شهيد يتحدث عن الشهيد
التاريخ: 04-08-2007
بسم الله الرحمن الرحيم {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} صدق الله العلي العظيم كلمة لابد منها
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}
صدق الله العلي العظيم
كلمة لابد منها ....
الحديث عن الشهادة والشهيد لا يمكن أن يصاغ بعبارات علمية ولا بمعادلات رياضيّة... إذ انه حديث (الروح) لا حديث (العقل)..
التحليلات الفلسفية والعلمية والعقلية لا تستطيع أن تخلق الإنسان المجاهد، ولا بمقدورها أن تبعث في الموجود البشري اندفاعاً نحو الاستشهاد..
الشهيد إنسان ارتفعت روحه إلى مستوى الشهادة.. وتحررت روحه من قيود الشهوات الهابطة، فأضحى منطقه منطقاً جديداً قد لا يفهمه (العلماء) و (الفلاسفة) و (عقلاء القوم)!
حديث الشهيد والشهادة لا يفهمه إلاّ من يسير على خط الشهادة، ولا يتذوقه إلاّ من سما وتحرر من ربقة البطن والفرج والأهواء الدنيئة.
وحديث الشهيد والشهادة.. أيضا، لا يمكن أن يكون صادقاً معبراً إلاّ إذا انطلق من قلب إنسان وهب نفسه لرسالته، وكسر إطار ذاتياته لينصهر في هدفه السامي.
وهذا الحديث يحلو ويصدق ويتعمق أكثر.. لو صدر عن قلب إنسان وهب نفسه لهدفه السامي حتى آخر لحظه من حياته.
يحلو ويصدق ويتعمق أكثر فأكثر. إذا صدر عن قلب إنسان سقط مضرجاً بدمه على طريق رسالته الكبرى..
وهذا الذي بين يدي القارئ، ترجمة لحديث عن الشهيد والشهادة، ألقي في (ليلة الشهيد والشهادة) وصدر عن قلب إنسان قضى حياته على طريق الشهادة.. أي على طريق الذوبان في الهدف السامي، والتفاني من أجل تحقيق هذا الهدف.
هذا الحديث ألقاه الأستاذ مرتضى مطهري شهيد الثورة الإسلامية في إيران..
وهو ــ كما قلت ــ حديث الروح قبل أن يكون حديث العقل..
وحديث الروح هذا أقدمه إلى الذين يستطيعون أن يتذوقوه.. وإلى الذين يستطيعون من خلال سطوره أن يستشمّوا رائحة الشهادة التي فاحت في سماء إيران فأسفرت عن ولادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
قدسية الشهيد
ثمة كلمات لها في عرف البشرية عامة، وفي عرف المسلمين خاصة قدسيه وعظمة واحترام.
العالم، والفيلسوف، والمخترع، والبطل، والمصلح، والمجتهد، والأستاذ، والطالب والعابد، والزاهد، والمؤمن، والمجاهد، والمهاجر، والصدّيق، والآمر بالمعروف، والوليّ، والإمام، والنبيّ... كلمات، بعضها مقرون بالعظمة والاحترام لدن أبناء البشر عامة.. وبعضها الآخر تحمل هذه الصفة عند المسلمين خاصة.
ومن الطبيعي أن اللفظ لا يحمل طابع القداسة بنفسه، بل بما ينطوي عليه من معنى..
جميع المجتمعات البشرية تنظر بعين التقديس إلى بعض المفاهيم مع اختلاف طفيف بينهما. وهذا التقديس يرتبط بجوانب خاصة من نفسيه هذه المجتمعات في حقل تقييمها للأمور غير المادية.
وهذه المسألة تحتاج إلى دراسة فلسفيه وإنسانية معمقه لسنا بصددها الآن.
و"الشهيد" كلمه لها في الإطار الإسلامي قداسة خاصة..
والإنسان الذي يعيش المفاهيم الإسلامية ينظر إلى هذه الكلمة وكأنها مؤطرة بهالة من نور.
كلمة الشهيد مقرونة بالقداسة والعظمة في جميع أعراف المجموعات البشرية مع اختلاف بينهما في الموازين والمقاييس، ولسنا بصدد الحديث عن المفهوم غير الإسلامي لهذه الكلمة.
الشهيد ــ في المعايير الإسلاميةــ هو الذي نال درجة "الشهادة" أي الذي بذل نفسه، على طريق الأهداف الإسلامية السامية، ومن أجل تحقيق القيم الإنسانية الواقعية.
والإنسان الشهيد في المفهوم الإسلامي يبلغ ــ بشهادته ــ أسمى درجة يمكن أن يصلها الإنسان في مسيرته التكاملية.
نستطيع أن نفهم سبب قدسية كلمة "الشهيد" في الإسلام وفي أنظار المسلمين من خلال الآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن الشهادة والشهيد وكذلك من خلال ما وصلنا من روايات في هذا الحقل..
مكانة الشهيد
القرآن الكريم يقول عن الشهيد:
{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون}(آل عمران:169).
فالشهداء ــ إذن ــ "أحياء" و"عند ربهم يرزقون"... وما أعظمها من منزلة!!
والسنة تكثر من تشبيه المكانة السامية التي يمكن أن ينالها إنسان في حياته بمكانة الشهيد.. لأنها ذروة الرقي والتكامل في المسيرة الإنسانية..
فالسائرون على طريق طلب العلم، من أجل التعرف على الحقيقة، وطلباً لمرضاة الله تعالى، لا بهدف الترفع والاتجار، هم شهداء في مفهوم الروايات الإسلامية إن توفّاهم الله على هذا الطريق.
وهذا التشبيه يدل على علو مكانة طالب العلم إضافة لما له من دلالة على أن الشهادة هي الذروة في مسيرة الإنسان التكاملية.
ونظير هذا التشبيه ورد بشأن الساعي على طريق إدارة دفة اقتصاد عائلته، وبالتالي على طريق إدارة اقتصاد مجتمعه.. في الحديث: "الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله"..
حق الشهيد
كل أولئك الذين خدموا البشرية بشكل من الأشكال لهم حق على بني الإنسان، سواء أسدوا خدماتهم عن طريق العلم أم الفكر أم الفلسفة و الاختراع والاكتشاف أم الأخلاق والحكمة العملية...
لكن أحداً من هؤلاء ليس له على البشرية حق كما الشهيد...
ومن هنا فان ما يكنه أبناء البشر من تعاطف وانشداد تجاه الشهداء يفوق ما يكنوه تجاه سائر خدمة البشرية.
ولماذا هذا التفوق؟
الدليل واضح.. كل المجموعات التي أسدت خدمات إلى البشرية مدينة للشهداء.. لكن الشهداء قلما كانوا مدينين لهذه المجموعات.
العالم في علمه.. والفيلسوف في فلسفته.. والمخترع في اختراعه.. ومعلم الأخلاق في تعاليمه، محتاجون إلى أجواء حرة مساعدة كي يقدموا خدماتهم..
والشهيد بتضحياته يوفر هذه الأجواء..
الشهيد كالشمعة التي تحترق وتفنى لتضئ الطريق للآخرين..
الشهداء شموع البشرية على طريقها اللاحب الطويل..
ولولا هذه الشموع لما استطاعت المسيرة البشرية أن تواصل طريقها، ولما استطاع أبناء البشر في ظلمات الاستعباد والاستبداد أن يمارسوا نشاطاتهم ويقدموا خدماتهم الإنسانية.
والله سبحانه يخاطب نبيه الكريم قائلا:
{يا أيّها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا}(الأحزاب:44ــ45).
و(السراج المنير) مفهوم يدل على الإضاءة، وينطوي على معنى الاحتراق وإزالة دياجير الظلام.
جسد الشهيد
أحكام الإسلام تقوم كلها على أساس الحكمة والمصلحة، وجميعها لها دلالاتها الخاصة، وخاصة دلالاتها الاجتماعية.
ومن هذه الأحكام ما يتعلق بالميت من غسل وتكفين وصلاة ودفن. وكلها ذات معان خاصة لسنا بصدد الحديث عنها..
إلاّ أن أحكام الميت هذه، لها استثناء.. وهذا الاستثناء يختص بجسد الشهيد.
فأحكام الميت لا تطبق على جسد الشهيد سوى الصلاة والدفن.
أما الغسل والتكفين.. فلا.
الشهيد يدفن بدمه وملابسه..
وهذا الاستثناء له مغزاه العميق، انه يرمز إلى أن روح الشهيد بلغت درجة من السمو والطهارة بحيث ترك هذا السمو والطهر آثاره على جسد الشهيد وعلى دمه، بل وحتى على ما يرتديه من لباس.
بدن الشهيد "جسد متروح" إن صح التعبير، أي أضحى وجوداً تجري عليه أحكام الروح..
ولباسه أضحى.. "لباساً متجسداً" أي تجري عليه أحكام الجسد الذي يضم تلك الروح الطاهرة.
فجسد الشهيد ولباسه اكتسبا الشرف من طهر روحه وعلو فكره وسمو تضحيته..
وتلك دلالة أخرى على قداسة الشهيد في المفهوم الإسلامي..
منشأ القدسية
ما هو مبعث القدسية في "الشهادة"؟!
من الواضح أن هذه القدسية لا تأتي من كونها مقرونة بالقتل. فكثير من القتل لا تعدو أن تكون هلاك إنسان، وربما اقترنت أحياناً بالعار بدلاً من الفخار.
لنوضح هذه المسألة أكثر..
موت الأشخاص ذو أنواع وأقسام.
1ــ الموت الطبيعي، الإنسان يموت بشكل طبيعي بعد أن يقضي عمره الطبيعي، ومثل هذا الموت لا ينطوي على عار ولا فخار.. ولا يستتبعه عادة أسف عميق.
2ــ الموت الاخترامي[1]، وهو ما يحدث على أثر انتشار، الأمراض الفتّاكة والأوبئة أو وقوع الزلازل والسيول ونظائرها من السوانح الطبيعية..
هذا النوع من الموت لا يتضمن عاراً ولا فخاراً أيضا.. لكنه يقترن بالأسف عادة لأنه يودي إلى إتلاف الأفراد.
3ــ الموت المصحوب بعمل جنائي، حيث المقتول برئ، والقاتل ينقض على فريسته إرضاءً لهواه وقضاء على من يتصور أنه يزاحمه في مصالحه الشخصية.
مثل أنواع هذا القتل نقرأ أخبارها باستمرار على أعمدة الصحف وفي صفحات التاريخ..
فهذا رجل قتل صاحبه لمنافسة بينهما على مال أو متاع.
وهذه امرأة قتلت طفل زوجها كي تستأثر وحدها بحب الزوج. وذاك الوالي أعمل السيف في رقاب أبناء وال آخر تجنباً لمنافستهم إياه في المستقبل.
وعلى مسرح مثل هذه الحوادث جانبان.. جانب يقف فيه القاتل ويداه ملطختان بدم الجناية، ويداه ملطختان بدم الجناية، وعيناه يتطاير منهما الخبث والشرر ومنظره يثير النفرة والاحتقار.. وجانب آخر يظهر فيه المقتول صريعاً مظلوما، مهدور الدم، يثير تجاهه عواطف الأسف والترحم.
ومن الواضح، أن هذا النوع من الموت ــ مع ما يتضمنه من أسف وترحم على القتيل ــ لا يقترن بالإعجاب والافتخار، لأن المقتول لم يكن له دور في العملية، بل إن عوامل الحسد والعداء والحقارة هي التي أردت هذا الإنسان قتيلا.
4ــ الموت الجنائي، وهو ما يحدث على أثر جناية يرتكبها القتيل كالانتحار، وهو أحط أنواع الموت. وأولئك الذين يقتلون في حوادث اصطدام السيارة نتيجة ارتكابهم خطاً عمدياً وكل الذين يلاقون حتفهم على طريق الانحرافات يموتون بهذا النوع الجنائي.
5ــ الاستشهاد، وهو الموت الذي يتجه نحوه القتيل تحقيقاً لهدف مقدس إنساني، أو "في سبيل الله"، على حد التعبير القرآني، مع ما يحتمله أو يظنه أو يعلمه من أخطار في طريقه.
وللشهادة ركنان:
الأول: قدسية الهدف، والموت على طريق تحقيق هذا الهدف المقدس، أي أن يكون "في سبيل الله".
الثاني: أن تكون الشهادة قد تمت عن علم ووعي.
وللشهادة وجهان:
وجه مقدس في انتسابها للمقتول.. ووجهه بشع إجرامي في انتسابها للقاتل.
الشهادة ــ بما تحمله من صفات سامية كالوعي والاختيار وقدسية الهدف وخلوها من الميول الذاتية ــ عمل بطولي يبعث على الإعجاب والافتخار.
هذا النوع من (الموت) هو وحده الذي يفوق (الحياة) عظمة وقدسية وأهمية.
وهنا ينبغي أن نشير إلى ظاهرة مؤسفة تطغي على مجالس ذكر الحسين بن علي (عليه السلام).
هذه المجالس تضفي على مقتل الحسين طابع النوع الثالث من الموت، أي موت الإنسان البريء الذي ذهب دمه هدرا، مع أن هذه المجالس تذكر الحسين على أنه "شهيد" بل "سيد الشهداء".
كثير من الموالين لآل البيت يذرفون الدموع على مظلومية سيد الشهداء، وكأنهم يبكون على طفل بريء ذهب ضحية أهواء طاغية من الطغاة[2].
لو كان الحسين كذلك.. لو كان مظلوماً عديم الدور في حادث مقتله، كسائر المقتولين ظلماً وعدوانا.. لما كان شهيدا، فما بالك بكونه سيد الشهداء!!
ليس من الصحيح أن نحصر الحسين في إطار الإنسان الذي ذهب ضحية أهواء الطواغيت.
نعم، الوجه الآخر لفاجعة كربلاء تمثل بشاعة القاتلين وإجرامهم واستفحال أهوائهم الدنيئة.
لكن الوجه الآخر الذي يرتبط بالحسين هو الشهادة.. أي المقاومة الواعية الذكية على طريق الهدف المقدس. فمع علم الحسين بالمصير الذي سيواجهه نتيجة مواقفه المتصلبة رفض البيعة مع الطغاة رفضاً باتا.. وأبى السكوت وأعتبر المداهنة معصية ما بعدها معصية.
تاريخ الحسين وما سجله في التاريخ من كلمة وعمل، أوضح دليل على ما نقول.
الشهادة تكسب ــ إذن ــ قداستها من صفتها التضحوية الواعية على طريق الهدف المقدس.
الجهاد، أو مسؤولية الشهيد
العملية التي تؤدي إلى الشهادة أي إلى الموت الواعي على طريق الهدف المقدس، قد اتخذت في الإطار الإسلامي شكل مبدأ هو "الجهاد".
ولو أردنا أن نوضح هذا المبدأ، فثمة أسئلة متعددة تطرح نفسها على بساط البحث منها:
هل أن ماهية هذا المبدأ دفاعية أو هجومية؟ وإن كانت دفاعية، فهل ينحصر في إطار الدفاع عن الحقوق الشخصية والقومية، أم يتسع نطاقه ليشمل الحقوق الإنسانية، كالحرية والعدالة..؟
وهل التوحيد جزء من الحقوق البشرية والإنسانية أم لا؟
وهل مبدأ الجهاد يتنافى أساساً مع حق الحرية أم لا؟
الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب الخوض في بحوث وتفصيلات شيقة مفيدة لا مجال لها في حديثنا هذا.. فنكتفي بالقول:
إن الإسلام ليس بالدين الذي يدعوا الفرد إلى إدارة خده الأيسر إن صفع على خده الأيمن، وليس بالدين الذي يقول: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر..
وليس بدين يفتقد الهدف ويعدم خط الدفاع والدعوة.
آيات عديدة في القرآن الكريم تذكر ثلاث مصطلحات مقرونة مع بعضها هي:
(الإيمان) و (الهجرة) و (الشهادة)..
إنسان القرآن موجود مرتبط بالإيمان ومتحرر من كل شيء آخر، وهو الموجود الذي يهاجر لينقذ إيمانه، ويجاهد لإنقاذ إيمان المجتمع، أو بعبارة أخرى، لإنقاذ المجتمع من براثن الكفر والشرك.
يطول بنا الحديث لو استعرضنا الآيات والروايات الواردة في هذا الحقل. لذلك نكتفي بإلقاء الضوء على جمل معدودات من إحدى خطب أمير المؤمنين في نهج البلاغة:
"أما بعد، فان الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء، ودُيّث[3] بالصغار والقماءة[4]، وضرب على قلبه بالأسداد[5]، وأديل الحق منه[6] بتضييع الجهاد، وسيم الخسف[7]، ومنع النصف[8]".
فالجهاد، باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه.. نعم لخاصة أوليائه.. وهي كلمة لها مدلولها العميق..
باب الجهاد غير مفتوحة بوجه الجميع.. لأن وسام المجاهد لا يتقلّده إلاّ من كان لائقاً لذلك.. وأولياء الله غير لائقين بأجمعهم لتقلد هذا الوسام، بل.. خاصة أولياء الله.
ورد في القرآن: أن للجنة ثمانية أبواب.
فلم هذه الأبواب الثمانية؟!
أللتخفيف من شدة الازدحام؟
غير معقول! لأن العالم الآخر ليس بعالم تزاحم. والله قادر على أن يدخل جميع عباده الجنة دونما تأخير أو انتظار كقدرته على محاسبتهم السريعة {والله سريع الحساب}.
هل الهدف من تعدد الأبواب تقسيم الناس إلى طبقات بحسب مكانتهم أو مشاغلهم الدنيوية؟!
كلا.. هذا غير ممكن أيضاً، فليس ثم معيار سوى التقوى.
تعدد الأبواب ليس له مفهوم سوى تعدد الدرجات، لا الطبقات.
للإيمان والعمل والتقوى مراتب ودرجات، ولكل درجته ومنزلته في مدارج الإيمان والعمل والتقوى، بمقدار ما طوى من المراحل التكاملية لهذه المدارج في الحياة الدنيا.
ولكل فئة طوت مرحلة معينة من مراحل تكاملها باب تدخل منها الجنة في الحياة الأخرى حسب درجتها ومنزلتها، أي حسب ما طوته من أشواط على طريق إيمانها وعملها وتقواها في هذه الحياة.. فذاك العالم تجسد ملكوتي لهذا العالم.
الباب التي يدخل منها المجاهدون ــ إذن ــ هي الباب المفتوحة لخاصة أولياء الله، يلجون منها لينالوا فوز القرب الإلهي.
والإمام يصف الجهاد بعد ذلك بأنه لباس التقوى..
والتقوى يعني "الطهر الحقيقي".
الطهر الحقيقي من كل الآثام.
من المعلوم أن جذور الآثام الروحية والخلقية هي الكبر والغرور والأنانية. ومن هنا فإن المجاهد الواقعي اتقى الأتقياء.
فرب متق طهر من الحسد، وآخر من الكبر، وآخر من الحرص، وآخر من البخل..
لكن المجاهد أطهر الطاهرين، لأنه ضحى بكل وجوده، ولذلك اختص بباب من أبواب الجنة لا ينالها سائر الطاهرين.
مفهوم "درجات التقوى" يوضحه القرآن بجلاء في الآية الكريمة:
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(المائدة:93).
هذه الآية توضح مفهومين رائعين من المفاهيم القرآنية.
الأول: فلسفة الحياة وحقوق الإنسان.
فالآية تقول: النعم خلقت للإنسان. والإنسان خلق للإيمان والعمل والتقوى.
والإنسان يستطيع أن يتمتع بالنعم الإلهية إذا كان ملتزماً بالحركة على الخط التكاملي، أي على خط الإيمان والتقوى والعمل الصالح.
الثاني: درجات الإيمان والتقوى، وعلماء الإسلام ــ انطلاقاً من هذه الآية وغيرها من النصوص ــ قسموا مراتب التقوى إلى: العامّة، الخاصّة، وخاصّة الخاصّة.
وتقوى المجاهدين تقوى التضحية والفداء. والشهداء قدموا كل ما يملكون مخلصين إلى الله تعالى، واختاروا لأنفسهم هذا (اللباس) من ألبسة التقوى.
ثم يصف الإمام الجهاد أنه "درع الله الحصينة وجنته الوثيقة". لو تربت أمة مسلمة على روح الجهاد، وتسلحت بهذا الدرع الإلهي، فلن تنثني أمام أعتى الضربات.
والدرع، لباس من حلقات حديدية يرتديه المقاتل كي يبطل مفعول الضربة على الجسم.. والجنة[9] تحول دون وقوع الضربة على البدن.
فالأول عمله المناعة، والثاني: الدفاع.
وربما كان الإمام يشير في وصفه هذا إلى نوعين من الجهاد، جهاد وقائي يعطي للأمة مناعة من آثار الضربات المهلكة، وجهاد دفاعي يقف بوجه الضربات.
ثم يستعرض الإمام الآثار السلبية لترك الجهاد، والآثار السلبية التي تتحدث عنها العبارة جماعية لا فردية، أي ترتبط بالمجتمع لا بالفرد.
هذه الآثار السلبية عبارة عن:
أــ الذلة والمسكنة.
ب ــ الشدائد والمصائب: وهو خلاف ما يمكن أن يتصور في هذا المجال، فرب أمة تترك الجهاد طلباً لرغد العيش.. لكن الشدائد والمصائب تتولى على مثل هذه الأمة.
ج ــ الإحساس بالحقارة النفسية.
دــ فقدان البصيرة والرؤية الصحيحة، وهذه مسألة تلفت النظر كثيراً.
علي (عليه السلام) يجعل الجهاد طريق لتفتح البصيرة وللرؤية الواضحة الصحيحة. النصوص الإسلامية التي تؤكد على أن البصيرة وليدة العمل صريحة وكثيرة.. لكن هذا النص أكثر صراحة، وذهب إلى أكثر مما ذهبت إليه النصوص الأخرى حيث اعتبر ترك الجهاد يؤدي إلى إسدال الحجب على القلب أو على الفهم الصحيح والرؤية الواضحة للأمور.
ه ــ فقدان مركز القيادة، فالأمة التي تترك الجهاد لن تعود قادرة على حمل راية الإسلام والدعوة إلى الحق.
و ــ الحرمان من إنصاف الآخرين، فالأمة ذات اعتبار ومكانة واحترام مادامت مجاهدة، وإن افتقدت روحها الجهادية فقدت شخصيتها ومكانتها فلا يراعى لها حق، ولا تعامل بإنصاف.
قال الرسول الكريم:
"الخير كله في السيف وتحت ظل السيف".
وقال أيضاً:
"إن الله أعز أمتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها".
وهذا يعني أن القدرة والقوة لا تنفصلان عن الأمة الإسلامية، والإسلام دين القوة والقدرة ومدرسة تخريج المجاهدين.
يقول ويل ديورانت في "تاريخ الحضارة": ليس كالإسلام دين في حث اتباعه على التزود بالقوة والمقدرة.
وحديث آخر عميق المغزى، روي عن النبي (ص) يقول:
"من لم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق".
فالإنسان المسلم أما أن يعيش حياة الجهاد عملياً أو على مستوى الأمل على الأقل.
وبهذا المعيار يعرف صدق الإنسان وإخلاصه في إسلامه.
وروي أنه سئل النبي (ص)
ــ ما بال الشهيد لا يفتن في قبره؟
أجاب: "كفى بالبارقة فوق رأسه فتنة".
فالشهيد قد اجتاز امتحانه تحت السيوف التي كانت مشهورة بوجهه، أي أنه اثبت إخلاصه وصدقه وبين حقيقة حين اختار الشهادة، فليس من اللازم أن يؤدي امتحاناً آخر في عالم البرزخ.
[1] اخترمه: أهلكه واستأصله.
[2] هذه الظاهرة السلبية التي يذكرها المؤلف الشهيد، هي انعكاس طبيعي لما يسود المجتمع الإيراني من روح هابطة. أما حين سمت هذه الروح وتكاملت إبان أحداث الثورة الإسلامية، وبلغت مستوى فهم الشهادة والشهيد فقد تغيّر وجه أكثر المجالس الحسينية بشكل واضح، وزالت منها تقريباً هذه الظاهرة السلبية التي يذكرها المؤلف.
[3] ديث: مبني للمجهول من ديثة، أي: ذللة.
[4] الصغار والذل.
[5] الأسداد جمع سد، أي الحجب.
[6] أي صارت الدولة للحق بدله.
[7] الذل والمشقة.
[8] العدل.
[9] الجنة والمجن والمجنة: كل ما وقي من السلاح.
احدث الاخبار
السيد الحوثي: الاستقرار لن يبقى في المنطقة ما دام الاحتلال مستمر في فلسطين
ثروة باقية؛ المقاومة في لبنان من نشوء الحالة الإسلاميّة إلى التأسيس حتى «طوفان الأقصى»
قائد الثورة الإسلامية: الخلاف بين الجمهورية الإسلامية وأمريكا جوهري، وليس تكتيكيا
التبيين في نهج السيّدة الزهراء عليها السلام*
قيم الحياة الزوجيّة في سيرة أهل البيت عليهم السلام
عمائــــــم سلكت درب الشهادة (1)
الشيخ نعيم قاسم: أمريكا ليست وسيطا نزيها ودعم المقاومة واجب
زوجة القائد"الحاج رمضان" تروي ذكرى من أدب الشهيد قاسم سليماني
العميد نقدي: قدرتنا الصاروخية اليوم أقوى بكثير مما كانت عليه خلال العدوان الصهيوامريكي
الشيخ نعيم قاسم: المقاومة جاهزة للدفاع ولديها ردع يمنع تحقيق العدو لأهدافه
الاكثر قراءة
أحكام الصوم للسيد القائد الخامنئي
ما أنشده الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في حق الإمام الخامنئي
أربعون حديثاً عن الإمام الكاظم (عليه السلام)
أربعون حديثا عن الإمام الهادي (ع)
مختارات من كلمات الإمام الخامنئي حول عظمة السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)
مبادئ الإمام الخميني العرفانية
أربعون حديثاً عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
ماذا يقول شهداء الدفاع عن العقيلة؟.. الشهيد السيد إبراهيم في وصيته: لقد ذهب زمان ذل الشيعة+ صور
شهيد المحراب (الثالث) آية الله الحاج السيد عبد الحسين دستغيب
تقرير مصور عن شهداء الحجاز الذين استشهدوا في جبهات الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية