خرمشهر.. خاطرة من يوم التحرير
التاريخ: 29-05-2010
في الوقت الذي كان شباب الثورة يصنعون الملاحم والبطولات في جبهات الدفاع المقدس، كان إخوة لهم في أمكنة قصيّة يضعون أيديهم على قلوبهم، وهم يعيشون معهم ذلك المخاض الشاق والطويل، وهذه خاطرة
في الوقت الذي كان شباب الثورة يصنعون الملاحم والبطولات في جبهات الدفاع المقدس، كان إخوة لهم في أمكنة قصيّة يضعون أيديهم على قلوبهم، وهم يعيشون معهم ذلك المخاض الشاق والطويل، وهذه خاطرة..شهادة من ذلك الزمن الجميل.
في مثل هذا اليوم، ومن غرفة على سطح البيت، كانت ضمن أماكن أخرى قليلة ملتقى لمجموعة من الشباب المؤمن، منضدة صغيرة، ومجموعة كتب ومجلات، وصورة للإمام الخميني(قدس سره)، لها وجه آخر عبارة عن صورة لمشهد طبيعي، كان ذلك رعاية للاعتبارات الأمنية، حيث كنت لا أجعل الصورة على جهة الإمام الخميني(قدس سره)، إلاّ حين لا أتوقع زائرا من غير المجموعة التي تقاسمت معها الحلم بالتغيير والالتزام بالعمل الحركي، وفي الركن، على زاوية الحائط، كان ذلك المذياع المتوسط الحجم الذي أهداني إياه أخي الأكبر حين عودته من أداء العمرة، لشدّة ما لاحظ شغفي بالأخبار.
كان الحدث في ذلك اليوم بالنسبة لكاتب هذه السطور استثنائيا.. كان جهاز الراديو المضبوط على موجة راديو الجمهورية الإسلامية في إيران، ينقل وعبر الأثير أوّل البيانات العسكرية.. بيانات تحرير خرمشهر.. تتخللها التكبيرات من مسجدها الجامع.. كانت البيانات تذاع بالفارسية، وعلى غير العادة هذه المرة؛ باللغة العربية أيضا، وكانت المعطيات الأولية تتحدث عن انتصار استراتيجي عظيم، سيرسم منعطفا في مسار الحرب والمواجهة.. تحرير تام، وهزيمة ساحقة لقوات صدام، وأعداد هائلة من الأسرى ضمنهم ضباط كبار، فضلا عن الغنائم الهائلة.
كان صوت الراديو يضعف ويتشوّش من حين لآخر، ويتداخل مع موجات أخرى، ما كان يتسبب لي في شيء من التوتر، لكنّه في الأخير كان يستقرّ على صفاءه.. الوقت عندنا كان يفصله عن الغروب حوالي الساعتين أو تزيد قليلا، ولم يكن في المقدور التقاط موجة راديو صافية إلاّ في المساء؛ مع بعض التشويش طبعا، وهو الوقت الذي كان يصادف فترة البث العربي من السابعة إلى الثامنة بتوقيت طهران.
الجو الملحمي يعرج بي إلى المدينة المحرّرة وأجواء النصر فيها، فأخال نفسي والرشّاش بيدي واحدا من الذين صنعوا ذلك النصر وهم يرفعون أصواتهم بالتكبير من مسجدها الجامع، كان إحساسُ الفرح العارم يصوّر لي وكأنّ موجة العواطف تنقلني بعيدا لتحط بي بين جنود الإسلام، حَواريّي الإمام.. وفي وسط أولئك الشباب الثوري الذين ارتسمت ملامح وجوه بعضهم في ذاكرتي حين وصلتني بطرق خاصة أول مجلة مصوّرة عن شباب الثورة من الحرس والبسيج وهم في جبهات الدفاع المقدّس..
لم يكن يومذاك من سبيلٍ إلى الصورة على التلفزيون، فالموقف السياسي والإعلامي الذي اختاره النظام الحاكم؛ كان هو الانحياز التام إلى صدّام الملعون وقادسيته المزعومة، فكانت نشرات الأخبار الرسمية تعتمد وبشكل أساسي على وكالة الأنباء البعثية.. بل إنّه ومن فرط العداء للثورة والكره لقائدها وزعيمها؛ فقد كان محظورا بث أي تقرير يظهر فيه الإمام الخميني(قدس سره)، وما كان أمامنا إلا أن ننتظر تصرّم فصل الربيع بفارغ الصبر، لأنّه ومع حلول الصيف؛ كان صفاء الجو يتيح لنا التقاط بعض قنوات التلفزيون الاسبّاني، وكنّا نشعر بنشوة التحرّر من سطوة الإعلام الرسمي والموجّه، وهكذا كنّا نتابع في نشرات الأخبار؛ تقارير وتغطيات بالصورة عن أحداث إيران، بل وكنّا نملّي النظر بصورة الإمام الخميني(قدس سره) وهو يخطب في حسينية جماران، فنستغرق في سحر اللحظة، ونشعر بتماه مع الزمن الثوري المنبعث من طهران عاصمة الثورة، وكنّا نشكر الله لأنّ الطبيعة كما الجغرافيا في هذا المورد كانتا لصالحنا.
كانت دموع الفرح تنساب على خدي، وانأ أكبّر على إيقاع تلك التكبيرات المرتفعة من المسجد الجامع أو ما بقي منه، فالأخبار كانت تتحدث عن دمار واسع طال المدينة الصامدة، كنت أشعر أنّ التحرير فتح مسالك العبور إلى القدس، فهذه العمليات التي توجّت بالتحرير كانت تحمل اسم (بيت المقدس)، وقد كان واضحا لدينا أنّ الحرب المفروضة كانت هي الرد الاستكباري على شعارات الثورة والتزامها بتحرير فلسطين.
كواحد من الشباب المؤمن، كنّا نخشى على الثورة، فلم يكن مضى وقت كثير على واقعة انتصارها المبارك، وهي التي ملأت قلوبنا فرحا وطموحا وأملا، وأعطت المعنى لحلمنا الإسلامي ولذلك الشعار الذي كنّا نردّده من دون عميقِ فهمٍ (الإسلام هو الحل)، حتّى شنّ صدّام حربه على الجمهورية الإسلامية الناشئة، ومنذ لحظة العدوان الأولى والتي فهمنا أبعادها، كان الانخراط في المتابعة الإعلامية لمجريات الحرب والدفاع المقدس، وعلاقة ذلك كلّه بتطورات الوضع الداخلي للثورة وبمخططات التآمر والاستنزاف التي تعرضت لها؛ من أبسط التزاماتنا تجاه الثورة الإسلامية.
كانت الأخبار قد بدأت تتواتر قبل مدة من يوم الحسم في خرمشهر، وتحديدا مع انطلاق عمليات (بيت المقدس) حيث كانت التقارير تتحدث عن احتدام المعارك في محاور القتال على مشارف المدينة، وبرغم البيانات الصدّامية التي تعتمدها أكثر المنابر الإعلامية في تحيز للطرف الصَدّامي وارتباطا بآلته الإعلامية المموّلة عربيا، فإنّ إحساسا ما؛ كان يُنبئ بتطور دراماتيكي في ساحة المواجهة عطفا على فك حصار عبادان، المعبّر دلاليا عن متغيرٍ جوهري في الأداء العسكري الإيراني.
في ذلك اليوم كانت نشرة أخبار الواحدة بتوقيت غرينتش على إذاعة لندن، تتحدث عن شبه سيطرة للإيرانيين على المدينة، إلاّ من جيوب للجيش الصَدّامي، وهذا ما كانت تنفيه البيانات العسكرية العراقية.. وكان عليّ العودة إلى الثانوية في فترة ما بعد الظهيرة، لا أذكر كيف تحملت كل ذلك الوقت وكل تلك الحصص حتى عودتي إلى المنزل ومتابعة آخر التطورات..
فتحت المذياع.. حرّكت مؤشر الموجات على طهران، فكانت الموسيقى العسكرية.. ثم البيانات ثم تكبيرات النصر والفتح من المسجد الجامع.. وكان الفرح الذي لا يوصف ومعه جرت دموع الفرح، ومعها طمأنينة لازمت قلبي إلى اليوم.. من يومها؛ من يوم خرمشهر المجيد أيقنت أنّ الثورة بعين الله، وأنّ هذه الثورة نجحت لكي تستمر.
في صباح اليوم الموالي.. وكعادة الإخوة المؤمنين، كنّا نتوجّه يوميا بالتحيّة لطهران، ونقول ومع إطلالة كل فجر جديد؛ صباح الخير يا طهران الحبيبة.
في ذلك الصباح.. وبعد التحيّة لطهران الحبيبة، توجهت بقلبي إلى خرمشهر وقلت مبروك عليك الحرية يا خونين شهر يا أشمخ المدائن، هكذا فهمت أنّ الإمام سمّاها، حين تطهرت بالدم من رجز الغزاة الصدّاميين.
رحم الله قائد هذا الانتصار العظيم الإمام الخميني(قدس سره).
رحم الله شهداء هذه الملحمة البطولية النادرة في التاريخ العسكري، والتي وجهّت صفعة لا تنسى للاستكبار ولأحلام الرجعيات العربية، وسفهّت أوهام قادسية صدّام اللعين.
رحم الله جميع شهداء الثورة وشهداء الدفاع المقدّس.
احدث الاخبار
السيد الحوثي: الاستقرار لن يبقى في المنطقة ما دام الاحتلال مستمر في فلسطين
ثروة باقية؛ المقاومة في لبنان من نشوء الحالة الإسلاميّة إلى التأسيس حتى «طوفان الأقصى»
قائد الثورة الإسلامية: الخلاف بين الجمهورية الإسلامية وأمريكا جوهري، وليس تكتيكيا
التبيين في نهج السيّدة الزهراء عليها السلام*
قيم الحياة الزوجيّة في سيرة أهل البيت عليهم السلام
عمائــــــم سلكت درب الشهادة (1)
الشيخ نعيم قاسم: أمريكا ليست وسيطا نزيها ودعم المقاومة واجب
زوجة القائد"الحاج رمضان" تروي ذكرى من أدب الشهيد قاسم سليماني
العميد نقدي: قدرتنا الصاروخية اليوم أقوى بكثير مما كانت عليه خلال العدوان الصهيوامريكي
الشيخ نعيم قاسم: المقاومة جاهزة للدفاع ولديها ردع يمنع تحقيق العدو لأهدافه
الاكثر قراءة
أحكام الصوم للسيد القائد الخامنئي
ما أنشده الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في حق الإمام الخامنئي
أربعون حديثاً عن الإمام الكاظم (عليه السلام)
أربعون حديثا عن الإمام الهادي (ع)
مختارات من كلمات الإمام الخامنئي حول عظمة السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)
مبادئ الإمام الخميني العرفانية
أربعون حديثاً عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
ماذا يقول شهداء الدفاع عن العقيلة؟.. الشهيد السيد إبراهيم في وصيته: لقد ذهب زمان ذل الشيعة+ صور
شهيد المحراب (الثالث) آية الله الحاج السيد عبد الحسين دستغيب
تقرير مصور عن شهداء الحجاز الذين استشهدوا في جبهات الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية