سيرة الإمام الخميني (ره) الجهادية وأفكاره وإنجازاته وتوصياته
2007-08-21
بسم الله الرحمن الرحيم
"ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين"..
على ما حدثني به سماحة الشيخ داود زارع، فإن شاه إيران المقبور تساءل ذات يوم في الوقت الذي كان نجم الإمام يزداد توهجاً عن شخصيته ومن يكون! فأجابه أحدهم: هو ذلك السيد الذي بقي من بين جميع الحضور جالساً ولم يعتنِ بالوقوف يوم جئت إلى قم المقدسة زائراً!.. ولك عزيزي القارئ أن تتأمل وأنت تقف خاشعاً تلك اللوحة النادرة، حيث لا يعنى دخول "شاهنشاه" إلى المجلس الذي يوجد فيه هذا السيد المغمور، شيئاً بالنسبة اليه، ولا يحرك لديه ساكناً.. وبعد ذلك لعلك تدرك الأبعاد الاستثنائية التي تميز بها الوجود الشريف لسيدنا الإمام الراحل عليه آلاف التحية والسلام.
الوليد المبارك في مولد النور وبينما كانت أسرة السيد مصطفى الموسوي تحتفل بمولد سيدة النساء ويعمها السرور والحبور، إبان تلك اللحظات الشريفة من عام1320هـ في مدينة خمين بإيران، كانت الولادة المباركة للسيد روح الله الموسوي، فالتأم شمل العيدين: مولد بضعة الرسول وبزوغ شمس روح الله للعالمين، أمل المستضعفين والممهد لدولة الموحدين.
ولعلّنا في هذه العجالة وبالقلم الكسير نحيط بنزر يسير من البحر الزخّار الذي تكتنزه نفس الإمام العاشقة, وهو الإلهي الذي قلب كل المعادلات, وأخرج النظرية الخاتمة المختنقة في بطون المصنفات تجسيداً حياً أخّاذاً على الأرض، ينطلق نورها في الأرجاء كـل حين بإذن ربّها .
كشف الأسرار والانطلاق
لا نستطيع أن نعطي تاريخاً محدداً يشير إلى بدء حركة الإمام ومسيرته الجهادية. نعم هناك محطات بارزه من هذه الناحية, إلا ان الذي يبدو من سيرة الإمام ومنهجه، أن فكرة التصدي للشيطان الأكبر ابتداءً بمواجهة طغيان الشاه قد تبلورت منذ بواكير حياته الشريفة، لكن نشاطه السياسي بدأ علناً بعد نشر كتابه "كشف الأسرار" عام 1944م، حيث تضمن مضافاً إلى العديد من الموضوعات، تنبيهات وإرشادات للأمة وعلمائها، يوضح فيها تأزم الأوضاع أكثر من السابق.
يذكّرك بالله حاله
لا نجانب الصواب إذا قلنا إن أرجل العقل عرجاء وهي تسير نحو ساحة كنه هذا الفريد، ولعل أجنحة الحب تفي باليسير فقط.. وهذه الثورة المعظمة إذا ذكرت فلا بد من ان تقترن باسم القائد والملهم لمسيرتها، كما ينبه قائد الجمهورية الاسلامية, ومن دونه فإنها تفتقد معناها وجوهرها. ولما كانت الخطوات والإنجازات الثورية بإشراف وعناية الإمام العظيم, وهو الفقيه المجاهد العاشق للمحبوب الأوحد، فإن الحدث كان الأهم من بين الأحداث في القرن المنصرم. وفرق بين الحدث والحادث، فما أكثر الحوادث ـ جمع الثانيةـ وأقل الحوادث ـ جمع الأولى ـ: الثورة التي أوقفت المخططات ودقت جرس الإنذار محذرة من تمادي الشياطين الكبيرة والصغيرة، فقد كان المخطط له أن يدخل الجميع في العصر الصهيوني من دون أن يخرجوا منه. لقد كانت حركة الإمام (قده) تستلهم من توصيات الإسلام العزيز. ومع أن الإمام كان مدرسة في السياسة، لكنه من القلة القليلة الذين لم يلحظ على حركتهم وإجراءاتهم انفصام بينها وبين أيدلوجيتها وكونها الإسلامية أخلاقية وتأكيده ـ رضوان الله تعالى عليه ـ "ان السياسة عين الديانة والديانة عين السياسة"، فلا مقارنه بين آرائه وقراراته وآراء وقرارات أولئك السياسيين الحذاق. ولأجل ذلك لم يكن النصر بل وكل مظاهر الانتصار والأوحدية، لتبعث الكثير من السرور في نفسه، وكذا فإن الخسائر الظاهرية لم تكن تحد من حركته ونشاطه. ويمكننا القول ان وجوده الشريف ذاته بين محبيه وعشاقه أفضل دعوة إلى القيم الرفيعة. لقد كان الإمام رحمة الله عليه كتله من الأخلاق تدب على الأرض، ومصداقاً لقوله صلى الله عليه وآله: "يذكرك بالله حاله، ويدلك على الله مقاله". وفي أحرج لحظات الأمة وأخطرها كان ظهور الإمام بوجه مطمئن على الشاشة الصغيرة كفيل ببعث الحياة في الأوصال من جديد.. أي حياة؟ تلك القائمة وفق تعاليمه الإلهية المقدسة.
معجزة القرن
العديد من كبار السياسيين والنخب الثقافية من الغرب والشرق وصفوا ما حدث في إيران بأنه معجزة بكل المقاييس، فمهما تكن الجهود فمن الصعب أن تنظم الجماهير الثائرة بالشكل الذي رأيناه من الانسجام ووحدة الهدف والمطلب على أقل تقدير. والإمام لا يغفل عن التنبيه إلى الإمداد الغيبي والعناية الإلهية اذ يقول رضوان الله تعالى عليه: "عندما كنت في باريس جاءني شخص من إيران وقال: حين كنت في إيران ذهبت إلى قرى منطقة "جابلق" و"كمره" ـ وهي منطقة أعرفها وذكر مكاناً سبق ان ذهبت إليه ـ قال: عندما كان يحين الصباح في تلك المنطقة كان أحد الملالي يتقدم ويتبعه الناس في تظاهرات.. وأضاف: ذهبت إلى قرية "حسن فلك" وهي قرية صغيرة ورأيت الناس يقولون ما يقول أهالي طهران, فأصبح لدي أمل في أننا منتصرون إن شاء الله.
وحين يقوم الشعب بثورة بهذا الشكل، فإن في هذا الأمر يداً غيبية، ولا يمكن أن يحصل ذلك بالتبليغ وصعود المنبر من قبل الملالي.. كانت تلك قضية شاء الله أن تحصل، وقد انتصرنا ولله الحمد، وآمل أن نستمر في الانتصار حتى النهاية".
نكران الذات ومصلحة المجموع
إن قراءة مواقف الإمام الخميني (قده) وسلوكه الشخصي تفصح عن عظمة هذا الإمام. لنراقبه يوم استشهاد نجله مصطفى وهو قرّة عينه وكان أملاً للإسلام على حد تعبيره رضوان الله عليه.. الإمام برغم الحدث الجلل يواصل برامجه المتعلقة بخدمة المؤمنين وبشكل اعتيادي! وفى يوم العزاء يرسل أحد مرافقيه ويبعث معه مساعدة إلى أحد الفقراء كان الإمام قد وعده بها في اليوم نفسه! سماحته حتى في أعظم لحظات مصابه لا ينسى المحتاجين, وفي ذلك يقول (قده): "عندما نكون مصابين بكوارث ومصائب أعظم وأكبر, علينا أن ننسى ونترك مصائبنا الخاصة والطفيفة". ويعتبر أن الحدث هو من ألطاف الربّ الخفية!.. وبالفعل فقد كان صاعقاً من صواعق التفجير القوية للثورة الإسلامية.
وفي أواخر الحكم الطاغوتي اقترحوا على الإمام الكثير من الأمور، منها: الرجوع إلى فتاواه ومنع كل ما يحرمه ومحاكمة الأشرار، لكنه رفض ذلك وأصر على إقامة النظام الإسلامي. كان الإمام رحمة الله عليه منسلخاً من ذاتيته ومتجرداً عن أناه، فقد كانت بمقاييس السياسيين المنتفعين فرصة ذهبية.. صحيح ان مجرد العرض عليه يعني تهاوي النظام المجرم، إلا أن نجاح الثورة ما زال مشكوكاً لاعتبارات عديدة، وكان بإمكان الإمام وقتها أن يوافق ليصبح الأوحدي والزعيم الأبرز للشيعة في كل العالم، لكن أهداف الإمام الإلهية واعتقاده ان الذي يقوم به هو تكليف السماء والتوطئة لدولة العدل العالمية، كل ذلك أشاح ببصره عن العروض الزائلة.
وعادت أيام الوصال
وهكذا دب اليأس في قلب الشاه بعد أن قتل الآلاف, وجنت يداه أبشع الجرائم التي لم تلن من عزيمة الأمة الإيرانية. بل ان الثورة التي زرعها سيد القلوب تكبر وتنمو، ويستجيب المستضعفون لها ويبذلون الغالي والنفيس تنفيذاً لأوامر المحبوب، وامتدت الانتفاضات من مدينة إلى أخرى.. وفي إحدى ضواحي عاصمة الأضواء بقي إمام المستضعفين ثابتاً يزداد قوة وعزماً يستمده من إيمانه العميق بعلة الوجود، الأمر الذي أدخل الحسرة إلى قلب الشاه، فلم يكن من خيار أمامه سوى الفرار على عجل، برغم بقاء عملائه في البلاد متهيئين للقمع والتصدي للإمام من خلال محاولة منعه من العودة بإغلاق المطارات والتهديد بتفجير الطائرة، فكان رد الإمام الراحل ـ قدس سره ـ الإصرار على العودة برغم كل شيء.. وبالفعل فقد صلى ركعتي الشهادة في الطائرة، إلا أن الله حرسه بفضله وعنايته من مكرهم.. فاحتشد الملايين من العشاق للاستقبال اللائق، وانسابت من فم الحبيب أعذب العبارات وراح يردد: "إلهي أنت الذي مننت علينا ونصرتنا في هذا اليوم على أعدائك، وأخذت بيد هذا الشعب المظلوم وانتشلته بعنايتك من لجّة السقوط في جهنم العالمين وأوصلته إلى القمة".
وجاء الرد المليوني: "الله أكبر.. خميني رهبر (قائد)" يهز الأركان، وأعلن 11/2/1979 يوماً لبزوغ شمس الإسلام من جديد.
حسين العصر وكربلاء المعاصرة
ولعل كوني أحد الفلسطينيين المتأثرين بالنهضة الشاملة للإمام رحمة الله عليه، يدعوني الى كتابة هذا المقطع من المقال. فلما كانت كربلاء الجهاد قصة التفاني والإيثار هي ذروة التضحية في نصرة الإسلام العزيز، استحقت بذلك أن تكون الملهم لحركة الإمام, بل أكد الإمام أن كل الإنجازات هي من كربلاء.. من يوم عاشوراء.. وكان البعض يظن أنه رحمة الله عليه يبالغ أو يجامل الأكثرية الهادرة من شعبه الوفي، إلا أنه بعد ذلك اتضح دور استثمار الذكرى بحكم كونها صراعاً بين جبهتين: الحق والباطل، في تحريك الشارع نحو الإنجازات الواعية وإيقاظ الهمم.. الثورة الإسلامية في إيران بدأت في أجواء كربلائية وانتصرت في أجواء كربلائية.
هم الوحدة واستثمار الذكرى
هذه الأيام حيث نتفيأ ظلال الذكرى العطرة لمولد سيد البشرية صلى الله عليه وآله وأسبوع الوحدة الإسلامية، يمكننا أن نقرأ بادرة الإمام الذي استطاع أن يستفيد من الخلاف حول موعد تاريخ هذه المناسبة الجليلة بين جناحي الأمة المسلمة، ليحوّل هذا الخلاف الذي كان بعض السطحيين يستغلّه لإحداث الشغب، إلى أيام غبطة وسرور ومحبة وتوحيد للقلوب، فكانت الأيام الفاصلة بين رواية أهل السنة وتلك التي من طريق أهل البيت عليهم السلام أسبوعاً لوحدة الأمة, حيث تقام الندوات والاحتفالات البهيجة، فلا يذكر النبي صلى الله عليه وآله ومناقبه إلا وتترافق الدعوات لنبذ الفرقة وإلى الاتحاد، لتكون أشد وقعاً على النفوس المتعلقة بنبي الإسلام صلى الله عليه وآله. ومن وحي نداء الإمام شاهدنا قبل أيام كيف التقى الإخوة في بغداد بعد سقوط طاغيتها المفتقد لدعم شعبه, وكيف تعانقت الكاظمية والأعظمية ورفعت صور الإمام، ونادى المستضعفون من جديد نعم.. نعم للإسلام.. وللإسلام فقط.
لم يُخلق لزمانه فقط
ونختم بكلمات قائد الجمهورية الإسلامية السيد الخامنئي في حق الإمام الخميني (رض): "لقد قيل الكثير حول إمامنا العزيز, لكنني أعتقد أنه من المبكر الآن أن نعرف نحن ويعرف المحللون العالميون إمامنا الجليل الفذ بشكل دقيق وكامل، فهو شخصية عظيمة يندر وجود مثيل لها بعد الأنبياء والأولياء كثيراً.. لقد قام إمامنا الجليل الفذ بأعمال كبرى تتناسب ضخامتها مع عظمة الإمام نفسه".
تعليقات الزوار