدة: 38.
[32] المائدة: 33.
[33] الدراسات: ج1 ص 500.
[34] فاطر: 39.
[35] النور: 55.
[36] هود: 61.
[37] الدراسات: ج1 ص 502.
[38] فاطر: 39.
[39] الأعراف: 69.
[40] الأعراف: 74.
[41] نهج البلاغة: الخطبة 92 ص 136. وراجع تمام نهج البلاغة: الكلام 101 ص 431.
[42] الدراسات: ج1 ص 503.
[43] نهج البلاغة: الخطبة 3 ص 50.
[44] تاريخ الطبري: ج3 ص 450.
[45] الدراسات: ج1 ص504.
[46] الدراسات: ج1 ص 504، عن الكامل لابن أثير: ج3 ص 193.
[47] المائدة: 67.
[48] الدراسات: ج1 ص 505، عن نهج البلاغة الكتاب 6 ص 367.
[49] الدراسات: ج1 ص 505.
[50] تمام نهج البلاغة: الكتاب 75 ص880.
[51] الدراسات: ج1 ص 506، عن شرح ابن أبي الحديد: ج11 ص 51.
[52] الدراسات: ج1 ص 506، عن مقاتل الطالبيين: ص35.
[53] الدراسات: ج 1 ص 506، عن بحار الأنوار: ج 44 ص 65 الحديث 13، أخرجه عن كشف الغمة: ج 2 ص 193.
[54] الدراسات: ج1 ص 507، عن كتاب سليم بن قيس: ص 118 (وقد نقله أيضاً في فصل اعتبار العلم في الوالي: ص 304).
[55] أمالي الطوسي: المجلس 20 ص 560 الحديث 9. وروى نحوه بطريق آخر في المجلس 20 ص 566 الحديث 1.
[56] الدراسات: ج1 ص507، عن العيون الباب 21 ج 2 ص 62 الحديث 254.
[57] الدراسات: ج1 ص 508 عن صحيح البخاري: كتاب المغازي باب كتاب النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) إلى كسرى وقيصر ج 3 ص 90.
[58] راجع الدراسات: ج1 ص 353 وذيلها.
[59] الدراسات: ج1 ص 508، عن كتاب سليم: ص 182.
[60] بحار الأنوار: ج33 ص 144 ضمن الحديث 421، عن كتاب سُليم.
[61] الدراسات: ج1 ص 509، عن إرشاد المفيد: ص 185، والكامل لابن أثير: ج4 ص 20و21.
[62] الأحزاب: 36.
[63] الدراسات: ج1 ص 509، عن الدعائم: ج2 ص 527.
[64] الدراسات: ج1 ص 510، عن تاريخ اليعقوبي: ج2 ص 49.
[65] المصدر السابق، عن سنن أبي داود: ج3 ص 34، ومسند أحمد: ج2 ص 177.
[66] المصدر السابق، عن الوثائق السياسية: ص 120 الرقم 33.
[67] الدراسات: ج1 ص 511.
[68] المصدر السابق.
احدث الاخبار
السيد الحوثي: الاستقرار لن يبقى في المنطقة ما دام الاحتلال مستمر في فلسطين
ثروة باقية؛ المقاومة في لبنان من نشوء الحالة الإسلاميّة إلى التأسيس حتى «طوفان الأقصى»
قائد الثورة الإسلامية: الخلاف بين الجمهورية الإسلامية وأمريكا جوهري، وليس تكتيكيا
التبيين في نهج السيّدة الزهراء عليها السلام*
قيم الحياة الزوجيّة في سيرة أهل البيت عليهم السلام
عمائــــــم سلكت درب الشهادة (1)
الشيخ نعيم قاسم: أمريكا ليست وسيطا نزيها ودعم المقاومة واجب
زوجة القائد"الحاج رمضان" تروي ذكرى من أدب الشهيد قاسم سليماني
العميد نقدي: قدرتنا الصاروخية اليوم أقوى بكثير مما كانت عليه خلال العدوان الصهيوامريكي
الشيخ نعيم قاسم: المقاومة جاهزة للدفاع ولديها ردع يمنع تحقيق العدو لأهدافه
الاكثر قراءة
أحكام الصوم للسيد القائد الخامنئي
ما أنشده الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في حق الإمام الخامنئي
أربعون حديثاً عن الإمام الكاظم (عليه السلام)
أربعون حديثا عن الإمام الهادي (ع)
مختارات من كلمات الإمام الخامنئي حول عظمة السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)
مبادئ الإمام الخميني العرفانية
أربعون حديثاً عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
ماذا يقول شهداء الدفاع عن العقيلة؟.. الشهيد السيد إبراهيم في وصيته: لقد ذهب زمان ذل الشيعة+ صور
شهيد المحراب (الثالث) آية الله الحاج السيد عبد الحسين دستغيب
تقرير مصور عن شهداء الحجاز الذين استشهدوا في جبهات الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية