Skip to main content

آثار الشهداء

التاريخ: 19-07-2008

آثار الشهداء

المقدمة:   أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.

 

الحمد لله الذي جعل المسلمين خير أمّة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر[1]، وجعلهم شهداء على الناس، وجعل الرسول عليهم شهيداً[2]، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله، الصادع بالحق المبين، والمبلغ لرسالات رب العالمين، وعلى أهل بيته الطاهرين المعصومين وأصحابه الأبرار المنتجبين، وبعد:

 

فهذه لفتة لا يخفى فحواها على العاملين في خدمة الدين الحنيف، الملمين بالثقافة الإسلامية، نوطئ بها – كما جرت بذلك العادة – لموضوع لا يختلف اثنان على أهميته البالغة، وهو: «حفظ وتنظيم ونشر آثار الشهداء» في خطوة عملية لإحياء أمرهم، واستمرار قضيتهم، ونقل ثقافتهم الرائدة إلى الأجيال اللاحقة، ليستمر الخفقان، وتستمر الحياة في شرايين هذه الأمة الناهضة.

 

مقام الشهداء:

 

يأتي مقام الشهداء قريباً من مرتبة الأنبياء، فهم في مقدمة أصحاب البر والعطاء، فقد جاء في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «فوق كل ذي برٍّ برّ، حتى يقتل الرجل في سبيل الله فليس فوق ذلك بر..»[3]، وقد دعا أمير المؤمنين )عليه السلام) لبعض أصحابه فقال: «اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك والموافقة لنبيك..» [4]، فهم في النعمة شركاء مع النبيين والصديقين والشهداء، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ  رَفِيقاً} [5] ومن مظاهر النعمة عليهم أنهم أحياء عند ربهم يرزقون {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[6]، وهذه النعمة يشاركون فيها الأنبياء الذين هم شهداء على أممهم، قال تعالى: [ …لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ][7].

 

وفي يوم القيامة، عندما يحشر الناس للحساب، يقف الشهداء في صف النبيين في مواجهة الأمم والشعوب ليشهدوا بين يدي الله على الأفراد والجماعات ويشهدوا لهم قال تعالى: {…وَجِيء بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[8]. وما من شك أن الأمة التي يكثر عدد شهدائها والمضحين فيها تفخر على بقية الأمم والشعوب، سواء في هذه الحياة الدنيا، أو في الآخرة، ومازالت أنوار الشهداء تشرق في الأجيال المتعاقبة حتى لقد قيل «ما قام مسجد إلا بدماء شهيد»، وما من شك أن دماء الشهيد - وهذا يمكن معاينته على أرض الواقع - يستمر عبيطاً فواراً يعتلج في قلوب أولي الألباب، وينشر شذا الرسالة فإذا بطاح الأرض مملوءة بصيحات التكبير ونداء لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين.

 

حرمات الله:

 

يمكن القول أن الشهداء في الأمة لا يختلف حالهم عن حال الحرمات التي تشكل عناوين القداسة في الأمة، كالمساجد، والأولياء ومقاماتهم، والكتاب الكريم، وشعائر الإسلام في البيت الحرام، وغيرها من الشعائر، وقد قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}[9]، وقال أيضاً: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[10]، ومعلوم أن شعائر الحج والكثير من المراسم، إنما هي خطوات سبق إليها الأنبياء والشهداء في مسيرتهم الإلهية، مثل خطوات إبراهيم (عليه السلام)، وزوجه هاجر، وولده إسماعيل (عليه السلام)، وقد حظيت هذه الخطوات الخالصة لوجه الله بمقام رفيع عند الله فجعلها سبحانه وتعالى شعائر تُقَرِّب العباد منه.

 

ولا يتطرق الريب في أن دماء الشهداء هي من بين تلك الحرمات، فإن دم الشهيد إذا سقط فإنه يسقط بيد الله سبحانه وتعالى وإذا كان الله يربي الصدقات فإن أحسن البر هو بذل الدماء في سبيل الله، ومن هنا قال الإمام الخميني (قدس سره): «اقتلونا فإن شعبنا سيعي أكثر…».

 

لذلك، علينا ونحن نشعر بأهمية دماء الشهداء خاصة بعد الذي تحقق من نصر الله وإنجاز وعده، وظهور صدق وطهارة وقداسة تلك الدماء، التي بذلت خالصة لوجه الله ونالت شرف قبوله سبحانه وتعالى... علينا أن نرعى ونحفظ تلك الدماء من خلال الحفاظ على آثار الشهداء، وتراثهم وأخبار جهادهم، ليكونوا شعائر تهتدي بها الأجيال المتعاقبة إلى سيرة بطولة أولئك الشهداء البررة، وبالتالي يتصل مستقبل الأمة بحاضرها كما اتصل حاضرها بماضيها من خلال إحياء ذكرى شهداء الأمة وفي مقدمهم شهداء كربلاء...

 

أحيوا أمرنا:

 

لقد أكد الإمام الراحل الإمام الخميني (قدس سره) في أكثر من مقام أهمية دماء الشهداء خاصة دماء سيد الشهداء الإمام الحسين )عليه السلام) وأهل بيته وصحبه التي سُفكت في كربلاء في العاشر من مُحرم.

 

وهل يغيب عن ذهن أحدٍ منا ما لدماء الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام) ولدماء أهل بيته الميامين وأصحابه الأبرار من أثر في إحياء أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «حسين مني وأنا من حسين»، ومازال أهل البيت يوصوننا بزيارة الإمام الحسين )عليه السلام)، والبكاء عند قبره، وإقامة عزائه في كل عام، فقد روي عن الإمام الرضا )عليه السلام) قوله: «فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون...» ثم قال: «كان أبي )عليه السلام) إذا دخل شهر محرم لا يُرى ضاحكاً...» [11]، وكان علي بن الحسين H يقول: «أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين )عليه السلام) حتى تسيل على خديه بلّغه الله بها غرفاً يسكنها أحقاباً...» [12].

 

والأحاديث في ذلك لا تكاد تحصى، وقد اشتهر عنهم (عليهم السلام) قولهم: «أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا...»، وقد شهد التاريخ ما لهذا الإحياء من إحياء لأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإحياء لأهداف الإمام الحسين )عليه السلام)، وإعلاء لكلمة الله وراية الإسلام... وقد أدرك الإمام الخميني (قدس سره) أهمية عاشوراء، فأعاد بعث الروح في مراسمها بقوله: «كل ما لدينا من بركة إحياء المجالس الحسينية».

 

ومعلوم أن من مظاهر إحياء مراسم عاشوراء، إقامة المجالس، وزيارة المقامات، وعمارتها، وحفظ آثار أهل البيت (عليهم السلام)، مثل منازلهم، ومخطوطاتهم، وأماكن قبورهم وما شابه ذلك، لأن بقاء الأثر أدعى لحفظ الذكرى وأقوى لتمتين الرابطة بين الأجيال اللاحقة والأجداد السالفين.

 

الأمم الحية:

 

واليوم، لا تُعرف حضارة الشعوب السالفة، إلا من خلال آثارهم، سواء في ذلك آثار مساكنهم، أو تراثهم الفكري أو غير ذلك، وكم هناك من الأمم المتحضرة والتي لم تترك آثاراً تذكر بها، بادت ومضت دون أن يعلم بها أحد...

 

والحقيقة أن بقاء الذكر، واستمرار التراث الحضاري ليس مطلوباً بذاته فقط، بل هو بالنسبة للأمة الإسلامية ذات الرسالة الإلهية، مطلوب من أجل استمرار تلك الرسالة، قوية، حية، متألقة، من هنا فإن «الأمم الحية المهتمة بتاريخها تسعى إلى صيانة كل أثر تاريخي له صلة بماضيها، ليكون آية على أصالتها وعراقتها في العلوم والفنون، وأنها ليست نبتة بلا جذور، أو فرعاً بلا أصول»[13].

 

ومعروف لكل منا، أن مسيرة الشهادة هي التي أعزّت هذه الأمة كلّما حاول الشرق والغرب إذلالها، ورفعت من شأنها وحرّرت أرضها وإنسانها، فمن أجل الحفاظ على هذه المسيرة، والروح التي دفعت الأمة للتسابق إلى الشهادة من أجل حفظ حقوق تلك النفوس الطاهرة، والمهج الغيورة المندفعة حباً بالله، لتكون طليعة هذه الأمة ومفاخرها وقرابينها.. ومن حقهم علينا، ومن حقّ الأجيال المتعاقبة أيضاً، أن تحفظ آثار هؤلاء، لتكون دليلاً إليهم، وإحياءً لقضيتم، وانتصاراً لأمة الإسلام...

 

«ولقد دعت تلك الغاية السامية الشعوب الحية لإيجاد دائرة خاصة في كل قطر لحفظ التراث والآثار»[14].

 

«إن التراث بإطلاقه، آية رقي الأمة، ومقياس شعورها ودليل تقدُّمها في معترك الحياة»[15].

 

وإذا كنا الآن لا نشعر بأهمية حفظ آثار الشهداء لأننا قريبي عهد بهم، ولم تغب بعد عن ذاكرتنا أيامهم، وأخبار وقائعهم، وصدى صيحات تكبيرهم، فسرعان ما تمر الأيام، وتماث من ذاكرة الأجيال تلك الأخبار، ويطول عليها الزمن، فيذهب بذهابها إشراق أنوار الشهادة وتغيب عن البال دواعي مواطن العزّة، وتطوى صفحات مجد ينبغي أن لا تطوى...

 

وهذا ما أكدّ عليه سماحة الإمام القائد علي الخامنئي (دام ظلّه) بقوله: «الشهيد هو الإنسان الذي يُقتل في سبيل الأهداف المعنوية، ويضحي بروحه التي هي الجوهر الأصلي لكل إنسان لأجل الهدف والمقصد الإلهي، والله تعالى يرد على هذا الإيثار والتضحية العظيمة بأن يجعل ذكر ذلك الشخص وفكره حاضراً دائماً في أمته ويبقى هدفه السامي حياً».

 

من هنا نسأل الله أن يوفقنا للعمل على حفظ آثار الشهداء الأبرار على الصورة الصحيحة، وبالشكل الذي يحفظ كرامة الشهداء، ويعزي أهاليهم، ويعزي الأمة بهم، ويحفظ لهذه الأمة المباركة المضحية روحها الحية، وعزتها وكرامتها، ويرفع من شأنها ويظهرها على الأمم، ويرفع راية التوحيد، ويعلي كلمة الدين، ويخمد دعوة المستكبرين والطغاة والظالمين.

 

{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[16] صدق الله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين.

 

ــــــــــــــ

 

[1] سورة آل عمران: 110، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}.

 

[2] سورة البقرة: 143، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}.

 

[3] بحار الأنوار، ج74، ص61، ميزان الحكمة، ج5، ح رقم9749.

 

[4] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج3، ص184، ميزان الحكمة، ح9753.

 

[5] سورة النساء: 69.

 

[6] سورة آل عمران: 169

 

[7] سورة الحج: 78.

 

[8] سورة الزمر: 69.

 

[9] سورة الحج: 30.

 

[10] سورة الحج: 32.

 

[11] ميزان الحكمة، ج6، حديث رقم12712.

 

[12] المصدر نفسه، حديث رقم12716.

 

[14] جعفر السبحاني، «صيانة الآثار الإسلامية»، من سلسلة على مائدة العقيدة، رقم10، ص7.

 

[15] سورة الحشر 10.

 

 

 

احدث الاخبار

الاكثر قراءة