الشهيد سعود الحماد.. وأربع صفحات من سفر الخلود
الصفحة الأولى:
استرخى سعود الحماد على مقعده في الطائرة الذاهبة إلى قطر والتي سيغادرها إلى المنطقة الشرقية بالسيارة… أغمض عينيه وأخذ يتذكر عبارات أبي عبد الله الحسين (ع) التي قالها في دعائه يوم عرفة… كان يحلم بالوصول إلى بلدته ليقرأها لوالدته ووالده… تخيل والديه وهو يقرأ عليهما هذه العبارات في كتاب الأدعية الذي جلبه لهما كهدية … ستنحدر دموعهما على خديهما وهما يسمعان قول أبي عبد الله الحسين (ع): الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ولا لعطائه مانع ولا كصنعه صُنْعُ صانع، وهو الجواد الواسع، فطر أجناس البدائع وأتقن بحكمته الصنائع، لا تخفى عليه الطلائع ولا تضيع عنده الودائع، جازي كل صانع ورايش كل قانع وراحم كل ضارع… اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك وأسعدني بتقواك ولا تشقني بمعصيتك وخرْ لي في قضائك وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب تعجيل ما أخرّتَ ولا تأخير ما عجّلْتَ … يا الله يا بَديءُ يا بديع لا نِدّ لك، يا دائماً لا نفاد لك، يا حياً حين لا حيَّ يا محي الموتى، يا من هو قائم على كل نفس بما كسبت، يا من قلَّ له شكري فلم يحرمني، وعظمت خطيئتي فلم يفضحني، ورآني على المعاصي فلم يشهرني...
سجد في داخله خشوعاً لعظمة أبي عبد الله الحسين (ع) ما أروع ذلك… أبو عبد الله الحسين (ع) يعبر عن قمة العبودية لله سبحانه وتعالى في عرفة بكلماته التي هي دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين… ثم يعبر عن هذه العبودية عندما يقف في جموع الظلام التي تظافرت لتحاول ان تطفئ نور الله، وبعد أن قدم أولاده وأهل بيته وأصحابه صرعى دفاعاً عن الحق واحداً بعد واحد… إن كان دين محمد لم يستقم إلاّ بقتلي فيا سيوف خذيني .. اقشعرّ بدن سعود فسقطت من عينيه دمعة ساخنة عندما مرّت حادثة كربلاء في مخيلته… انتبه سريعاً ومسح دمعته خشية أن يراه أحد الظلمة لأنه يعرف ابتداءً أن كل ظالم هو مبغض للحسين (ع)، فهي تخرج كسهم ناري يحرق ذواتهم الخاوية…
الصفحة الثانية:
استيقظ رجل المباحث القطري من نومه بعد أن قضى ليله في شطرين… الشطر الأول يفكر في كيفية الظفر بصيد يتقرب به إلى أولياء نعمته، ثم ينتقل في تفكيره إلى المقارنة بينه وبين جلاوزة يزيد والحجاج، ترى هل كانوا أفضل منه في اصطياد فرائسهم أم كانوا مثله يعيشون قلقاً عندما لا يجدون ما يتقربون به إلى أولياء نعمتهم… هكذا ينهي الشطر الأول من ليله، ثم بعدها يبدأ شطره الثاني بإراحة ضميره باللعب مع أحد غلمانه! حتى ينال منه التعب فيسقط كالبهيمة نائماً…
ها هي الطائرة قادمة من إيران ولعل فيها صيداً ثميناً… أخذ سيجارة في داخلها شيء قد هيّأها له خادمه الهندوسي… أخذ منها نفساً عميقاً بعد أن أشعلها بيد ترتجف… أحس بشعور وحشي يجتاح داخله… كان يعرف أن هذا المؤشر يعمل عندما يكون هناك صيد… أخذ يبتسم بنشوة وهو يجيل بنظره على الركاب المحشورين في قاعدة التفتيش وفجأة توقف نظره على شاب يمتلئ حيوية وثقة بالنفس رغم سحنة الحزن البادية على وجهه وهو ينظر أمامه بعينين صافيتين أثارت رعباً في داخله…
ـ ما هذا الكتاب؟ سأل الشاب وهو يتصفح كتاباً كان سعود قد أخفاه في داخل حقيبته.
أجاب الشاب بقلق:
ـ هذا كتاب أدعية.
رفع رجل المباحث عينيه من الكتاب وصوبها إلى مسعود وقال بسرعة:
ـ إذن تفضل معي إلى غرفة الاستعلامات لانجاز بعض الأمور.
سار معه سعود وعند دخوله غرفة الاستعلامات التي هي في الحقيقة غرفة رجل المباحث، استدار إليه هذا الرجل وأصبح في مواجهته قبل أن يقول له:
ـ من أين لك هذا الكتاب الذي يشكل خطراً على الأمن والدين والدنيا؟.
ابتسم سعود وقال:
ـ أية خطورة بهذا الكتاب وهو كتاب أدعية وزيارات؟
لم يرد رجل المباحث على تساؤل سعود واتجه صوب التلفون…. سمع سعود كلمات رجل المباحث وهو يتكلم بفرح لرجل عبر التلفون:
ـ سيدي ألقينا القبض على احد المجرمين القادمين من إيران وهو يحمل كتب ممنوعة ونشرات ضد أشقائنا السعوديين!
الصفحة الثالثة:
جلس العقيد (…) خلف منضدة خشبية من الساج المصنوعة في الولايات المتحدة، يبدو ذلك من علامة الصنع الملصقة على جانب المنضدة … كان يبدو عليه انه ينتظر شيئاً مهماً… بعد قليل دخل عليه م. أول (…) وأخبره أن المجرم الذي اعتقله القطريون قد وصل يوم أمس.
بادره العقيد (…) على عجل قائلاً:
ـ لقد تأخر علينا كثيراً ما الخبر؟!
أجابه م. أول (…) بشيء من السخرية:
ـ سيدي بدا للأخوة القطريين أن يضيفوه في ليلة القدر في زنزاناتهم.
ـ طيب اجلبه فوراً.
قال ذلك العقيد (…) بصيغة الأمر.
كان سعود قد سمع بوحشية أزلام النظام السعودي، لكنه لم يكن يتصور أن يكونوا بهذه البشاعة، فعندما استلموه من السلطات القطرية وهو مكتوف الأيدي ومعصب العينين شعر أن هناك حيوانات في حالة جوع لافتراس أي فريسة تقع بين أيديهم؛ فبمجرد أن أصبح في حوزة هؤلاء انهالت عليه قبضات الأيدي على تمام الوجه وقبضات البنادق على رأسه، بعدها لم يشعر بشيء إلاّ في صباح اليوم الثاني عندما أحس بآلام في جميع جسمه لا يستطيع أن يتحسسها بسبب تكتيف يديه… جاءه احد الجلاوزة بشيء من الطعام بعد أن فك القيود عن يديه ورفع العصابة عن عينيه… شعر سعود أنه لا يستطيع أن يرى الأشياء بوضوح … تلمس وجهه فوجد عينيه متورمتين وقد يبس الدم على وجهه في خطوط متشابكة… لم يمد يده إلى الطعام… ركله الرجل البدين الذي كان يراقب حركاته ثم قال:
ـ تناول طعامك يا كافر.
أجابه سعود بصوت خافت.
ـ لا اشتهي طعاماً، وإنما أريد أن اغسل وجهي.
أجابه الرجل البدين بصوت أنكر الأصوات.
ـ العقيد (…) يطلبك فاستعد.
كتّفه من جديد ووضع العصابة على عينيه، ثم قاده في ممرات شعر سعود برطوبة الجو فيها، فأدرك أنها تحت الأرض ولا تصلها الشمس … ثم بعد ذلك أخبره مرافقه أن يستعد لصعود سلم طويل… مسكه من كتفه وتتبع معه درجات السلم… شعر أن قواه بدت تنهار .. أخبر مرافقه أنه لا يستطيع الاستمرار في الصعود، فأجابه: استمر بعد أن دفعه بقوة… سقط سعود على السلم. … سحبه الرجل البدين… شعر سعود بآلام شديدة في جبهته وأنفه… لم ينقطع سعود من التوسل إلى الله عز وجل بأبي عبد الله الحسين (عليه السلام) أن يلهمه القوة في مواجهة هذه الحيوانات المفترسة.
أخيراً وصلوا إلى نهاية السلم، وبعد أن مشوا عدة خطوات أوقفه الرجل البدين… بعد قليل سمعه يتكلم مع أحد الجلاوزة قائلاً.
ـ سيدي سعود الحماد في الباب ينتظر، ولكنه رفض أن يتناول طعاماً.
فأجابه وهو يتجه إلى خارج الغرفة:
ـ ذلك غير مهم فالعقيد (…) ينتظرنا.
وقف سعود أمام العقيد (…) الذي كان يقرأ بورقة بيده ثم وجّه كلامه إلى سعود قائلاً:
ـ سعود الحماد من مواليد 1962 م، أتم دراسته حتى الصف الثاني المتوسط.. هل هذا صحيح؟
فأجابه سعود بثقة:
ـ نعم صحيح.
ـ طيب، أنت شاب تبدو عليك السذاجة؛ فاخبرنا من أعطاك هذه المنشورات ولمن ستسلمها؟
لم يتأخر سعود في الإجابة وإنما عاجله قائلاً:
ـ أية منشورات؟ أنا لم احمل منشورات.
استشاط عقيد (…) غضباً وصرخ بوجه سعود:
ـ أليست هذه منشورات والتي تتحدث عن طلب الثأر… وأي ثأر هذا؟!
ابتسم سعود ثم قال:
ـ هذه زيارة للحسين عليه السلام الذي هو ثار الله…
ضحك العقيد (…) بسخرية وقال:
ـ هل لله ثأر؟!
في هذه اللحظة شعر سعود أن قوة عظيمة قد نزلت عليه، وأحس أنه يمتلك من العزة قدراً بحيث جعله لا يشعر بوجود هذه الحيوانات المفترسة… أحس بنشوة تشبه تلك النشوة التي كانت تجتاحه وهو يتنقل مع الأصدقاء بين بساتين النخيل وهم يستمعون إلى الحاج (مسلم) وهو يحدثهم عن ملحمة كربلاء… اخذ يردد بصوت حزين زيارة وارث…
استفاق من نشوته على زعيق العقيد (…):
ـ لم تجب عن سؤالي، هل لله ثأر؟!
فأجابه سعود بكل العزة التي تملّكته، وقد قرر حسم الأمور:
ـ نعم أن الله عز وجل أراد أن يتم حكمه في الأرض من خلال خلفائه، فقام الظلمة بقتل هؤلاء الخلفاء، فأصبح ثأر خلفائه هو ثأر الله.. فالظلمة عندما قتلوا خليفة الله قد أصبحوا هم المتصرفين بشؤون العباد في كل عصر… فأمريكا حينما تتحكم بشؤوننا من خلال الظلمة الصغار، فالقضاء عليها وعليهم هو ثأر الله…
الصفحة الرابعة:
قال الحاج (مسلم) للشاب الذي يحاذيه في مسيرة التشييع:
ـ هكذا يفعل دم الشهداء… إنها ثورة وليست تشييع، فرغم أوامر السلطة بعدم تشييع الشهيد سعود الحماد إلاّ أن الجميع أصرّوا على إظهار غضبهم من خلال هذا التشييع المهيب.
عض الشاب بأسنانه على شفتيه ثم التفت إلى الحاج (مسلم) قائلاً:
ـ أول الغيث قطر ثم ينهمر… هذه بداية الطوفان… سعود الحماد معنا ولم يغادرنا.
رد عليه الحاج (مسلم) بصوت مليء بالتحدي ومشوب بالأسى بترديد الآية الكريمة (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون).
تعليقات الزوار