الجهاد المشروع وضوابطه الأخلاقية والقانونية [1]
التاريخ: 19-03-2008
القسم الأول مقاربات تنظيرية فكرية في حوار مع سماحة الشيخ محمد مهدي الآصفي الحياة الطيبة: رغم أنّ التاريخ للفكر الإنساني وبالذات تلك الحقبة المتزامنة مع الفكر الإسلامي شهد كماً كبيراً من الإشكاليات والقضايا حول محور جدلية العنف والتسامح، وما ينجم عن إحلال التوازن أو الإخلال به بينهما، غير أنّ العالم اليوم واثر الأحداث الناجمة عن عدة تفجيرات ضخمة في الولايات المتحدة الأمريكية، قد اقبل على عهد جديد
القسم الأول
مقاربات تنظيرية فكرية في حوار مع سماحة الشيخ محمد مهدي الآصفي
الحياة الطيبة: رغم أنّ التاريخ للفكر الإنساني وبالذات تلك الحقبة المتزامنة مع الفكر الإسلامي شهد كماً كبيراً من الإشكاليات والقضايا حول محور جدلية العنف والتسامح، وما ينجم عن إحلال التوازن أو الإخلال به بينهما، غير أنّ العالم اليوم واثر الأحداث الناجمة عن عدة تفجيرات ضخمة في الولايات المتحدة الأمريكية، قد اقبل على عهد جديد. ولعب الوضع الجديد دوراً كبيراً في إرساء قواعد حديثة في العلاقات الدولية من جهة، ومن جهة أخرى أن المحاولة غير الصائبة لإيجاد مناخ فكري يجد الإنسان المعاصر ما يوحي أو يصرح بان الفكر الإسلامي وعقيدته يحتضنان كثيراً من مواقع العنف ومقومات التهديد ضد الأخر غير المسلم. ومفهوم الجهاد من بين العناصر التي تحولت لدي الإعلام الغربي والأمريكي بالخصوص، إلى حجة للنيل من الإسلام حيث أنه يشكل العنصر الأكبر في تحريض الأمة لتنطلق نحو إزالة الأخر المعارض حسب ما يحاولون تكريسه في عقيدة الرأي العام العالمي اليوم.
وامتداد للحركة الفكرية الفقهية الإسلامية الهادفة إلى استنباط الحكم الشرعي من مصادره، ومحاولة منا لتحييد العقيدة الإسلامية وتبرئتها من الاعتماد على العنف والإرهاب رغم الحفاظ على كل عناصر القوة وإمكانيات الدفاع عن الذات الإسلامية مقابل التحديات والتهديدات، وقدر غبنا لهذا الحوار أن يكون منطلقا لدراسة هذه المقولات على ضوء أصول الشريعة الإسلامية.
بصفتكم من ذوي الخبرة والاختصاص في مجال الفقه والشريعة، وخاصة بالنظر إلى تصديّكم لتقديم دراسات عالية حول فكرة الجهاد وفروعه الفقيه، يسعدنا أن نستضيفكم لنبدأ من سؤال قديم لا يزال يطرح نفسه وهو: هل يمثل الجهاد في القرآن الكريم ذلك الوجه العنيف ويتحقق عبر المناهج العسكرية والكفاح أو الغزو المسلح ؟ وبالأحرى نريد أن نكون على علم بدقائق المدلول القرآني للفظة الجهاد ومصطلحه المؤسس عبر الوحي.
الشيخ الآصفي: شكراً لكم على إتاحة هذه الفرصة لي، لأتحدث إلى قراء مجلة (الحياة الطيبة) عن الجهاد.
الحياة الطيبة والجهاد:
وليس من عجب أن تبحث « الحياة الطيبة » عن الجهاد، فإن الحياة الطيبة الكريمة في الجهاد. والله تعالى يدعو المؤمنين لما يحييهم في سياق آيات الجهاد. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (1).و هذه الآية نزلت في سياق آيات القتال من سورة الأنفال. والحياة التي يدعو إليها الله هي الحياة الكريمة الطيبة، وهي لا تستقيم إلا بالجهاد.
ولولا أنّه تعالى يدفع بالصالحين الفاسدين من مواقع القوة، والمال، والسلطة لفسدت الأرض والحياة {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ }(2)، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} (3).
وكلمة الإمام على بن أبي طالب (عليه السلام) معبرة ودقيقة في تبيان هذه الحقيقة، يقول عليه السلام: ‹‹فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين‹‹ (4). ويقدم الإمام هنا تعريفاً جديداً للموت والحياة، غير ما يعرفه الناس. يقول عليه السلام: إنّكم إنا عشتم مقهورين لأعدائكم، فهذا هو الموت بعينه، وإن تراءى لكم أنّه الحياة، وإن متتم في ظلال سيوفكم تطعمون أعداءكم القهر والموت، فهذا هو الحياة، وإن تصوره الناس موتاً. إن الجهاد يصنع الحياة العزيزة الكريمة للأمة ويورث الأجيال، الكرامة والعزة، عن رسول الله (صلي الله عليه وآله): ‹‹إن الله اعز أمتي بسنابك خيلها ‹‹ (5) وعنه (صلي الله عليه وآله):« أغزوا تورثوا أبناء كم مجداً » (6). فليس من عجب، إذن، أن تهتم مجلة« الحياة الطيبة» بالجهاد، فإن الحياة لا تطيب ولا تعز بغير الجهاد.
الجهاد والعنف
والآن أعود إلى سؤالكم الأول:« هل يمثل الجهاد في القرآن الكريم وجه العنف الذي يتحقق عبر المناهج العسكرية والكفاح المسلح أم لا ؟»
أقول: فماذا يمكن أن يكون معني الجهاد، إذا كان لا يعني القوة والعنف!
لقد وردت كلمة (الجهاد) ومشتقاتها في القرآن (33) مرة ووردت كلمة (القتال) ومشتقاتها (31) مرة. وواضح أنّهما وجهان لحقيقة واحدة.
ومهما يكن تفسيرنا الجهاد من « الجهد» بمعني الوسع والطاقة، أو من ‹‹الجهد ‹‹ بمعني الشدة والتعب، فأن النتيجة واحدة لا تختلف، فإن (الجهاد) بمعني بذل الواسع في إقامة كلمة التوحيد على وجه الأرض وإزالة الشرك والظلم، أو بمعني تحمل الشدة والمشقة في سبيل إعلاء كلمة الله وإزالة الشرك والظلم.فإن تقرير إلوهية الله -وحده - وإزالة أنواع الشرك والظلم من وجه الأرض لا يمكن أن يتم من غير(القتال).
وقد ورد الأمر بالقتال كراراً وبصيغ مختلفة في القرآن. يقول تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) (7).
والكتابة: هي الفريضة، نحو قوله تعالى (كتب عليكم الصيام) ويقول تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) (8). ويقول تعالى: (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة) (9). وهو يحرض بالقتال (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) (10).
وآيات القرآن في هذا المعني عديدة، يصيغ التحريض، والفرض والإذن والتحبيب وغيره، وهو الوجه الآخر للجهاد، الذي لا يمكن فصله عنه، والمعني الواضح لهذه الكلمة هو القتل والعنف والغزو المسلح وما شئت من أمثال هذه الكلمات والمفاهيم.
الرحمة والصنف وجهان لقضية واحدة
ونحن لا نتوقف عند كلمة « الصنف » ولا نشك أن الإسلام، يتبني « العنف» إلى جانب «الرحمة » في منها جهة التشريعي التكاملي. ولا نشك أن «الرحمة » و«العنف » هما وجها هذا الدين، ومن دون هذا وذلك لا يمكن إن نفهمه.
تفسير العنف
ولكن نتساءل لماذا العنف ؟ وما هو؟ إن العقلية الغربية تفسير (العنف) باستخدام القوة للتوسع العسكري والاستبداد السياسي والديني.
وللقرآن تفسيراً آخر للعنف، لا علاقة له بالتفسير الأول إطلاقاً، فهو يذكر للقتال أربعة أهداف هي:
أولاً وثانياً: تقرير إلوهية الله ودينه على وجه الأرض وإزالة الفتنة، من حياة الناس يقول تعالى: (وقاتلوا هم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين الله فإن انتهوا فلا عدوان إلاّ على الظالمين) (11).
وهذا الآية تقرر هاتين الحقيقتين بوضوح ما بعده وضوح : تقريرا لإلوهية الله، وتحكيم شريعة الله على وجه الأرض « ويكون الدين لله » وهذا هو أحد الهدفين وللوصول إلى هذه الغاية لابد من إزالة عوامل الفتنة التي تعيق حركة الدعوة إلى هذه الغاية « حتى لا تكون فتنة» ولا تزول الفتنة مادام أئمة الظلم يحكمون الناس، ويحتلون مواقع القوة في المجتمع. وثالثاً: تحرير المستضعفين والمعذبين في الأرض، والدفاع، عنهم، وإزالة الظلم عنهم. يقول تعالى (و ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيراً) (12).
رابعاً: الدفاع عن قواعد التوحيد والعبودية ولو لا القتال لهدمت هذه القواعد ولم يعبد الله على وجه الأرض:(الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرون الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) (13).
إذا العنف بغاياته، فإن كانت غاية العنف هي التوسع العسكري والتعسف وإذلال الناس وتطويعهم، وسلب كرامتهم وإرادتهم فهو أمر سيء ومرفوض. وإن كانت غاية العنف إقامة الحق والعدل وتحرير الإنسان، وإقامة دين الله في حياة الإنسان، والدفاع عن القيم وعن المستضعفين فهو الوجه الآخر للرحمة، ولن تكتمل الرحمة إلا به.
الحياة الطيبة: من طيات ردكم وإبدائكم لهذه الملاحظات القيمة، نجد وكان الجهاد حتى لوكان في شكل مسلح وعبر وسائل حربية، لا يمثل عائقاً ومانعاً أمام مبدأ الحرية في اختيار المعتقد وغير أن بعض المحاولات الفكرية ترمي إلى الإيماء إلى أن بعض القضايا الشرعية والمعتقدات الدينية مثل الجهاد والحدود يكون عنصراً سافراً في الإكراه والإرغام لإخضاع غير المسلمين للشريعة الإسلامية، الأمر الذي لا يتجاوز تمنياً وأملاً لن يتحققا؛ لأن العقيدة لا تكون إلا عبر القناعة والإيمان والسيوف غير قادرة على صنعها. هل تعزو هذا الموقف إلى نمط اجتهادي حديث أم ترغب في أن تصحح الانطباع الراهن عن مقولة الجهاد والحدود اللتان توحيان بالعنف والتوسع بالسيف لدي بعض المفكرين وكثير من الناس ؟
الشيخ الآصفي: أنا أفهم الآية الكريمة من سورة البقرة (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) على غير ما يفهمها بعض المفسرين.
إن هذه الآية ليست بصدد بيان حكم تشريعي وإنما هي بصدد بيان قضية واقعية، لا علاقة بها بالتشريع، وهي أن أمر الدين من الوضوح بحيث لا يحتاج الإنسان إلى الإكراه في قبول الدين، كما نقول إن الأمر في أهمية المراجعة الطبية للمريض من الوضوح؛ بحيث لا يحتاج المريض الراشد إلى الإكراه ليراجع الطبيب عند الحاجة، بخلاف الطفل المريض غير الراشد، فإنه يكره على مراجعة الطبيب عند الحاجة، وهذه قضية واقعية، وليست بصدد بيان حكم تشريعي في نفي الإكراه عن الإنسان لقبول الدين، والقرينة لواضحة على ما أقول هو تعقيب هذه القضية بقوله تعالى: (قد تبين الراشد من الغي) فإن دلالة هذه الكلمة واضحة كما قلناه. ومعني هذه الكلمة: أن لا حاجة إذاً إلى الإكراه، لوضوح الفارق بين الرشد والغي.
وهذه التعقيب يناسب أن تكون هذه الفقرة من آية سورة البقرة تقريراً لقضية واقعية، لا لحكم شرعي. فأن وضوح التمييز بين الرشد والغي أدعي إلى الإكراه والإلزام شرعي من حالة عدم الوضوح، فإن للإنسان عذراً في حالة اللبس وعدم الوضوح، يخالف حالة الوضوح، فإن القانون يلزمه ويشدد في إلزامه.
رأي العلامة الطباطبائي في الميزان
ويذهب العلامة الطباطبائي (رحمة الله) في تفسيره القيم « الميزان» (14) إلى أن هذه الآية الكريمة بصدد تقرير حكم شرعي، سواء كانت القضية إخبارية حاكية عن حالة تكوينية أم حكماً إنشائياً، ويفصل (رحمه الله) الكلام في ذلك، بما لا مجال لنقله بتفصيله، ويري أن الأمور الاعتقادية لا يمكن فيها الإكراه، وإنما يختص الإكراه بالأفعال، والحركات المادية فقط، وإذا كان الدين مما لا يمكن الإكراه فيه فكيف يمكن الإلزام به ؟
المناقشة
وهذا الكلام لا يخلو من مناقشة، فإن الإلزام بالشهادتين، والدخول فيما يدخل فيه المسلمون أمر ممكن بلا إشكال، وهو يؤدي لا محالة إلى الإيمان والعقيدة الراسخة، كما حصل ذلك في الفتوحات الإسلامية، فإن الناس لم يدخلوا الإسلام ابتداء عن طواعية، ولكنهم اقروا بالإسلام. وهذا هو الحد الذي يقتصر عليه الحكم الشرعي بالإلزام بالإسلام، إلا أنهم عندما يتذوقون حلاوة التوحيد، يقبلون على الإيمان، ويحسن إسلامهم ويكون منهم الصالحون والأبرار والعلماء، كما حصل ذلك فعلاً في التاريخ الإسلامي، وبشكل واسع جداً.
إذا، ليست الآية الكريمة بصدد بيان حكم شرعي في هذا الأمر، ولا بصدد تقرير أن الإكراه في الدين غير ممكن، كما يقول العلامة الطباطبائي (رحمة الله) وإنما هي بصدد تقرير حقيقة واقعية لا علاقة لها بالحكم الشرعي، وهي: أن أمر الدين من الوضوح؛ بحيث لا يحتاج الإنسان فيه إلى الإكراه، ولو أرسل فطرته وعقله إرسالاً لقبل الدين من غير إكراه.
والدليل على ما أقول هو وجوب جهاد الكفار والمشركين في الجملة، وباتفاق فقهاء المسلمين من عامة المذاهب. يقول صاحب « الجواهر» في موسوعته الفقهية القيمة:« فكيف كان، فلا خلاف بين المسلمين في وجوبه في الجملة، بل هو كالضروري، خصوصاً بعد الأمر به في الكتاب العزيز، في آيات كثيرة، كقوله تعالى:(حرض المؤمنين على القتال) إلى غير ذلك (15)
ولا معني لوجوب جهاد الكفار مع الحكيم بنفي الإكراه في الدين، ولم يرد استثناء لهذا الحكم التشريعي الثابت في كتاب الله إلا بخصوص أهل الكتاب الذين يدخلون في ذمة الإسلام ويقبلون الجزية، وهو دليل آخر على ما قلنا.
يقول تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (16).
وقد صح عن رسول الله (صلي الله عليه وآله):«أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا اله إلا الله،فمن قال لا اله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله » (17)، هذا أولاً.
الإكراه في النظام لا ينافي نفي الإكراه في الدين
وثانياً: لو فرضنا أنّ الآية الكريمة بصدد بيان حكم شرعي، كما يقول العلامة الطباطبائي (رحمه الله) وطائفة واسعة من المفسرين، فأن الإكراه لا يصح في الأمور العقائدية: لأنها مسالة مرتبطة بالقناعة النفسية والعقلية، والقناعة لا تتم بالإكراه، والإلزام، كما يقول هؤلاء الأعلام.
وأما النظام الاجتماعي، فله شأن آخر، ويصح فيه الإلزام في السلم والحرب، وإذا تركنا أمر النظام الاجتماعي لقناعات الناس، لم يقم نظام في حياة الناس، ولم تستقم الحياة الاجتماعية، فلابد للناس من نظام اجتماعي، وسياسي، واقتصادي، ونظام قضائي، ونظام للعقوبات حتى تستقيم حياتهم. الإلزام والإكراه من بديهيات النظام، ولولا ذلك لم يبق نظام ولا حياة اجتماعية.
الحياة الطيبة: إلى أي مدي يمكن أن يكون الحديث عن رفض تواجد الأدلة الشرعية الكافية لإثبات الجهاد الابتدائي (دون وجود الدوافع الدفاعية والوقائية) ملامساً للحقيقة؟ وهل بالإمكان إن نتبنى ما يؤمن به بعض المفكرين المعاصرين وهو: إن الممارسات الجهادية في عصر الحاكم المعصوم تمثل دون استثناء تدابير غير هجومية وابتدائية بالأساس؟
الشيخ الآصفي: لست أشك في أن مهمة هذا الدين هي تطهير الأرض من الشرك والظلم، وإقامة التوحيد والعدل على وجهها، وهو لا يتأتى، بالتأكيد، إلا بمواجهة أئمة الظلم الذين لا يألون جهداً في مواجهة هذا الدين وإحباط مشاريعه في تحرير الإنسان بكل الوسائل الممكنة. ومادام هؤلاء الطغاة في مواقع القوة والسلطان من حياة الناس، فلا يمكن أن يأذنوا لهذا الدين أن يتقدم إلى الناس، وأن يقدم إلى الناس خطاب الله تعالى، فإن هذا الخطاب يتضمن تحرير الإنسان من كل القيود والاصار، وإعادة الحاكمية في حياة الإنسان إلى الله تعالى والصالحين من عباده، وتقرير إلوهيته وحاكميته على وجه الأرض، ولن يكون شيء من ذلك مادام لهؤلاء سلطان وقوة على وجه الأرض.
دور أئمة الكفر في إحباط مشاريع هذا الدين
فإن هؤلاء يوظفون كل قوتهم وسلطانهم لإحباط مشروع هذا الذين وإعاقة حركتة، وصد الناس عن الله، وتشويه صورته في أذهان الناس، ويتربصون به الدوائر لتعطيل دوره في حياة الإنسان.
إقرأوا هذه الآيات من كتاب الله، حيث يقول تعالى :(كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ*اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (18) (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) (19) (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا) (20).
فلن يتمكن هذا الدين من تقديم خطاب الله تعالى إلى الناس، وتحريرهم من أسر (الهوى) و(الطاغوت) مادام هؤلاء الظالمون يحتلون مواقع القوة والسلطان على وجه الأرض.
القتال لإزالة الفتنة والإعاقة عن طريق الدين
فلابد إذاً من استئصال أئمة الظلم والمفسدين من وجه الأرض، يقول تعالى: (فقاتلوا أئمة الكفر أنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) (21).
وبذلك تنتهي الفتنة من حياة الإنسان، يقول تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين لله) (22)، وقاتلوا هم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كله لله) (23).
والفتنة: هي (الإعاقة)، ووسائل الإعاقة كثيرة من الإرهاب والترغيب والتضليل الإعلامي.
فإذا زالت أسباب (الإعاقة) هذه من حياة الناس ولم يحل أحد بين الناس وبين الله تعالى، أقبل الناس على الله، كما أقبلوا عليه في الجزيرة العربية في السنوات الأخيرة من حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً)، أرأيت السد عندما يتهشم كيف تتدفق المياه، كذلك (سد الفتنة) عندما يزول يتدفق الناس أفواجاً إلى دين الله. وعندئذٍ يكون الدين كله لله، من غير حرب ولا قتال.
وذلك هو قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) فإن الفتنة والإعاقة لن تزول إلا بالقتال فإذا زالت، لن يحتاج حملة الدعوة إلى قتال وحرب ليقبل الناس على الله والدين، وإنما يقبل الناس على الدين، بمحض إرادتهم من دون قتال، ويكون الدين كله الله.
فالقتال لا يكون إلا لإزالة الفتنة وأسباب الإعاقة عن طريق الدعوة إلى الله، هذه هي النظرية، وتحتاج هذه النظرية إلى بسط في الكلام، وتوضيح واستدلال لا يسعه المقام.
البعد الواقعي والموضوعي في أحكام هذا الدين
وتفسير آيات القتال على أساس (الدفاع) والتنظير للدفاع من خلال هذه الآيات لا يستقيم والفهم السليم لآيات كتاب الله. وإن العوامل السياسية والإعلامية الضاغطة قد تؤدي بالمنظرين والمفكرين المعاصرين إلى تفسير النصوص الإسلامية على غير وجهه. وهذه الخلفية الضاغطة، واضحة في هذه التنظيرات، التي تحاول أن تعكس صورة وديعة للإسلام تتقبلها الذهنية الغربية.
ومن هذا المنطلق تفسر التشريعات والنصوص الواردة في أمر الجهاد والقتال بالدفاع. ويعتقد أصحاب هذه النظرية أن الإسلام يتمكن أن يفتح معاقل الكفر على وجه الأرض بالتوعية، والإنذار، والتبشير، والموعظة فقط. وهذا رأي غير واقعي، ولو كان حملة الإسلام يقتصرون على عامل التوعية والإنذار والتبشير لم يتيسر لهم يومئذٍ فتح معاقل فارس، والروم، ومصر، وأفريقيا. ولا يعني هذا الكلام إلاّ انتقاص من قيمة التوعية، والإنذار، والتبشير، وإنما نحب أن نأخذ الواقع الإنساني والسياسي بكل أبعاده في حساب الدعوة إلى الله.
وبهذه النظرة الواقعية لا يمكن أن نفسر حركة هذا الدين الواسعة في حياة الإنسان بعامل التوعية والإنذار والتبشير فقط، من دون أن نأخذ بنظر الاعتبار حالة الجهاد والقتال في تقدم الإسلام وتوسعه.
رؤية أهل البيت إلى الفتوحات العسكرية صدر الإسلام
ورغم أن الفتوحات العسكرية بعد عصر رسول الله (ص) كانت أحداثاً ضخمة وكبيرة في تاريخ هذا الدين، رغم ذلك لا نجد إشارة إلى رفض هذه الفتوحات والتشكيك في مشروعيتها في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام). وواضح لمن خبر أحاديثهم (عليهم السلام) أن انعدام النصوص الرافضة مع أهمية الفتوحات العسكرية يومئذٍ يعني إقرارها وشرعيتها. كما أن عمومات وإطلاقات نصوص الجهاد في القرآن تدل على هذه الحقيقة.
ولسنا نحب أن ندخل هنا بحثاً فقهياً عن مشروعية الجهاد الابتدائي، ولكنني أقول وأختم هذا الشطر من الحديث : إن الذي يتلقي سيرة رسول الله (صلي الله عليه وآله) والنصوص الإسلامية في الجهاد والقتال، وتاريخ الفتوحات الإسلامية، وموقف أهل البيت (عليه السلام) من هذه الفتوحات لا يشك في الحالة الجهادية في الإسلام، ولن يشك في أن الإسلام لا يتمكن من فتح معاقل الكفر، والظلم، والاستبداد السياسي، والطغيان على وجه الأرض، من دون القتال والمواجهة.
والتنظيرات المعاصرة للنصوص الإسلامية في القتال والجهاد تمثل حالة من الهزيمة النفسية والفكرية تجاه العوامل السياسية والإعلامية الضاغطة. ومن الخطأ أن نخضع تفسير النصوص الإسلامية لهذه العوامل الضاغطة، مهما كان نوعها.
ومن هذه العوامل الموجة الإعلامية الواسعة ضد العنف، بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) في أمريكا، والتي قادتها أمريكا وأوربا في العالم. ووقع بعض المفكرين والمنظرين في تيار هذه الموجة الإعلامية العالمية بعلم أو من دون علم.
ونحن نؤمن أن العنف ظلماً مرفوض، وأن العنف لمواجهة الظلم صحيح، وأن العنف لإزالة العنف حق، وأن العنف لإزالة الباطل صحيح. وعمليات المقاومة الإسلامية في لبنان والمقاومة الإسلامية في فلسطين من العنف المشروع الذي يحبه الله ورسوله والمؤمنين.
الحياة الطيبة: في قراءة لي لبعض مذكرات الشهيد مطهري رأيت تأكيداً صارماً منه في الجزء 2، ص 322 لأرجحية وأقدمية مبدأ (الصلح) و(السلام) في القرآن الكريم مستشهداً بآيات قرآنيه مثل: (يا ايها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافةٌ) (24) و(إن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) (25) وما إلى ذلك. أحب أن أتقدم بالسؤال هنا عما إذا كان هذا السلم مرغوباً فيه ومنصوصا عليه إسلامياً في العلاقات الإسلامية، أم هو يمثل المقصد الأساسي لتكون العلاقات الإنسانية مبنية عليه دون فارق بين طبيعة الانتماءات المذهبية والأيدلوجية للأطراف ؟
الشيخ الآصفي: أمّا قوله تعالى (يا ايها الذين امنوا ادخلوا في السلم كافةٌ) (26) فهو من التسليم لله ولرسوله، وليس من السلم في مقابل الحرب والقتال، والشاهد على ذلك تعقيب هذه الحقيقة مباشرة بقوله تعالى: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان أنه لكم عدوٌ مبين) (27)
والشيطان يأمر بمعصية الله ورسوله، وألا يسلم الإنسان أمره إلى الله تسليمً، يقول تعالى: (يا ايها الذين امنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر) (28). فالسلم هنا بقرينة السياق، وبقرينة قوله تعالى: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان...) من التسليم الله تعالى ولرسوله، نظير قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) (29). وهذا (السلم) من ذلك التسليم، ولو راجعتم كلمات المفسرين لتأكدتم مما أقول.
الحالة المرحلية في تشريعات الدعوة والجهاد
وأمّا قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) (30). فهو حكم مرحلي يتعلق بزمن نزول الآية الكريمة، وهي من سورة الأنفال. وقد نزلت هذه السورة في السنة الثانية من الهجرة بعد معركة بدر والأحكام النهائية في الحرب نزلت في سورة « براءة » وقد نزلت في السنة التاسعة من الهجرة، بعد فتح مكة، وبعد أن استقر الإسلام في الجزيرة العربية.
المراحل الأربع في نصوص الدعوة والجهاد
والصحيح في فهم هذه الآيات أن نفهم هذه النصوص ضمن المنهج المرحلي الحركي لنزول هذه الآيات. فقد مرت هذه الدعوة في محاربة (العنف) و(اللاعنف) بأربع مراحل، ولا نستطيع نحن أن نفهم آيات القتال وموضعها وموقعها، إلا من خلال هذه الحركة المرحلية للدعوة خلال هذا التاريخ.
المرحلة الأولي: مرحلة اللاعنف وكف الأيدي عن المواجهة وحتى عن رد قريش بالمثل والدفاع عن النفس، وذلك قوله تعالى: (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة) (31)
المرحلة الثانية: الإذن بالدفاع، وليس الأمر به، وذلك بقوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقديرٌ) (32) و(الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله...) (32)
المرحلة الثالثة: تشريع القتال دفاعاً والأمر بالدفاع والمواجهة. يقول تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (33).
المرحلة الرابعة: الأمر بالبدء بالقتال، وذلك بقوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم)(34)
وآيات سورة براءة على نهج المرحلة الرابعة. يقول تعالى : (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) (35).
وضمن هذا النهج الحركي. المرحلي لحركة الدعوة يجب أن نبحث عن موقع قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) وأوضح منها قوله تعالى: (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم والقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً)(36).
آية براءة ناسخة لآيتي الأنفال والنساء
إن آيتي «النساء» و«الأنفال» نزلتا قبل آية سورة «براءة» بعدة سنين، فإن «الأنفال» كما ذكرت نزلت في السنة الثانية من الهجرة، ونزلت «براءة» بعد فتح مكة في السنة التاسعة من الهجرة، وكذلك آية (النساء:90) نزلت قبل آية (البقرة:216) وقبل آيات براءة، آية الأنفال وآية (النساء:90) تكون منسوخة بآيات براءة، وتكون البراءة ناسخة لها.
وهذا هو الذي يذهب إليه ابن عباس حيث يقول:‹‹إن آية النساء:90منسوخة بآية براءة، وآية الأنفال:61 منسوخة بآية السيف من سورة براءة: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق).
تعديل في رأي ابن عباس
ومع قبول جوهر نظرية عبدالله بن عباس (رحمه الله)، أقول إن المسألة هنا ليست مسألة (نسخ)، فإنّ المراحل الأربع لم ينسخ بعضها بعضاً، وإنما حكم المواجهة والقتال، أو الدفاع، أو الكف في كل مرحلة هو حكم مرحلي يخص تلك المرحلة، وقد كان المسلمون يعرفون في هذه الحقيقة، فإذا انتهت المرحلة انتهي أمد ذلك الحكم، حتى استقر الأمر في السنة التاسعة من الهجرة بعد فتح مكة على الأحكام النهائية لقتال المشركين. وهذه هي الأحكام النهائية المطلقة في أمر القتال والجهاد.
ولكن يحب أن نضيف إلى هذه الحقيقة، حقيقة أخرى وهي قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) (27). فإن الله تعالى لا ينهانا في آية «المتحنة» عن البر والقسط للكفار الذين لا يقاتلونا، ولم يخرجونا من ديارنا.
وليس هذا الحكم إعراضاً عن الحكم الوارد في آية السيف، في «براءة» وإنما معنى ذلك أن الإسلام منهج واقعي في التعامل مع العالم لا يعلن الحرب على العالم، وإنما يتدرج في مواجهة الواقع ويقدم الأكثر عدواناً منهم على غيرهم، يقول تعالى (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) (38) وليس معني:« الذين يلونكم»:أي يجاورنكم ويقربون إليكم، بل معنى ذلك (والله أعلم بما يقول): الأقرب في استحقاق الصد والقتال والمواجهة، أي الأكثر عدواناً على المسلمين.
وإذا أردنا أن نجد لهذه الآية مصداقاً في حياتنا السياسية اليوم نجد أن «إسرائيل» هي الأكثر عدواناً على المسلمين وهي التي تلينا من الكفار.
إذن منهج القتال والجهاد في الإسلام منهج واقعي يتعامل من خلال معيارين. الأول منهما القدرة العسكرية، والاقتصادية، والسياسية، والثاني منهما التدرج.
وعلى أساس هذين المعيارين، فإن الله تعالى لاينهانا عن البر والقسط إلى الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا، وتكون هذه الآية من سورة «المتحنة» بناء على ذلك أساساً في العلاقات الخارجية بين المسلمين وغيرهم من الأمم غير المسلمين.
الحياة الطيبة: مطالعة دقيقة وفاحصة لحاضر العلاقات الإسلامية- غير الإسلامية الراهنة لجهة عقد اتفاقيات الصلح والسلام مع الجهات الكافرة قد توحي بالالتباس، وعدم الوضوح، وغياب القواعد الفقهية المنظمة، أو عدم توافرها بالنحو الكافي في الأوساط الإسلامية، هل الدرس الفقهي العالي اليوم يعالج إشكاليات الثابت والمتغير في رسم حدود الحكم الإسلامي مع غيره أم لا؟ حبذا لو تتكرمون في وضع نقاط أساسية للدين، عن مصاديقها وتطبيقهاتها في العصور الأولى، وتبعاً لها في باقي العصور والعهود التي مرت بها الحركة الإسلامية؟
الشيخ الآصفي: العقود والاتفاقيات مع الدول والأنظمة الكافرة تدخل ضمن نظام المتغيرات في الشريعة.
والشريعة تتألف من ثوابت ومتغيرات وهذه المتغيرات هي التي تمكين الفقية من تغطية مساحة الحياة الواسعة واللا محدودة بثوابت الشريعة. والشريعة لا محالة تتكون من مجموعة محدودة مهما كانت حدودها، من النصوص وهذه النصوص هي التي نسميها بثوابت الشريعة.
ومتغيرات الشريعة على نحويين :
1.المتغيرات التي يوظفها المجتهد في تغطية المسائل والقضايا الشرعية.
2.المتغيرات التي يوظفها الحاكم، وولي الأمر في الشؤون السياسية، والإدارية للمجتمع في إطار ثوابت الشريعة.
والقسم الأول من المتغيرات يشمل:
أ.قاعدة التزاحم
ب.حكومة العناوين الثانوية على الأحكام الأولية
ج.القواعد الفقهية
د.التلازم بين الحكم العقلي والشرعي
وهذه الآليات الشرعية يستخدمها المجتهد في تغطية المساحة اللا محدودة والمتغيرة من الحياة بثوابت الشريعة المحدودة.
والقسم الثاني من المتغيرات هو حكم الحاكم الشرعي في المسائل السياسية والإدارية وما يتصل بهما.
وحكم الحاكم، وإن كان يبتني لا محالة على بعض العناوين السابقة كالمصلحة والضرورة، والضرر والتزاحم بين الأهم والمهم وأمثال ذلك،. إلا أن حكم الحاكم بنفسه يلزم سائر الناس حتى المجتهدين منهم، تطابق اجهتادهم مع اجتهاد الحاكم في هذه العناوين الثانوية، أم لم يتطابق. إذا حكم الحاكم بنفسه من المتغيرات التي أقرتها الشريعة إلى جنب الثوابت الشرعية.
ويمكن أن يتحرك الحاكم ضمن الأطر الآتية:
1. تحريم المباح
ب. إيجاب المباح
وهذا مما اتفق عليه الفقهاء
ج ود. إباحة الواجب والحرام
ه. إيجاب الحرام
و. تحريم الواجب
وقد اختلف الفقهاء في دخول النقاط الأربعة الأخيرة ضمن صلاحيات الحاكم، ومهما يكن من أمر فإن الاتفاقيات وعقود السلام والمعاهدات مع الأنظمة غير الإسلامية تدخل في هذا الحقل الأخير، أي صلاحيات(الحاكم).
وإنما بسطنا الكلام في ذلك:لأن السؤال كان يتطلب البحث عن ثوابت الشريعة ومتغيراتها.
العقود والاتفاقيات الدولية من صلاحيات الحاكم
والآن بعد هذه الجولة في ثوابت الشريعة ومتغيراتها نعود إلى العقود والاتفاقيات والمعاهدات مع الأنظمة غير الإسلامية.
فنقول: إنما تدخل في صلاحيات (الحاكم الشرعي) بما يراه من المصلحة والضرورة، أو دفع الضرر عن المسلمين، أو تقديم الأهم على المهم في موارد التزاحم.
فيأخذ بهذه العناوين أو بغيرها، وإلي هذا الحد لا يزيد دوره عن دور أي مجتهد، يوظف العناوين الثانوية في تغيير الأحكام الأولية من الوجوب إلى الحرمة، ومن الحرمة إلى الوجوب، ومن الإباحة إلى الوجوب والحرمة.
فإذا حكم الحاكم بذلك بمقتضي ولايته على الناس، نفذ حكمه على سائر الناس، لقوله تعالى :(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، أخذوا بما أخذ به من العناوين الثانوية، في الاجتهاد أم لم يأخذوا.
ولا شك أن العقود والمعاهدات والتحالفات والاتفاقيات السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والأمنية، والسياحية، وغيرها تدخل في هذا الباب. ومن أهم هذه الموارد الاتفاقيات والمعاهدات العسكرية لوقف القتال، والأخذ بالهدنة لفترة طويلة أو قصيرة.
وإلي ذلك يذهب فقهاؤنا رحمهم الله.
كلمات الفقهاء في العقود والاتفاقيات الدولية
قال الشيخ في البسوط:«الهدنة واحدة، وهو وضع القتال وترك الحرب إلى مدة من غير عوض. وذلك جائز؛ لقوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)؛ ولان النبي(صلي الله عليه وآله) صالح قريشاً عام الحديبية على ترك القتال عشر سنين.
وليس يخلو الإمام من أن يكون مستظهراً، أو غير مستظهر، فإن كان مستظهراً وكان في الهدنة مصلحة للمسلمين، ونظر لهم بأن يرجو منهم الدخول في الإسلام، أو بذل الجزية فعل ذلك، وإن لم يكن فيه نظر للمسلمين بل كانت المصلحة في تركه بأن يكون العدو قليلاً ضعيفاً، وإذا ترك قتالهم اشتدت شوكتهم وقروا، فلا تجوز الهدنة؛ لأن فيها ضرراً على المسلمين.
فإذا هادنهم في المواضع الذي يجوز، فيجوز أن يهادنهم أربعة أشهر بنص القرآن العزيز، وهو قوله تعالى: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ولا يجوز إلى سنة وزيادة عليها.
فأما إذا لم يكن الإمام مستظهراً على المشركين، بل كانوا مستظهرين عليه، لقوتهم وضعف المسلمين أو كان العدو بالبعد منهم وفي قصدهم التزام مؤن كثيرة فيجوز أن يهادنهم إلي عشر سنين، لان النبي (صلي الله عليه وآله) هادن قريشاً عام الحديبية إلى عشر سنين؛ ثم نقضوها من قبل نفوسهم» (39).
وفي التذكرة: ويشترط في صحة عقد الذمة أمور أربعة:
الأول: أن يتولاه الإمام أو من يأذن له؛ لأنّه من الأمور العظام.
الثاني: أن يكون للمسلمين إليه حاجة ومصلحة إما لضعفهم عن المقاومة، فينتظر الإمام قوتهم، وإما لرجاء إسلام المشركين، وإما لبذل الجزية منهم والتزام أحكام الإسلام. وأما إذا لم تكن هناك مصلحة للمسلمين بأن يكون في المسلمين قوة، وفي المشركين ضعف ويخشي قوتهم واجتماعهم إن لم يبادرهم بالقتال، لم تجزله مهادنتهم.
والثالث: أن يخلو العقد من شرط فاسد، وهو حق كل عقد، فإن عقدها الإمام على شرط فاسد مثل أن يشترط رد النساء، أو مهورهن، أو رد السلاح المأخوذ منهم، أو دفع المال إليهم مع عدم الضرورة الداعية إلى ذلك. فهذه الشروط كلها فاسدة يفسد بها عقد الهدنة.
الرابع: ويحب ذكر المدة التي يهادنهم عليها‹‹ (40).
وفي المغني لابن قدامة الحنبلي: ‹‹ومعني الهدنة أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك لقتال مدة بعوض وبغير عوض، وتسمي مهادنة وموادعة ومعاهدة. وذلك جائز بدليل قول الله تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين)، وقال سبحانه:(و إن جنحوا للمسلم فاجنح لها) وروي مروان ومسور بن مخرمة أن النبي(صلي الله عليه وآله) صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين، ولأنّه قد يكون بالمسلمين ضعف، فيهادنهم حتى يقوي المسلمون …‹‹ (41).
الأصل القرآني في شرعية العهد
ثم إن الأصل في شرعية العهد في القرآن، هو: الآيات الأولى من سورة‹‹براءة‹‹.
قال تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم …)، فالجزء الأول من سورة ‹‹براءة››، يقسم الكفار إلى قسمين:
القسم الأول: الكفار الذين لم ندخل معهم في عهد.
القسم الثاني: الكفار الذين دخلنا معهم في عهد. وهذا القسم أيضاً ينقسم إلى قسمين:
الأول:من نقضوا عهدهم، وخالفوا وظاهروا بتشكيل أحلاف ضد الإسلام.
الثاني:من استقام على عهده.
وعليه سيكون مجموع الأقسام ثلاثة.
أ. الكفار الذين لم ندخل معهم في عهد.
ب. الكفار الذين دخلنا معهم في عهد ونقضوا.
ج. الكفار الذين دخلنا معهم في عهد واستقاموا على عهدهم.
والكفار من القسم الأول حكمهم أن الله بريء منهم وكذلك رسوله حسب نص القرآن.
والقسم الثاني: حكمهم أيضاً هو أن الله بريء منهم كذلك، ويأمرنا بقتالهم؛ لقوله تعالى: (ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين) (42)، وقول تعالى : (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) (43)، وقوله تعالى: (و هم بدأوكم أول مرة) في الآية الأولي ظاهر في أنهم هم الناقصون، وأن كان مانعاً، فلما نقضوا العهد ارتفع المانع.
أما القسم الثالث الذين عاهدوا واستقاموا على العهد، فالإسلام يحترم عهدهم؛ لقوله تعالى: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) (44).
وفي نهج البلاغة: «ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك [و] لله فيه رضاً، فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمنا لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، وإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن»(45).
الأمر بالوفاء بالعهد وحرمة الغدر في الشريعة
وقد تضافرت النصوص الإسلامية على وجوب احترام العهد، وحرمة نقضه، وعد ذلك من الغدر. قال الله تعالى: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحداً فاتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) (46).
وللمعاهد حرمة لدمه وماله، روي محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيي، عن أحمد بن محمد بن عيسي، عن محمد بن يحيي، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن قريتين من أهل الحرب لكل واحد منهم … إلى أن قال: فقال أبو عبدالله (عليه السلام): ‹‹لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا ولا يامروا بالغدر ولا يقاتلوا مع الذين غدروا، ولكنهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم، ولا يجوز عليهم ما عاهد عليه الكفار›› (48).
وروي محمد بن يعقوب عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالدين بن محمد بن الحسن بن شموم، عن عبدالله بن عمر بن الأشعث وعبدالله بن حماد الأنصاري، عن يحيي بن عبدالله بن الحسن، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال:«قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يجيء كل غادر يوم القيامة بإمام مائلا شدقه حتى يدخل النار» (49).
وروي عبدالله بن مسلم القضبي، عن مالك، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر، أن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قال: « إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع كل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان» (51).
وهناك باب في كتاب الجهاد من «سنن أبي داود» في الإمام يستجن به في العهود، جاء فيه « عن الحسين بن على بن أبي رافع: أن أبا رافع أخبره قال: بعثتني قريش إلى رسول الله (صلي الله عليه وآله) فلما رأيت رسول الله (صلي الله عليه وآله) ألقي في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله: إني والله لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله :إني لا أخبس بالعهد ولا أحبس البرد، ولكن ارجع فإن كان الذي في نفسك الآن فارجع، قال: فذهبت ثم أتيت النبي (صلي الله عليه وآله) فأسلمت. قال بكير: وأخبر ني أن أبار رافع كان قبطياً‹‹ (51).
وجاء عن العرباض بن سارية السلمي قال:« نزلنا مع النبي خيبر ومعه من معه من أصحابه، وكان صاحب الخيبر رجلاً مارداً [منكراً] فاقبل إلى النبي (صلي الله عليه وآله) فقال: يا محمد ألكم أن تذبحوا حمرنا وتأكلوا ثمرنا وتضربوا نساءنا؟ فغضب النبي (صلي الله عليه وآله) فقال: يا ابن عوض اركب فرسك ثم ناد : ألا إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن، وأن اجتمعوا للصلاة قال: فاجتمعوا ثم صلي بهم النبي ثم قام، فقال :أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله لا يحرم شيئا إلا في هذا القرآن، ألا وإني والله قد وعظت، وأمرت، ونهيت عن أشياء إنما لمثل القرآن أو أكثر، وإن الله تعالى لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم » (52).
ثم قال: «حدثنا عن رجل من جهينة قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله):لعلكم تقاتلون قوماً فتظهرون عليهم فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم.قال سعيد في حديثة: «فيصالحونكم على صلح» ثم اتفقا ولا تصيبوا منهم شيئاً فوق ذلك، فإنه لا يصلح لكم (53).
وعن عدة من أبناء أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وآله) عن آبائهم عن رسول الله أنه قال:«ألا ومن ظلم معاهداً، أو أنتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو اخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فانا حجيجه يوم القيامة» (54).
حرمة مال المعاهد ودمه
عن... خالد بن الوليد قال:» غزوت مع رسول الله خيبر، فاتت اليهود فشكوا أن الناس أسر عوا إلى حظائر هم فقال رسول الله: ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها» (55).
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن عيينة بن عبدالرحمن، عن أبيه عن أبي بكر قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): ‹‹من قتل معاهداً في غير كنهه حرم الله عليه الجنة›› (56)، وكنه الأمر حقيقته وقيل. كما في ‹‹حاشية النهاية››: وصفه، وقتله في غير كنهه؛ أي من غير استحقاق.
وروي محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيي، عن محمد بن عيسي، عن يونس، عن حريز وابن مسكان عن أبي بصيرقال:››سألته عن ذمي قطع يد مسلم قال:تقطع يده إن شاء أولياؤه، وياخذون فضل ما بين الديتين، وإن قطع المسلم يد المعاهد خيرأولياء المعاهد، فإن شاءوا أخذوا دية يده وإن شاءوا قطعوا يد المسلم وأدوا إليه الفضل ما بين الديتين، وإذا قتله المسلم صنع كذلك‹‹ (57).
شرط شرعية العقود والاتفاقيات الدولية
ولا بد في تصحيح وشرعية أي معاهدة صلح، أو تفاهم، أو تطبيع في العلاقات مع الأنظمة الكافرة من ملاحظة هذين الشرطين:
الشرط الأول: أن يجري الاتفاق على يد إمام المسلمين، المأمون على دينهم ودنياهم، والاتفاقيات والمعاهدات التي تجري على يد الأنظمة غير الشرعية التي تحكم أكثر بلاد المسلمين مع إسرائيل، أو أمريكا، أو غير هما من الأنظمة المعادية تفقد صفة الشرعية؛ لأن هذه المعاهدات تتم من قبل أنظمة غير شرعية، وغير مؤتمنة على مصالح المسلمين، بل عاملة لمصلحة الأنظمة الكافرة في كثير من الأحيان.
والشرط الثاني: أن تكون الاتفاقيات والمعاهدات لمصلحة أو ضرورة عائدة إلى المسلمين، والاتفاقيات التي تجري لمصلحة الأنظمة الكافرة، وبخلاف مصالح المسلمين، أو تجري تحت ضغوط من ناحية الأنظمة الكافرة فاقدة للشرعية.
ومعاهدات السلام مع« إسرائيل» كلها من هذا القبيل وعنصر الضغوط الأمريكية من أبرز عناصر هذه الاتفاقيات. ولذالك فإن المحاولات التي قامت بها بعض المؤسسات الدينية لإعطاء صفة الشرعية، في حينه. لأمثال هذه المعاهدات لم تلق قبولاً من ناحية المسلمين، الشيعة والسنة على نحو سواء.
الحياة الطيبة: قد مر تاريخ وظروف أدت إلى تصنيف خاص حول تنويع البلاد إلى دار الإسلام (و الإيمان) ودار الكفر. وخضع واقع الإنسان والمجتمع لتغيير شامل وتحولت العلاقات والروابط مما يزيد من إمكانية طروء تحول على واقع هذا التصنيف وفي كل الأحوال هل هناك ما يدعوا إلى تبني هذا التصنيف اليوم أيضاً؟ وما هي وضعية الجهاد والقتال ضد المجتمعات المشركة؟
الشيخ الآصفي:لم يطرأ جديد على مسألة (الجغرافيا السياسية) للعالم في الفقه. والمعروف لدي الفقهاء هو التصنيف الثلاثي للعالم على النهج التالي:
1. دار الإسلام
2. دار الحرب
3. دار العهد
وهذا التقسيم من الثوابت الفقيهة. والخلاف بين الفقهاء في تعريف هذه الدور، لا في أصل التقسيم الثلاثي. وأساس هذا الاختلاف، هو الاختلاف في المعيار الذي يتخذه الفقهاء لتصنيف العالم، وهو أساسان:
1. الأساس السياسي.
ب. الأساس الدعوي.
الأساس السياسي
فعلى الأساس الأول كل منطقة تخضع لسيادة الإسلام سياسياً وإدارياً، وتجري فيها الأحكام والحدود الشرعية، وتجري فيها الشعائر الإسلامية هي دار الإسلام.
و« دار الحرب ‹‹ أو ›› دار الكفر، هي كل منطقة تخضع لسيادة الكفر، ويحكمها الكفر، وإن كانت من قبل داراً للإسلام، وذلك مثل فلسطين. ودار(العهد) هي التي تخضع لسيادة الكفر، إلا أن المسلمين يحترمون هذه السيادة نظراً للعهود والاتفاقيات المبرمة بين المسلمين وبين الأنظمة الحاكمة على هذه المناطق. والفرق بين (دار العهد) و (دار الكفر) هو أن سيادة دار العهد سيادة محترمة، بخلاف سيادة دار الكفر، فإنها سيادة غير محترمة.
وهذا هو الأساس الأول للتقسيم الثلاثي للعالم، وهو الأساس السياسي.
يقول الشيخ محمد عبده في تعريف (دار الإسلام)، كما ورد في تفسير المنار: ‹‹كل ما دخل من البلاد في محيط سلطان الإسلام ونفذت فيها أحكامه وأقيمت، قد صار من دار الإسلام ووجب على المسلمين عند الاعتداء عليه أن يدافعوا عنه وجويا ً عينياً، وكانوا كلهم أثمين بتركه.
وإن استيلاء الأجانب عليه لا يرفع عنهم وجوب القتال لاسترداده وإن طال الزمان. فعلى هذا الرأي يجب على مسلمي الأرض إزالة سلطان جميع الدول المستعمرة لشيء من الممالك الإسلامية، وإرجاع حكم الإسلام إليها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وعجزهم الآن عن ذلك لا يسقظ عنهم وجوب توطين أنفسهم عليه، وإعداد ما يمكن من النظام والعدة له، وانتظار الفرص للوثوب والعمل››.
وهذا الرأي يوافق القاعدة التي وضعها أحد وزراء الإنجليز للتنازع بين المسلمين والنصارى في الغلب والسلطان، وهي: « ما أخذ الصليب من الهلال لا يجوز أن يرجع إلى الهلال، وما أخذ الهلال من الصليب يجب أن يعود إلى الصليب » وعلى هذا يجري اليهود الذين يطالبون بإعادة ملك إسرائيل إلى بلاد فلسطيين، بل هم لا يكتفون بإعادة الملك، بل يطلبون جعل الملك (بكسره الميم) وسيلة له، فهم يحاولون سلب رقبة الأرض من أهلها العرب بمساعدة الإنجليز» (58).
الأساس الدعوي
والأساس الثاني لتقسيم العالم في الفقه هو الأساس الدعوي وعلى هذا الأساس كل بلد امتدت إليها الدعوة وأصبح الناس فيها بحجم كبير، ولو لم يكن بحجم الأكثرية يمارسون فيها شعائر دينهم، فهو « دار الإسلام»، بشرط ألا تكون الدعوة مستهلكة كإنكلترا، أو غير ذات السيادة في هذه البلاد، والبلاد التي لم تمتد إليها الدعوة، أولا يكون لامتداد الدعوة إليها بروز ووضوح، فهي من دار الكفر.
ودار العهد هي البلاد التي لم تمتد إليها الدعوة، ولكنها قد دخلت معنا في عهود واتفاقيات متبادلة في حرمة السيادة من الطرفين وفي التفاهم والتعاون.
المقارنة بين التقسيمين
وللاختلاف بين هذين التقسيمين مصاديق كثيرة، فإنه على التقسيم الأول لا تدخل فلسطين المحتلة في دار الإسلام؛ لأن ‹‹إسرائيل›› هي صاحبة النفوذ السياسي والإداري فيها. بل كافة البلدان التي لا تخضع لسيادة الإسلام لا تعتبر من دار الإسلام، حتى لو لم تمارس فيها الكيانات السياسية الكافرة نفوذا مباشراً مثل العراق وتركيا العلمانية. والمساحات الإسلامية في يوغسلافيا وبلغاريا ودول آسيا الوسطي مثل أوزبكستان وطاجيكستان وأذربيجان، حيث تحلها أكثرية مسلمة ولكنها غير خاضعة لسلطان الإسلام، والأمثلة على ذلك كثيرة، في الخريطة السياسية الحديثة للعالم. غير أنها بناء على الأساس الثاني تدخل في دار الإسلام بلا تردد.
والإشكالية التي يواجهها التقسيم الثلاثي الأول هي أن هذه البلاد التي لا يشملها تعريف «دار الإسلام» لا تدخل في تعريف « دار الكفر» أيضاً في الغالب. فإن (دار الكفر)هي التي يحكمها الكافر مثل فلسطين، وأما البلاد التي لا يحكمها الكافر مباشرة مثل تركيا، وكثير من البلاد الإسلامية، فهي خارجة عن تعريف «دار الإسلام» و«دار الكفر»، معاً.
الحياة الطيبة: ولكن السؤال هنا حول الآثار التي تترتب على هذا التقسيم إلى دارين. هل لكم سماحة الشيخ أن تبينوا للقاري هذه الآثار وما هو رأيكم حول الموضوع ؟
الشيخ الآصفي: ليس هذا التعريف تعريفاً نظرياً محضاً في الفقه، فقد ذكر الفقهاء آثاراً فقهية كثيرة لهذه الدور. والاختلاف في تفسير(الدور) يؤدي إلى اختلاف في هذه الأحكام أيضاً ونذكر نماذج من هذه الأحكام.
1- أحكام اللحوم والجلود: فإن اللحوم والجلود الموجودة في أسواق دار الإسلام يصح أكلها واستعمالها كما في رواية إسحاق بن عمار المعروفة.
2- أحكام الالتقاط: الطفل اللقيط في بلاد المسلمين يحكم عليه بالإسلام من حيث أحكام الإسلام، وليس كذلك لقيط بلاد الكفر.
3- أحكام الهجرة: يذهب الفقهاء إلى القول بوجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام لو تعذرت عليه إقامة الشعائر الإسلامية في بلاد الكفر.
4- الدفاع: يجب الدفاع عن دار الإسلام إذا تعرض لهجوم من قبل الكفار.
الرأي المختار
والذي اختاره من رأي في هذه المسالة هو اتخاذ الأساس الثاني: أي أساس الدعوة في رسم الخريطة السياسية للعالم، بالنظر إلى الأحكام المتقدمة وغيرها فليس من الصحيح أن نجعل العامل السياسي أساساً لتصنيف العالم بالنظر إلى الأحكام المتقدمة، ففي مسالة اللحوم والجلود، لا إشكال أن لها علاقة بوجود كثرة كمية مسلمة في البلد، وليس لها علاقة بمسألة السيادة السياسية.
وكذلك الأمر في مسألة (الالتقاط)، فإنها ذات علاقة بوجود كثرة كمية مسلمة في البلد، ولا علاقة لها بالمسألة السياسية وكذلك الأمر في مسألة الهجرة. وقد أرجع صاحب الجواهر (رحمه الله) ملاك وجوب الهجرة إلى دار الإسلام، إلى غلبة الكفر على هذه البلاد لا إلى السيادة السياسية لكافر، فإذا عثرنا مثلاً على طفل صغير في القدس العربية لا نحكم بكفره، رغم أن القدس العربية خاضعة لنفوذ إسرائيل العدواني.
وكذلك مسألة الدفاع، فإن الدفاع واجب عن دار الإسلام. وقد ورد في النصوص الإسلامية بعنوان الدفاع عن بيضة الإسلام، ولا علاقة لهذه المسالة أيضاً بالمسالة السياسية، فلو تعرضت الجزائر، أو المغرب، أو تونس لغزو دولة كافرة يحب على المسلمين الدفاع عنها بلا كلام، رغم أن هذه البلاد وأمثالها من بلاد المسلمين لا تخضع للنفوذ السياسي الإسلامي، بالمعني الدقيق الشرعي لهذه الكلمة.
الأحكام المتعلقة بالأساس الأول
ورغم أننا اخترنا الأساس الثاني: أي « الدعوة» لترسيم الخريطة السياسية في العالم، دون الأساس الأول (الأساس السياسي) وذكرنا أن لهذا اختيار مبررات وأسباب فقهية لا يمكن تجاوزها رغم ذلك نجد في الشريعة أحكاماً تخص التقسيم الثلاثي للعالم على الأساس الأول:أي العامل السياسي.
وأذكر منه حكمين:
1- المرابطة: وهي الإرصاد لحفظ ثغور الإسلام من ناحية الأعداء، والمرابطة غير القتال، ومهمة المرابط غير مهمة المقاتل. والمرابطة من أحكام النفوذ السياسي للإسلام. يقول صاحب الجواهر (ره) في تعريف « الثغر»:«هو الحد المشترك بين دار الشرك ودار الإسلام كما في «التنفيح» أو كل موضع يخاف منه كما في »جامع المقاصد»، أو هما معا كلما في « المسالك»، قال: «الثغر هنا الموضع الذي يكون بأطراف بلاد الإسلام، بحيث يخاف هجوم المشركين منه على بلاد الإسلام، وكل موضع يخاف منه يقال له ثغر» (59).
2- إلا ستثمان:و نقصد به طلب الأمان والجوار من المسلم لدخول دار الإسلام. ويجو لإمام المسلمين أن يعطي أماناً الكافر على نفسه، وماله، وأهله لدخول البلاد، سواء كان بلده في حالة حرب المسلمين أم لا، فيدخل كافر دار الإسلام في ذمة المسلمين. والأساس في ذلك قوله تعالى: (وإن احد من المشركين أستجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه) (60).
ولا شك في أن الاستئمان من أحكام دار الإسلام بناء على التقسيم الأول (السياسي لا الدعوي).
وعليه، فإننا نذهب إلى القول بوجود أساسين لرسم الخريطة الجغرافية السياسية للعالم في الفقه.
الأساس الأول: هو الأساس السياسي بمعني النفوذ السياسي للإسلام أو الكفر وهو أساس لأحكام مثل المرابطة والاستئمان.
الأساس الثاني: هو الأساس الدعوي، وهو الأكثر والأوسع استخدام وذلك عملاً بالعهد.
الذي التزم به إمام المسلمين بناء على المصلحة أو الضرورة التي توجب ذلك. ولا إشكال في شرعية هذا العهد والاتفاق، إذا قضتها مصلحة المسلمين أو دعت إليه الضرورة.
ولا إشكال في أن الإسلام يأمرنا بالوفاء بالعقود والاتفاقيات. يقول تعالى : (أوفوا بالعقود)، وينهانا الله تعالى عن الغدر والنكث، فقد روي عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) ‹‹يجيء كل غادر يوم القيامة بإمام مائلاً شدقه، حتى يدخله النار›› (61).
وليس من شرط العهد، أن يتفق في حرب فقط، فقد تدخل الدولة الإسلامية بإذن إمام المسلمين في عقود واتفاقيات، وعهود دولية سياسية، واقتصادية، وعسكرية، وثقافية مع دول أخري في العالم، وإشكال في شرعية هذه العقود، لأنها جرت بأمر وإذن من قبل إمام المسلمين، طبقاً لمحصلة أو ضرورة تتطلبها.
وفي هذه الحالة يجب على المسلمين احترام هذه العقود والالتزام بها، ويحرم نقضها ما لم يبدأ الطرف الآخر بنقضها. ومن متطلبات احترام هذه العقود والعهود احترام سيادة الأنظمة السياسية التي تعاقدت معمها الدولة الإسلامية، ويجري تبادل الهيئات الدبلوماسية بين الدولة الإسلامية، وسائر الدول على أساس من هذه الاتفاقيات والعقود الدولية.
الحياة الطيبة: الخروج عل الحاكم هل هو بغي أم حرابة أم جهاد؟ وما هي الضوابط الشرعية التي تعتبرها مسوغة الخروج على الحاكم الظالم؟
الشيخ الآصفي: وردت في السؤال عدة المصطلحات تختلف مداليلها وأحكامها. في الخروج على الحاكم الظالم، ‹‹البغي››، ‹‹الحرابة›› (المحاربة) ‹‹الجهاد››، والضوابط الشرعية المسوغة للخروج على الحاكم الظالم. ولا بد أولاً من التفكيك بين هذه المصطلاحات، ثم الحديث بعد ذلك عن الضوابط الشرعية المسوغة للخروج عل الحاكم الظالم وفيما يلي تفصيل هذه النقاط:
1. إذا كان النظام الحاكم نظاماً كافراً عدوانياً غاصباً مثل النظام الصهيوني الغاصب والمعتدي على أرض إسلامية. فالحكم الشرعي هو الجهاد، وهو من الجهاد الدفاعي الذي يعد من أفضل أنواع الجهاد، وقد أذن الله تعالى لنا في ذلك. يقول تعالى : (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) (62).
وأمرنا الله تعالى بهذا القتال دفاعاً عن حقوق المسلمين وأراضيهم. يقول تعالى : (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) (63)، وهذا الآيات الكريمة تتطابق إلى حد كبير مع الحالة القائمة في فلسطين اليوم بين المسلمين واليهود المتسلطين.
2. وإذا كان النظام نظاماً صالحاً شرعياً، فإن الخروج والتمرد المسلح على هذا النظام من « البغي» الذي أمرنا الله تعالى بإصلاحه، فإذا رفضت الفئة الباغية الصلاح والرجوع إلى الطاعة، فالحكم هو القتال حتى تفيء إلى أمر الله.
3. وإذا كان النظام نظاماً صالحاً شرعياً وخرجت مجموعة مسلحة، أو فرد مسلح للإخلال بالأمن الاقتصادي والاجتماعي، فقد أمرنان الله تعالى بملاحقتهم وتقتيلهم وهذه هي ‹‹المحاربة›› أو الحرابة، كما ورد في السؤال.
4. وإذا كان الحاكم طاغية يحكم بلداً المسلمين ويسعي بالظلم والإفساد وانتهاك حدود الله وحرماته، وحقوق الناس في الأرض مثل يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف ومن أمره واستعمله عي المسلمين، ومن يشبهه من الحكام المعاصرين الذين يحكمون المسلمين بالظلم والعدوان، فهذا الحاكم هو ‹‹الطاغوت›› الذي أمرنا الله أن نكفر به ونرفضه، وألا نركن إليه، وهو ‹‹جهاد الطاغوت›› وجهاد الطاغوت من أفضل أنواع الجهاد. هذه هي النقاط الأربعة الواردة في السؤال، وبين ‹‹ البغي›› و‹‹ المحاربة:الحرابة›› فرق واضح.
فإذا خرجت فئة مسلحة من المسلمين على الإمام العادل وتمردت عليه، وسعت إلى الانشقاق على السلطة المركزية الشرعية، أو إسقاط السلطة المركزية كانت هذه الحركة ‹‹ بغياً›› ووجب على المسلمين أن يدعوهم إلى الدخول فيها دخل فيه المسلمون من الطاعة، وإن لم يدخلوا فيما دخل فيه عامة المسلمين أمرنا الله تعالى بقتالهم حتى يفيئوا إلى أمر الله. يقول تعالى : (فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) (64). وهذه الآية المباركة التاسعة من سورة الحجرات هي الأساس في التعامل مع الفئات الباغية.
فالبغي إذا هو: حركة سياسية جماعية مسلحة، ومنظمة متمردة على النظام الشرعي المركزي بهدف الانشقاق أو إسقاط السلطة المركزية.
أما « المحاربة»، فهي حركة مسلحة فردية، أو جماعية للإخلال بالأمن الاقتصادي الاجتماعي أو الديني، بقطع الطرق أو نهب الأموال، أو الاعتداء على الأعراض، أو الاختطاف المسلح، أو غير ذلك من أنواع الإخلال بالأمن عن طريق الإرهاب بالسلاح، ولا شأن للمحاربة بالسلطة السياسية، لا انشقاقاً ولا إسقاطاً، وإنما شأنهم الإخلال بأمن المجتمع فقط. والأصل في الحكم الشرعي في جهاد المحاربين وقتالهم هو قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسمعون في الأرض فساد أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) (65).
و بين، « جهاد الكافر» و« جهاد الباغي» و« جهاد الطاغية» الوارد في النقاط الأولي والنقطة الثانية، والثانية فرق، قد أوضحناه عند توضيح النقاط، ونزيده توضيحاً بالأمثلة الآتية.
المقصود ب «جهاد الكافر» هو العدو الكافر الذي يمارس سلطاناً عدوانياً على أرض المسلمين مثل « إسرائيل» كما ذكرنا وهذا هو الجهاد الدفاعي للكافر، ولا خلاف في وجوبه بين فقهاء المسلمين من كل المذاهب.
و المقصود بـ « الباغي » أو الفئة الباغية الفئة المتمردة والمنشقة على الحاكم الشرعي مثل معاوية بن أبي سفيان، الذي تمرد على الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهذا هو الباغي. ولا يختلف فقهاء المسلمين في وصف معاوية بالبغي، لو لا التحفظات السياسية لدي بعضهم، وهي تحفظات غير فقهية.
والمقصود بـ « الطاغوت»، هو الحاكم المتسلط على أمور المسلمين والذي يمارس الظلم والإفساد وانتهاك الحدود، والحريات في بلاد المسلمين، من داخل هذه الأمة مثل يزيد بن معاوية الذي كان يمارس أنواع الظلم، والإفساد، وانتهاك الحدود والحريات في هذه الأمة وبين معاوية ويزيد فرق، فأن معاوية باغ تمرد على أمير المؤمنين (عليه السلام) وعلى الحسن(عليه السلام) وينطبق عليه قوله تعالى (فإن بغت إحدهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفي إلى أمر الله) (66). وأما يزيد بن معاوية، فقد ورث السلطان والإفساد والظلم من أبيه، وطغي في البلاد على أحكام الله وحدوده وعلى حقوق المسلمين، فهو من الطاغوت الذي أمرنا الله تعالى برفضه والكفر به (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً) (7
ولا يختلف موقف المفسرين في تفسير الطاغوت عن المعني الإجمالي الذي ذكرته هنا، ولا يختلف المؤرخون وأصحاب السير المنصفون من أي اتجاه في تطبيق هذا العنوان على يزيد بن معاوية [والتاريخ يعيد نفسه فربما تجد بين الحاكم المعاصرين مشابهاً ليزيد]
أما الضوابط الشرعية للخروج على الحاكم الظالم، وهو الجزء الأخير من هذا السؤال المتعدد الأبعاد، فهو أمران أن يعمل الحاكم بالظلم ويسعي للإفساد في الأرض ويتجاوز حدود الله، وينتهك حقوق الناس. وهذا هو الجزء الأول، والجزء الآخر هو ألا يرتدع بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
فإذا كان الأمر كذلك وجب على المسلمين أن ير فضوا ولايته وسلطانه، ولا يركنوا إلى سيادته، ولا يطيعوا له أمراً، ولا يتحاكموا إليه.
الحياة الطيبة: لو رجعنا إلى القرآن الكريم والسنة هل يمكن أن نستخرج منهما قاعدة أو أصلاً عاماً حول جواز الخروج على الحاكم؟
الشيخ الآصفي: لقد دل الكتاب العزيز، والسنة الشريفة، وسيرة أهل بيت رسول الله (صلي الله عليه وآله) والصالحين من عباد الله على وجوب جهاد الطاغوت ومكافحته.
أما من كتاب الله، فقد قال تعالى: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) (68). يقول الراغب الأصفهاني في «المفردات»: « وقد يعبر عن التبري بالكفر نحو: ثم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض». وقوله تعالى: (إني كفرت بما أشركتموني) (69)، ويقال كفر فلان بالشيطان إذا آمن وخالف الشيطان كقوله تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن الله) (70) والكفر في هذه الآية لا يتم بعقد القلب فقط، وإنما بالمجابهة ومواجهة الطاغوت كما يقول السيد الطباطبائي (رحمه الله) في تفسير«الميزان»، وفي مقبولة عمر بن حنظله تفسير وتوضيح لهذه الآية، ويقول تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) (71). والركون كما يقول أئمة اللغة: هو: « الإهان (72)، الحب، المودة، الطاعة، الرضا، الميل، الاستعانة، الدنو».
ويقول الزمخشري في تفسير هذه الآية: « أركنه إذا أماله، والنهي يتناول الانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم ومصاحبتهم، ومجالستهم، وزيارتهم، ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم والتزيي بزيهم ومد العين إليهم وذكر هم بما فيه تعظيم لهم، وحكي أن الموفق صلي خلف الإمام، فقرأ بهذه الآية: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) فغشي عليه فلما أفاق قيل له: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) فغشي عليه فلما أفاق قيل له: هذا فيمن ركن من ظلم، فكيف بالظالم» (73).
ويقول القرطبي في تفسير الآية: « قال قتادة معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم » وقال ابن جريح: «لا تميلوا إليهم» وقال ابن دريد: « الركون هنا هو الإدهان» (74).
ويقول تعالى: (ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) (75). ويقول تعالى: (فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفوراً) (76).
ـــــــــــــ
1. الأنفال:24.
2. البقرة:251.
3. الحج:40.
4. نهج البلاغة، خطبة 51.
5. وسائل الشيعة، 11/5.
6. وسائل الشيعة، 11/9.
7. البقرة:216.
8. الصف:2.
9. النساء:74.
10. البقرة:190.
11. البقرة:193.
12. النساء:75.
13. الحج:40.
14. الميزان، 3/342.343.
15. جواهر الكلام، 12/80.
16. التوبة:29.
17. سنن البيهقي، 9/182. وبمضمونه صحيح مسلم، 1/39.
18. التوبة:8. 9.
19. محمد:1.
20. محمد:32.
21. التوبة:32.
22. البقرة:193.
23. الأنفال:39.
24. البقرة:208.
25. الأنفال:61.
26. البقرة:208.
27. البقرة آية: 208.
28. النور:21.
29. النساء:65.
30. الأنفال:61.
31. النساء:77.
32. الحج:39. 40.
33. البقرة:190.
34. البقرة:216.
35. التوبة:5.
36. النساء:90.
37. الممتحنة:8.
38. التوبة: 123.
39. المبسوط، 2/50.51.
40. المتذكرة. 1/447.
41. المغني، 10/517.
42. التوبة:13.
43. التوبة:12.
44. التوبة:4.
45. نهج البلاغة، الكتاب 53.
46. التوبة:4.
47. التوبة:7.
48. وسائل الشيعة، ج 11، ص 51. 52، ح. 1.
49. المصدر نفسه، ر20.
50. كنز العمال، 7682.
51. سنن أبي داود، 1/627، ح 2758.
52. سنن أبي داود، ج2، ص44. 45، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فسير إليه كتاب الجهاد. باب الوفاء بالعهد.
53. المصدر نفسه، ص45.
54. المصدر نفسه، ص45.
55. سنن أبي، ج2، ص 209.
56. المصدر نفسه، ج1، ص627.
57. وسائل الشيعة، ج 19، ب22 باب حكم القصاص، ر1.
58. تفسير النار، 1/316.
59. جواهر الكلام، 21/38.
60. التوبة:6.
61. وسائل الشيعة، 11/ص52، ج2.
62. الحج: 39.
63. البقرة:191.
64. الحجرات:9.
65. المائدة: 33. 34.
66. الحجرات:9.
67. النساء:60.
68. النساء:60.
69. إبراهيم:22.
72. الإدهان: المصانعة.
73. الكشاف الزمخشري، 433.
74. تفسير القرطبي، 9/108.
75. الشعراء: 151. 152.
76. الإنسان:24.
احدث الاخبار
السيد الحوثي: الاستقرار لن يبقى في المنطقة ما دام الاحتلال مستمر في فلسطين
ثروة باقية؛ المقاومة في لبنان من نشوء الحالة الإسلاميّة إلى التأسيس حتى «طوفان الأقصى»
قائد الثورة الإسلامية: الخلاف بين الجمهورية الإسلامية وأمريكا جوهري، وليس تكتيكيا
التبيين في نهج السيّدة الزهراء عليها السلام*
قيم الحياة الزوجيّة في سيرة أهل البيت عليهم السلام
عمائــــــم سلكت درب الشهادة (1)
الشيخ نعيم قاسم: أمريكا ليست وسيطا نزيها ودعم المقاومة واجب
زوجة القائد"الحاج رمضان" تروي ذكرى من أدب الشهيد قاسم سليماني
العميد نقدي: قدرتنا الصاروخية اليوم أقوى بكثير مما كانت عليه خلال العدوان الصهيوامريكي
الشيخ نعيم قاسم: المقاومة جاهزة للدفاع ولديها ردع يمنع تحقيق العدو لأهدافه
الاكثر قراءة
أحكام الصوم للسيد القائد الخامنئي
ما أنشده الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في حق الإمام الخامنئي
أربعون حديثاً عن الإمام الكاظم (عليه السلام)
أربعون حديثا عن الإمام الهادي (ع)
مختارات من كلمات الإمام الخامنئي حول عظمة السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)
مبادئ الإمام الخميني العرفانية
أربعون حديثاً عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
ماذا يقول شهداء الدفاع عن العقيلة؟.. الشهيد السيد إبراهيم في وصيته: لقد ذهب زمان ذل الشيعة+ صور
شهيد المحراب (الثالث) آية الله الحاج السيد عبد الحسين دستغيب
تقرير مصور عن شهداء الحجاز الذين استشهدوا في جبهات الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية