Skip to main content

الأصالة والمعاصرة في حركة السيد جمال الدين الأفغاني

التاريخ: 03-12-2009

الأصالة والمعاصرة في حركة السيد جمال الدين الأفغاني

شهد العالم الإسلامي قبل السيد حركات إصلاحية سلفية في الجزيرة العربية (منذ 1744)، وفي الجزائر على يد عبد القادر الجزائري ( 1832 – 1847) وفي السودان على شكل حركة المهدية (1881 – 1898) وفي ليبيا بصورة الحركة السنوسية (1912 – 1925)، وتميزت جميعاً بالمقاومة والرجعة إلى الأصول

شهد العالم الإسلامي قبل السيد حركات إصلاحية سلفية في الجزيرة العربية (منذ 1744)، وفي الجزائر على يد عبد القادر الجزائري ( 1832 – 1847) وفي السودان على شكل حركة المهدية (1881 – 1898) وفي ليبيا بصورة الحركة السنوسية (1912 – 1925)، وتميزت جميعاً بالمقاومة والرجعة إلى الأصول.

 

وإذا كانت هذه الحركات قد استطاعت أن تحقق بعض النجاح في مقاومة الاستعمار ومكافحة البدع، فإنها فشلت تماماً في تحقيق «نهضة» شاملة بسبب عدم قدرتها على استيعاب مستجدات العصر، أي أنها كانت تفتقد المعاصرة.

 

والحملة الفرنسية فشلت أيضاً أن تحقق نهضة في مصر، رغم كل الجهود التي بذلتها، لأنها لم تكن تنتمي إلى جذور الأمة، فأخفقت في التفاعل، واستثارت الناس ضدها، وعادت من حيث أتت بعد حين.

 

أما السيد فقد جمع بين الأصالة والمعاصرة في دعوته، وهذا هو سر كل ما حققه من نجاح، يقول في العروة الوثقى.

 

«الديانة الإسلامية وضع أساسها على طلب الغلب والشوكة، والافتتاح والعزة، ورفض كل قانون يخالف شريعتها، ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية على تنفيذ أحكامها. فالناظر في أصول هذه الديانة، ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل يحكم حكماً لا ريب فيه بأن المعتقدين بها لا بد أن يكونوا أولاً، ملة حربية في العالم، ... وإتقان العلوم العسكرية، والتبخر فيما يلزمها من الفنون : كالطبيعة والكيمياء وجر الأثقال والهندسة وغيرها! ومن تأمل في آية: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} أيقن أن من صبغ بهذا الدين فقد صبغ بحب الغلبة، وطلب كل وسيلة إلى ما يسهل سبيلها، والسعي إليها بقدر الطاقة البشرية، فضلاً عن الاعتصام بالمنعة والامتناع من تغلب غيره عليه! ومن لاحظ أن الشرع الإسلامي حرم المراهنة إلا في السباق والرماية، انكشف له مقدار رغبة الشارع في معرفة الفنون العسكرية والتمرين عليها....».

 

من مظاهر أصالة السيد ارتباطه بالتراث الإسلامي وتمكنه من العلوم الإسلامية، مما جعل النابهين من الأزهريين في مصر يلتفون حوله ويتلقون دروسه من أمثال، محمد عبده، وعبد الكريم سلمان، وإبراهيم اللقاني، وسعد زغلول، وإبراهيم طلباوي، وكانت هذه الدروس منطقاً وفلسفة وتصوفاً وهيئة، مثل كتاب الزوراء في التصوف، وشرح القطب على الشمسية في المنطق، والهداية والإشارات وحكمة العين وحكمة الإشراق في الفلسفة، وتذكرة الطوسي في علم الهيئة القديمة.

 

(ومن مظاهر أصالته أيضاً اهتمامه بوحدة المسلمين بقومياتهم ومذاهبهم كافة: فهو «يدعو إلى نبذ الخصومة بين السنة والشيعة، ليؤلف بين سلطتين قويتين في رقعة العالم الإسلامي إذ ذاك : بين إيران وسلطة القسطنطينية، بعد ذهاب دولة الهند الإسلامية».)

 

وكان يغتنم كل فرصة للدعوة إلى وحدة المسلمين مستشعراً الخطر من تفرقهم، ومهيباً رجال الأمة أن يبذلوا الجهد من أجل تحقيق هذه الوحدة.يقول في مؤتمر دعا له السلطان عبد الحميد في الآستانة:

 

«الديانة الإسلامية في الوقت الحاضر هي بمثابة سفينة ربانها محمد بن عبد الله (ص) وركاب هذه السفينة المقدسة كافة المسلمين خاصتهم وعامتهم.

 

وفي الوقت الحاضر أشرفت هذه السفينة على الغرق في بحر السياسة العالمية، كما تعرضت لخطر الطوفان.

 

ولعل الحوادث الدبلوماسية، والدسائس الدولية، تؤدي إلى إغراق هذه السفينة وتحطيمها، فما حيلة ركابها وهي مشرفة على الغرق وما هو تدبيرهم؟ فهل يجب على ركاب هذه السفينة أن يبذلوا جهدهم لحراستها وإنقاذها من الطوفان والغرق ؟ أم يظلوا مختلفين فيما بينهم، متبعين أغراضهم الشخصية وأهواءهم الدنيئة؟».

 

ودفعت هذه الدعوة إلى توحيد كلمة المؤتمرين على العمل من أجل الوحدة الإسلامية.

 

ومن مظاهر أصالته الدفاع عن الدين أمام التيارات الفكرية المنحرفة مثل رده على المذهب الدهري الذي انتشر في الهند في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.وفيه يقاوم الإلحاد الديني بشكل عام ويوضح ضرورة الدين للمجتمع الإنساني، ثم يذكر مزايا الإسلام التي تكفل للإنسان متعة في هذه الحياة أرفع بكثير من تلك المتعة التي يهيؤها له اعتناق المذهب الطبيعي.

 

أما طابع المعاصرة فيه فهو أبين وأوضح، وأهم معالمه دخوله ساحة الكفاح السياسي لمقارعة الاستبداد الداخلي والاستعمار الأجنبي. لقد ظهرت دعوة السيد في عصر كان العالم الإسلامي يعاني من الحكام المستبدين الذين يمهدون باستبدادهم وطغيانهم لسقوط العالم الإسلامي بيد المستعمرين الطامعين.

 

وكانت العقيلة العامة السائدة هي الاستسلام لهؤلاء الطغاة باعتبارهم أولياء أمور، وباعتبارهم قضاء مقدراً من السماء، ولذلك سادت حالة الذل والخضوع والملق بين الناس، وعم الظلم والفساد والطغيان.وفي هذا الجو ارتفع صوت السيد ليقول للمصريين:

 

«إنكم المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم في حجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم، وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين، تسومكم حكوماتهم الحيف والجور، وتنزل بكم الخسف والذل وأنتم صابرون بل راضون، وتستنزف قوام حياتكم ومواد غذائكم التي تجمعت بما يتحلب من عرق جباهكم بالعصا والمقرعة والسوط، وأنتم معرضون، فلو كان في عروقكم دم فيه كريات حيوية، وفي رؤوسكم أعصاب تتأثر فتثير النخوة والحمية لما رضيتم بهذا الذل وهذه المسكنة تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان، والفرس، ثم العرب والأكراد والمماليك، وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت.

 

أنظروا أهرام مصر، وهياكل ممفيس، وآثار طيبة، ومشاهد سيوة، وحصون دمياط ، فهي شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم.

 

هبوا من غفلتكم...! اصحوا من سكرتكم...! عيشوا كباقي الأمم أحراراً سعداء».

 

وليقول لكل أبناء العالم العربي والإسلامي وهو في فرنسا:

 

«وأنا تحت سماء الإنصاف على أرض الراحة، بين أهل الحرية أسمع ألحاناً في مجالس العدل، فأذكر أنين قومي في مجالس الظلمة، وتحت سياط الجلادين، فأنوح نوح الثاكلات، وأرى علائم النعمة في معاهد المساواة، فأذكر شقاء سربي في ربوع الظلمة، فأذرف الدمع ممتزجاً بسواد القلب فأكتب إليهم: يا قوم ظلمتم غير مأجورين وسعيتم غير مشكورين، فهلكتم غير مأسوف عليكم، تصبرون على الظلم حتى يحسبه الناظر عدلاً، وتبتسمون للقيد حتى يظنه الناقد حلياً، وتخفضون للظالمين جناح الذل حيث يقول من يراكم ما هؤلاء بشر إن هم إلا آلة سخرت للناس، يفلحون بها الأرض ويزرعون.

 

يقلب الجائرون عليكم أنواع المكائد وأصناف الحيل وألوان الخداع فيما يختلسون كما تقلب المشعوذة لدى الأطفال أوجه الودعات في استخراج ما يضمرون.رأيت فلاحهم في حقله الصغير يتناول الطعام أكلاً مرئياً، وينام القيلولة نوماً هنيئاً، ويأوي إلى البيت فيأكل بين عياله ويتلو عليهم صحيفة النهار، ثم ينام ملء عينيه، لا يحلم بسوط المأمور ولا يتصور عصا الشيخ، ولا يتذكر حبس المدير، فتخيلتكم بين السواقي والأنهار تشتغلون سحابة اليوم لتجتمعوا على القصعة السوداء فتلتهموا فتات الشعير، وتنكبوا على الترعة فتشربوا الماء الكدر، تعودون إلى الأرض المريعة تزرعونها، والغلة الوفيرة تحصدونها لتنصرفوا إلى أكواخ تشبه قبوراً توالت عليها السنون، فيجتمع من حولكم صغار لا تعرف أبدانهم الوقاء، ونساء تعوضن الأقذار عن الكساء، ثم يأتيكم المأمور سالباً، والشيخ غاضباً، والمدير ناهباً.فأنتم في بلاء مستقر، وعناء مستمر، تحصدون البر ولا تأكلون، وتملكون الأرض ولا تسكنون».

 

«قد بليتم بما يذيب الشحم ويفري اللحم، وينقى العظم وأنتم صابرون، ومنيتم بما وفر النقم وغير النعم وأهلك النعم وأنتم صامتون.ورزقتم بما جلب المصاب، وهتك الحجاب، وأبرز الكعاب وأنتم خاشعون، فما الذي تخافون؟.

 

تقولون لا نرضى بهذا الخسف، ولا نقوى على احتمال الذل، فقد صار تاجرنا عاملاً، ونبيهنا خاملاً، وعالمنا سائلاً، فلم يبق فينا غير الأجير والتابع والشحاذ والزارع، والجندي منخفض الجانب، والشرطي منقطع الراتب، بل زارعنا الذي يدفن مع قوة يمينه المحبة ويسقي الغرس بماء جبينه، نزيل في دار أبيه، وغريب في أرض ذويه، يحصد مما زرع ولكن لسواه، ويجتني مما غرس ولا يذوق جناه.

 

وكأني بكم عصابة، من أهل الهمة والإصابة، ترفعون الأصوات في طلب الحق المسلوب، وتمدون الأكف لالتماس المال المنهوب، وتجعلون الأبدان للوطن سوراً يرد عنه العدو مذعوراً، وأنتم الكلمة المتحدة والقوة المتجمعة هي أقوى من العدد الكثير إلا أنكم تترددون.

 

فيا حليف الصبر ويا نضو العناء، نداء مشارك في بلواك، وسامع لنجواك، دع التردد إن أردت النجاح والنجاة، وأقدم، فرب حياة تكون في طلب الموت، ورب موت يجيء من طلب الحياة».

 

ومن مظاهر معاصرته أيضاً ارتباطه بالنخب المثقفة في مصر من المثقفين والأدباء والشعراء، خلافاً لما كان عليه عامة الأزهريين من انغلاق كانت له إلى جانب دروسه العلمية المنظمة جلسات مستمرة في أحد مقاهي القاهرة قرب حديقة الازبكية، يلتف حوله أنماط شتى من الراغبين في التزود من علمه وفكره، وهو يجيب عن الأسئلة «لا يسأم من الكلام فيما ينير العقل، أو يطهر العقيدة، أو يذهب بالنفس إلى معالى الأمور أو يستلفت الفكر إلى النظر في الشؤون العامة مما يمس مصلحة البلاد وسكانها، وكان طلبة العلم ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف إلى بلادهم أيام البطالة، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحيائهم، فاستيقظت مشاعر، وتنبهت عقول، وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد خصوصاً في القاهرة».

 

يقول عمر الدسوقي: «في هذه الحلقة أنشئت مدرسة غير مقيدة بمنهج أو كتاب، ولكنها كانت روحاً مشعة تبدد دياجير الغفلة، وتحيي العزائم الميتة، وتلهب الإرادات الخامدة وتفتح الأذهان المغلقة، وفيها تخرج محمود سامي البارودي، وعبد السلام المويلحي، وأخوه إبراهيم المويلحي، ومحمد عبده، وإبراهيم اللقاني، وسعد زغلول، وعلي مظهر، وسليم نقاش، وأديب اسحق وغيرهم.وفي هذه المدرسة العامة، استعرضت حال الأمة الاجتماعية والسياسية، وحقوقها وواجباتها، وأدواؤها ودواؤها، وانتقد الحكام، وبثت التعاليم، وفشت روح التذمر من الأجانب وتدخلهم في شؤون البلاد مما كان له أبلغ الأثر فيما بعد.

 

كان جمال الدين يقضي بياض نهاره في بيته يختلف إليه تلاميذه، وما أن يقبل الليل حتى يخرج متوكئاً على عصاه إلى هذا المقهى، فيجد في انتظاره الطبيب والمهندس والأديب والشاعر والمعلم والكيمياوي وغيرهم، ويظل يحدثهم بشغف وقوة حتى يمضي جزء كبير من الليل».

 

ومن مظاهر معاصرته أيضاً دعوته إلى فتح باب الاجتهاد، لكي تواكب الشريعة المقدسة تطورات الظروف يقول:

 

«ما معنى أن باب الاجتهاد مسدود؟ وبأي نص سد؟ ومن قال لا يصح لمن بعدي أن يجتهد ليتفقه في الدين ويهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجات الزمن وأحكامه ؟ إن الفحول من الأئمة اجتهدوا وأحسنوا ليس إلا فطرة، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده».

 

هذا الجمع بين الأصالة والمعاصرة هو الذي خلق النهضة الحديثة في مصر وانتشرت منها الى سائر أرجاء العالم العربي، وأثرت على الأدب العربي فطورته ودفعت به الى عصر جديد كما سنرى.

 

 

 

احدث الاخبار

الاكثر قراءة