نظرية الجهاد عند الإمام الخميني الجزء[01]
التاريخ: 20-09-2008
ليس من باب الإطراء والمديح المجاني، أو من باب المصادرة على المطلوب أن أسمح لنفسي باستحضار عدد من النصوص التي تمارس لحظة إنارة مكثفة للمشهد الذي يدور من حوله البحث
ليس من باب الإطراء والمديح المجاني، أو من باب المصادرة على المطلوب أن أسمح لنفسي باستحضار عدد من النصوص التي تمارس لحظة إنارة مكثفة للمشهد الذي يدور من حوله البحث. فعن فرادة مرجعية الإسلام، واستحواذها على الفعل التغييري على الأرض، وعمق الحضور الخمينيّ في إذكاء المكنون الديني وتفجير طاقات الفاعل الإسلامي على امتداد الرقعة الإسلامية، نقرأ قي نص دال: «نلاحظ أن ملايين المسلمين في إندونيسيا والهند وبنغلادش وباكستان وتركيا يجدون الإسلام ملاذاً ومرجعاً. ولكن مما لا ريب فيه أن انتصار الخمينيّ في إيران هو الذي أشاع الموضوعاتية الدينية ورسّخها وجعلها تحلّ محل الاتجاهات العلمانية للثورة العربية والاشتراكية»([1]).
على أن معاني هذا النص تسفر عن وجهها أكثر حين نقرأه مجدولاً مع نص آخر يكشف عن محنة المسلمين مع الغرب، هذا الغرب الذي «يعرّفنا كما يشاء، وهو بقدرته الفائقة على تسمية الأشياء، إذ يسمّينا، يحدّد ماهيتنا: من نحن وما نحن؟ وبالتالي يقرر موقعه وأسلوب معاملته لنا... وفي كل الأحوال هدفه بالنسبة إلى الآخر هو أن يخصيه بالمعنى الفرويدي للكلمة كشرط للهيمنة عليه كليّاً»([2]).
ما العمل؟ وكيف يُصار للعرب والمسلمين مواجهة فعل الخصي الغربي الذي يتم بالاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام؟ أثمة كابح ينـزع الصاعق ويعطّل هذا الداء المستشري كالوباء؟ نقرأ في تتمة النص السابق: «من هذا المنظور تبدو الردّة البطركية الجذرية الخمينية، على أنها الردّة الوحيدة الفعّالة والقادرة على حماية الهيئات السياسية، على مجابهة هذه الهجمة ووضع حدّ لعملية الخصي التي يمارسها الغرب كثقافة وقوة وإعلام»([3]).
هذا النص سبق حرب الخليج الثانية وتداعياتها على المنطقة، كما سبق ما راح يواجهه العالم، ولا سيما منطقتنا بعد تفجيرات العمق الأمريكي في أيلول عام 2001م، ومن ثم فهو يكتسب حاضراً أهمية مضاعفة ولا تقلّل من قيمته اصطلاحات من قبيل «البطركية» و«الردة» التي استعارها هشام شرابي من علم الاجتماع الغربي الذي يبسط هيمنته على العقول!
على هذه الخلفية يأتي هذا المقال، وهو يقدم خطوطاً عريضة في فكر المواجهة ونظرية التحريك عند الإمام الخمينيّ بعيداً عن ادعاء التنظير ومن دون أن يزعم الإحاطة، إيماناً من صاحبه بأنه رغم الإنهاك الموجع والانكفاءات الكبيرة المدمّرة، فلا يزال بمقدور المنظومة الخمينية فكراً وممارسة، أن تقدّم بدائل أخرى غير تلك التي توحي بها الأجواء المحمّلة بالإحباط واليأس على كثرة دواعيها.
1- تجاوز المستحيل الغربي
تتجه آليات الوضع في ظلّ التحولات الحاضرة في المنطقة والعالم، إلى تأكيد روح الهزيمة وترسيخ حالة الركود لدى الشعوب، في مقابل تضخيم متواصل في هيبة القوى الغربية ولاسيما أمريكا وركيزتها «إسرائيل» في منطقتنا. على أن أوضاع المنطقة نفسها تغري بتغذية هذه الحالة ومدّها بما يعززها نتيجة الإخفاقات المتراكمة.
إلى جوار ذلك تأخذ بعض أنماط الثقافة دورها الكبير في إشاعة حالة العجز، كما هو حاصل في التضخيم المبالغ به للعولمة وما شابه ذلك، مما يوحي بعدم جدوى أي عمل في زمن يوصف بأنه «زمن الإنهاك السياسي والتراجع»، ويدلهمّ الأفق تماماً فيتمخض عن «إجماع جديد» فحواه: «لا بدائل أخرى»([4]) عن الواقع الحاضر، وأنه ليس بالإمكان أبدع مما هو كائن. ثم إذا كان العالم «يبدو في عيون الشباب أقل فتنة وسحراً، وبين الأوروبيين والأمريكيين الناعمين بالرخاء تبدو آفاق المستقبل كئيبة بائسة»([5]) فما بالك بمجتمعاتنا وشبابنا التي يطحنها الاستبداد وينخر بها اليأس الناشئ عن تغييب الكرامة وفرص العمل والرفاه المعقول واحتكار السلطة وتراكم الثروات بيد أقلية وشيوع الطبقات الطفيلية وازدهار الثقافة إلى آخر ما تضمّه اللوحة الكئيبة لمشهد الحياة من حولنا!
في جوّ مكفهرّ معتم مثل هذا، محاط بأسيجة رفيعة من التنظير لـ «النهايات»، نهاية التأريخ، نهاية الإنسان، نهاية العمل، نهاية الطبقة المتوسطة، نهاية الرفاه، نهاية الأيدلوجيا، نهاية الدولة إلى آخر القائمة، مبهور بـ «ما بعد» زاخر بجنوح متطرّف وطفولي إلى القطيعة مع «ما قبل»، كما هو الحال في صيحات ما بعد الحداثة، ما بعد العقل، ما بعد الإنسانية، ما بعد السياسة، ما بعد المجتمع، ما بعد الدولة، ما بعد الدين؛ في أجواءٍ كهذه مغرمة بحديث النهايات والمابعديّات تزدهر جزمية واحدة اسمها أحادية الخيار الغربي وبالذات الأمريكي، وتترعرع ثقافة استحالة التغيير فضلاً عن المواجهة فالانتصار.
هذه الصورة التي قد يظن بعضهم أننا بالغنا في رسم ملامحها، هي أول ما يواجهها الفكر النهضوي للإمام الخمينيّ، وقد كانت بالفعل الشرارة الأولى في نهضته التي أطلّت علينا كإنجاز مطلع الثمانينيّات من القرن الماضي. فحين أطلق الإمام مبادرته كان «اليأس والسواد [يُريان] فوق كلّ شيء، ولغة المستحيل هي خطاب الأمة الهامس والجاهر»([6]) كما الآن. لذلك جاء التحدي عنيفاً يجسده إصرار الإمام وعزمه في قوله: «يجب أن نُخرج من عقول الشّعب كلمة (اللا ممكن) ونحل محلّها كلمة (الممكن)»([7]).
التحليل الخمينيّ باختصار، يقول:
1- بإمكان المواجهة وجدواها، وبهذا «حطمت إيران مقولة أنه لا يمكن لأي دولة الخروج عن طاعة القوى الكبرى، وأثبتت أن إرادة الشعوب أقوى من الشيطانين الكبيرَيْن، أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، اللذين حاولا شقّ الخلاف بين السنّة والشيعة وبين الإثنيّات المختلفة من أكرادٍ وتركمان وغيرهما»([8]).
2- بإمكان التغيير وتحقيق الانتصار.
3- ويؤسس أصلاً من أصوله عبر التمييز بين القوّة والهيبة فيولي أهمية للهيبة. أمريكا مثلاً قوية ليس في ذلك ريب، إلا أن هيبتها أكبر من قوتها، وهي تحقق بهذه الهيبة أكثر مما تحقق بالقوة نفسها، والمطلوب خمينياً وعي ذلك، والتركيز على كسر الهيبة أكثر من مواجهة القوة.
4- يقول التحليل الخمينيّ أيضاً بقوّة اسمها «قوّة الضعفاء» قادرة على خلخلة بنى قوّة الأقوياء، عبر النفوذ من ثغراتها وما أكثرها. وهذا هو الخيار الأكثر جدوى في أوضاع العالم الإسلامي ومجمل الرقعة الموسومة بالعالم الثالث.
5- غير أن لذلك كله شروطه التي تنطلق من تحليل يفيد أن فاعليّة الإنسان المسلم -بل أي إنسان- مكبّلة بالشلل الروحي والمعنوي، ومقموعة بعقدة الخُواف أو الخوف المضخّم. وأول منطلقَين على الطريق تحرير الإنسان روحيّاً ومعنوياً ثم تطهيره من عقدة الخُواف، ثم تتوالى العناصر الباقية لكي يأخذ كل واحد منها موقعه في منظومة الفكر الخمينيّ.
ركود الطاقة الروحية
ينظر الإمام الخمينيّ في زاوية هذا التحليل، إلى أنّ المشكلة الأساسية للشعوب تكمن أولاً في ركود طاقاتها الإنسانية والروحية. لذلك فإن إرادتها مكبّلة بفعل قيود السلطات المحلية وثقافات الغرب المنحرفة (التغريب)، وأن حواجز الخوف والتهيّب من الأنظمة المحلية والقوى الكبرى تشلّها عن الحركة، بل وحتى مجرد التفكير بتغيير أوضاعها؛ بمعنى أن افتقاد أو ركود الطاقة الإنسانية والروحية يلعب في الفكر النهضوي للإمام دوراً معادلاً لما أطلق عليه المرحوم مالك بن نبي: «القابلية للاستعمار» في سلسلة تحليلاته عن المشكلات الحضارية للمجتمعات الإسلامية.
مقولات الفكر النهضوي الخمينيّ أكّدت كثيراً وطوال ثلاثة عقود متوالية على هاتين النقطتين تحليلاً وكشفاً لهما. وفي مقابل ذلك تحركت نهضة الإمام لمعالجة هاتين النقطتين من خلال حلّين يستهدف الأول إعادة بناء الإنسان معنوياً وإنسانياً، وذلك إزاء الطاقة المهدورة، فيما يستهدف الثاني بعث العزم في إرادة التغيير والحركة عبر كسر حاجز الخوف.
والملاحظ أن ثمة جدلاً واضحاً (علاقة ترابط) بين التشخيصَيْن والحلَّين. فالإنسان الخالي من الطاقة الروحية والمعنوية لا يستطيع أن يُعمل إرادته في التغيير والحركة. وبذلك سيكون أرضاً خصبة لتلقّي حاجز الخوف، حيث تنمو لديه وتكبر عقدة الخوف بشكل مضخّم، وتستحيل في حساب إرادته أية حركة أو حتى مجرّد النية في التغيير.
وبالعكس، فإن الإنسان أو الشعب الذي تتدافع داخله القوّة المعنوية والطاقة الروحية والإنسانية، فإن زخمها لابدّ أن يحرّر إرادته من قيود الخوف الوهمي المضخم.
لذلك وجدنا أن مقولة هذا التحليل تمثل في فكر الإمام النهضوي خطاباً مركزياً، حيث تُشيّد أسسه على اكتشاف هاتين العقدتَين المعيقتين الحركة والنهضة والتوفر على معالجةٍ نظرية- عملية لهما.
من هنا نرى أن نصوص النهضة تفيض في الكشف عن هذه المعاني، وهي مكثفة في حمل هذه الدلالات. ففي أهمية الطاقة الإنسانية وقيمتها يواجهنا نصّ خمينيّ: «انهم كانوا يخشون الطاقة الإنسانية. لقد جربوا -في التجارب السابقة- أنه ربما وقف إنسان واحد أمامهم ومنعهم من إهدار مصالح الشعب. ولذلك فإن تخطيط الأجانب الذين يريدون استغلالنا، هو أن لا يوجد إنسان».
في نص آخر يطالعنا سماحته بالقول: «من أعظم الخيانات أن يجعلوا طاقتنا الإنسانية متخلفة، ويحولوا دون إصلاحها ونموها». وفي المقابل يضيف الإمام، فإن: «من أعظم الخدمات أن يسمحوا لطاقتنا الإنسانية بالتكامل والنمو».
من هذه الزاوية بالذات تتمثل مهمة الإسلام، كما يقول الإمام في أنه «يربي الإنسان ليكون إنساناً في جميع الحالات». لذلك انصبّت جهود الأنظمة المحلية والثقافات الغربية على تدمير الإنسان وتفريغه من الداخل، لجعله مشلول الإرادة، مسكوناً بالقلق والخوف والعجز، وبالتالي مذعناً مستسلماً لإرادتهم ومناهجهم وسياستهم.
وعليه، يكون الإنسان في نصوص النهضة الخمينية، وكما يشير لذلك الإمام مكرراً، هو مركز الهزيمة أو النصر. الإنسان الصالح العامر بالطاقة المعنوية والروحية قادر على تغيير العالم بأجمعه. هذه الحقيقة بقدر ما جسّدها الإمام في وجوده المبارك، وبقدر ما تجسدت في وجود الصالحين من الأسلاف، فإن سماحته عبّر عنها بقوله: «يمكن لإنسان صالح واحد أن يربي عالماً بأكمله. ويمكن أن يجرّ إنسان فاسد طالح، العالم إلى الفساد».
التبعية الروحية
في ضوء ما سلف يقرر الإمام أن «من الممكن القضاء على التبعية العسكرية خلال شهر أو بضعة أشهر. وهكذا فإن التبعية الاقتصادية يمكن تلافيها. إلا أن القضاء على التبعية الروحية والإنسانية صعب جداً »لاحظوا دقّة التعبير، وأغلب الظن أننا لم نلتق أبداً في أي تحليل لمفكر أو مثقف أو رائد للنهضة والإصلاح بمصطلح «التبعية الروحية والإنسانية».
وبذلك يدخل المصطلح في جملة الإبداعات التي يختص بها الفكر النهضوي للإمام الخمينيّ. هذا عن العقدة الأولى التي تقف عقبة كَأْداء في حركة التغيير والنهوض. وسبيل تجاوزها أن يعمر وجود الإنسان وحياة الشعب بالطاقة الروحية ويحيا من خلالها وتتأكد ذاته الإنسانية بها.
عقدة الخوف المضخّم
أما بالنسبة إلى العقدة الثانية، أي عقدة الخوف المضخّم، وهي الحالة التي يصطلح عليها علم النفس بـ «الخُواف» التي تنتج بالنسبة إلى الشعوب من الإرهاب المنهجي المبرمج، فأمامنا النص الآتي المثقل بالدلالات والذي أدلى به الإمام للطلاب السائرين على نهجه بعد احتلالهم السفارة الأمريكية في طهران، حيث قال سماحته: «من الخطط التي مارستها القوى الكبرى، وتابعتها الدول الصغيرة في ذلك، هي إخافة الشعوب للوصول إلى مآربها. فلقد شهدتم شائعات السافاك في عهد غصب السلطة من قبل محمد رضا المخلوع، حتى كانت كل عائلة تظن بأنها إذا تفوهت بكلمة واحدة عن الشاه فستعاقب على ذلك. وأشاعوا أن السافاك متواجد في كل مكان».
الطريق الأفضل لتجاوز عقدة «الخُواف» وإلغاء مفعولها، يتمثل كما يحدده الإمام الراحل، بإعادة بناء طاقة الشعب الروحية والمعنوية، ثم دفع الشعب في مواجهة شاملة ضد النظام لإسقاط هيبته، وتجاوز حالة «الصنمية أو الوثنية» التي ترمز إليها. يشير الإمام لذلك بقوله: «إذا أرادت الشعوب التصدي لحكومة (ظالمة) أو قوة كبرى، فيجب عليها أن تحطم الأوثان، تحطم أولئك »الظُلام« الذين تصدروا الزعامة».
تأسيساً على ذلك نجد الإمام يختزل القيم المتعددة في نهضة الشعب الإيراني، ويعود بها، على هذا الصعيد، إلى قيمة واحدة هي الأصل الذي تتفرع منه القيم الأخرى. يقول سماحته في التعبير عن هذه القيمة: «المهم أننا نملك شعباً واعياً حطم الخوف وأزاله. وإنه اليوم لا يخشى شيئاً، بينما كان يخشى في العهد البائد شرطياً. إن هذا الشعب استطاع بصرخاته العالية أن يحطم القوى ويطيح بالطاغوت الحاكم في إيران بعد أن أبعد الخوف عنه».
نخلص في نهاية المطاف إلى أن التحليل الخمينيّ لمشكلة النهضة وانبثاق حركة التغيير نحو الإسلام تكمن -على صعيد الموضوع الذي نتناوله- في استلاب الإنسان والشعب وفراغهما أو ركود طاقتهما الروحية والمعنوية، ووقوعهما في الخطوة الثانية ضحية عقدة «الخُواف» أي الخوف المضخّم. لذلك لا سبيل أمام الإنسان المسلم والشعوب المسلمة سوى بناء طاقاتهما الروحية وتجاوز عقدة الخوف المضخّم.
هذا هو جوهر الخطاب النهضوي وأساس المقولة التغييرية في فكر الإمام على صعيد إحياء الشعوب لذاتها وابتعاثها لهويتها، لتتحرك في مواجهة الاستبداد الداخلي والاستكبار الخارجي، ولكي تنطلق على قاعدة الاستقلال نحو البناء، بناء الذات والمجتمع والمستقبل.
كسر الهيبة
في حديث لقائد النهضة الراحل مع «الطلاّب السائرين على نهج الإمام» -وهم الطلبة الجامعيون الذين ارتبط اسمهم باحتلال السفارة الأمريكية بطهران- أعاد سماحته تأكيد فلسفة النهضة من خلال تجاوز حاجز الخوف، بل ارتقى بقيمة الإنجاز الإسلامي المعاصر إلى مستوى وجود شعب متحرّر من عقدة الخوف واعٍ لمسؤولياته، فقال: «المهم أننا نملك شعباً واعياً حطم الخوف وأزاله من الوجود، وإنه اليوم لا يخشى شيئاً، بينما كان يخشى في العهد البائد شرطياً. إن هذا الشعب استطاع بصرخاته العالية أن يحطّم الطاغوت الحاكم في إيران ويطيح به، بعد أن أبعد عنه الخوف»([9]).
ما ينبغي الانتباه إليه على نحوٍ دقيق أن الإمام الخمينيّ يؤمن بأن عناصر التحرّر في كل شعب كامنة فيه، بيد أنها قد لا تظهر وتحتجب في بعض الفترات الزمنية نتيجة الخوف والاضطهاد والانهيار المعنوي الناشئ عنهما، لكن على أهل النهضات ورجالها وقادة التغيير أن لا يُوجموا إذا مرّت الشعوب بركود مؤقت. فالنهوض والجمود يخضعان لسنّة الإدبار والإقبال بحسب توافر شروطهما الموضوعية. على سبيل المثال كان بمقدور الاتحاد السوفيتي السابق أن يحتل بآلته العسكرية الثقيلة بلداً مسلماً كأفغانستان، وهذا ما حصل، بيد أن آلة السيطرة والقمع لم تستطع أن تقتلع إمكانات النهوض النفسية الكامنة في الشعب الأفغاني المسلم، بل كان بحاجة إلى مفتاح يحرّض هذه الإمكانات ويفجرها، ويحوّل حالة الاتقاد الباطن إلى اشتعال ظاهر وبركان يبث الجهاد والمقاومة في كل الأرجاء.
هنا يأتي دور العمليات التضحوية والفدائية الاستشهادية التي يصفها الإمام بقوله: «قيمة الأعمال الفدائية التي يقوم بها الشعب الأفغاني تتمثّل بتحطيمه الصنم الذي صنعوه للأفغانيين، صنم التخويف الذي يلوّح بالموت لكل من ينبس ببنت شفة ضدّ السوفييت»([10]).
عن أمريكا يطالعنا نص جديد يميز فيه الإمام على نحو دقيق بين حدود القوّة الاستكبارية وفضاء هيبتها، فيحرك عبر هذا التمييز الإرادة الإسلامية المتحررة ويحرّضها ضد القوة المتدثرة بالهيبة: «ينبغي للمسلمين أن لا يهابوا الضجيج والطبول الفارغة والدعايات المغرضة، إذ إن قصور الاستكبار العالمي وقدراته العسكرية والسياسية أشبه ببيت العنكبوت، هش سهل التمزّق». على ضوء ذلك قدّم الإمام معطيات واسعة تأتي كثمار ونتائج لتحرير إرادة الإنسان ثم قدرتها على منازلة مرتكزات القوة الأمريكية، بعد إقصاء هيبتها من النفوس والعقول والأرض.
في إطار هذا الفهم نستعيد حادث احتلال السفارة الأمريكية في طهران، إذ لا تعنينا الآن دلالته السياسية وملابساته الأخرى، وإنما تكمن أهميته عبر قراءة مدلولاته من خلال التمييز الذي يقيمه الإمام بين القوة والهيبة، وكيف أن ضرب الثانية يعدّ خطوة لا محيد عنها لإعادة التوازن المفقود في معادلة المسلمين -الغرب. لذلك كله كانت المنهجية الخمينية في التحريك والمواجهة تعتمد أساساً قبل كل شيء، على قاعدة ضرب هيبة الولايات المتحدة في التكوينات النفسية والشعورية للشعوب، من خلال الطَرق العنيف على مرتكزات مختارة بعناية من مراكز قوتها تتكثّف فيها دلالات الزهو والهيبة، حيث يقود ضرب هذه المرتكزات إلى انفعالات واسعة في المركز الأمريكي، نفسه، وأصداء عميقة في الوسطَيْن السياسي والشعبي.
في هذا السياق تندرج واقعة احتلال السفارة الأمريكية في طهران، وتفجير السفارة الأمريكية في لبنان، وضرب مقرات مشاة البحرية (المارينـز)، وقضية ماكفارلين وقصة الاتصال الأمريكي الفاشل بطهران منتصف الثمانينات.
أما على نطاق العالم الإسلامي فيمكن تقديم تجربة حزب الله في لبنان ووقائع الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية وما رافقها من عمليات استشهادية، بوصفهما من أفضل النماذج التي استجابت لمبدأ المواجهة من ضربات متوالية وعنيفة على مواقع الهيبة لخلخلة القوة وإعادة التوازن المفقود على الأرض بين المستضعفين والمستكبرين. على أن الإمام بقي متمسكاً بهذا النهج لاستيعاب تطورات الأشهر الأخيرة في الحرب العراقية-الإيرانية عندما أطلّت بوادر التدويل برأسها من خلال استدعاء بعض الأنظمة الإقليمية لمظلة الحماية الأمريكية، إذ كان رأيه، بالنص، في اجتماع للقيادة العسكرية-الإيرانية: «لو كنت مكانكم لضربت أول سفينة أمريكية تدخل المنطقة». كان الإمام يفكّر بتوجيه صفعة عنيفة لطلائع القوة الأمريكية في المنطقة، ولماّ لم يحصل ذلك لأسباب لسنا بصددها، بادرت أمريكا إلى استخدام المبدأ نفسه، من خلال التصدي العنيف والشرس لبعض مرتكزات الوجود الإيراني الاقتصادية والعسكرية وأخيراً المدنية عبر إسقاط طائرة الايرباص، مما كان له أثره البليغ مع عوامل أخرى في تحديد النهاية التي انتهت بها الحرب فعلاً.
2- جدلية الداخل/الخارج
يعيش الإنسان في العالم الإسلامي محنة مزدوجة بين استبداد الأنظمة وقمعها وضغط القوى الكبرى ونهبها وطغيانها، خاصة أمريكا وركيزتها «إسرائيل» التي تهدد بالمزيد في ظل الاستخذاء الرسمي وتواصل الانهيار الداخلي. هذه بديهة لا مجال للشك فيها.
ما العمل؟ ومن أين ينبغي أن تنطلق حركة التغيير، من مواجهة الأنظمة أم مواجهة القوى الغربية وتل أبيب؟ يطرح الفكر الخمينيّ وجهَي العُملة معاً، ويواجهنا تحليل الإمام بأن الإنسان في العالم الإسلامي محاصر من الجانبَين، وأنّ عملية التغيير تواجه التناقض الداخلي مع الأنظمة في الداخل والتناقض الخارجي مع قوى السيطرة الدولية والتحديات الصهيونية من الخارج، ومن ثم لا مجال لكسر هذا الحصار وإطلاق فعل التغيير وتحريره من التعطيل إلاّ بالمبادرة إلى حل هذين التناقضين الأساسيين.
ولهذا يقدم الفكر الخمينيّ على هذا الصعيد جملة من المبادئ، هي:
1- ينبغي للشعوب أن تحل تناقضها الداخلي مع الأنظمة لتصل إلى حدّ أدنى من التوافق يسمح لتحشيد الطاقات ضدّ التحديات الخارجية.
2- إذا لم تستجب الأنظمة للشعوب وهي في الأغلب لا تستجيب فلا يبقى أمام الشعوب إلا أن تخوض المواجهة مع الداخل أولاً، حتّى إذا ما تحررت من التناقض الداخلي بات بمقدورها أن تتجه صوب التناقض الخارجي.
3- لا معنى للحديث عن مواجهة الخارج منطقياً، ولا يمكن ذلك عملياً وموضوعياً، والشعوب مكبّلة داخلياً بقمع الأنظمة وبطشها، ومن ثم تتقدم مشكلة الأنظمة على مشكلة الغرب السياسي وتل أبيب على مستوى العمل، وإن كان ينبغي أن لا يغيب الخطر الأمريكي والإسرائيلي عن وعي المسلمين حتى وهم يخوضون المواجهة الداخلية، سواء أخذنا بنظرية النيابة أو التبعية أو المركز والأطراف أو أي نظرية أخرى في تحليل وضع هذه الأنظمة.
4- بقدر ما يتعلّق الأمر بإيران كنموذج عملي على فاعلية فكر الإمام في النهضة، يلحظ أنه لم يدخل في مواجهة مع نظام الشاه من أول لحظة، بل جرّب خيار الإصلاح الداخلي للسلطة عبر النصيحة والوعظ وما سوى ذلك على أعلى مستوى، مجمّداً –مؤقتاً- لوازم نظريته في ولاية الفقيه وما تمليه من عدم مشروعية نظام الشاه، حتى إذا استنفد هذا الخيار طاقاته انتقل إلى خيارات أقوى في الضغط على النظام، قبل أن يصل معه إلى خيار اللاعودة والمواجهة الشاملة بعد أن وصل النظام نفسه إلى القطيعة الكاملة مع شعبه، فكان لابدّ من تفجير التناقضات الداخلية للسلطة ضدّ الشعب تفجيراً جذرياً يتجاوز خيارات المصالحة وأنصاف الحلول ومبادرات الإصلاح التي لم تعد ذات جدوى. وهكذا أصبح هدف النهضة داخلياً هو إسقاط النظام واستئصال مرتكزاته من الجذور.
الفقرة الأخيرة هذه تضعنا أمام مبدأ مهم جداً في العمل التغييري، فليس المطلوب، بدءاً ودائماً، الدخول في مواجهة مع أنظمة الداخل إذا كان في الإمكان تحقيق معايشة بين الشعب والسلطة، تضمن مديات الحدّ الأدنى في عمل الداخل وتسمح بمواجهة التحديات الخارجية، لاسيما الأمريكي والصهيوني، ومن ثم فإن تغيير الأنظمة الداخلية لا يعد، موضوعياً، وعلى صعيد الوجود الخارجي، مبدأً حتمياً مطلقاً لابدّ منه مادامت التناقضات الداخلية، خاصة تناقض السلطة/الشعب لم يبلغ ذروته القصوى، وإن كان كذلك نظرياً، إذ لا مكان لمشروعية هذه الأنظمة على ضوء منظومة الفكر السياسي للإمام الخمينيّ وخاصة نظرية ولاية الفقيه.
بعد هذا الاختزال الذي نرجو أن لا يكون مخلاًّ ننتقل إلى النصوص، ونفتتحها بنص مبكر سعى فيه الإمام إلى تدارس مشكلات المسلمين مع ممثليهم ممن حضر إلى طهران في إحدى المؤتمرات الفريدة التي لم تتكرّر بعدئذٍ، من حيث مستوى الحضور ونوعيته. ففي مؤتمر القدس الذي عقد بطهران في آب/1980، تحدث الإمام إلى ضيوفه منبّهاً إلى أنه: «ينبغي أن نفكر في جذور المشكلات التي تعمّ المسلمين ونجد لها الحلول اللازمة»([11]). ثم راح يثير بين أيديهم الأسئلة الصريحة التالية: «لماذا ظل المسلمون في أنحاء العالم يرزحون تحت سطوة الحكومات والقوى الكبرى؟ ما هو السبيل إلى حل موضوعي لهذه المشكلة؟ أين يكمن سرّ قوة المسلمين للتغلب على هذه المشكلات لتتحرر من ثمَّ القدس وأفغانستان وسائر بلاد المسلمين؟»([12]).
عند ما ينتقل إلى الجواب لا يُخفي الإمام انحيازه إلى الشعوب، بل تبرئتها بما تصمه به تحليلات النخبة على اختلاف مشاربها، حتى الدينية منها، من أوصاف ترميها بالجهل والغيبية واللاعقلانية لتبرئة ذمتها وتخليص نفسها من المسؤولية. المشكلة بنظر الإمام تقع خارج دائرة الشعوب: «تكمن مشكلة المسلمين الأساسية في الحكومات المسيطرة على مقدراتهم. إنها الحكومات التي أدت بالمسلمين إلى هذا الوضع الذي هم عليه الآن. إن مشكلة المسلمين لا تكمن في الشعوب، فهذه الأخيرة قادرة على حل مشاكلها بفطرتها الذاتية، بل هي تكمن بالحكومات المتسلّطة على رقابهم»([13]).
ما الحل؟ وكيف تتجاوز الشعوب مشكلة الأنظمة، أبالمواجهة أم بغيرها؟ يقول الإمام في حديثه إلى المؤتمر نفسه: «إذا عادت الحكومات مع الشعوب إلى الإسلام الأول فبها، وإلا فإنه يتوجب على الشعوب أن تفصل مصيرها عن حكوماتها... إن المشكلة لا تنحل إلا بإزاحة هؤلاء»([14]).
هذا من حيث المبدأ النظري، أما من حيث العمل فدعونا نقف هنيهة مع النموذج الإيراني، وكيف سار الإمام في العلاقة مع النظام الملكي، من النصيحة والإصلاح إلى التغيير الانقلابي الشامل، بعد أن بلغت تناقضاته طريق اللاعودة والقطيعة الكاملة مع الشعب.
الثنائيات المتناحرة وتناقضات الداخل
عمل نظام الشاه على غرز الثنائيات المصطنعة في جسم المجتمع وتفكيكه على شكل توزيعات متناقضة متباينة تقوم على التضاد والتناحر ونفي بعضها بعضا، وذلك أسوة ببقية الأنظمة التابعة في عالمنا الإسلامي التي جاءت إلى السلطة إثر مرحلة سايكس - بيكو.
وربّما كانت أبرز الثنائيات المصطنعة التي عطّلت إرادة الأمة وكرّست الأوضاع الرسمية للأنظمة التابعة، بل كانت بمنـزلة عوامل حيوية ساهمت في مركزة أوضاع السلطة وشلّ الفاعلية الخصبة للمجتمعات، هي الثنائيات الآتية:
أولاً: الجيش/الشعب.
ثانياً: المثقفون/الحوزويون.
ثالثاً: الأغنياء/الفقراء.
رابعاً: السلطة/الشعب.
خامساً: الإثنية أو الانتماء المديني ضدّ الإثنيات والمدن الأخرى.
هذه الأشكال هي من الثوابت المشتركة التي يمكن أن نلحظها في المجتمعات الإسلامية كافة. وفي الوقت نفسه بمقدور التحليل النظري أن يسجل إضافات لثنائيات تناحرية أخرى يشهدها كل مجتمع على نحو خاص تأتي بالإضافة إلى ما هو مشترك بينها، ففي إيران مثلاً أشاع الشاه تناقضية الفرس/ العرب، وفي إطار النسيج الاجتماعي فضّل العنصر الفارسي على بقية القوميات، رغم أن في إيران ست قوميات أساسية وأن العنصر التركي فيها يفوق عددياً العنصر الفارسي. وكتناقضية تمزق الوحدة المذهبية التي تنتظم انتماء الأغلبية الاجتماعية، حيث شجّع النظام نمو وازدهار الحركة البهائية كمعادل موضوعي للتشيع!
بالنسبة إلى نموذج المجتمع الإيراني، الذي كان طوال عقود التبعية ضحية هذه الاستقطابات المصطنعة وصريع فعلها التناقضيّ المدمّر الذي أسست له السلطة التابعة، نحتاج إلى بعض الإيضاحات على مستوى بعض الثنائيات.
فإذا كانت ثنائية الجيش/ الشعب راسخة في وعي أبناء العالم الإسلامي وهي كذلك بالنسبة إلى الشعب الإيراني، فمن المهم أن نشير إلى أن الوعاء العام لثقافة إيران يقوم على أساس الإسلام، وفي البلد قدم راسخة لحوزة علمية ذات حضور تاريخي استطاعت أن تقود العمل الثقافي خلال عقود مديدة. بيد أن تمحور الجهد الثقافي حول الحوزة لا يعني نفي الجهود الثقافية من خارجها، ولكن النظام أسس لعلاقة النفي والقطيعة تحت رعاية الغرب من خلال نخبة متغربة صُنعت على عينيه وجُعلت في مقابل الحوزة، وبالنهاية في مقابل المجتمع نفسه.
على أساس هذه الثنائية وفي صعيد توالداتها ترسخت علامة الانفصال ونمت القطيعة بين المثقف ورمزه الطالب الجامعي، وبين الحوزوي الذي يرمز لأصالة ثقافة المجتمع ويؤشر لتأريخيتها.
والعجيب الذي يبعث على الدهشة أن مثقفي النخبة لم يكونوا في علاقة نفي مع الحوزة وحدها فحسب، بل هم منفيون اجتماعياً باغترابهم الاجتماعي.
هذا النمط من التجزئة دمّر البنية المنسجمة المتنوعة بغير تناقض للمجتمع الإيراني، لذلك انصبّت جهود الإمام الراحل على معالجتها في سياق مشروعه لوحدة المجتمع. من الملاحظات أيضاً أن التجزئة المنبسطة في ثنائية الأغنياء/الفقراء لم تكن من طراز الثنائيات الطبقية فحسب، إنما تغلغلت في عمق العلائق الاجتماعية وأخذت تعيد صياغة البنية الاجتماعية على نحو آخر.
طهران العاصمة مثلاً ومعها كل المدن الكبيرة انقسمت إلى شمال الأغنياء وجنوب الفقراء، وأضحى الفارق شاسعاً في كل شيء بين الشمال والجنوب.
المراكز الثقافية، المراكز الخدمية والترفيهية، رياض الأطفال، الحدائق العامة، السينما، المدارس، المستشفيات، الشوارع، الأبنية، درجة النظافة، فخامة المحلات التجارية، الأسواق، لهجة التحدّث وطبيعة الأداء الاجتماعي كلها، وغيرها كثير، عادت لتتموضع على أساس الانفصال بين أغنياء الشمال وفقراء الجنوب، على طريقة الثنائيات المتناحرة التي ينفي بعضها بعضاً، وقد تنامى النفي -وهو شكل خطير من أشكال التجزئة- على أسس تنظيرية وثقافية خطيرة ساهمت بشكل مهم مع العوامل الأخرى، في الدفع نحو الانفجار الثوري. أخيراً نلحظ أن كافة أشكال التجزئة وسياقاتها الآنفة، تعود في نهاية المطاف إلى تكريس قوة السلطة ضدّ الشعب، وفصل بعضها عن بعض، حتى نستطيع القول إنَّ أمّ الثنائيات التجزيئية ومركزها تمثلت في السلطة ضدّ الشعب.
غني عن القول أن تراكم آثار الثنائيات التجزيئية الآنفة لن يُمكّن من حلها سلمياً خصوصاً بعد أن تجمعت في ثنائية السلطة ضد الشعب، فلا وعظ الإمام الخمينيّ للشاه وبِطانته قد نفع، ولا أفادت إرشاداته المتوالية طوال الفترة التي سبقت عملية التغيير الشامل.
كذلك لم يكن الحل ممكناً من الداخل من خلال الاندماج في بنية السلطة وتصحيح أوضاعها بما يضمن نـزع فتيل الانفجار والقضاء على الثنائيات المصطنعة، فنظام الشاه لم يكن ليسمح لأحد بأن يخترق منظومته السلطوية، وبالتالي لم يسمح بتصحيح العلاقة مع الشعب بل عمد بدلاً من ذلك إلى القمع والإرهاب والقتل ومصادرة الصوت الآخر.
التفجير أم الاستيعاب
لم يكن الحل ممكناً إذاً إلاّ بالتغيير النوعي، من خلال تفجير البنية السياسية التي يقوم عليها النظام نفسه، والتي تحتضن الثنائيات المصطنعة، والقضاء على الأرض التي تنمو عليها، لإعادة اللحمة إلى المجتمع من خلال الوحدة التي تضم المتنوعات وتطرد التناقضات والصراعات.
لذلك تحرك الإمام نحو تفجير وضع السلطة نفسها (مركز التجزئة والخلاف) وقد حرص على الخطوات التالية في طريق تنفيذ هذا الهدف:
أولاً: يدرك الإمام بثاقب وعيه أن السلطة لم تكن مركزاً للتجزئة ولم ينصب جهدها على اصطناع الثنائيات المتناحرة، إلا لكونها أداة للغرب وتابعة لأمريكا. لذلك ارتكز مشروعه الوحدوي على وعي هذه النقطة ومعالجتها بتدمير السلطة المحلية (نظام الشاه) وقطع التبعية للخارج، للتلازم الضروري القائم بين العملَين، وإلا فإن إفناء السلطة المحلية لا يقضي -مع الإبقاء على التبعية- على عوامل التجزئة والثنائيات المتناحرة.
ثانياً: في الوقت الذي بقيت فيه السلطة المحلية هدفاً للإمام فإن جهوده لم تقتصر عليها، بل تحرك في جهد مواز نحو السلطة وثنائياتها معاً. فعالج -والسلطة لم تسقط بعد- قضية إعادة الوحدة بين المثقف الجامعي والعالم الحوزوي، وتحرك في خط مواز آخر للإخاء بين الجيش والشعب، وبقدر ما استطاع بين الأغنياء والفقراء، وكان كلما اقترب نحو الأمام خطوة في هذا الاتجاه، ضعّف السلطة ونـزع أسلحتها الواحد تلو الآخر.
وفي اللحظة التي انهارت فيها السلطة كانت الثنائيات المصطنعة مستعدة للتحرك بالاتجاه الجديد، خلا استثناءات وبقايا قليلة.
ثالثاً: لم يلغ الإمام الخمينيّ التنوع، بل رام أن يطهر المجتمع من الاستقطابات والثنائيات التجزيئية وعلاقات النفي والتناحر القائمة فيه. فالجيش ضرورة ولكن في غير فصام مع الشعب، ودور المثقف مطلوب ولكن بغير قطيعة مع الأصالة الثقافية، والتكنوقراط (ذوو الاختصاص) حاجة لا يمكن الاستغناء عنها ولكن في غير قطيعة بين العلم والدين.
والأغنياء موجودون في كل مجتمع، ولكن يفترض أن يكون وجودهم بغير مركب طبقي يطوي في داخله ثقافة خاصة منفصلة وتكوين اجتماعي متباين مع البناء الاجتماعي العام.
وما يُلحظ من رواسب حالة التجزئة والثنائيات المصطنعة إنما هي أمور لا تملك المشروعية في خط الإمام، ولا تمتّ إلى خط الثورة الإسلامية بصلة، ولا إلى القيم المُرادة للمجتمع الجديد، والخط كما نعلم هو المعيار وهو الحاكم على الممارسة وليس العكس.
خلاصة الكلام في منهج الإمام لإعادة المجتمع الإيراني إلى خط الوحدة، أنه دمّر السلطة التي هي مركز التجزئة والتناحر، بوصفها المرجعية الأخيرة التي تحتمي في إطارها كل خطوط التجزئة والثنائيات المصطنعة. ثم قطع مع الخارج، مع الغرب وأمريكا التي كان النظام يدين لها بالتبعية، مع تحصّن بمفهوم الاستقلال الكامل عن الشرق والغرب للحذر من الوقوع في تبعية بديلة عن التبعية للغرب.
وفي الداخل أراد للمجتمع أن يتحرك باتجاه المؤاخاة وفك الثنائيات والقضاء على علاقات النفي والتناحر. عن أخوّة الجيش مع الشعب في مسار العلاقة الجديدة، يقول الإمام: «أسأل الله أن يوحّد بينكم أنتم أبناء القوات المسلحة، وبينكم وبين الشعب أكثر من أي وقت مضى».
وفي نص طويل نسبياً يتحدث الإمام عن خلفية العلاقة التجزيئية بين المثقفين وعلماء الدين، ويطالب بتوجيهها نحو سياق آخر، فيقول رحمه الله: «إني أحذّر علماء الدين المحترمين في أي مكان كانوا، من أن الشياطين قد يبدءون ببث الدعايات ضدّ الشباب الجامعي وغيرهم. إن على علماء الدين أن يعلموا أن الواجب يدعو اليوم بأن تتحد جميع طبقات الشعب ضدّ القوى الشيطانية، لأن مخطط الطامعين وعملائهم في عهد الطاغوت كان يهدف إلى الفصل بين هاتين الفئتين، وقد نجح في مسعاه مع الأسف مما أدى إلى جرّ البلاد إلى الضياع. إنهم يزمعون تنفيذ هذا المخطط مرة أخرى، وإن أية غفلة ولو صغيرة سوف تؤدي بنا إلى الضياع، إني آمل أن لا تغفل فئات الشعب وخاصة هاتين الطبقتين المحترمتين عن المؤامرات والدسائس، وأن تعمل على إحباط مخططات الأعداء بوحدة الكلمة».
هذه هي الخطوط النظرية في مشروع الوحدة الخمينية وفي طبيعة التحليل الذي يقدمه للتجزئة على الصعيد الاجتماعي. ونجاح المشروع يتوقف على الممارسة العملية وما يحققه التطبيق من إنجازات واقعية، والخط في نهاية المطاف حاكم على التجربة العملية وليس العكس. والوحدة خارج الثنائيات ليست أمنية بل هي بصيرة نظرية ومثابرة سلوكية تبرز القدوة والنموذج، وإلا يتحول كل شيء إلى شعار يسقط قيمة المشاريع والأفكار.
3- عقدة الحقارة ومركّب النقص
لقد كانت واحدة من كبريات أسس الحضور الغربي في معركة النهضة، هي غرسه لعقدة الحقارة على المستوى النفسي والشعوري في العالم الإسلامي، أو ما يطلق عليها بعقدة الخواجة أو عقدة الشعور بالحقارة والإحساس بالدونية إزاء الآخر، عززتها عوامل داخلية وقوّاها طول الأمد بمحنة التخلف الضارب بشعابه في كل شيء تقريباً.
العقدة هذه لم تبقَ في إطار الشعور النفسي والإدراكي وإنما كان لها أثرها في الوعي الفكري وفي السلوك الاجتماعي أيضا.
بمقتضى هذه العقدة عاشت الشعوب الإسلامية خلال العقود الأخيرة وهي تشعر بأزمة إزاء ذاتها، وتحس بالضعف والعجز والاستلاب أمام الغرب. لقد أدت العقدة هذه إلى أن يقعد المسلمون أو جلّهم لانتظار كل شيء من الغرب، وباتوا في شكّ ليس في قدرتهم وحقهم في الحياة وفي مواقع الحضارة العالمية فحسب، وإنما في حقّهم بوجودهم، وبأن يحققوا ذاتهم من خلال إسلامهم!
في إطار هذه العقدة وفي ظل أجوائها وما أنبتته من أفكار، وأشاعته من مفاهيم ذابت الكثير من القدرات وتلاشت، وعُطّلت ممكنات الحركة، وانغرست في المقابل، الأنظمة السياسية والاتجاهات الفكرية التغريبية التي أوصلت المسيرة الغربية إلى الغايات التي تنشدها، حتى أصبح المسلمون -كما ذكرنا آنفاً- في شك من كل شيء حتى من وجودهم ومن حقّهم في هذا الوجود!
العقدة في نصوص الإمام
القول النهضوي للإمام الخمينيّ حلل العقدة في سياقها التأسيسي وفي مراحل نموها وصعودها تاريخياً وصولاً إلى الأوضاع الراهنة في العالم الإسلامي.
لدينا من نصوص الإمام الراحل ومواقفه وفرة كافية لمتابعة الظاهرة (عقدة الخواجة أو عقدة الشعور بالحقارة) وما يقترحه سماحته من حلول لتجاوزها، وفيما إذا كانت الشعوب المسلمة عاجزة حقاً عن تحقيق ذاتها وتحقيق تقدمها في إطار مشروعها الذاتي كالأمم الأوروبية أو إنها تعيش وهم العجز فقط؟
يواجهنا ابتداءً نص خمينيّ في المقصود من عقدة الخواجة يقول فيه الإمام: «لقد نسي (المسلمون) الشرقيون مفاخرهم كلها ودفنوها ووضعوا الآخرين مكانها». ثم يضيف رحمه الله واصفاً الحالة: «كل هذه ظلمات والطاغوت هو الذي نقلنا من النور إليها، الطواغيت في العصور الأخيرة وفي زماننا أشعلوا هذه الفتن الغربية فنسبوا كل شيء إلى الغرب.. نقلوا إلينا كل موضوع من الغرب. وحتى جامعتنا في ذلك الزمان (زمان الشاه بالنسبة إلى إيران) كانت جامعات غربية. ثقافتنا واقتصادنا كانا غربيَّين لقد نسينا أنفسنا حقاً وأجلسنا مخلوقاً غربياً في مكاننا!».
بعد أن يعطي هذا النص الخمينيّ للفكرة وضوحها ينتقل الإمام على صعيد البيان إلى مثال طبيعي يقول فيه: «أتذكر أن أحد أقرباء محمد رضا (بهلوي) الملعون أصيب بالتهاب في اللوزتين وأحضروا له طبيباً من أوروبا لإجراء العملية الجراحية، إن هذا الأمر يفهمنا بأن الذي احتل رئاسة البلاد غصباً -ويعرف باسم الشاه-! يعتقد بعدم وجود طبيب إيراني لإجراء عملية اللوزتين في كل إيران!؟».
ثم يعلق الإمام الراحل على آثار هذه الواقعة وكبير قدرتها في تعميق عقدة الاستلاب والعجز أمام الشعب في اختصاصاته ومؤسساته الطبية فيقول: «تعرفون جيداً تلك الضربة التي لحقت بالطبّ الإيراني بهذا العمل. يالها من خيانة لشعب إيران أن يجعل الشعب يعتقد بعدم وجود طبيب يتمكن من إجراء عملية اللوزتين في جميع أرجاء إيران!!». ثم يضيف رحمه الله: «كم يساعد هذا العمل الاستعمار والغرب وكم يقضي على كرامة شعبنا؟».
وبعد أن يضرب الإمام الراحل مثالاً آخر لعقدة الحقارة التي من معانيها الانبهار الأعمى والإعجاب الغبي بكل ما هو غربي وتجاهل كل ما هو ذاتي ومحلي، مع شعور بالعجز عن العطاء والاستجابة للتحدي وعدم تفهم حقنا كمسلمين في الوجود والحياة، بعد كل ذلك يأسف الإمام الراحل لعمق تغلغل الظاهرة في وجودنا، وما تؤدي إليه من شل لقدراتنا، بحيث يجعل الاستقلال والتحرّر، والتقدم والتطوّر، أموراً مستحيلة، فيقول: «عندنا الأطباء، ولكن عقولنا غربية وحتى أطباؤنا فإن عقولهم غربية أيضاً! عندما تراجعهم يقولون: اذهب إلى أوروبا! لقد فقدوا أنفسهم. لقد فقدوا وفقدنا قدرتنا وقضينا على كرامتنا ووطنيتنا، فإن لم يتحرر هذا الشعب من التأثر بالغرب، فإنه لن ينال استقلاله، مادام مؤلفونا بهذا الوضع؛ إذ عندما يبحثون عن موضوع ويريدون أن يضربوا مثلاً، فلا يستشهدون إلاّ بقول فلان الغربي الأجنبي! ما دامت هذه التبعية موجودة فلن تحصلوا على الاستقلال!».
العقدة على مستوى العالم الإسلامي
لا تقتصر «عقدة الخواجة» أو عقدة الشعور بالحقارة والنقص أمام الغرب، والانبهار الغبي بكل ما هو غربي، والتنكر الجاهل الأحمق لكل ما ينتمي إلى عقيدتنا ووجودنا وتقاليدنا وأعرافنا الحياتية وموروثنا التاريخي والحضاري، لا تقتصر على بلد من بلاد المسلمين دون آخر، وإنما هي حالة سادت -ولا تزال- تسود الشعوب الإسلامية، وإن بدرجات متفاوتة.
والإمام الخمينيّ حين ينتقل بالظاهرة من حدود إيران إلى مجال العالم الإسلامي، نراه يقول: «إن مخطط نـزع البلدان المستعمرة عن هويتها، وتغريبها وتشريقها، هو من المخططات التي كان لها -مع الأسف- تأثير بالغ على البلدان وعلى بلدنا العزيز، وقد بقيت نسبة كبيرة من آثارها حتى عادت هذه البلدان لا ترى نفسها ولا ثقافتها وقوتها بشيء، وترى في القطبَين القوييَّن الغرب والشرق، العنصر الأفضل، وثقافتهما هي الأسمى وأنهما قِبلتا العالم»!
لقد ولدت «عقدة الخواجة» في أوساط الشعوب الإسلامية عبر مخطط طويل استغرق عقوداً مديدة من عمل الغرب من خلال أجهزته المباشرة، ومن خلال الفئات التي تعيش بيننا بأجسادها لكنها تفكّر بعقول غربية.
أحست الشعوب الإسلامية بهذه العقدة يوم انتبهت إلى قوة أوروبا وتفوُّق الغرب في مجالات الحياة المختلفة، في الصناعة والتكنولوجيا وفي المناهج والنظريات، فيما أصيب المسلمون بالتخلّف والعجز عن مواكبة التقدم وتحصيل أسبابه. وقد رسّخت هذه الحالة في المسلمين -أو قطاع مهمّ منهم- استلاباً خطيراً انطبع عملياً بالإحساس بالعجز عن إنجاز أي شيء، والانبهار بكل ما هو أجنبي، إضافة إلى تنكّر قاسٍ لذواتهم وشعوبهم وعقائدهم. وكان للنخب الثقافية دورها في جميع ذلك.
مسلكان للعقدة: نفسي وثقافي
سرت «عقدة الخواجة» في أوساط المسلمين بمساريَن متوازييَن في المستوى مختلفيَن في العمق. فعلى المستوى الأول تحركت العقدة من خلال فئة المثقفين المتغربين الذين تنكروا لكل ما يمتّ إلى الإسلام بصلة، وعاشوا مثلهم الأعلى من خلال الغرب. وعلى المستوى الثاني نفذت العقدة عبر تكوّنها في حالة نفسية عامة سادت الشعوب الإسلامية، وأخذت تعبر عن نفسها بعجز هذه الشعوب عن الإبداع وإحساسها بالخجل لما له صلة بواقعها الديني وأعرافها المحلية وتقاليدها الخاصة.
لقد شهدت الشعوب الإسلامية بتأثير الغرب وضغط ثقافته وبالدور الفعال الذي لعبته النخب المتغربة انقطاعات كبيرة عن الإسلام، وعن ثقافتها الخاصة حتى على صعيد الملبس والمأكل وباقي ظواهر السلوك الإنساني الأخرى.
فالنخب المثقفة التي قادت بعض مسارات التغيير أو كان لها على الأقل دور في ذلك، كانت نقطة بدايتها أن جعلها الغرب تعيش حالة الخجل من أية رابطة تصلها بالدين وبالشرق.
وكأمثلة على هذه الاتجاهات، التي سرعان ما تحولت إلى تطلعات وحركات لها وزنها في العمل السياسي والاجتماعي، يمكن أن نذكر الكمالية في تركيا والبورقيبية في تونس، وأخذت النـزعة ذاتها تزدهر وتنمو في إيران منذ أواخر العهد القاجاري وخلال العهد البهلوي بمرحلتيه.
على أساس الإحساس بهذا الخجل من الإسلام والانقطاع عن الشرق، يعلل المثقف العربي القومي «منح الصلح» تأييد الغرب لأمثال هذه الحركات، إذ يقول عن الكمالية والبورقيبيّة، مثلاً: «لقيت هاتان الحركتان من تفهم الغرب وإعجابه ومساندته ما فاق كل حد. والسبب أن هاتين الحركتين تنطويان على الخجل من التراث الإسلامي والرابطة مع الشرق»([15]).
هذا الشعور الذي حمله المثقفون المتغربون لم يبق في نطاق الدائرة النفسية والإدراكية، بل تحول إلى تنظير، وإلى تيار فكري. ففي الساحة العربية كان الشرط الأول لكي يندرج الإنسان في الدائرة الثقافية، ولكي يمارس العمل الثوري، هو أن يعلن أولاً تنصله من الإسلام. لنرجع إلى منح الصلح الذي يعيد هذه الظاهرة بصراحة إلى تأثير الاستعمار، فنراه يقول: «وقد نجح الاستعمار في إقناع بعض (المثقفين الثوريين) بأن الثورة في الحياة العربية إنما تبدأ بأن تكون ثورة على شعائر الإسلام وطقوسه... فعلى الثوري في منطق هؤلاء أن يبدأ عمله بإعلانه إلحاده، أو لا إسلامه على الأقل». ثم ينسب هذه الظاهرة في مكان آخر إلى الاستعمار الثقافي، حين يقول: «نجاحان حققهما الاستعمار الثقافي: المثقف الذي يؤمن أن لا سبيل إلى التقدم إلا على أنقاض الإسلام و...»([16]) كان من نتائج هذه الحالة انقطاع هذه الفئات عن الإسلام ومحاولتهم قطع مجتمعاتهم عنه أيضاً، وزجّها بشكل كامل في أتون العلاقات والنظم الغربية.
في إيران، أخذت هذه الدعوة بالانخراط الكامل في الغرب وإعلان الإفلاس والانكسار أمامه، تتجلى في التيار المتغرب (غرب زده، بحسب المصطلح الإيراني الشهير) الذي يكتب أحد رموزه نصاً: «ما تحتاج إليه إيران اليوم، وما يجب بذل الجهود لتحقيقه، وتقديمه على الأمور الأخرى، هو أشياء ثلاثة هي: أولاً: قبول الحضارة الأوروبية والترويج بها بلا قيد أو شرط. ثانياً: التسليم المطلق لأوروبا. ثالثاً: أخذ جميع الآداب والعادات والرسوم والتقاليد الغربية، مع أصول التربية والصناعة والحياة وكل ما يمت إلى أوضاع الغرب بصلة دون أي استثناء. ثم يعود هذا الكاتب المتغرب ليلخص ما يريده وهو يعيش عقدة الحقارة إزاء الغرب، بقوله: يجب أن تكون إيران متغربة ظاهراً وباطناً وجسماً وروحاً»!([17])
لقد عمد هذا التيار إلى تخدير المجتمعات وإقناعها بالعجز عن أيّ إنجاز ودفعها لتسليم كل شيء بيد الأجانب، كما يعبر عن ذلك قطب آخر من أقطاب التيار المتغرب في إيران، وهو يكتب: «من الصعب إصلاح إيران، بل من غير الممكن تحقيق ذلك، إلا بواسطة الأجانب»!([18])
العلمانية نبتت على هذه الأرضية النفسية والإدراكية، كما كانت هذه الحالة هي الباعث إلى بلورة وعي شعبي جماهيري رافض للنخب المثقفة، حينما أتيحت للجماهير فرصة إدراك المرامي الخطيرة التي تحرّك التيار التغريبي في أوطانها.
وفي كل الأحوال، عاشت الفئات المثقفة بثقافة التغريب والشعوب المصابة بعقدة الخواجة، تناقضاً كبيراً في حياتها أقضّ مضاجعها، وجعلها تحس بتمزق مدمر في ذاتها، فبينما هي تعيش على أرضية إسلامية، وتنتمي إلى تربة شرقية، نرى أن تطلعاتها وعقولها مشدودة نحو الغرب، دون أن تتمكن من الاندماج به والتواصل المطلق معه، لأنه موضوعياً -ورغم كل شيء- يمثل النقيض الحضاري والثقافي والسياسي لها، على الأقل في القرنين الأخيرين.
وحالة الانقطاع هذه عن الإسلام والتواصل المتوتر غير المنتظم ولا المنسجم مع الغرب، عبرت عن نفسها من خلال مظاهر شوهاء بليدة ومضحكة تظهر عقدة الخواجة.
بدوره يعبّر الإمام الخمينيّ الراحل عن البعد النفسي للظاهرة ويكشف تالياً عن آثارها الموضوعية، حين يشير سماحته بأن مخطط القطبين: «أوجد في أنفسنا حالة عميقة من الرهبة تجاه مظاهر تقدمهما وقواهما الشيطانية، حتى لم تعد لنا جرأة على المبادرة إلى أي إبداع، فعدنا مسلّمين لهما جميع أمورنا، حتى مقدراتنا ومقدرات بلداننا، منقادين لهما انقياداً تاماً».
لقد تعدت مظاهر هذه العقدة التي ضربتنا حدود التقليد إلى الانبهار الأعمى، إذ يقول الإمام الراحل في وصف ذلك: «وهذا التعطيل المفتعل للطاقات الإبداعية جعلنا لا نعتمد على فكرنا وعلمنا (معرفتنا) إزاء أي أمر مهما كان، وإنما أصبحنا مقلدين للشرق والغرب تقليداً أعمى، بل راح الكتّاب والخطباء والمتغربون والمتشرقون الجهلة ينقدون هازئين، ثقافتنا وتقاليدنا، وحتى صناعتنا وما قد نبدعه، وسعوا ولا يزالون لكبت طاقاتنا الذاتية، وبعث اليأس فينا، وترويج التقاليد الأجنبية مهما كانت مبتذلة وبذيئة، بسلوكياتهم وخطاباتهم وكتاباتهم، وبمدحها وتحسينها سعوا ولا زالوا لتثبيتها لدى الشعوب».
ثم ينتقل رحمه الله إلى ضرب الأمثلة للحالة فيضيف: «فعلى سبيل المثال يتلقون بإعجاب أي كتاب أو مقالة أو خطبة تضم عدداً من المصطلحات الإفرنجية، دون الالتفات إلى المحتوى، ويصفون الكاتب أو الخطيب بأنه عالم مثقف واع! إن كل ما نراه في حياتنا من المهد إلى اللحد، إنما يكون مستحسناً ومن مصاديق التمدن والتقدم، إذا ما ألصقت به مفردة غربية أو شرقية، وأما إذا كان يحمل شيئاً من مصطلحاتنا فهو منبوذ وبالٍ ورجعي!».
وعن تغلغل الظاهرة -العقدة في النُشّأ والأطفال الصغار يقول الإمام الخمينيّ: «أطفالنا يفخرون إذا كانوا يحملون أسماء غربية، وإلا فيشعرون بالضعة والتخلف! وينبغي أن تطلق أسماء أجنبية على الشوارع والأزقة والمحالّ التجارية والشركات والصيدليات والمكتبات، وكذا على الأقمشة وسائر البضائع الأخرى، وحتى لو كان إنتاجها محلياً فيجب أن تطلق عليها أسماء أجنبية كي تحظى برضا الناس وإقبالهم!».
ثم يخلص سماحته بعد ذلك إلى تلخيص هذه الحالة الضاربة بأعماق وجودنا وجوانب حياتنا المختلفة، فيقول: «أصبح التغريب الكامل في العلاقات الاجتماعية والمعاشَرة وجميع شؤون الحياة سبباً للتفاخر والتعالي، ودليلاً عن التمدن والتقدم، أما الالتزام بثقافتنا وتقاليدنا فهو تحجّر وتخلف!».
الاستقلال الحضاري والتطهر من العقدة
نصل في الخاتمة إلى السؤال التالي: هل تعبّر عقدة الاستلاب والإحساس بالحقارة والعجز أمام الغرب، عن عجز حقيقي في تكويننا أم أن الظاهرة تنطوي على وهم وخيال كبيرَيْن ناتجين عن هيبة القوى الكبرى التي تظهرها في سياستها وثقافاتها وقدراتها ونظم حياتها؟
ربما احتاجت الإجابة عن السؤال إلى تقصّي جهود الغربيين في المنطقة الإسلامية، وإلى متابعة تاريخ وأحداث العقود الأخيرة، بيد أننا نستطيع أن نختزل جميع ذلك بنص خمينيّ مباشر يملك دلالات حاسمة في الموضوع، إذ يقول سماحته: «إن الجنس الآري والعربي لا يقلّ عن جنس شعوب أوروبا وأمريكا وروسيا، وإذا اكتشف ذاته، وأبعد اليأس عن نفسه، ولم يتطلع إلى غير ذاته، فإنه قادر على إنجاز أي عمل، وصنع أي شيء على المدى البعيد».
بيد أن التحرر من عقدة الخواجة وتجاوز الحالة الإفرنجية والتحرر من ثقافة التغريب، ليست أمنيات فحسب، وإنما هي عملية في جهود تغييرية مضنية وشاقة، إلاّ أنها ليست مستحيلة. وبقول الإمام الراحل وهو يُتمم النص الآنف: «وبذلك ستصلون إلى ما وصل إليه أمثال هؤلاء، شريطة التوكل على الله تعالى والاعتماد على النفس وقطع التبعية للآخرين، وتحمّل الصعاب من أجل تحقيق حياة كريمة والخلاص من تسلط الأجانب».
بشكل عام تواجهنا نصوص الإمام الخمينيّ ومواقفه في النهضة بثلاث خطوات أساسية تكفل للمسلمين التطهّر من العقدة، والتخلص من آثارها، هذه الخطوات، هي:
أولاً: العودة إلى الذات وتحقيق الانتماء الفاعل والأصيل إلى الهوية الإسلامية. وهذه الخطوة تؤلّف المعادل النفسي البديل الذي يقضي على المحتوى النفسي للعقدة ويجهز عليه ويحل محله؛ أي يحل محل الاعتزاز بالغرب والشوق إليه وإلى حمل هويته.
ثانياً: مواجهة الغرب ومقارعته على كافة مستويات التبعية المنهجية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بل حتى المعنوية كما ينص على ذلك الإمام الراحل. وفي هذه الخطوة يتحول الغرب إلى محور للعداء من خلال الانتباه لما يمثله من ظلم وهيمنة واستغلال، وذلك بدلاً من حالة الانبهار القائمة، وعوضاً من دعوات التصالح والاندماج.
ومن الضروري أن يتحرك المسلمون على صعيد هذا الموقف لضرب مرتكزات مهمة تتركز فيها هيبة الغرب، إذ المطلوب إسقاط الهيبة لأنها خطوة تُجرّئ المسلمين للتحول إلى الجهاد والكفاح ضد التبعيات.
ثالثاً: عملية القضاء التام على العقدة وثقافة التغريب وحالات الإفرنجية لا تتم بشكل فاعل وكامل إلا عبر تحقيق البلد الإسلامي لاستقلاله السياسي الكامل، وإلا ستبقى المعالجات جزئية وغير ذات شأن إذا تمت في إطار نظام سياسي تابع، تتمثل إحدى وظائفه الأساسية بتكريس حالة الانبهار بالغرب وترسيخ العجز لدى المسلمين. ومسألة إعادة بناء طاقات الأمة وتركيزها حول الإسلام ينبغي أن تتجاوز الشعار إلى ممارسة تنبض بالحياة والعطاء، وإلا فمجرد رفع شعار الإسلام هو عمل يستوي فيه المخلص والمغرض، وبالتالي فإن مصداقية الخيار الإسلامي لا تقتصر على جانب الرؤية والمفهوم فقط، وإنما تحتاج إلى المثال والنموذج الذي يظهر عبر التطبيق الصحيح المستبصر لدين الله، وهذه مهمة شاقة لا يؤتاها إلا ذو حظٍ عظيم.
4 - الغرب والقطيعة
يحمل فكر الإمام الخمينيّ وكذا ممارسته النهضوية في عهدَي الثورة والدولة دلالة واضحة، صريحة وقاطعة، تدعو المسلمين إلى قطيعة الغرب كشرطٍ للنهضة والتحرر ومجاوزة حالة التخلف والتبعية.
وقد لاحظت أثناء النقاش والتجوال عبر القراءة في وجهات النظر الأخرى، أن المفهوم التبس رغم وضوحه -بل ربما لشدة وضوحه وبداهته- حتى على الإسلاميين أنفسهم، بل حتى على بعض من يتبنى خط الإمام.
ومرَدّ الالتباس يعود إلى عدة أسئلة، منها: هل تعني القطيعة نفي الغرب وتحطيمه ليقتصر العالم على الوجود الإسلامي وحده، وهل تعني انغلاقاً على الذات وعزله عن العالم وانكفاء يمنع المسلمين من الانفتاح على ما هم أشدّ الحاجة إليه مما لدى الغرب من علم وفكر وتكنولوجيا ومعطيات أخرى؟ ثم إذا كان المراد تحقيقه هذا المعنى أو غيره، فهل نملك في واقع الإمكانات الحاضرة للعالم الإسلامي تحقيق هذه القطيعة، وإعادة تكييف المفهوم بغاياته، تنظر -مع الإمكانات الراهنة- على نحو عقلاني، أم أن المسألة برمتها لا تتجاوز الأمنية والطموح والشعار أو المشروع النظري في الحد الأعلى؟
وحين نصل إلى الغرب، فهل ننظر إليه كلاً موحداً، أم نجزئه إلى غرب سياسي تتصاعد أدوات قمعه وإلغائه للآخر الإسلامي في ضوء حالة «المركزية العالمية» التي يحاول أن يتلبسها ويتعامل من خلال مقاييسها، وغرب ثقافي يمكن أن ننفتح عليه ونتعاطى وإياه عبر حالة «المثاقفة» وغيرها؟
هكذا تخلص الرؤية إلى أن الموضوع ينطوي على عدّة إشكالات نظرية تعود إلى عدم تحديد المفاهيم، وأخرى عملية تكمن فيما نملكه من خيارات عقلانية قادرة على أن تدفع للتنفيذ ما نحسمه نظرياً.
ما سنقتصر عليه هو معالجة الالتباسات الناشئة عن غياب المفهوم النظري بإعادة تأسيسه عبر نصوص الإمام الخمينيّ الدالة عليه. الحقيقة أن المعنى المباشر لمفهوم قطيعة الغرب هو نفي التبعية له والتحرر من هيمنته. لذلك ستأتي القطيعة لدى الإمام في مستوى النظرية والموقف، إنجازاًَ ومشروعاً، شاملة وجامعة لكل المستويات المتصورة لأبعاد الغرب. فليس أمام المسلمين والعالم الإسلامي مهما طال المدى سوى أن يقطعوا مع الغرب سياسياً وثقافياً واقتصادياً وعسكرياً وروحياً دون أن تستدعي هذه القطيعة الشاملة انعزالاً أو تعالياً أو تبريراً للإبقاء على التخلف والضعف والعجز.
على مستوى آخر، أن ينطلق الإمام الخمينيّ في المشروع والإنجاز من الإسلام، فذلك معناه أن يقطع كاملاً مع الغرب، إذ لا مكان لتعايش المشروعَين الإسلامي والغربي على أرض المسلمين، ولا مجال إلا أن يكون أحدهما دون الآخر مشروعاً لنهضتهم.
ووعي الذات هو من قسمات القطيعة، وهو شرط أساس لاستقلال الشعوب العربية والإسلامية إذ «ليس باستطاعة الشعوب الشرقية (الإسلامية) أن تنال الاستقلال ما لم تدرك أن لها كياناً كسائر الشعوب وأن للشرق وجوداً كسائر الأماكن» كما يقول الإمام.
ولأنَّ ذاتنا مستلبة حاضراً في غير موقع وحقل، وخاضعة لسلطة الذات الأخرى (الغربية) فلا بدّ من لمّها وتحريرها بالقطيعة الشاملة ولما ينتهي إلى اكتشاف الهوية، بحسب قول الإمام: «يجب على المسلمين الملتزمين المعتقدين بالإسلام، الذين يريدون أن يخدموا الإسلام، البحث عن هويتهم ليعثروا على أنفسهم وذواتهم وعلى أمتهم».
وحينما تكون القطيعة الشاملة أساساً لتحقيق الذات واستئناف الأصالة والحركة باتجاه النهضة الشاملة فهي لا تستوجب تصحيح الوضع الإسلامي وعلاقة المسلمين بالغرب فحسب، وإنما هي في الجوهر والأساس تنطوي على إعادة تصحيح الخريطة العالمية ومفاهيم القوة وتكتلاتها ومحاورها. ومع ذلك فإن للقطيعة حدوداً وقيوداً سنقف عليها في فقرة لاحقة. لكن قبل ذلك نحاول أن نضيء المفهوم الخمينيّ عبر عدد من شهادات الواقع العربي نفسه.
مثال من الواقع العربي
سنقصر المثال على أزمة عاشتها المنطقة قبل عقدٍ من السنوات إثر احتلال الكويت والحرب الأمريكية التي نشبت فيها. لقد شهد الوجدان والضمير العربي اهتزازاً كبيراً لم يقتصر على المواقف الشعورية والوجدانية العفوية للجماهير إزاء الغرب، وإنما امتد إلى النخب المثقفة وحتى السياسية (بعضها على أقل تقدير)، في حالة أشبه ما تكون بخلخلة بنى الوعي السائد وتحريكها نحو مواقف أكثر فاعلية في إدراك الخطر الغربي وطبيعة الموقف منه، وإن كانت هذه المواقف لا تزال بحاجة إلى بنى نظرية تسندها على مستوى الوعي والعلم، وإلا ستذوي وتزول أو لا يكون لها قيمة أصلاً في حساب المواجهة الفاعلة.
دلالات هذه الحالة مبثوثة بكثافة في مئات الصفحات التي كتبتها أقلام المثقفين تعبيراً عن مواقفهم وما زخرت به الساحة في اللحظات الساخنة لتوالي الأزمة، بيد أننا سنختار مصدراً واحداً نلتقط منه الدلالات، والمصدر الذي نعنيه هو ندوة مركز دراسات الوحدة العربية التي عقدت في القاهرة وصدرت أعمالها ومناقشاتها في كتاب بعنوان «أزمة الخليج وتداعياتها على الوطن العربي»([19]).
فهذه الندوة حضرها جمع من المثقفين الذين تتفاوت انتماءاتهم وتتوزع بين الاتجاهين العلماني والإسلامي، بيد أنها مع ذلك سجلت في الغالبية العظمى من حواراتها تأكيداً مكثفاً على أن الإطار الحاضن لمفردات الأزمة يتلخص بمقولة: «نحن والغرب»، ثم كادت أن تجمع على جدوى موقف القطيعة بل وضرورته كخيار لابدّ منه يعبّئ الأمة ويوفر لها سبل المواجهة الفاعلة للغرب وتجاوز الأزمة.
فهذا برهان غليون يذهب إلى أنه «ينبغي تحليل نتائج حرب الخليج» من منظور أنها تعبّر عن «موضوع مواجهة استراتيجية شاملة وتاريخية» يستجمع فيه الغرب قواه لضرب عالمنا. والغرب يندفع لهذه المواجهة العدائية لأربعة أسباب والسبب الرابع هو كما يكتب غليون: «الحسابات التاريخية الحضارية المعلقة منذ قدم، والتي لم تنجح حقبة الاستعمار، والانتقام الذي تميّزت به، من تصفيتها في وعي الغرب، بل زادتها تعقيداً» ثم يضيف: «العنصر الأكثر حساسيّة في هذا الحساب هو الإسلام الذي يشكل اليوم في العالم أجمع أكبر قوة مقاومة للهيمنة السياسية والثقافية الغربية، والذي كان ولا يزال، المرتكز الأول والأعمق لحضور العرب الحضاري وتماسكهم الذاتي وتوحيد منطقتهم روحياً وثقافياً وتحويلهم بالتالي إلى تكتل حضاري واسع، والى فاعل تأريخي قادر في الحوض المتوسط والعالم. ولذلك، فإن الجانب الذي يرتكز فيه العداء للغرب كأعنف ما يكون هو الهجوم على الإسلام بوصفه رديف العرب التاريخي ومرتكز هويتهم جميعاً، ومحاولة تشويه صورته وتنحية الخجل منه، ودعم كل من يتنكّر له من أهله أو يدعو إلى التنكر له».
حين نضم هذا النص التحليلي إلى نصوص أخرى لعالم الاجتماع العربي برهان غليون يتبين أن موقف القطيعة لدى هذا المثقف المرموق يستند إلى أساس نظري ويتجاوز حالة الانفعال ولحظة الحماس العابر.
في الاتجاه الواعي نفسه تأتي كلمة المثقف الكويتي المرموق خلدون النقيب وهو يتحدث عن العناصر الدائمة للأزمة فيسجل اختراق الغرب العميق للمنطقة، وهو الاختراق الذي نحتاج للقطيعة كموقف للتحرر منه، يقول: «الحقيقة الصارخة في هذا كله هي أن البلدان العربية جميعها مخترقة اختراقاً كاملاً من الغرب».
أما وزيرة الإعلام الأردنية السابقة ليلي شرف فقد أوضحت في معرض تحليلها للاتجاه غير الرسمي الذي ساد الأردن، بأن المواقف تجاوزت حيثيات الأزمة إلى إطارها الماثل في مواجهة الغرب، فكتبت في ورقتها للندوة: «ومع أن العدد الأكبر من المثقفين لم يكن يؤيد العراق في احتلاله للكويت، فقد أخذ بعضهم يطرح تصوراته للأزمة من منطلق المواجهة مع الغرب وبمنظار تاريخي». وهذا الإطار الجديد الأوسع للأزمة (مواجهة الغرب) هو الذي يفسر - برأي الوزيرة - «القفزة النفسية/ العقلية فوق الأسباب المباشرة للأزمة» والتي جاءت «تحت ضغط المواجهة مع الغرب».
في خط مواز تحدث محمد المتوكل، وهو وزير يمني سابق، عن الأجواء التي سادت اليمن وتحركت باتجاه ضرب ركائز التبعية للغرب وتعزيز سلوك المقاطعة،حيث جاء في وثيقة صدرت في شباط/1991 الدعوة لـ «محاربة كل أشكال التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية» ثم «الرفض والمحاربة لكل قيم الاستهلاك البذخي، والانحلال السلوكي، والنظرة الذاتية الضيقة، وكل قيم الإمبريالية التي تشجع الفساد والإفساد وتبديد الثروة، والتقليد الأعمى للقيم الغربية التي تنمي روح الذيلية والعمالة».وفي الواقع تؤشر هذه المعاني بمجموعها إلى أبرز دلالات القطيعة على الصعيدين النفسي والعملي.
من الأردن أيضاً سجل النائب ليث شبيلات رؤيته على نحو قاطع حين قال: «كل فكر قومي أو إسلامي لا يرى ولا يعالج هذا العداء الغربي اليومي لأبناء وطنه يكون ترفاً فكرياً في الصالونات».
وإذا كان برهان غليون عاد مرة أخرى في الفقرة الأخيرة من الندوة التي تحمل عنوان: «ما العمل؟» إلى الفرز بين رؤية تقوم على الاستلام والتكيف مع الأمر والواقع، ورؤية أخرى تقوم على «فإن الرؤية ذاتها فرضت على المحامي اللبناني عصام نعمان أن لا يرى بداً من هذا المسار، حيث المسألة مرتبطة برمتها بـ «علاقة العرب بالغرب، خاصة الغرب الانكلوسكسوني» وأن الغرب هو في الحساب النهائي «عدو حضاري قوي، شرس وطامع ونحن فوق ذلك أمام عدو عنصري» فكيف نتصرف إزاءه؟
يقول عصام نعمان إنه «لا التصدي الناقص نجح ولا التقليد الكامل أفلح في مواجهة هذا التحدي» وبذلك «يستبين لنا أن النهج الأفضل هو المواجهة بكامل قوتنا في إطار مشروع العصر».
هذا النهج يتطلب «الانتماء إلى الذات، وليس الانكفاء؛ والإنماء المستقل بالاعتماد على النفس، والتفاعل مع الغرب وفق معيار مدروس هو الإفادة منه بمقدار ما يخدم ذلك مشروعنا القومي (الشمولي) الديمقراطي الحضاري، والتمايز معه في كل ما من شأنه مساعدته على استتباعنا»([20]).
وسؤالنا: هل يعني موقف القطيعة أكثر من تأكيد هذه الدلالات في النهضة بصرف النظر عن طبيعة المشروع البديل وفيما إذا كان قومياً أم إسلامياً؟
خلاصات في المعنى والدلالة
استطاع منهج القطيعة الكاملة مع الغرب لدى الإمام الخمينيّ أن يحقق لإيران استقلالها رغم الصعوبات والتضحيات الباهظة، وهذه القطيعة هي نفسها أساس لقطيعة إسلامية أعم وأشمل مع الغرب، تكون قاعدة لنهوضنا المطلوب وشرطاً لخوض تجربة المواجهة وكسب القدرة على محور القوة العالمية.
والقطيعة بهذا المعنى تعني ما يلي:
أولاً: إنها تعني النفي الكامل لتبعيات الغرب والتحرر من سلطانه.
ثانياً: لا تستدعي كما ينظر البعض إفناء الآخر الغربي ولا تدميره ومحوه، فمثل هذا المفهوم لا يصدر في الوعي الإسلامي إلا إزاء «إسرائيل» ككيان لا يملك في الأصل مشروعية وجوده، وإنما تعني أن يكتسب المسلمون موقعهم الطبيعي ويزيحوا التمدد الغربي من على أجسامهم وكيانهم.
ثالثاً: ليست القطيعة موقفاً غائياً للإسلامي وإنما هي لحظة على خطّه. ما مقدار هذه اللحظة وكم تمتد؟ هذا السؤال يرتبط بكل تجربة على حدة، واليقيني هو أن يتلاشى الالتزام بلحظة القطيعة كلما استكملت الذات شروط وجودها الحر الطليق المتحرر من سلطات الآخر وضغوطاته، وحين تصل الذات الإسلامية إلى مستوى من القدرة والتفوق لا تحتاج مطلقاً إلى القطيعة، بل لن يكون للقطيعة بعد ذلك أي مفهوم أو موضوع في الأرض الإسلامية.
بهذا المعنى تُعدّ القطيعة لحظة ضرورية في شروط النهضة لدى الإمام الخمينيّ، الذي كتب في وصيته: «وأوصيكم بأن تنقضّوا لقطع دابر التبعيات بإرادتكم الصلبة وجهدكم الدؤوب، واعلموا أن الجنس الآري أو العربي لا يقل عن جنس شعوب أوروبا وأمريكا وروسيا، وإذا اكتشف ذاته وأبعد اليأس من نفسه ولم يتطلع إلى غير ذاته، فإنه قادر على إنجاز أي عمل».
الهوامش:
--------------------------------
([1]) الفكر الإسلامي: قراءة علمية، محمد أركون، مركز الإنماء القومي، ترجمة هاشم صالح، ص63.
([2]) كيف نفهم الغرب؟ هشام شرابي، ضمن ندوة الثقافة العربية في المهجر، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1988، ص26، نقلاً عن: مجلة المستقبل العربي، العدد160، حزيران 1992، ص16.
([3]) المصدر نفسه ص16.
([4]) نهاية اليوتوبيا: السياسة والثقافة في زمن اللامبالاة، راسل جاكوبي، ترجمة فاروق عبد القادر، سلسلة عالم المعرفة، رقم 269، الكويت، صفر 1422هـ/أيار 2001م، ص9.
([5]) المصدر نفسه.
([6]) الإمام الخميني والمشروع الحضاري الإسلامي: قراءة في خطاب الصراع والاستنهاض، د. سمير سليمان، طهران، 1411هـ، ص 48.
([7]) مختارات من أقوال الإمام الخميني، ترجمة محمد جواد المهري، طهران 1402هـ، ج2، ص102.
([8]) الأصولية الإسلامية والنظام العالمي، د. أحمد الموصللي، مركز الدراسات الإستراتيجية، بيروت 1992، ص 58.
([9]) الثورة الإسلامية والاستكبار العالمي، إعداد: محمد علي حسين، وزارة الإرشاد الإسلامي، ص 51 وخطاب الإمام بتاريخ تموز 1980.
([10]) المصدر نفسه، ص 50.
([11]) من حديث الإمام إلى المشاركين في مؤتمر القدس بتاريخ 9/8/1980. ينظر: الإمام في مواجهة الصهيونية.
([12]) المصدر نفسه.
([13]) المصدر نفسه.
([14]) المصدر نفسه، ص 711.
([15]) أنظر: القوميّة العربية و الإسلام، ندوة، مركز دراسات الوحدة العربيّة، ط 3، ص422.
([16]) المرجع نفسه، ص522.
([17]) أنظر: الشيخ فضل الله النوري والحركة الدستوريّة، مهدي أنصاري، طهران 1991، ص79، بالفارسية.
([18]) المصدر نفسه.
([19]) أزمة الخليج وتداعياتها على الوطن العربي، ندوة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1991.
([20]) المصدر نفسه، وصفحات النصوص هي على التوالي: 20، 19، 44، 126، 135، 309، 370، 337، 338.
احدث الاخبار
السيد الحوثي: الاستقرار لن يبقى في المنطقة ما دام الاحتلال مستمر في فلسطين
ثروة باقية؛ المقاومة في لبنان من نشوء الحالة الإسلاميّة إلى التأسيس حتى «طوفان الأقصى»
قائد الثورة الإسلامية: الخلاف بين الجمهورية الإسلامية وأمريكا جوهري، وليس تكتيكيا
التبيين في نهج السيّدة الزهراء عليها السلام*
قيم الحياة الزوجيّة في سيرة أهل البيت عليهم السلام
عمائــــــم سلكت درب الشهادة (1)
الشيخ نعيم قاسم: أمريكا ليست وسيطا نزيها ودعم المقاومة واجب
زوجة القائد"الحاج رمضان" تروي ذكرى من أدب الشهيد قاسم سليماني
العميد نقدي: قدرتنا الصاروخية اليوم أقوى بكثير مما كانت عليه خلال العدوان الصهيوامريكي
الشيخ نعيم قاسم: المقاومة جاهزة للدفاع ولديها ردع يمنع تحقيق العدو لأهدافه
الاكثر قراءة
أحكام الصوم للسيد القائد الخامنئي
ما أنشده الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في حق الإمام الخامنئي
أربعون حديثاً عن الإمام الكاظم (عليه السلام)
أربعون حديثا عن الإمام الهادي (ع)
مختارات من كلمات الإمام الخامنئي حول عظمة السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)
مبادئ الإمام الخميني العرفانية
أربعون حديثاً عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
ماذا يقول شهداء الدفاع عن العقيلة؟.. الشهيد السيد إبراهيم في وصيته: لقد ذهب زمان ذل الشيعة+ صور
شهيد المحراب (الثالث) آية الله الحاج السيد عبد الحسين دستغيب
تقرير مصور عن شهداء الحجاز الذين استشهدوا في جبهات الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية