Skip to main content

الجهاد المشروع وضوابطه الأخلاقية والقانونية [2]

التاريخ: 27-03-2008

الجهاد المشروع وضوابطه الأخلاقية والقانونية [2]

القسم الثاني   مقاربات تنظيرية فكرية في حوار مع سماحة الشيخ محمد مهدي الآصفي   وجوب جهاد الطغاة في الأحاديث    والراويات بهذا المعني كثيرة، نذكر طرفاً منها على سبيل الشاهد: روي ثقة الإسلام الكليني بسنده إلى جابر عن أبي جعفر(عليه السلام) (في حديث) قال: « فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم، وصكوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم، ثم قال : فإن اتعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، أولئك لهم عذاب أليم، هنالك فجاهدوهم للسلام) أنه قال في صفين: ‹‹‌أيها المؤمنين من رأي عدواناً يعمل به، ومنكراً يدي إليه، فأنكره بقلبه، فقد سلم وبرئ ومن أنكره بلسانه فقد أجر، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلي، فذلك الذي أصاب الهدي، وقام على الطريق، ونور في قلبه اليقين›› (79)

القسم الثاني

 

مقاربات تنظيرية فكرية في حوار مع سماحة الشيخ محمد مهدي الآصفي

 

وجوب جهاد الطغاة في الأحاديث

 

 والراويات بهذا المعني كثيرة، نذكر طرفاً منها على سبيل الشاهد: روي ثقة الإسلام الكليني بسنده إلى جابر عن أبي جعفر(عليه السلام) (في حديث) قال: « فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم، وصكوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم، ثم قال : فإن اتعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، أولئك لهم عذاب أليم، هنالك فجاهدوهم للسلام) أنه قال في صفين: ‹‹‌أيها المؤمنين من رأي عدواناً يعمل به، ومنكراً يدي إليه، فأنكره بقلبه، فقد سلم وبرئ ومن أنكره بلسانه فقد أجر، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلي، فذلك الذي أصاب الهدي، وقام على الطريق، ونور في قلبه اليقين›› (79).

 

 والراويات بهذا المضمون كثيرة بالغة حد التواتر، لا نحتاج معها إلى مراجعة أسنادها، ومن طرق أهل السنة روي الترمذي عن طارق بن شهاب، قال : أول من قدم الخطبة قبل الصلاة مروان، فقام رجل فقال له خالفت السنة. فقال أبو سعيد: أما هذا، فقد قضي ما عليه سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول: من رأي منكراً فلينكر بيده ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». قال أبو عيسي هذا حديث حسن صحيح (80). ورواه أحمد في المسند في موضعين ‌(81)، ورواه بلفظ قريب منه مسلم في الصحيح (82)، ورواه ابن ماجة في السنن (83)، والنسائي في السنن (84)، ولا نريد أن نستعرض الأحاديث الواردة بهذا المعني، فهي كثيرة بالغة حد التواتر المعنوي، ونختمها برواية السبط الشهيد الحسين بن على (عليه السلام) عن جده رسول الله (صلي الله عليه وآله)، وذلك في منطقة البيضة، كما يقول المؤرخون، حيث خطب في كتيبة الحر بن يزيد التميمي قائلاً: «‌أيها الناس إن رسول الله(صلي الله عليه وآله) قال:» من رأي منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله (صلي الله عليه وآله)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله» (85).

 

 وجوب جهاد الطغاة من سيرة أهل البيت (عليهم السلام)

 

 وأوضع شيء في ذلك سيرة الحسين (عليه السلام) تجاه طاغوت زمانه، حيث خرج (عليه السلام) وقاتله بنفسه وأولاده وأهل بيته والصفوة من أصحاب (عليهم السلام)، وخطب في كربلاء في الناس وفي أصحابه، فقال (عليه السلام): ‹‹ ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهي عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فإني لا أري الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما» (86).

 

 ولما طالب مروان الحسين (عليه السلام) بالبيعة ليزيد بعد هلاك معاوية، قال له الحسين (عليه السلام): «‌إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام، إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد، ولقد سمعت جدي رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول: الخلافة محرمة على آل أبي سيفيان» (87). وقال في كربلاء لما طالبوه بالبيعة ليزيد: «لا والله، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد» (88).

 

 الرأي الآخر

 

 هذا الذي ذكرناه، فيما أعتقد. هو موقف الإسلام في هذه المسالة، وليس فيه ليس أو غموض ويتميز بالوضوح والصراحة من الكتاب، والسنة، والسيرة.

 

 وذاك رأي آخر في مطاوعة الحكام الظلمة والانقياد لهم ومتابعتهم مهما بلغ ظلمهم وإفسادهم في الأرض، ومهما كان عبثهم بالإسلام وانتهاكهم لحدود الله وحرماته، ومهما كان إسرافهم في بيت المال، حتى إن أعلنوا الشرب والسكر وسائر المنكرات إعلاناً، وقتلوا النفوس البرئية، وقتلوا الصالحين ما لم يظهروا كفراً بواحاً، وما لم يأمروا بالمعصية، يجب طاعتهم والانقياد لهم، ويحرم الخروج عليهم.

 

 ومن هؤلاء يزيد بن معاوية، والحجاج بن يوسف، ووليد بن يزيد الذي كان يكرع الخمر كرعاً. وبناء على هذه الفتوى يحرم الخروج على يزيد بن معاوية، وتحرم مخالفته في غير معصية الله الخ.

 

 هذا هو الرأي الآخر، وقد ظهر وبرز هذا الرأي في العصر الأموي، وامتد إلى العصر العباسي، ونظر لهذا الرأي علماء وفقهاء معروفون من أهل السنة والجماعة، ودعوا إليه وأدعو أن خلافه بدعة في الإسلام، وامتد وتعمق هذا الرأي، حتى كان أن يكون الرأي الفقهي الرسمي لفقهاء أهل السنة في العصر الأموي والعصر العباسي، ونحن نذكر نماذج من كلمات هؤلاء الفقهاء والمحدثين في وجوب الطاعة من الحكام ما لم يعلنوا الكفر البواح، وما لم يأمروا بالمعصية، وتحريم الخروج عليهم، واعتبار الخروج عليهم من البدعة التي حرمها الله.

 

 رأي عبدالله بن عمر

 

 روي مسلم عن زيد بن محمد عن نافع، قال جاء عبدالله بن عمر إلى عبدالله بن مطيع، حين كان من أمر «‌ الحرة»‌ ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال (عبدالله بن مطيع) اطرحوا لأبي عبدالرحمان وساده. فقال إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثاً؛ سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول: «من خلع يداً من طاعة لقي الله عزوجل يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» (89).

 

 رأي عبدالله بن عمرو العاص

 

و إلى هذا الرأي يذهب عبدالله بن عمرو بن العاص وكان يعرف به، ويدعو إليه (90).

 

 رأي الحسن البصري

 

 ويعرف هذا الرأي أيضاً عن الحسن البصري وعنه نقل:« الأمراء يلون من أمورنا خمسا: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا والله لما يصلح بهم أكثر مما يفسدون».

 

 رأي سفيان الثوري

 

 وكان سفيان الثوري يصر على هذا الرأي، ويراه من أعمدة الإيمان. يقول الشعب أحد تلامذته: ‹‹ يا شعيب لا ينفعك ما كتبت حتى تري الصلاة خلف كل بر وفاجر، والجهاد إلى يوم القيامة، والصبر تحت لواء السلطان جار أم عدل ››.

 

 رأي علي بن المديني

 

 ويقول علي بن المديني: ‹‹ ثم السمع والطاعة للأئمة وأمراء المؤمنين البر والفاجر، ومن ولي الخلافة بإجماع الناس ورضاهم، لا يحل لأحد يؤمن با لله واليوم الآخر أن يبيت ليله، إلا عليه إمام برا كان أم فاجراً، فهو أميرالمؤمنين!!! ليس لأحد أن يطعن عليهم، ولا ينازعهم، ودفع الصدقات إليهم جائز نافذ قد برئ من دفعها إليهم، وأجزئت عنه برأ كان أو فاجراً».

 

 وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولاه جائزة، قائمة ركعتان من أعادها، فهو مبتدع، تارك للإيمان، مخالف وليس له من فضل الجمعة شيء إذا ير الجمعة خلف الأئمة من كانوا، برهم وفاجرهم، والسنة أن يصلوا خلفهم، لا يكون في صدورهم حرج من ذلك. ومن خرج على إمام أئمة المسلمين، وقد اجتمع عليه الناس فاقروا له بالخلافة، بأي وجه كانت، يرضي كانت أو بغلبة فهو شاق هذا الخارج عليه العصا، وخالف الآثار عن رسول الله (صلي الله عليه وآله)، فإن مات الخارج عليه مات ميتة الجاهلية، ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس. فمن عمل ذلك، فهو مبتدع على غير السنة».

 

 اللالكائي (المتوفى سنة 418هـ) والبخاري

 

 وعقد الشيخ اللالكائي فصلاً في كتابه « السنة» ذكر فيها من عقائد أهل السنة ومنها ‹‹اعتقادهم وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور أبرار كانوا أم فجاراً››  ثم ذكر اللالكائي قول البخاري قال:‹‹ لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم، أهل الحجاز من مكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، وواسط وبغداد، والشام، ومصر لقيتهم كرات وأدركتهم، وهم متوافدون منذ أكثر من ست وأربعين سنة كلهم يعتقدون هذه العقيدة».

 

 النووي في شرحه على صحيح مسلم

 

 يقول النووي في شرحه على صحيح مسلم:‹‹ وأما الخروج عليهم- يعني الخلفاء- وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين وأجمع أهل السنة [على] أنه لا ينعزل السلطان بالفسق».

 

 ابن حجر في شرحه على ‹‹ صحيح البخاري»

 

 ويقول ابن حجر في ‹‹ فتح الباري ›› في شرح صحيح البخاري عن ابن بطال: ‹‹ وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وإن طاعتة خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن للدماء وتسكين للدهماء ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح»!!

 

 رأي أبي بكر الإسماعيلي (المتوفى سنة 371هـ)

 

 يقول الشيخ أبو بكر الإسماعيلي المتوفي سنة 371 هـ في كتابه ‹‹ اعتقاد أهل الحديث»:«ويرون الصلاة والجمعة وغيرها خلف إمام مسلم برا كان أو فاجراً، فإن الله عزوجل فرض الجعة وأمر بإتيانها فرضاً مطلقاً مع علمه تعالى بأن القائمين بها يكون منهم الفاجر والفاسق، ولم يستثن وقتاً دون وقت ويرون الجهاد معهم كانوا جورة».

 

 رأي الطحاوي وشارح الطحاوية

 

 يقول الشيخ الطحاوي في عقيدته: « ولا نري الخروج على أئمتنا وولاة‌ أمورنا وإن جاروا ولا ندعو عليهم، ولا ننـزع يداً من طاعتهم، ونري طاعتهم من طاعة الله عزوجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة».

 

 قال شارح الطحاوية (رحمه الله) بعد سوقه الأدلة الدالة على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور: «‌ فقد دل الكتاب والسنة على وجوب طاعة أولي الأمر، مالم يأمروا بمعصية، فتأمل قوله تعالى : (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) كيف قال: « وأطيعوا الرسول» ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم؛ لأن أولي الأمر لا يفردون بالطاعة، بل يطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله، وأعاد الفعل مع الرسول للدلالة عل أن من أطاع الرسول فقد أطاع الله، فإن الرسول لا يأمر بغير طاعة الله، فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله، وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا، فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعفاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات، ومضاعفة الأجور، فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد بالاستغفار والتوبة، وإصلاح العمل قال تعالى: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أني هذا قل هو من عند أنفسكم) وقوله تعالى: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون). فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير فليتركوا بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، لكن توبوا أعطفهم عليكم».

 

 الشيخ الصابوني(المتوفي سنة 499ه)

 

 يقول الشيخ أبو عثمان الصابوني المتوفي في سنة 499 ه في كتابه «‌عقيدة أصحاب الحديث»: « ويري أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغير هما من الصلوات خلف كل إمام مسلم برأ كان أو فاجراً، ويرون الدعاء لهم با لتوفيق والصلاح، ولا يرون الخروج عليهم، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف ».

 

 رأي علماء الوهابية

 

 في رسالة الشيخ عبدالله بن عبد اللطيف إن الشيخ قال: ‹‹ وبهذه الأحاديث وأمثالها عمل أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وآله) وعرفوا أن من الأصول التي لا يقوم الإسلام إلا بها، وشاهدوا من يزيد بن معاوية والحجاج ومن بعدهم. خلا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز. أمور ظاهرة ليست خفية، ونهوا عن الخروج عليهم والطعن فيهم ورأو أن الخارج عليهم خارج عن دعوة المسلمين إلى طريقة الخوارج».

 

 ويقول جمع من مشايخ وعلماء آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كالشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ عبدالله بن عمر العزيز العنقري، وآخرين في رسالة خاصة لهم بهذا الأمر:‹‹ إذا فهم ما تقدم من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وكلام العلماء المحقيقن في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، وتحريم منازعتة، فإن قصر عن القيام ببعض الواجب، فليس لأحد من الرعية أن ينازعه الأمر من أجل ذلك، إلا أن تروا كفراً بواحاً».

 

 وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف: «‌ وقد تظاهرات الأدلة من الكتاب والسنة في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر حتى قال:« اسمع وأطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك»، فنحرم معصيته والاعتراض عليه».

 

 وقال الشيخ عبدالله بن عبد العزيز العنقري في رسالة له بعد سوقه الأدلة على وجوب السمع والطاعة، ونقل كلام بعض العلماء في ذلك:« إذا فهم ما تقدم من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وكلام العلماء المحققين، في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، وتحريم منازعته، والخروج عليه، وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام، فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، وإتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس، ومجامع الناس. واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد. وهذا غلط فاحش، وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا كما يعرف ذلك من نور الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح. هذا الذي نعتقده وندين الله به ونبرأ إلى الله ممن خالفه واتبع هواه».

 

 ويقول الشيخ عبدالعزيز بن باز:‹‹ لا يجوز الخروج على الأئمة وإن عصوا، بل يجب السمع والطاعة بالمعروف، ولكن لا نطيعهم في المعصية، ولا ننـزعن يداً عن طاعة‹‹. ثم ساق عدداً من الأحاديث الدالة عل ذلك، ثم قال:‹‹ فا لمقصود أن الواجب السمع والطاعة في المعروف لولاة الأمور من الأمراء والعلماء فبهذا تصلح الأحوال، ويا من الناس، وينصف المظلوم، ويردع الظالم وتؤمن السبل ولا يجوز الخروج على ولاة الأمور، وشق العصا، إلا إذا وجد منهم كفر بواح عند الخارجين فيه برهان من الله، وهم قادرون على ذلك على وجه لا يترتب عليه ما هو أنكر وأكثر فساداً››.

 

الحياة الطيبة: ما الذي حمل هؤلاء الفقهاء إلى تبني هذا الرأي، حيث لا يمكن للسياسة وحدها أن توحي برأي ما، ألا تعتقدون وجود مستندات شرعية لهذا الرأي؟

 

 الشيخ الآصفي: لقد استند هؤلاء الفقهاء‌ إلى أمرين:

 

 1- التمسك بإطلاق الكتاب ومناقشته:

 

 يقول أبو بكر الإسماعيل (173ه) في كتابه‹‹‌اعتقاد أهل الحديث›› :‹‹ فإن الله عزوجل فرض الجمعة وأمر بإتيانها فرضاً مطلقاً مع علمه تعالى بأن القائمين يكون منهم الفاجر والفاسق، ولم يستثن وقتاً دون وقت، ولا أمراً دون أمر››.

 

 وخلاصة الاستدلال أن الأمر بالطاعة لأولياء الأمور المطلق، كالأمر بالسعي إلى الجمعة، فتجب الطاعة إلا في الأمر بمعصية الله ويحرم الخروج على الإمام، إلا عند ما يعلن الإمام الكفر بواحاً.

 

 المناقشة

 

 والتمسك بإطلاق الآية الكريمة من أغرب ما نعرف من الاحتجاج بالكتاب العزيز، وتوضيح ذلك:

 

 أولاً:إن الله تعالى لم يجعل للفاسق ولاية ولا إمامة على المسلمين، يقول تعالى في جواب سؤال إبراهيم (عليه السلام) الإمامة لذريته: (لا ينال عهدي الظالمين) وتمام الآية : (وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فاتهمن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) (91) ويقول تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) (92). وإذا كان الركون إلى الظالم حراماً. فكيف يكون الظالم ولاية وإمامة على المسلمين. فالآية الكريمة (95 من سورة النساء) تأمر بطاعة أولي الأمر والظالم لا ولاية، ولا إمامة له على المسلمين بصريح آية البقرة 124و آية هود 113.

 

 ولنعم ما يقول علماء الأصول في رد مثل هذه الاستدلالات غير العلمية: إن الحكم لا يثبت موضوعه، وهذا الأمر بالطاعة لا يثبت أن المتسلط على الحكم بالبطش له ولاية وإمامة على المسلمين، هذا أولاً.

 

 وثانياً: التفريق بين المخالفة والخروج. بأن نقول : إذا أمر الحاكم بالمعصية فتجب للمخالفة ويحرم الخروج عليه. أمر غير عملي، فإن الأمر بالمعصية والإجهار بها إن كان حالة طارئه من ناحية الحاكم وتراجع عنها، فإن ولايته، إذا كانت شرعية لا تقطع بمعصية ناب عنها، ولكن إذا شط الحاكم في الغي، وتمادي في الظلم والضلال والإفساد في الأرض مثل كثير من الحكام الذين حكموا المسلمين، ويحكمونهم اليوم، فإن التفريق بين المخالفة والخروج، فتجب المخالفة لما روي عن رسول الله (صلي الله عليه وآله): « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (93)، ولكن يحرم الخروج عليه، أقول هذا الرأي أقرب إلى الفرض منه إلى الحكم الشرعي، فإن الحاكم الذي يتمادي في الغي والضلال والبطش والإفساد، إذا عرف أن المسلمين يتحرجون من الخروج عليه، فإنه سوف يجبرهم على الطاعة فيما يأمر به من معصية الله، كما حصل في تاريخنا المعاصر الكثير من هذه الحالات. ولا مخرج عن هذه العاصي والمنكرات إلا بالخروج على الحاكم.

 

 وثالثاً: إن الله تعالى نهانا عن الركون إلى الظالمين، والركون إلى الظالم ليس بالطاعة فقط وإنما بقبول إمامته أيضاً فإن قبول إمامته وقيادته وقبول الانضواء تحت حكمه وزعامته من أوضح مصاديق الركون. يقول تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) فتكون هذه الآية مخصصة لآية النساء 59، على فرض إطلاقها، لمعصية الله، فتختص الولاية المشار إليها في سورة النساء الآية 59، فيما إذا استقام الحاكم على حدود الله تعالى وأحكامه وصراطه. فإذا انحراف وشط، فلا تكون له إمامة ولا ولاية على المسلمين.

 

 ورابعاً: كما تجب مخالفة الحاكم الظالم في معصية الله كذلك تحرم طاعته فيما يأمر في غير معصية الله؛ لأن الدخول في طاعته هو من الركون إليه، وقد نهانا الله تعالى عن الركن إلى الظالمين.

 

 ومن عجب أن يقول ابن تيمية في ‹‹‌ منهاج السنة»:«‌ الكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعته. ولا يسقط وجوبها. لأمر ذلك الفاسق بها، كما أنه إذا تكلم بحق لم بجز تكذيبه، ولا يسقط وجوب إتباع الحق لكونه قد قاله الفاسق».

 

 وهو كلام غريب فإن إتباع الحق يختلف عن إتباع الفاسق في الحق وبينهما فرق. ونحن نتبع الحق ولكن لا نتبع الفاسق ولو في الحق؛ لأن الله تعالى نهانا عن الركون إليه، وإتباع الفاسق وطاعته من الركون إليه؛ ولأن الله أمرنا أن نكفر بالطاغوت ونرفضه والحاكم الظالم هو مصداق الطاغوت، ولسنا نشك في ذلك، كما لا نشك في أن الكفر به بمعنى رفض طاعته. ويريد ابن تيمية أن يساوي بين طاعة الله وطاعة للطاغوت إذا أمر بما يأمر به الله ليس بمعني معصية الله.

 

 وهذه كلها، «‌ معادلات» و«‌لا معادلات» واضحة لا تحتاج إلى أكثر من هذا التوضيح. والله تعالى يريد أن لا يكون للطاغوت سلطان أو سبيل على المؤمنين، وإن حاول الطاغوت أن يجعل هذا السبيل على المؤمنين من خلال القضاء ودعوة الناس إلى التحاكم إليه أو من خلال دعوة الناس إلى إقامة الجمعة في حوزة سلطانه. يقول تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك يريدون أن يتحاكما إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به يريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً) (94)، وما أروع الوعي الذي نجده في رواية عمر بن حنظلة المعروفة‌ عند الفقهاء ب «المقبولة‌ » : « من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذه سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله به: أن يكفروا به» (95).

 

 فإن الله تعالى أمرنا أن نكفر بالطاغوت ونرفضه، حتى لو حكم بالحق، فإن قبول حكم الطاغوت حتى في الحق يدخل المؤمنين في سلطان الطاغوت وطاعته، ويحكم قبضته عليهم، ويجعل له سبيلاً عليهم وهذا كله مما نهانا الله تعالى عنه، وأمرنا برفضه.

 

 وخامساً : إن الله تعالى نهانا عن طاعة المسرفين والمفسدين، والغافلين، وأصحاب الأهواء والآثمين على الإطلاق في المعصية والطاعة. يقول تعالى: (ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) (96)، ويقول تعالى: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا وأتبع هواه وكان أمره فرطاً) (97)، ويقول تعالى: (فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً) (98).

 

 وليس من الصحيح أن نقول إن الله تعالى أمرنا بمقاطعة الظالمين والمسرفين في الظلم والإسراف، فإن النهي عن طاعتهم نهي مطلق، ولا دليل على تقييد هذا الإطلاق بخصوص الإسراف والظلم. فلابد من مقاطعتهم في الصلاح والفساد معاً، إذا كانوا ظالمين مفسدين مسرفين. وليس من عجب أن يأمرنا الله تعالى بمقاطعة الظالمين والمفسدين والمجرمين، حتى في غير الإفساد والظلم، فإن طاعتهم في ذلك تؤدي إلى إحكام قبضتهم على المؤمنين واستحكام مواقعهم ودولتهم وسلطانهم، وهذا ما يبغضه الله ولا يرضي به.

 

 2- الاحتجاج بنصوص الروايات ومناقشتها

 

 ويستعرض هؤلاء طائفة من الروايات لإثبات ما يذهبون إليه من وجوب الرضوخ والطاعة للحكام الظلمة والمتسلطين عل الحكم بالظلم والإرهاب، وقد جمع صاحب دراسات في ولاية الفقيه طائفة من هذه الروايات في كتابه، نستعرض بعضها فيما يلي:

 

 روي مسلم في صحيحه بسنده عن حذيفة بن اليمان، قال: نعم. قلت: يا رسول الله إنا كنا بشر فجاء الله بخير، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: نعم، قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأ‌طع» (99).

 

 وروي فيه أيضاً بسنده، إنّ سلمة بن يزيد الجعفي سأل رسول الله (صلي الله عليه وآله) فقال: « يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس وقال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم›› (100).

 

 وفي رواية آخري فيه: « فجذبه الأشعث بن قيس فقال رسول الله (ص): أسمعوا و‌أطيعوا، فإنّما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» (101).

 

 وفيه أيضاً عن عبادة بن الصامت، قال:« دعانا رسول الله (ص) فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا، ومكرهنا، وعسرنا، ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان» (102).

 

 قال النووي شرحه: « في معظم النسخ بواحاً بالواو، وفي بعضها براحاً والباء مفتوحة فيهما ومعنا هما كفراً ظاهراً » (103).

 

 وفيه أيضاً عن عوف بن مالك، عن رسول الله(صلي الله عليه وآله) قال:‹‹ خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة: وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنـزعوا يداً من طاعة » (104).

 

 وفيه أيضاً عن أم سلمة أن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قال: « ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون. فمن عرف برئ ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع. قالوا أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا» (105). قيل: إن المراد بقوله« فمن عرف برئ» أن من عرف المنكر، فله طريق إلى البراءة من أثمه وعقوبته بأن يغيره بيده أو بلسانه أو بقلبه. وفي رواية أخري: «‌فمن كره فقد برئ» (106) وعليه فالمعني واضح.

 

 وفيه أيضاً عن ابن عباس، عن رسول الله (صلي الله عليه وآله)، قال:«‌من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإن ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية» (107).

 

 وفيه أيضاً عن نافع، قال: «‌جاء عبدالله بن عمر إلى عبدالله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال:اطرحوا لأبي عبدالرحمان وسادة، فقال: أني لم آتك لأجلس، أتيتك لا حدثك حديثاً سمعت رسول الله يقوله، سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول: من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة‌ له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» (108).

 

 وفي كتاب الخراج لأبي يوسف القاضي، عن الحسن البصري، قال رسول الله(صلي الله عليه وآله):«‌ لا تسبوا الولاة، فإنهم إن أحسنوا كان لهم الأجر وعليك الشكر وإن أساووا فعليهم الوزر وعليكم الصبر روا إنما هم نقمة ينتقم الله بهم ممن يشاء فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية والغضب، واستقبلوها بالاستكانة والتضرع» (109).

 

 وفي سنن أبي داود، عن أبي هريرة، قال رسول الله(صلي الله عليه وآله): «‌الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر» (110).

 

 إلى غير ذلك من الروايات الظاهرة في وجوب التسليم لحكام الجور وعدم جواز الخروج عليهم. وهذه الروايات تشبه بوجه الأخبار المستفيضة الواردة بطرقنا المذكورة في الباب.

 

الحياة الطيبة: أمام هذا الكم الهائل من الروايات كيف يمكن الحكم بجواز الخروج على الحاكم؟

 

 الشيخ الآصفي: هذا الروايات معارضة بطائفتين من الروايات أقوي دلالة، وأكثر وأضح سنداً، وهما: الروايات الآمرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآمرة بإزالة المنكر ومقارعته باليد، والروايات الناهية عن إعانة الحكام الظلمة، وهما تعارضان الروايات المتقدمة بالصراحة، واليك هاتين الطائفين من الروايات:

 

 1- وجوب الأمر بالمعروف وإزالة المنكر باليد

 

 وهي طائفة واسعة من الروايات صريحة في أن المرتبة الأولى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي التغيير باليد، والمرتبة الثانية باللسان، والمرتبة الثالثة بالإنكار بالقلب، وهو أضعف مراتب الإيمان. والمقصود بـ«‌التغيير باليد» هو إزالة المنكر باستخدام القوة. روى الترمذي عن طارق بن شهاب قال: « أول من قدم الخطبة قبل الصلاة مروان، فقام رجل فقال لمروان: خالفت السنة، فقال: يافلان اترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضي ما عليه. سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول: من رأي منكراً فلينكر بيده، ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». قال أبو عيسي هذا حديث حسن صحيح (111).

 

 ونجد في هذا الحديث « العد التصاعدي» للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أضعفها الإنكار بالقلب، وأقواها الإنكار وإزالة الظلم باليد، في مقابل الروايات التي تذكر «‌ العد التنازلي» للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر « القاعد فيها خير من القائم»، حتى تصل النوبة إلى المضطجع، وهي أقوي الإيمان، حتى تستقيم للظالمين أمورهم، وتطمئن قلوبهم، وتنتظم لهم البلاد والناس !!

 

 وروي الترمذي في السنن عن أبي سعيد الخدري إن النبي (صلي الله عليه وآله) قال: « إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» (112). وعن النعمان بن بشير قال: « خرج علينا رسول الله (ص)، ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء، فرفع بصره إلى السماء، ثم خفض حتى ظننا أنه حدث في السماء أمر، فقال: ألا إنها ستكون بعدي أمراء يظلمون ويكذبون، فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم فليس مني، ولا أنا منهم ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يمالئهم ومالأهم على ظلمهم فليس مني، ولا أنا منهم ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يمالئهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه» (113).

 

 وهذه الأحاديث كثيرة وهي صريحة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد، وإزالة الظلم والظالم بالقوة، والنهي عن ممالأة الظالم والركون إليه، والأمر بمقاومته ومقارعته بالسيف، وإقامة دولة العدل والحق. وهذه الطائفة من الروايات تطابق الكتاب العزيز. وقد أمرنا أن نعرض الروايات أذا تعارضت، على كتاب الله، فنأخذ بما يوافق كتاب الله، ونذر ما لا يطابقه. وقد استعرضنا قبل هذا البحث أيات القرآن الكريم، فلا نعيد.

 

 2. تحريم إعانة الحاكم الظالم

 

 وهذه طائفة ثانية‌ من النصوص وردت في تحريم إعانة الحاكم الظالم، ولو بقدر مدة قلم، أو تحضير دواة، وتغليظ الإنكار على ذلك، والتحذير منه. وهذه الروايات كثيرة، ورادة من طريق الفريقين، وهي مؤكدة لحرمة الركون إلى الظالمين التي قررها الكتاب العزيز.

 

 ولدى التعارض بينها وبين الروايات المتقدمة في السكوت عن الظالمين وقبول ولايتهم وسيادتهم وتحريم الخروج عليهم؛ فإن المرجع هو القرآن. ولا شك في أن القرآن يحذر من الركون إلى الظالمين أشد التحذير. وها نحن نذكر طائفة من هذه الروايات:

 

- محمد بن يعقوب، عن أبي حمزة، عن على بن الحسين (ع) في حديث قال:« إياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين» (114).

 

- عن طلحه بن زيد، عن أبي عبدالله (ع) قال:« العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم» (115).

 

 - عن محمد بن عذافر، عن أبيه قال: قال أبو عبدالله (ع):« يا عذافر نبئت أنك تعامل أبا أيوب والربيع، فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة؟ قال: فوجم أبي، فقال له أبو عبدالله (ع) لما رأي ما أصابه: أي عذافر إنما خوفتك بما خوفني الله عزوجل به، قال محمد: فقدم أبي فمازال مغموما مكروبا حتى مات» (116).

 

- عن حريز قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول:«‌اتقوا الله وصونوا دينكم بالورع، وقووة بالتقية والاستغناء بالله عزوجل عن طلب الحوائج إلى صاحب سلطان، أنه من خضع لصاحب سلطان ولمن يخالفه على دينه طلباً لما في يديه من دنياه أهمله الله عزوجل ومقته عليه، ووكله إليه فإن هو غلب على شيء من دنياه فصار إليه منه شيء نـزع الله جل اسمه لبركة منه ولم يأجره على شيء منه ينفقه في حج ولا عتق ولا بر» (117).

 

- عن أبي بصير، قال: «سألت أبا جعفر عن أعمالهم فقال لي: يا أبا محمد لا ولا مدة قلم، إن أحدهم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينه مثله أو حتى يصيبوا من دينه مثله››‌ (118).

 

 - وروي ابن حجر في« الزواجر» باب ظلم السلاطين والأمراء والقضاء:‹‹ جاء‌ خياط إلى سفيان الثوري، فقال إني أخيط ثياب السلطان أفتراني من أعوان الظلمة؟ فقال له سفيان: أنت من الظلمة أنفسهم، ولكن أعوان الظلمة من يبيع منك الإبرة والخيوط» (119).

 

 وهذه الروايات كثيرة من طريق الفريقين، وإن كانت واردة في تحريم إعانة الظالم والتحذير عنه، حتى لو كان بقدر بري قلم، وتغليظ الإنكار على ذلك، إلا أن التأمل في هذه الروايات يفضي إلى القول بحرمة الركون للظالم والرضوخ له، والنهي عن قبول سيادته وسلطانه والاعتراف به، والنهي عن الانضواء تحت لوائه في الحرب والسلم، ولا نحتاج إلى تأمل كثير لنخرج بهذه النتائج من التأمل في أمثال هذه الروايات.

 

 3- الإجماع ومناقشته

 

 يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن مسألة الرضوخ والانقياد للحاكم الظالم في غير معصية الله مما تسالم عليه الفقهاء، وأجمعوا عليه من غير خلاف. وقد سمعنا من قبل بعض كلمات هؤلاء. يقول النووي في شرحه على صحيح مسلم، في التعقيب على رواية عبادة بن الصامت التي مرت علينا من قبل:‹‹ ومعني الحديث:لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيث ما كنتم. وأما الخروج عليهم وقتالهم، فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين. وقد تظاهرات الأحاديث بمعني ما ذكرته، وأجمع أهل السنة لا ينعزل السلطان بالفسق. وإما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل، وحكي عن المعتزلة أيضاً. فغلط من قائله مخالف للإجماع›› (120).

 

 ونقل ابن حجر في ‹‹ الفتح›› عن ابن بطال أنه قال:‹‹ وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، فإن طاعته خير من الخروج عليه … ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح››.

 

المناقشة

 

 ويكفي في نقض هذا الإجماع خروج سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين (عليه السلام) على يزيد بن معاوية وقتاله لجيش بني أمية وشهادته هو وأهل بيته وأصحابه وأنصاره (عليه وعليهم السلام) في هذه الوقعة. وسيرته (عليه السلام) من الخروج على يزيد حجة على المسليمن، فإن الحسين(عليه السلام) من أهل البيت أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا، وعدل الكتاب العزيز، كما ورد في حديث الثقلين الشهير.

 

 وقد روي الطبري في تاريخه وابن الأثير في ‹‹ الكامل›› أن الحسين(ع) خطب في أصحابه وأصحاب الحر، فحمد الله وأثني عليه ثم قال: ‹‹ أيها الناس، إن رسول الله (صلي الله عليه وآله)قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاُ لسنة رسول الله (صلي الله عليه وآله) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غيره›› (121).

 

 وخرج على يزيد في وقعة الحرة التي استباح فيها يزيد حرم رسول الله (ص)؛ خرج على يزيد خيار المسلمين والتابعين وأبناء الصحابة مثل عبدالله بن حنظلة غسيل الملائكة، وعبدالله بن عمر وبن حفص، والمنذر بن الزبير وعبدالله بن مطيع، وكان عبدالله بن حنظلة الغسيل يقول: «‌والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمي بالحجارة من السماء- رجل ينكح البنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة ويقتل أولاد النبيين»(22).

 

 وخرج عن هذا الإجماع كبار الفقهاء، منهم أبو حنيفة كما يقول أبوبكر الجصاص‹‹ في أحكام القرآن››، يقول الجصاص:« كان مذهبه مشهوراً في قتال الظلمة وأئمة الجور، ولذلك قال الاوزاعي: احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف، يعني قتال الظلمة، فلم نحتمله».

 

 وكان من قوله: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض بالقول، فإن لم يؤتمر له فبالسيف على ما روي عن النبي (صلي الله عليه وآله). وسأله إبراهيم الصائغ. وكان من فقهاء أهل خراسان ورواة الأخبار ونساكهم. عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: هو فرض، وحدثه بحديث عن عكرمة عن ابن عباس إن النبي (صلي الله عليه وآله) قال:«أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر فقتل».

 

 فرجع إبراهيم إلى مرو، وقام إلى أبي مسلم صاحب الدولة فأمره، ونهاه، وأنكر عليه ظلمه وسفكه الدماء بغير حق فاحتمله مراراً ثم قتله.

 

 وقضيته في أمر زيد بن على مشهورة، وفي حمله المال إليه، وفتياه الناس سراً في وجوب نصرته، والقتال معه، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم بن عبدالله بن الحسن، وقال لأبي إسحاق الفزاري حين قال له:« لم أشرت على أخي بالخروج مع إبراهيم حتى قتل؟ قال: مخرج أخيك أحب إلى من مخرجك، وكان أبو إسحاق قد خرج إلى البصرة. وهذا إنما أنكره عليه أغمار أصحاب الحديث، الذين بهم فقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى تغلب الظالمون على أمور الإسلام» (123).

 

 ويقول الماوردي في « الأحكام السلطانية»:« إذا طرأ » الفسق« على من انعقدت إمامته خرج منها فلو عاد إلى العدالة‌ لم يعد إلى الإمامة» (124). ويقول ابن حزم الأندلسي في «الفصل في الملل والنحل»: «إن امتنع» الحاكم«من إنفاذ شيء من الواجبات عليه، ولم يراجع وجب خلعه، وإقامة غيره ممن يقول بالحق لقوله تعالى«تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع» (125).

 

الحياة الطيبة: ولكن بالرجوع إلى التاريخ نجد أن الخروج على الحاكم أدي في بعض الأحيان إلى الفتن دون أن يغير الواقع المنحرف، أوانه أتي بحاكم أسوأ من سابقه فلعل هذه التجارب الفاشلة تدعو بعض الفقهاء إلى تحريم الخروج؟

 

 الشيخ الآصفي: هذا آخر ما يذكره أصحاب هذا الرأي من الدليل على رأيهم في الانقياد للحكام الظالمين وتحريم الخروج عليهم. يقول النووي في شرحه على صحيح مسلم:‹‹قال العلماء: وسبب عدم انعزاله الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه. فلو طراً على الخليفة فسق قال بعضهم: يجب خلعه إلا أن يترتب عليه فتنة، وحرب. وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يخلع، ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه للاحاديث الواردة في ذلك›› (126).

 

 ويقول شارح العقيدة الطحاوية:‹‹ وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا: فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، يقول الشيخ محمد بن عبدالله بن سبيل إمام المسجد الحرام في تحريم الخروج عليهم ونـزع الطاعة من أيديهم:‹‹ سواء كانوا أئمة عدولاً صالحين أم كانوا من أئمة الجور والظلم … فإنه أخف ضرراً، وأيسر خطراً من ضرر الخروج عليهم›› (127).

 

 ويقول أيضاً في موضع أخر من كتابه: ‹‹فإن الصبر على جور الأئمة وظلمهم مع كونه هو الواجب شرعاً، فإنه أخف من ضرر الخروج عليهم ونـزع الطاعة من أيديهم، لما ينتج عن الخروج عليهم من المفاسد العظيمة‌. فربما كان الخروج سبب حدوث فتنة يدوم أمدها، ويستشري ضررها، ويقع بسببها سفك للدماء وانتهاك للأعراض وسلب للأموال وغير ذلك من أضرار كثيرة ومصائب جمة على العباد والبلاد›› (128).

 

المناقشة

 

 أقول: أولاً إن ما لهذا الاستدلال من ناحية فنية إلى تقديم الأهم على المهم في باب ‹‹التزاحم›› ومن دون أن ندخل التفاصيل العلمية الأصولية لباب التزاحم، نقول:إن لدنيا هنا حكمين وهما:

 

 أولاً: وجوب النهي عن المنكر وإزالة المنكر وتغييره ومكافحته، حتى لو تطلب ذلك إراقة الدماء وتحمل المتاعب.

 

 وثانياً: اجتناب الفتن الاجتماعية التي تؤدي إلى إراقة الدماء وانتهاك الأعراض والإضرار بالناس.

 

 وكل من الحكمين في وضعه الأولي مطلق؛ أي أن النهي عن المنكر يجب حتى لو تطلب إراقة الدماء، وتجنب الفتن الاجتماعية يجب حتى في موضع النهي عن المنكر.

 

 وهذان حكمان مطلقان متخالفان، فإذا اجتمعا في موضع واحد كما يحصل في الإنكار على الحكام الظالمين ومكافحتهم ونهيهم عن الظلم وإزالتهم عن موقع السلطان والنفوذ في المجتمع، فإن هذا الإنكار يؤدي إلى مقارعة الحكام الظالمين. وبالتالي، إلى سفك الدماء وانتهاك الأعراض والإضرار بالناس بأضرار بليغة، وهو أمر قد حرمه الله تعالى.

 

 فيجتمع في هذا الموضع إذن حكمان.

 

 - أحدهما وجوب إنكار المنكر وتغييره وإزالته ومكافحته.

 

 - ثانيهما وجوب الاجتناب عن الفتن الاجتماعية والسياسية التي تؤدي إلى سفك الدماء وانتهاك الأعراض، وبما أنّ المكلف لا يقدر على امتثال الحكمين معاً كان لابد - بحكم العقل- من تقدم الأهم على المهم. وبلغة فنية: لابد من تقييد إطلاق أحد الحكمين، فإذا كان أحدهما أهم من الآخر، فيكون المقيد هو الآخر لا محالة. فالمدار، إذن في هذه المسالة على تشيخيص الأهم من المهم.

 

 وهذا أمر ‹‹ متغير›› يختلف من حال إلى حال، ومن حاكم إلى حاكم، ومن منكر إلى منكر، ومن مجتمع إلى مجتمع، فلا يمكن إعطاء أحكام ثابتة في مثل هذه المسائل. فقد يكون المجتمع صالحاً قوياً ملتزماً بحدود الله وأحكامه وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحاكم الذي يقترف الظلم حاكم ضعيف يمكن إزالته من دون مشاكل وأضرار كبيرة، ففي هذه الحالة يقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأمر بالحفاظ على الأنفس والأموال من الفتن والأضرار والهلكة.

 

وقد يكون الأمر بالعكس، فيقدم الحكم بالمحافظة على الأنفس والأموال والأعراض على حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعلى العموم الأمر يختلف في تحديد الأهم وتشخيص الأهم من المهم بين الحكمين من مورد إلى مورد، ولا يمكن إعطاء حكم عام في هذه المسالة بناء على هذا الدليل.

 

 ويتفق كثيراً أن الحاكم يمارس أبشع أنواع المنكرات، ويقترفها ويتجاوز حدود الله وأحكامه، وينتهك حرماته سبحانه وتعالى، كما كان الأمر في يزيد بن معاوية، الذي يقول عنه الحسين (عليه السلام) كما في رواية الطيري:‹‹ ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهي عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فإني لا أري الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برماً›› (129).

 

 ويقول عنه الحسين (ع):‹‹ ألا وإن هؤلاء (يعني بني أمية) قد لزموا طاعة‌ الشيطان، وتركوا طاعة‌ الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا الفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وأنا أحق من غير›› (130).

 

 في مثل هذه الأحوال يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومكافحة المنكر، والعمل على إزالته، مهما تطلب الأمر، من الدماء والمتاعب والأضرار في الأنفس والأموال. وإصدار أحكام ثابتة وقطعية في تحريم الخروج على الحكام الظالمين وتحريم إزعاجهم، وإثارة الفتن في وجوبهم، وتحريم مقارعتهم ومقاومتهم، يزيد هؤلاء الحكام إمعاناً في مقارفة المنكرات والظلم والفساد.

 

 وليس شيء أرضى إلى هؤلاء الحكام الذين يقترفون كبائر الإثم، ويمارسون أبشع أنواع الظلم، من أمثال هذه الفتاوى التي نجدها نحن للأسف- في تاريخ الإسلام كثيراً، هذا أولاً.

 

وثانياً: إن هذا الحكم لو صح في بعض موارد باب التزاحم، عندما يكون اجتناب الفتنة أهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو حكم ثانوي طارئ، والحكم الأولي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل على إزالة المنكر، ومكافحته، والنهي عن إطاعة الظالمين والمسرفين، والأمر بالإعراض عنهم ورفضهم، والفكر بهم. وليس من الصحيح الإعراض عن الحكم الأولي الثابت في الشريعة إلى الأحكام الثانوية الطارئة، إلا في مواردها المنصوصة في الشريعة. والحكم الأولي الثابت في الشريعة هو قوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) (131)، وقوله تعالى: (الم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً (132)، وقوله تعال (ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) (133)، وقوله تعالى : (فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفوراً) (134).

 

 وما ورد في نصوص الروايات البالغة حد التواتر المعنوي، وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعي لإزالة المنكر ومكافحته وتغييره باليد. ففي مسند أحمد بسنده عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول:‹‹ إن الله عزوجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة›› (135). وفي ‹‹ نهج البلاغة››: أن عليا خطب الناس في صفين فقال: ‹‹ أيها المؤمنون، أنه من رأي عدواناً يعمل به، ومنكراً يدعي إليه، فأنكروه بقلبه لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلي، فذلك الذي أصاب سبيل الهدي وقام على الطريق ونور في قلبه اليقين›› (136).

 

 وفي « نهج البلاغة»:« ولعمري على من قتال من خالف الحق، وخابط الغي من إدهان ولا إيهان، فاتقوا الله عباد الله، وفروا إلى الله من الله، وأمضوا في الذي نهجه لكم، وقوموا بما عصبه بكم، فعليّ ضامن لفلجكم آجلاً، إن لم تمنحوه عاجلاً» (137). وروي الصدوق بإسناده عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد(ع) قال: قال أمير المؤمنين (ع): « إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة بالمنكر سراً، من غير أن تعلم العامة، فإذا عملت الخاصة بالمنكر جهاراً، فلم تغير ذلك العامة، استوجب الفريقان العقوبة من الله - عزوجل » قال: وقال رسول الله (ص):« إن المعصية إذا عمل بها العبد سراً لم يضر إلا عاملها، فإذا عمل بها علانية ولم يغير عليه أضرت بالعامة». قال جعفر بن محمد(ع):«و ذلك أنه يذل بعمله دين الله ويقتدي به أهل عداوة الله» (138).

 

 هذا هو حكم الله تعالى أولاً في مواجهة أئمة الظلم والطغاة والجبابرة الذين يسعون في الأرض فساداً، وأما الموازنة بين الأهم والمهم في الأحكام، فهو أمر ثانوي طارئ، وليس من الصحيح أن نستبدل الأحكام الأولية بالثانوية، إلا في مواقعه اللازمة والمحدودة في الفقه.

 

 الدور السلبي لهذه الفتاوى

 

 ولقد كان لأمثال هذه الفتاوى دور سلبي في تاريخ الإسلام في دعم الحكم ألظلمه، وتشجيعهم على الإمعان في الظلم والإفساد، أولاً، وفي إخماد ثورة المظلومين والمعذبين، وإحباط حركات الثائرين ومقاومة الشعوب المستضعفة والمضطهدة ثانياً.

 

 ولم يكن هؤلاء الحكام من أمثال معاوية ويزيد، والوليد، وعبدالملك، والحجاج، والمنصور، وهارون، والمتوكل، وغيرهم يستريحون إلى شيء، كما يستريحون إلى أمثال هذه الفتاوى، فكانوا يمعنون في الظلم والفساد واقتراف الذنوب والمعاصي، وانتهاك الحرمات، ويجدون في هذه الفتاوى دعة وراحة.

 

 وقد كان هؤلاء الفقهاء يبالغون ي تأكيد هذا الرأي وتعميقه في المجتمع الإسلامي إمعاناً في تطمين هؤلاء الحكام من ناحية ثورات المظلومين وانتفاضاتهم.

 

 بقول سفيان الثوري لأحد تلاميذه:« يا شعيب لا ينفعك ما كتبت حتى تري الصلاة خلف كل بر وفاجر والجهاد ماض إلى يوم القيامة، والصبر تحت لواء السلطان جار أم عدل».

 

 سبحان الله!! كما لو كان إقرار الظالمين على ظلمهم، والسكوت عنهم، وتحمل إسرافهم وبذخهم في بيت المال، وإفساد هم للناس من أصول الدين لا يقبل منه عمله وسعيه إلا به !!!

 

 ويقول على بن المديني:« لا يحل لأحد يؤمن بالله أن يبيت ليلة إلا عليه إمام، براً كان أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين، والغزو مع الأمراء ماض إلى يوم القيامة، البر والفاجر، لا يترك وليس لا حد أن يطعن عليهم، ولا ينازعهم، ودفع الصدقات إليهم جائزة نافذة، قد برئ من دفعها إليهم، وأجزئت عنه براً كان أو فاجراً، وصلاة الجمعة خلفه، وخلف من ولاه جائزة قائمة، ركعتان من أعادها، فهو مبدع تارك للإيمان مخالف وليس له من فضل الجمعة شيء إذا لم ير الجمعة خلف الأئمة، من كانوا برهم وفاجرهم. والسنة أن يصلوا خلفهم، لا يكون في صدورهم حرج من ذلك – إلخ».

 

 وسلام الله على أمير المؤمنين على بن أبي طالب(عليه السلام) حيث يقول في تعريف « العالم»:«‌ وما أخذ الله على العلماء أن ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم»، فإذا تخلي العالم عن دوره التوجيهي في توجيه وقيادة هذه الحركة، يستلمها الغوغاء من الناس، لا محالة، وتكون لها آثار تخريبية واسعة، بالضرورة كما حدث كثيراً في تاريخ الإسلام المدون.

 

 اتجاهان في النهي عن المنكر

 

 هناك اتجاهان ورأيان في الإنكار على الحكام الظلمة والطغاة وأئمة الجور:

 

 الاتجاه الأول:

 

 الإتجاه الذي يذهب إليه حملة‌ هذا الرأي، وهو الطاعة وحضور الأعياد والجمعات والتأييد والانقياد والإتباع وتحريم الخروج، ‹‹وأما ما قد يقع من ولاة‌ الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام، فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق وإتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس. ثم يقول: واعتقاد أن ذلك (يعني التشنيع) من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد. وهذا غلط فاحش وجهل ظاهر›› (139).

 

 وهيهات أن يرتدع طغاة عصرنا من أمثال أتاتورك وبهلوي وبورقيبة وصدام وغيرهم، وهم كثيرون، بأمثال هذه النصائح الرقيقة الوديعة.

 

 الاتجاه الثاني:

 

 بعكس ذلك يذهب إلى مقارعة أئمة الظلم والتشنيع عليهم ورفضهم والكفر بهم والنهي عن الركون إليهم كما أمرنا الله تعالى، ففي خبر جابر عن أبي جعفر الباقر(ع):‹‹ فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم، وصكوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم›› (140).

 

 وفي خبر يحيي الطويل عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام):‹‹ ما جعل الله بسط اللسان وكف اليد، ولكن جعلهما يبسطان معاً ويكفان معاً›› (141). وخطب أمير المؤمنين الناس بصفين فقال:‹‹ أيها المؤمنون أنه من رأي عدواناً يعمل به، ومنكراً يدعي إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين هي السفلي، فذلك الذي أصاب سبيل الهدي، وقام على الطريق ونور بقلبه اليقين›› (142).

 

الحياة الطيبة: ما هو الثابت الإسلامي الذي قد يحلو للبعض تسميته بالضرورة، التي يؤدي إنكارها والاجتهاد فيها واعتبارها غير ثابتة، إلى الخروج من رقبة الإسلام ويدعو الفقيه إلى إصدار حكم الارتداد على أهلها؟ خاصة بالنظر إلى الواقع الإسلامي في أكثر من وسط ومجتمع إسلامي وما يشهده من تقشي ظاهرة الحكم بالارتداد على الكثيرين هنا وهناك، كل ذلك تحت حجة خروج هذا المفكر وذالك الفقيه من رقعة الدين بذريعة معارضة ثوابت الشريعة وضروراتها الفقهية؛ يبدو أننا في أمس الحاجة اليوم إلى محاولات جادة تساعدنا على منهجة إبداء الرأي وقوننة الحديث عن هذا الموضوع الشائك، بغية إعادة الاعتبار، إلى الفكر الإسلامي الذي خسر بعضاً من وجهه المتسالم والمتسامح لحساب تصويره في شكل العنف والخشونة وقمع الحريات؟

 

 الشيخ الآصفي: الإسلام هو الإقرار بالشهادتين ‹‹ التوحيد والرسالة››. ويذهب أستاذنا المحقق السيد الخوئي إلى إلحاق الإقرار باليوم الآخر بالإسلام، استناداً لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) (143)، وآيات أخرى من هذا القبيل، بناء على أن عطف الإيمان باليوم الآخر على الإيمان بالله يدل على أن الإيمان باليوم الآخر شرط في الإيمان، والإقرار به شرط في الإسلام، ولا يتحقق الإيمان والإسلام من دونه.

 

 ومن ضروريات الإسلام، هي الأمور التي يساوق إنكارها إنكار الرسالة، مثل إنكار وجوب الصلاة، ووجوب صيام شهر رمضان، وإنكار وجوب الحج، وأمثال ذلك مما يعد إنكاره إنكارا للرسالة وتكذيباً للنبي.

 

 وما لم يكن كذلك فليس من ضروريات الدين، فليس إنكار بعض المنكرات، واستحلالها يؤدي إلى الخروج عن الإسلام، وإن كان عن اجتهاد خاطئ، وعلى خلاف معايير الاجتهاد، وبناء على التعريف المتقدم للإسلام، وللضروريات، فمن أنكر أمراً ضرورياً من ضروريات الدين خرج عن الإسلام، وما لم يكن الأمر كذلك لا يكون إنكاره خروجاً على الدين وإنكاراً للرسالة.

 

 ولابد من إضافة قيد إلى ذلك، وهو أن يكون المنكِر منتبها إلى التلازم بين إنكار الضروريات وإنكار الرسالة.

 

 وعليه فإن الموارد التي يصح فيها التكفير والحكم بخروج صاحبها عن الإسلام محدودة جداً، ولا يصح انتهاك حرمات الناس وسلب الإسلام والإيمان عنهم بسبب الاختلاف في الرأي والعقيدة. ومن أكبر المنكرات في الإسلام نفي الإسلام عن فرد أو عن طائفة من المسلمين بسبب اختلاف في الرأي والعقيدة.

 

ـــــــــــــــ

 

77. وسائل الشيعة، 11/403، ح1.

 

78. نفس المصدر، 11/404، ح 1.

 

79. نهج البلاغة.

 

80. سنن الترمذي، 4/469. 470، كتاب الفتن باب ما جاء في تغيير المنكر باليد واللسان، الحديث 2172.

 

81. مسند أحمد بن حنبل، 3/10و 3/54. مسانيد أبي سعيد الخدري.

 

82. صحيح مسلم، 1/50، دار الفكر.

 

83. سنن ابن ماجة، 2/1330.

 

84. سنن النسائي بشرح السيوطي، 8/111. 112، دار الحياء التراث العربي.

 

85. الطبري، 4/300، الكامل، 3/280.

 

86. الطبري، 4/301.

 

87. المقتل الحسيني للسيد محسن الأمين، 24.

 

88. الطبري، 4/330 والكامل، 3/278.

 

89. صحيح مسلم، 6/22، دار الفكر الإمارة.

 

90. راجع مسند أحمد بن حنبل، 2/344، مسند عبدالله بن عمر، دار إحياء التراث العربي.

 

91. البقرة:124.

 

92. هود:113.

 

93. وسائل الشيعة، ج 11/422.

 

94. النساء:60.

 

95. وسائل الشيعة، 18/97.

 

96. الشعراء:151- 152.

 

97. الكهف:28.

 

98. الإنسان:24.

 

99. صحيح مسلم، 3/1476، كتاب الإمارة، الباب 13، ح 1847.

 

100. صحيح مسلم، 3/1474، كتاب الإمارة، الباب 12، ح 1846.

 

101. صحيح مسلم، 3/1475، كتاب الإمارة، الباب 12، ح 1846.

 

102. صحيح مسلم، 3/1470، كتاب الإمارة، الباب 8، ح1840.

 

103. شرح صحيح مسلم للنووي، 8/34(المطبوع بهامش إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري).

 

104. صحيح مسلم، ج3، ص1481، كتاب الإمارة، الباب 17، الحديث 1855.

 

105. صحيح مسلم، ج3، ص1480، كتاب الإمارة، باب 16، الحديث 1854.

 

106. صحيح مسلم، ج3، ص1481، كتاب الإمارة، الباب 16. الحديث 1854.

 

107. صحيح مسلم، ج3، ص1478، الباب 13 من كتاب الإمارة، الحديث 1849.

 

108. صحيح مسلم، ج3، ص1478، الحديث 185.

 

109. كتاب الخراج لأبي يوسف ص10.

 

110. سنن أبي داود، 2/17، كتاب الجهاد، باب في الغزو مع أئمة الجور.

 

111. سنن الترمذي، 4/471، ج رقم 2174، كتاب الفتن؛ ورواه ابن ماجة في السنن، 2/1329، ج رقم 4011.

 

112. سنن الترمذي، 4/471، ج رقم 2174، كتاب الفتن؛ ورواه ابن ماجة في السنن، 2/1329، ج رقم 4011.

 

113. الترغيب والترهيب، 3/195.

 

114. وسائل الشيعة12/128.

 

115. وسائل الشيعة12/128.

 

116. وسائل الشيعة12/128.

 

117. وسائل الشيعة، 12/129.

 

118. وسائل الشيعة12/129.

 

119. الزواجر لابن حجر، 1/13.

 

120. شرح النووي على صحيح مسلم، 8/34.

 

121. تاريخ الطبري7/300، والكامل لابن الاثير4/48.

 

122. تذكرة الخواص ص 259.

 

123. أحكام القرآن، الجصاص، 1/81.

 

124. الأحكام السلطانية/7.

 

125. الفصل، 4/175.

 

126. شرح صحيح مسلم للنووي 8/34، المطبوع بهامش إرشاد الساري.

 

127. الأدلة الشرعية في بيان حق الراعي عن الرعية، ص 27.

 

128. المصدر نفسه، 65. 66.

 

129. تاريخ الطبري، 7/301.

 

130. تاريخ الطبري، 7/300.

 

131. هود/113.

 

132. النساء/60.

 

133. الشعراء/151. 152.

 

134. الإنسان/24.

 

135. مسند احمد، 3/192.

 

136. نهج البلاغة، صبحي الصالح، ص 541، الحكم 373.

 

137. نهج البلاغة، صبحي الصالح، خطبه 24، ص66.

 

138. وسائل الشيعة، 11/407.

 

139. الأدلة الشرعية في الحق الراعي والرعية، 62- 63، والكلام الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري من علماء الوهابية.

 

140. وسائل الشيعة. 11/403.

 

141. وسائل الشيعة، 11/404.

 

142. نهج البلاغة، حكمة 373.

 

143. النساء:59.

 

 

 

 

 

احدث الاخبار

الاكثر قراءة