Skip to main content

الشهيد مهدي زين الدين

التاريخ: 02-08-2007

الشهيد مهدي زين الدين

الشهيد مهدي زين الدين قائد فرقة علي بن ابي طالب (ع)   البيت الطاهر   القائد المغوار الذي نتحدث عنه هنا هو ثمرة لحياة طيبة عامرة بالجهاد والعشق

الشهيد مهدي زين الدين قائد فرقة علي بن ابي طالب (ع)

 

البيت الطاهر

 

القائد المغوار الذي نتحدث عنه هنا هو ثمرة لحياة طيبة عامرة بالجهاد والعشق. فالبيت الذي أطلَّ منه على الحياة وكان منطقة ليبلغ في خاتمة المطاف هذا المقام الرفيع، تميز بأجوائه وأطباعه الخاصة به، فقد كان عَبِقاً بنفحات القرآن والعشق للولاية، وكان حب الخميني طاغياً على هذا البيت بكل آناته.

 

ولا مفرٍ من تصفح سفر حياة "مهدي" إلاّ بين جنبات هذا البيت، فلكل من صفحة هذا السفر قصتها؛ وياليتنا كنا قرأنا هذه الصفحات سطراً فسطراً، فأكثرها عبرة تلك التي تصور لحظات خلوته وتأمله وعبادته وشهادته، ويا حسرتاه فهي بعيدة المنال، فلم يكن هنالك من يشارك الحبيب خلوته، وأنّى لنا بالسبيل الذي يدلّنا على ديار خلوة هؤلاء الوالهين.

 

إذن لنتصفح بعضاً من هذه الصفحات عبر شهادة أصدق الشاهدين على هذه الحياة، إنهم أسطورة الصبر والإيثار.. والده ووالدته وزوجته المتفانية، وعلى امتداد أشد فصول هذه القصة إثارة نلمس حسن الاختيار، ونشهد المنعطفات التي رسمها في حياته بنفسه ليحركها بالاتجاه الذي يرنو إليه.

 

وحلَّ ربيع الخير...

 

انطلاقة الحياة، جلال الولادة، البهجة المترشحة عن نبضات القلب الصغير، أيّ غدٍ انتصاره؟ أو ليس الدم الجاري في عروق الزمان هو الزخم الذي تدر به نبضات هذه القلوب الصغيرة؟ إذن لا بد من التفكير بسعادته منذ اللحظة، والأم هي التي تنهض بهذه المسؤولية:

 

"كانت ولادته بطهران في شهر مهر من العالم 1338هــ.ش، وبولادته تضاعفت مسؤوليتي؛ فقد شعرت بأن عليّ إحاطته بالنحو الذي يفرضه عليّ الله ورسوله، ووالده الذي انحدر من أسرة متدينة كان يشدد على هذا الأمر. كنت شديدة الحرص على أن أكون متوضِّئَةً حين إرضاعه.. وكذا الحال بالنسبة للجانب العاطفي، فقد تنعّم أولادي به بشكل تام لأنني سخرت جلّ قواي من أجلهم، لعلمي بأن البنية التحتية لتربية هؤلاء الأبرياء إنما تتبلور منذ أوان طفولتهم ولابد أن تقوم على أساس عقائدي، وهكذا فقد ألزمت نفسي بهذه المسؤوليات".

 

عقل وقّاد

 

الخطوات الوثابة هي تلك التي يسيرها عقل وقّاد، والحياة التي نقطع أشواطها هي التي تجر أثرها الأقدام الصغيرة، ودرب المدرسة أول درب يسلكه وحيداً عاشقاً؛ وعبر هذه الخطوة الأولى تفوح على محيّاه الإرادة والعزم؛ يجب أن يتقدم، أن يدرس... وما أسرع أن يحلّق.. مازالت ذكريات هذا التحليق عالقة في ذاكرة الأم:

 

"كان موهوباً منذ البداية؛ فلقد تعلم القرآن دون معلم منذ طفولته، ولما بلغ الخامسة من عمره هاجرنا ــ لأسباب ــ من طهران إلى خرم آباد. أودعناه في روضة "ملّي" للأطفال وكان صاحبها رجل متديناً، وحين بلوغه السادسة أدخلناه مدرسة خصوصية وواصل دراسته فيها حتى الصف الخامس، حيث كان يحرز المرتبة الأولى أو الثانية في كل عام وينال عالي الدرجات، ونظراً لما كان يتوسم فيه من نبوغ فكري فقد راودتنا فكرة نقله من الصف الخامس إلى السابع مباشرة، فأدى الامتحان خلال موسم الصيف لينتقل إلى الصف السابع مستهلاً المرحلة المتوسطة بدرجات ممتازة، فكان يصغر زملاء درسه في هذه المرحلة بسنتين! إنه كان متوقد الذكاء والفطنة".

 

مُعين مخلص

 

الرجل الذي كان يداعب بيده الحياة بتفاصيلها، كان يشارك بأعمال البيت والمكتبة دون أن يطالبه أحد بذلك، فوجد الوالدان فيه ذلك المُعين الصالح المفعم نشاطاً وذكاءً الذي ينجز عمله بدقة وإتقان.. للأم ما تبوح به عن هذا المُعين المخلص:

 

"لقد كان ينجز ما نعهد إليه من عمل على أكمل وجه؛ فهو الذي كان ملتزماً مهمة شراء حاجات البيت منذ نعومة أظفاره حتى وهو يطالع دروسه.. كان نقياً مخلصاً وهو يعين والده في توفير الكتب الدراسية والدينية للناس، مواظباً على هذا العمل مذ كان صغيراً، أي إنه كان معيناً لوالده بحيث لم يكن يطلّ برأسه ووجهه من خلف طاولة المكتبة، فقد كان من الصغر ما دفع بالبعض إلى انتقادنا متسائلين: لم تتركون هذا الطفل في المكتبة؟! ولكن لم يبح أحد منا بذلك أمامه، فهو الذي كان بنفسه مندفعاً للمساعدة على الدوام، فلقد كان يقوم بما هو أكبر من حجمه من الأعمال، كان منظماً ذا تصميم وإدارة".

 

نداء من الملكوت

 

نداء من الملكوت يدعو للنقاء والطهارة.. والصلاة على مائدة العشق زاد ذلك العاشق؛ فيسجد على أعتاب الحب الإلهي.. عشق الولاية والقرآن استقرّ في ذلك الفؤاد الطافح بالمحبة، وكأن هنالك من يداعب أسماعه بترانيم الحبيب.. والوالد كان قد سمع ذلك النداء:

 

"منذ طفولته كان شديد التعلق بالقرآن وتلاوته وتعلمه وتفسيره، والمحافل الدينية من قبيل دعاء الندبة ودعاء كميل، وكان يشارك في أي محفل تقع عليه عيناه بعد التشاور معنا وتشخيصه، بل كان مشرفاً على مجلس يومي في خرم آباد يشارك فيه اثنان من السادة الذين كانوا يتولّون مهمة تعليم الأطفال".

 

من هذا الشيخ؟

 

من هذا الشيخ العجوز والمعلم الذي يدعوه إلى الله؟ إنه رجل من العظماء نفاه بلاط الجور.. عالم زاهد تستعر في فؤاده نيران التولّي والتبرّي؛ يمسح بيده على صدر هذا التلميذ ليلهمه الجهاد رويداً رويداً.. يقول الأب مخلّداً ذكر المعلّم:

 

"بدأت نشاطاته السياسية [مهدي] عند قدوم [الشهيد] آية الله مدني إلى خرم آباد، كان يكنّ حباً وانشداداً عجيباً له حتى غدا منجذباً إليه "رحمة الله عليه". كان يحضر محاضراته جميعاً، بل يلازمه حتى في بيته متى ما ظفر بوقت فراغ.. وهناك تعلم السياسة والجهاد.

 

كان ذلك الرجل الفذ والعالم الجليل، رجل الجهاد، يذللّ جناحه ساعات وساعات بكل تودد وشوق مجالساً أولئك الشباب، صبية الأمس وليوث اليوم، يعلمهم ما ينبغي أن يتعلموه.. لقد تبلورت في روحه [مهدي] الكراهية لنظام الشاه منذ الطفولة، ولكن باتصاله بآية الله مدني اتضح وبان الداعي في أن نحتفظ بهذه الكراهية".

 

روح الجهاد

 

الروح التي خامرها القرآن وأهل البيت والصلاة والدعاء وترعرعت في مثل هذه الأجواء الطاهرة العابقة تستبطن صراعاً لا هوادة فيه مع المظاهر الطاغوتية. أخذ حس المقاومة ومقارعة النظام يتبلور داخل كيانه تدريجاً ويسوقه نحو أول ميدان للمقاومة والصراع.. يتحدث الوالد عن أول صفحة من صفحات الجهاد فيقول:

 

"كان حزب رستاخيز في طور التشكيل؛ وأبناء الشعب الإيراني يعلمون جميعاً ورأوا بأم أعينهم أن الانخراط في هذا الحزب كان يفرض على الناس عنوة، في الدوائر والتجمعات والمدارس.. حيث كانوا يجبرون الطلاب وهم داخل الصفوف على التوقيع في سجل العضوية في حزب رستاخيز البغيض. في خرم آباد على عرضها عثروا على أن اثنين من الشباب رفضا الانحراط في هذا الحزب، أحدهما مهدي والآخر صديقه، فما كان من مدير المدرسة إلا أن ضايقهما ساعات متتالية، فيما أخذ مشرف المدرسة يهدد مهدي الذي رد عليه بكل حزم قائلاً: لن أنتمي.. فاستدعوني وفاتحوني بالأمر، فأجتبهم: أو لم تقولوا إن البلاد تنعم بالحرية؟! وهذا ولدي توصل إلى أن لا ينخرط في هذا الحزب. فكان أن توصلوا إلى طرده من المدرسة"!

 

جندي باسل في درب الثورة

 

الوالد يسلك طريق الجهاد ضد الطاغوت فيقتاده الأوباش نحو المعتقل والنفي. والولد يحمل في صدره قلب أبيه فيتصدى بكل بسالة وتيقظ للأخطار محافظاً على الخندق الذي تركه أبوه، فوجدت الثورة جنديها الشاب الباسل في خرم آباد.. عن فترة الجهاد يتحدث الوالد:

 

"خلال الأيام التي كنت فيها رهن الاعتقال لم يتوقف مهدي عن نشاطه ولم يتسرب إليه الخوف ليقول إن والدي الآن رهين السجن فلأدع نشاطي جانباً! لقد تكفل مهمة توزيع الخُطب التي كنا قد أعددناها سابقاً حتى جاء يوم الخامس من شهر فروردين عام 1357هــ.ش حيث طوقت دارنا مجموعة مسلحة قوامها 20 شخصاً تقريباً تابعة لدائرة الشرطة فاعتقلونا، في تلك الأثناء بادر مهدي لإفراغ المكتبة من كل ما يعرف ضرورة إخلائه ثم قام بشجاعة وكياسة بوضعها في كارتون بسيط ورماها في الشارع بحيث تصور عناصر النظام أنها من القمامة!"

 

حسن الاختيار

 

لهيب الثورة حاق بالطاغوت وأخذت المدن بالانضمام إلى النهضة الإسلامية واحدة تلو الأخرى، وهنا كان ــ مهدي ــ على اعتاب تطور ربما يضمن له مستقبل حياته، بيد أن هذا الظرف اقترن مع نفي والده إلى (سقز)، فلئن دخل الجامعة فستخلو المكتبة التي هي خندق الصراع.. تقول الأم وهي تمتدح اختيار ابنها:

 

"دخل الامتحان العام لعدة مرات ونجح، لكنه كان يمسك عن دخول الجامعة لأن الفروع التي يقبل فيها لم تكن محط رغبته، ولما اقتيد أبوه إلى المنفى كان قد حاز المرتبة الرابعة للدخول إلى جامعة شيراز، وكنّا وقتها في سقز، فأبرق معلناً انصرافه لإيمانه بضرورة المحافظة على مكتبة والده لما تمثله من خندق للمقاومة بوجه الطاغوت.

 

كانت لنا ــ بطبيعة الحال ــ رغبة شديدة في أن يواصل دراسته، وقد أثار فينا القلق حين أعلن انصرافه عن الدراسة، ولكن كما قلت آنفاً بما أن قراراته كانت عقلائية ومدروسة وقائمة على المحافظة على مصالح الإسلام فقد كان يعقد ألسنتنا عن الكلام"

 

نصير الإمام

 

ها هو عرف الإمام الخميني، ذلك الإمام المجاهد الذي حمل الرسالة التي فيها حرية الإنسان وشموخ الإسلام في عصر الجاهلية الحديثة؛ ونداء الصحوة الذي أطلقه الإمام أخذ يستقر في فؤاد مهدي وروحه مّما جعله يرى سبيل سعادة الأمة في اقتفاء أثره وطاعته، ومنذ ذلك الحين لم يبتعد هُنيئة عن حب الإمام الخميني.. رائع الاستماع لخبايا هذا الحب على لسان الأب والأم:

 

"لنا الفخر في أننا تشرفنا بصحبة أم مهدي بزيارة النجف الأشرف يوم أربعينية السيد مصطفى والحضور في درس الإمام حيث انعقد الدرس يومها... وكنا قد اصطحبنا في عودتنا الشريط الذي سجل عليه ذلك الدرس إلى جانب كتب الإمام وصوره، فقام مهدي بتوزيع الصور على أصدقائه وصحبه ومن يرى الصلاح في إعطائهم الصور، وراح يستضيف الآخرين لسماع الشريط".

 

"مع انطلاقة الثورة بدأ نشاطه الدؤوب الذي لا يعرف الكلل و استمر مع الثورة يغلي ويتفاعل مزمجراً إلى جانب أمواج هذا البحر الهادر مواصلاً مسيرته بثبات خلف ربان هذه السفينة، هذا الإمام العزيز الجسور، ولم ينثنِ أبداً، فأضحى نصيراً مخلصاً للإمام، وبقي على ذلك حتى الرحيل".

 

اختيار آخر

 

إن الله يزيد في تمحيص رجاله ليختاروا طريقهم في ضوء التكليف الذي يرون فيه رضاه، الله. وعلى أساس مقتضيات المجتمع الإسلامي، ليجزل لهم الأجر والعطاء.

 

اختبار آخر يحلّ، وبعد تشخيص صائب منه [مهدي] وفي تلك الظروف، يختار طريقاً يعلم أن فيه رضى الله سبحانه.. ما تزال خاطرة ذلك الاختبار عالقة في ذاكرة الأم:

 

"لم يتخلَّ عن فكرة مواصلة الدراسة، وكثيراً ما كان يود ذلك ويقول: "الدراسة في الخارج هي الأفضل، وبوسعي مواصلة الدراسة". وجهد من أجل ذلك، وبالفعل فقد جاءه القبول من فرنسا وأكمل استمارته، ولم يبقَ إلا تذكرة الطائرة لغرض المغادرة من أجل الدراسة.. يومذاك ــ حيث كانت الثورة تتنامى وعلى وشك بلوغ مرحلة قطف الثمار ــ راوده التردد بين المغادرة والمكوث، فترجه إلى آية الله جنتي الذي قال له: "نحن الآن بحاجة إلى القوى الإنسانية المؤمنة الملتزمة، ومن الأفضل لك البقاء".. فرأى الصلاح في أن يبقى، فبقي.

 

لقد كنت أود له مواصلة دراسته لما يتميز به من مواهب، ولطالما كنت أنظر إلى وثائقه والحسرة تتملكني، حتى أينعت الثورة والحمد لله".

 

الدفاع عن الثورة

 

لمّا انتصرت الثورة لم يكن هنالك من شاغل يشغل أبناء الإمام سوى إعادة البناء، فأقبلت حشود الشبيبة نحو جهاد البناء لإزالة آثار الدمار الذي خلفه النظام الملكي الجائر، بيد أن جرح العدو أعمق من أن يدع الوطن الإسلامي وشأنه، فكانت المؤامرات والحرب ونيران نقمة العدو وضغينته تنصبّ على الثورة، ولم يعد مسوغاً التقاعس، فالثورة طموح الأب وهو الذي يدفع الابن للمحافظة عليها:

 

"عندما انتصرت الثورة ــ والحمد لله ــ وجرى تشكيل جهاد البناء، استأذنني للانخراط فيه لعدة أشهر، فانضم إليه، والأخوة في جهاد البناء خير من يعلم ماذا صنع في جهاد البناء، ولمّا تأسس حرس الثورة الإسلامية كان من أوائل الذين بادروا للانتساب إليه.

 

وحيث اندلعت المعارك في كردستان توجه إليها متطوعاً ــ كما نقل رفاقه وصحبه في الحرس الثوري ــ ولعل الذين أقلّهم الباص لم يرجع منهم إلا أربعة أو ستة أنفار، أما الباقون فقد نالوا وسام الشهادة الرفيع، ولعل إرادة الله قضت بأن تعود هذه الثلة ولاسيما مهدي ليتوجهوا إلى ساحة الحرب بين إيران والعراق".

 

رجل الوغى

 

تعرض الوطن لأشد هجوم، والمحافظة على الثورة تكمن في التواجد التضحوي والاندفاع نحو الإيثار، وساحات العشق والوغى تجسدت فيها أبهى صور الاعجاز التي طبعت وقائع الثورة، فكانت أفضل فرصة له ــ وهو الذي خبرته الميادين على اختلافها ــ ليذود عن أحب آماله.. وأصدر الإمام الأمر بالدفاع المقدس.. الأم التي تجسد صورة لسيدة كربلاء هكذا تترنم بملاحم ابنها:

 

"واندلعت الحرب، فدخل دورة تدريبية في الحرس الثوري، ثم توجه نحو سوح الصراع بين الحق والباطل وعرصات الذود عن بلدنا الإسلامي، فقاتل وقاتل ولم يتطرّق إليه الملل أبداً، وما غفت عيناه قط؛ أي لم يشغله نوم ولا طعام ولا أب ولا أم ولا زوجة ولا أطفال ولا حياة في المدينة ولا عيادة مريض ولا حضور في مراسم زفاف.. فلقد سلك طريقاً واحداً هو ذاك الطريق القويم الذي رسمه الله سبحانه وبذلك الوعي الذي ألهمه سيد الأحرار الحسين (عليه السلام)، وبقي صائناً لحريته مانحاً الدرس لأبناء وطنه ورفاق دربه ولأهل زمانه وللسالكين طريق الحقيقة".

 

رفيقة درب صبورة

 

كان يقال له: لم لا تتزوج؟ فيجيب: نحن رجال حرب، ومن النادر العثور على المرأة التي بإمكانها تحمل مشاق الحياة معنا، وإلا فأنا على أهبة الاستعداد للزواج.

 

لكنه بعد حين وجد رفيقة الدرب الصبورة... وها هي تتحدث عن زوجها وعظمته وعزوفه عن الدنيا:

 

"خلال أول لقاء لي به صارحني بكل الأمور، فكان يقول: "الشهادة خاتمة طريقي، ولو انتهت الحرب ولم أظفر بالشهادة فإنني سأتوجه إلى حيث يكون صراع بين الحق والباطل كي أظفر بها".. ونظراً إلى أنه قد طرح أمامي سلفاً مشكلة غيابه عن البيت فقد هان تحملها وتجرعها بالنسبة لي، وحيث إنه كان يكثر الكلام، فقد كان يأمل من الجميع أن يرضوا عنه، وبالرغم من ذلك لم يكن ذا انشداد بالبيت حتى إنه صرح قبل أن تولد ابنتنا: ربما لا أكون موجوداً، وبالفعل لما ولدت لم يكن حاضراً، ولما علم بالأمر بعد ثمانية أيام سجد لله شاكراً، وحيث صادفت ولادتها يوم التاسع من محرم فقد آثرنا تسميتها "ليلى"، وطالما كان يردد: أسأل الله أن تتربى ابنتنا على الشجاعة والصبر كأم علي الأكبر".

 

قائد كفوء

 

لم يكن يعرف الهدوء والاستراحة في الجبهة، فيدنو وحيداً دون وجل من الخطوط الأمامية للعدو، لأن استطلاع أوضاع المنطقة يعد من أهم الأعمال التي تسبق العمليات، ولطالما بقي يفكر بالأهم دوماً.. كفاءته هي التي تسلقت به إلى حيث القيادة وإن كان يهوى البقاء مقاتلاً مجهولاً، فلم يكن أبوه على علم بأنه قائد:

 

"توجهت ذات يوم لزيارته.. حينها كان موقعه في مقر الحرس الثوري بــ (دزفول)، وكان دخولي إليه صباحاً، فقلت: أريد مهدي. قيل لي: ما يربطك به؟ قلت: أنا أبوه. أجابوني: هو الآن في الاجتماع، وعليك التريث حتى ينتهي الاجتماع.. فمكثت حتى خرج، وإذا به يبادلني الحديث لما يقرب من ثلاث دقائق فقط، ثم قال: "عفواً يا أبه، فإنني استأذنك لأنني مشغول"! فحمل ما كان معه من آلات خاصة ووسائل واستقلّ الحافلة وذهب، ثم خرج خلفه الأخ محسن وغيره ممن لم أكن أعرفهم وغادروا أيضاً.. وربما مضت أشهر عديدة على تعينيه آمر لواء ومن ثم قائد فرقة ولم نكن نعلم بطبيعة مسؤوليته في الحرس الثوري، ولم يصرح هو بذلك لنا! حتى شاع أمر هذه المسؤولية وجاءنا الآخرون ليخبرونا بأن مهدي أصبح قائداً لفرقة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)! فكانت ميزته أنه لا يجب الظهور، لأن أعماله كانت لله سبحانه".

 

قائد في الثالثة والعشرين من عمره

 

في شهر اسفند من عام 1360هــ. ش وأثناء بناء التشكيلات القتالية لحرس الثورة الإسلامية شهدنا تواجداً ونشاطاً لوحدة عسكرية تحمل اسم "لواء 17 علي بن أبي طالب" في ساحة الحرب؛ وكنا على أعتاب عمليات رمضان، فأصبح من الضروري تعيين آمر جديد، ولكن من الذي يتعين اختياره؟ فلا يكفي في جيش الإسلام أن يتميز القائد بمهارته القتالية ولا أن يكون مجرد خبير بالشؤون العسكرية لعجزه عن رهبان عباد الليل وليوث النهار؛ فرجال هذا الركب لهم طبيعة أخرى ولا قدرة لأي كان أن ينهض بأعباء قيادتهم.

 

يجب أن يكون القائد قدوة، أنموذجاً متكاملاً؛ والجدير بقيادة "جيش العشق" من كان "أميراً للعشق"، من تجذّر حب المعبود في كل واحدة من خلاياه، باحثاً عن الشهادة، رجل المواقف الصعبة في الصراع، بطلاً في الصبر والاستقامة؛ وهذه بأجمعها قد تجمعت لدى "مهدي" فلا داعي للبحث فقد تسمرت الأنظار بوجهه، وهكذا يعثر "لواء 17 علي بن أبي طالب (ع) على قائده القدير، فأصبح [مهدي] صاحب راية الحسينيين وهو في الثالثة والعشرين من عمره.

 

ومنذ الآن ستزداد معرفتنا بــ "مهدي" وهو يتسنّم هذه المسؤولية الكبرى والواجب الجسيم؛ ومرة أخرى نتخطى معه داخل ميدان الحرب.

 

مطلع الفجر

 

ويستمر خط الجهاد والشهادة، فتارة يجتاز ألف صف من النيران كي يعبر بالوالهين إلى حيث أجنحة الملائكة، وأخرى يخترق قمم الجبال الشواهق كي يفتح طريقاً إلى "قلل الملكوت"، أنّى هذا الغدو والرواح واقتحام حقول الألغام وإقحام البدن بين الصخور، وهذا السعي "بين الصفا والمروة" الذي يجري تارةً في قلب صحراء الجنوب وهي تلتهب نيراناً، وأخرى في الغرب حيث منعطفات الجبال، والخلاص من مصيدة عبيد الدنيا، أنى لكل ذلك أن يهون إلى جانب كل هذه الغربة والمظلومية؟! ومن أي منهل تستمد القدرة؟ فهل هذه القدرة والصلابة هي "الهمة العالية" و"البصيرة التي يملؤها التفاؤل" فنبادر إلى تكليفنا والباقي على الله سبحانه.

 

أجل، خط الجهاد والشهادة خالد على امتداد الآفاق وها هو يطل ثانية مع طلوع "الفجر" وها هي "الفجر التمهيدية" تخلّد "فكّة"؛ ففي تلك الليلة لو كنت تتطلع من السماء إلى ذلك السهل لأبصرت آثار النور في كل بقعة منه.

 

في تلك الليلة كانت أقدام أبنائنا تطأ الرمال وأيديهم تمسك بالأسلاك الشائكة، ولابد من صب الحمم على رأس العدو وإن قبع في قعر جبنه، فلا ينبغي الركون إلى الراحة حتى تلك اللحظة التي يتعين فيها القتال.

 

ما زالت قلوب التعبويين تصنع الفجر مقتدية بأوامر إمامها؛ وتمضي عمليات "والفجر" الواحدة تلو الأخرى و"مهدي" يقود فرقة علي بن أبي طالب (ع) في كافة الميادين متقدماً بها في درب العز والفخار. وعلى أعتاب عمليات "والفجر" وأثناء توجيهه لآمري الأفواج، وبعد أن شرح لهم المصاعب والأخطار التي تتخلل العمليات، كان له حديث ملحمي قال فيه:

 

"لقد أسسنا عملنا على ما بوسع الجمهورية الإسلامية ووسعنا، أما ما تبقى فعلينا الاتكال فيه على الله؛ فمن خصال جند الإسلام ــ وهي تلك التي اعتمدناها منذ بداية الحرب ــ هي التوكل على الله.. هذه هي إمكانياتنا، وتكليفنا القتال، ولا قدرة لنا على فعل ما يفوق ذلك، بل نوكل ما تبقى إلى الله سبحانه، وإننا سندرك النجاح عبر الاتكال على الله، وما علينا إلا اجتياز الاختبار معتمدين على حول الله وقوته".

 

التأسّي بسيدة كربلاء

 

للشهيد علقة لا تنفك بمبدئه، وهذا المبدأ المقدس الخالد هو الذي يهوّن مصيية افتقاد الشهيد؛ وحيث إنه اختار طريقه بنفسه وسلكه مفتخراً وآل أمره إلى خاتمة أكثر فخراً، فينبغي عدم السماح لهول الفاجعة أن يفضي إلى الوهن والتزلزل.

 

يجب التحلي بالثبات والصلابة في سبيل الدفاع عن خط الشهيد، ولا بد من استلهام العبر من زينب (ع) التي تغلبت على المأساة وصنعت الملاحم لتطرق رسالة الشهيد أسماع العالمين، وهكذا فعلت أم مهدي زين الدين.

 

كانت محقة إذ يخيم عليها الاضطراب وتفقد القدرة على الوقوف على قدميها لهول المصاب؛ لكنها لم تكن تسمح للتزلزل أن يستحوذ عليها، فعليها أن تنادي برسالة أبنائها الشهداء بصوت جهوري وهكذا سرعان ما تسامت هذه الأم الثاكلة من عمق المصاب إلى عنان الملاحم باسترشادها ببطلة كربلاء؛ وحيث إنها سطرت الملاحم وهي تدافع عن خط أبنائها الخالد، فإننا نحاول تعقّب المزيد من تفاصيل هذه الملاحم عبر لسان زوجها:

 

"حينما انطلق موكب تشييع الجنازة، خرجت السيدة من الدار، وما أن سارت خطوات حتى قالت: لا طاقة لأقدامي ولا قدرة لي على المسير؛ فجيء لها بسيارة وأركبوها فيها، وبعد قليل جاء أحد أصهارنا وقال: من المناسب أن تتحدث اليوم بضع كلمات، وكانت زوجتي قد أكدت أن صحتها ليست على ما يرام وهي لا تتمالك أعصابها، فقال الصهر: واجبي أن أذكرّكم.

 

لم يمضِ سوى قليل من الوقت حتى قرروا بعد جدال ونقاش فيما بينهم إنفاذ هذا الأمر وتلقي زوجتي كلمتها، فترجّلت من السيارة وجلست في زاوية من الصحن حتى يدخل الناس حاملين الجنازتين ــ جنازتي ولديَّ ــ وفي تلك الأثناء أمسكت بورقة إعلان كانت قد سقطت من على الجدار أو هي سحبتها وباشرت بتدوين تلك الخطبة المهيبة التي تشبه المعجزة، وكأن الله ألهمها إياها"!

 

 خطبة ملحمية

 

القصة التي بدأت بالشهادة تنتهي بالرسالة الملحمية، فتتحول بعض تلك العبارات الحماسية الزينبية التي صدعت بها أم الشهداء مسك الختام لهذا المقال، وكل أولئك الذين يتذكرون اليوم الذي شيع فيه جثمان هذين الشهيدين يعرفون مدى الحماس والضجة التي أحدثتها خطبة تلك الأم يومذاك، وتسطير الملاحم هو ديدن الأمهات والنسوة التي أنجبتهن أرضنا المعفرة بالدماء، اللواتي آثرن الاهتداء باسم زينب وذكرها وخطها:

 

"{إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}

 

انطلاقاً من هذه الآية الكريمة أخاطبكم أيها الشعب المقدام المنجب للشهداء.. أيها الأعزة، يا من سلكتم خط الحسين (ع) وتمسكتم بسيد الشهداء وبذلتم المزيد من الدماء على هذا الخط وفي هذا الطريق القويم.

 

عليكم بالاستقامة، وأن تشمخوا بهاماتكم كشموخ هؤلاء الشهداء.

 

أقسم عليكم بدماء الشهداء وبفلذتي كبدي هذين أن تستقيموا وتصمدوا في المواقف والشدائد كافة، وعليكم مواصلة درب هؤلاء الشهداء، ولا تدعوا دماءهم تذهب هدراً؛ ولا تتركوا هذا القائد المقدام وحيداً.. فهذا كان محور حديث مهدي.

 

الزموا هذه الآية: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون}.. هكذا كان مهدي حقاً؛ فلقد هاجر وجاهد في سبيل الله بماله ونفسه وترك زوجته وبنته ليواصل المسير في سبيل الله، حتى وفّق للقاء الله ليحل ضيفاً على رسول الله (ص) وأبي عبد الله الحسين (ع)، فهو الليلة ضيفهما، فيالها من ليلة!

 

تعلمون أية أمانة استودعها رسول الله (ص) بينكم؟ إنها القرآن وعترته، وإنني أقسم عليكم بعترة رسول الله (ص) أن تستقيموا، ولا تدعوا ثورتنا تتأكّل تحت وطأة المؤامرات.

 

يا أبناء فرقة علي بن أبي طالب (ع) أينما كنتم، اسمعوا بلاغ أم مهدي: {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}؛ فلا يستحوذ عليكم الخوف ولا تحزنوا.. تحركوا حركة حسينية، وسطروا الملاحم وواصلوا غايتكم المقدسة.

 

لا تتوقفوا عن الحركة، وأدخلوا السرور على مهدي وسيده المهدي صاحب الزمان "عج"، فإنكم تعلمون أنه كان دائم الدعوة للجهاد والكفاح، فلا تتخلوا عن ثورتنا وواصلوها.

 

ليت لي من الأولاد عدد شرايين بدني لأقدمهم في سبيل الإسلام وأروي شجرته بدمائهم.. السلام عليك يا أبا عبد الله...".

 

 

 

احدث الاخبار

الاكثر قراءة