من كتاب العشق الإلهي لسماحة آية الله العظمى الشيخ جوادي الآملي
إنّ ضرورة تشكيل نظام للحكم وإدارة المجتمع وقيادة الحياة وفق القانون أمر يؤمن به جميع المفكرين.. أما أولئك الذين يدعون إلى الفوضوية ويرفضون النظام القانوني فهم امتداد للخوارج.
كان نظام حكومي ينهض على قاعدة عقيدية، وتكون غاياته منبثقة من أصول العقيدة التي ينطلق منها.
والحكومة الإسلامية ليست استثناء في هذا الاتجاه.. أن لها أهدافها وغاياتها التي تنسجم والأصول التي تنتسب إليها.
وهنا إشارات إلى مقاصد وأهداف الحكومة الإسلامية التي تشكل في مجموعها (فلسفة للحكومة الإسلامية).
أولاً: إنّ قيادة المجتمعات البشرية وسياستها، تعد في طليعة العلوم الإنسانية ومن أكثرها أهمية، ومعرفة العلوم الإنسانية تحتاج إلى معرفة الإنسان.
الإنسان مخلوق يدرك نفسه من خلال غيره، والعالم كذلك أيضاً مثل الإنسان يدرك وجوده من غيره، والإنسان والعالم مرتبطان معاً لأن كلاهما يتأثر ويؤثر في الآخر.
ومن المستحيل أبداً أن تتم معرفة الإنسان من دون معرفة المبدأ الفاعل الذي وجوده عين ذاته، والذي منح الإنسان والعالم نعمة الوجود وجعلهما منسجمين مع بعضهما البعض بالنتيجة لا يمكن معرفة سياسة المجتمع الإنساني وحكومته.
ثانياً: الإنسان وفق الرؤية الإسلامية يقع على رأس ثلاثة نظم والتي لا تعتبره العقائد الغير إلهية موجداً لهذه النظم الثلاثة: الأول: النظام الفاعلي؛ الثاني: النظام الداخلي المخصوص الثالث: النظام الغائي الخاص.
والنظام الفاعلي هو أن جميع العلل التي سببت ظهوره نموه إنما هي مخلوقات لإله واحد أحد.. والمبدأ الفاعل الوحيد للعالم والإنسان إنما هو الله سبحانه، ولا يوجد عامل مستقل أبداً أسهم في تحقيق وجود الإنسان... وكذا لا يوجد مخلوق له دور مستقل في نموّه.
النظام الداخلي للإنسان هو أن حقيقة مؤلفة من روح مجرّدة وجسم مادّي؛ يعني أن الإنسان ليس مثل الملائكة روح بدون جسم... وليس مثل الأجرام والكواكب جسم بلا روح، وأن المقوّم لإنسانية الإنسان هو الروح التي لا تعرف الفناء والزوال لأن الجسم قابل للزوال لأنه من تراب.
النظام الغائي له هو أنه بالموت لا يفنى بدنه، بل هو حي معه يلج عالماً ثانياً بعد زوال عالم الدنيا هو عالم القيامة وببدن مناسب للعالم الخالد، وأن جميع عقائده وأفكاره وكذا جميع أخلاقه وأوصافه وجميع أفعاله وتصرفاته تحشر معه ولا يمكنه الانفكاك عنها.
الإنسان في المذاهب المادّية يفتقد النظام الفاعلي بمعناه الآنف الذكر وكذلك يتفقد النظام الغائي بالمعنى المذكور أعلاه، وينحصر نظامه الداخلي في المادة والجسم وسيكون للروح والأفكار الروحية تفسير مادّي أيضاً.
القرآن الكريم هو أرقى مفسر للإنسان والعالم، وقد بين القرآن الكريم في كثير من آياته نظم الحلقات الثلاثة، وفي طليعة هذه الآيات التي اختصرت هذه النظم قوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[1].
ففي هذه نلاحظ النظام الفاعلي الذي هو الخالق، والنظام الغائي المتمثل في الهداية نحو الهدف، ولكن النظام الداخلي ذكر على أنه هبة الله وعطيته التي تناسبه.. كما هو الحال في قوله تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[2].
وهذه الآية تكشف عن البعدين اللذين يؤلفان الإنسان.. فالإنسان الذي خلقه الله ليجعله خليفة في الأرض، خُلق من طين فهو مرتبط بعالم الطبيعة والتراب والبعد الآخر يربطه بعالم التجرّد بعد أن نفخ الله فيه من روحه.
الثالث: إنّ أهم غايات الحكومة الإسلامية والتي تنسجم مع النظم الثلاثة للإنسان هو شيئان.. توفير الأرضية المناسبة لتحقيق خلافة الإنسان أولاً وثانياً ببناء المدينة الفاضلة.
حيث توفر مبادئ الحضارة الحقّة في إطار من العلاقات الداخلية والخارجية الثابتة.. إنّ النصوص الدينية جميعاً بما في ذلك القرآن الكريم وسنّة المعصومين وسيرة الأولياء الصالحين، وبالرغم مما تزخر به من معارف لكن عصارتها جميعاً تصبّ في هذين البعدين.
الإنسان في نظامه الداخلي كما قلنا يتألف من الروح والبدن ولكن الأصالة فيه للروح، والبدن تابع لها، وأن سلامة البدن والاهتمام بها هي من أجل سلامة الروح وصونها من العقائد المنحرفة والسقوط الأخلاقي والسلوك الهابط.
كما أن تأمين وبناء المدينة الفاضلة أيضاً هو من أجل تربية الإنسان، ليكون (خلقه الله)، والأصالة في هذين الركنين إنما هي للخلافة الإلهية.
ذلك أن البدن مهما كان سالماً فأنه يأتي يوم يتفسخ فيه بعد لحظة الموت, ولكن الروح تبقى مستمرة في الحياة. وكذلك المدينة الفاضلة فإنها مهما عمرت فأن مآلها إلى الخراب والاندثار وزوال حضارتها.. أما خليفة الله وهو الإنسان الكامل فلا يعرف الفناء والزوال.
ومن هنا فإنّ المدينة الفاضلة بمثابة البدن في الإنسان وخليفة الله بمثابة الروح.
وكما أن على أساس أصالة الروح حيث هي من وراء سلامة البدن، فكذلك على أساس أصالة خليفة الله فإن المدينة الفاضلة يبنيها الإنسان الكامل.
رابعاً: إنّ لازمه الخلافة الإلهية هي في توفر كل الكمالات المستخلفة عنه في الإنسان الكامل الذي هو خليفة الله باتساع وجوده.
ومن هنا فإن العدل والقسط وأمثاله باعتبارها أهداف الحكومة الإسلامية وبالرغم من كونها معدودة في الكمالات، لكن جميعها جزء من فروع الكمالات الأساسية، لأن الإنسان المتعالي الذي هو خليفة الله سيكون مصدراً لجميع تلك الكمالات، لأن الخلافة تستلزم في خليفة الله أن يكون مظهر جميع الأشياء التي تسهم في تحقيق سعادة المجتمعات البشرية.
خامساً: حدد القرآن الكريم في مطلع سورة إبراهيم الهدف من نزول القرآن وهو الهدف الأسمى للرسالة يعني الغرض الأصيل للحكومة الإسلامية: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[3].
والابتعاد عن الله الذي هو الوجود المحض والكمال الصرف ظلام، والانفصال عنه الذي هو النور التام ظلمات، والمبدأ الوحيد الذي له القدرة على الإنقاذ من الظلمات إلى النور بالذات، ولأن الله وحده نور السموات والأرض فقد جعل لنفسه الولاية كما قال عز وجل في آية الكرسي: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّوُرِ}[4].
وعندما نرى في مطلع سورة إبراهيم أن الله أسند مهمة الإخراج إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله, فلأن الإنسان الكامل هو خليفة الله، ويقوم بذلك على أساس الخلافة والنيابة لا الأصالة، ولذا فإن الآية المذكورة حدّدت جوهر الموضوع وصور الإخراج من الظلمات إلى النور وقيدته بإذن الله.
إنّ الهدف الأعلى للرسالة ونزول الوحي هو (الحكومة الإلهية) ونورانية المجتمع الإنساني، وحماية الإنسان النوراني من ظلمات الهوى وصدمات الهوس والمحافظة عليه من الوساوس والمغالطة، فيتحرر فكره من الوهم، ويطهر عمله من لوث الشهوات.
وعلى هذا فإن الهدف المهم من وراء تأسيس النظام الإسلامي انطلاقاً من قاعدة الوحي والنبوة من أجل أن يكون الإنسان (خليفة الله).
وإضاءة طريقه بالنور الإلهي كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}[5] {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}[6].
والسيرة المعلّمة للإنسان النوراني هي عين رعاية الأدب وحماية إنسانية الآخرين، وإلا يعتبر الإنسان أيّاً كان أهلاً للتمجيد والعبادة؛ وفي نفس الوقت الذي يمجد فيه جمال العالم فأنه لا يعتبر أياً من موجوداته الأرضية والسماوية أهلاً للعبادة والتقديس.. بل أن الخليقة بأسرها آيات الله الذي ليس كمثله شيء، وأن جميع الموجودات لا يمنحها قيمة أكثر من قيمة الدلالة.
كما عبر عن ذلك الإنسان الكامل علي بن أبي طالب وهو يعرّف الإنسان النوراني: (عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم)[7].
وخاصّية النور أنه يمنح الإنسان الكامل الرؤية، فيرى الله عظيماً مطلق العظمة ولذا تتضاءل جميع الأشياء وتتناهى في الصغر كما قال الإمام علي عليه السلام: (عِظَمُ الخالق عندك يُصغّر المخلوق في عينك)[8].
وجعل الله سبحانه هذا النور من نصيب المتقين: (من يتق الله يجعل له مخرجاً من الفتن ونوراً من الظُلم)[9].
النقطة الأخرى التي يتوجب ذكرها هي أن ليس القرآن وحده السبب في نورانية الناس، بل مصدر النور ومبدأه وهو الحكومة الإسلامية في ضوء الوحي ومن حرم ذلك فقد حرم النور لأن الله سبحانه يقول: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}[10].
سادساً: إنّ الإسلام هو دين الله الأوحد: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}[11] ولا يقبل الله ديناً غيره: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}[12] وعلى هذا فإن رسالات الأنبياء جميعاً كانت رسالة الإسلام.. وحكوماتهم كانت حكومات إسلامية، وإننا لنكتشف ذلك من خلال تأملاتنا في القرآن الكريم وهو يذكر حركة الأنبياء وأهدافهم:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}[13].
وتتجلى في هذه الآية الهدف العام للرسالات الإلهية، وهو تنفيذ العدالة في المجتمع الإنساني وإن هذا لا يتم إلا من خلال الأفراد النورانيين.. ذلك أن خليفة الله الذي هم الإنسان النوراني وهو وحده المدافع الحق عن حقوق الآخرين.
وما أوردته الآية الكريمة حول مهمّة الأنبياء إنما هو هدف غير نهائي فالهدف النهائي هو أن يصبح الإنسان الكامل خليفة الله.. لأنه المعلّم الوحيد للإنسانية وهو الذي يعلمهم الكتاب والحكمة ويهذب النفوس البشرية بل ويعلم الملائكة أسرار الأسماء الإلهية.
ولذا فإن دائرة الخلافة الإلهية لا تنحصر بالأرض بل تمتد لتشمل المخلوقات السماوية بالرغم من حضوره الجسماني في الأرض.
سابعاً: بالرغم من أن البرهان العقلي والتحليل القرآني، دليل كاف على أن الهدف الأصيل للحكومة الإسلامية، هو خلافة الله.. ومن خلال ذلك يتم إقامة العدالة في الأرض، ولكن استعراض الآيات القرآنية يعزز من هذه الحقيقة أكثر.
ذكر القرآن الكريم داود بطلاً محارباً وقائداً للثورة في عصره: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ}[14] وان الله آتاه كتاباً: { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}[15].
وكانت الجبال تردد تسبيحه والطيور أيضاً: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ}[16] وأنعم عليه بأن وهبه ولداً صالحاً عالما: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا}[17] وعلمها الله سبحانه لغة الطيور: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ}[18] ومنحه الله قدرات هائلة، ورزقه نعمة الخضوع في رحاب الله والتواضع: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[19].
هكذا وصف الله داود بأوصاف تجعله خليفة الله الحق ولذا جاء الخطاب الإلهي لداود:
{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}[20].
فقائد المجتمع الإنساني هو النموذج الكامل للسالك في طريق الكمال وخليفة الله، يستند في قدرته إلى إمكانات الخلافة الإلهية.. وعندها يمكنه تشكيل الحكومة الإسلامية ويعلن حاكمية القانون الإلهي وشريعة السماء في الأرض، حيث الهدف الأسمى الحكم بالحق وتنفيذ العدالة باحترام الحقوق المتقابلة بين الناس.
ما ذكرناه حتى الآن هو بيان مختصر للهدف الأول للحكومة الإسلامية وأما الهدف الثاني وهو (تأسيس المدينة الفاضلة) فهناك نقاط نتطرق إليها في المستقبل.
ثامناً: للمدينة الفاضلة شروط ومقومات لكننا سنشير إلى طائفة منها على نحو الإجمال:
ألف: النمو الثقافي حيث يتكفل ذلك الماسك بزمام الحكومة الإسلامية:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[21].
إنّ الجهل والضلال هما العاملان اللذان ينحطّان بالمجتمع، وأن أهم هدف للحكومة الإسلامية هو مكافحة الجهل ونفض غبار الضلال والضياع في المجال الثقافي، فيحل مكانها الكتاب والحكمة، وبمكافحة الضياع الأخلاقي والانحراف العملي تأتي التزكية وتهذيب الروح، فالمسار التعليمي يكافح الجهل، والمسار التربوي يكافح الانحراف الخلقي.. والآية تحدد هذه المهمة في المجتمع الأمّي الجاهلي وتدعوه إلى العلم والوعي والثقافة، كما تدعوه أيضاً إلى التسامي عن الانحطاط الأخلاقي والى تطهير الروح والنفس.
وبطبيعة الحال أن النجاح في هذه المرحلة سوف يوصل المجتمع إلى إمكانية تأسيس المدنية الفاضلة.
ب: النمو الاقتصادي حيث ينهض القادة الإسلاميون بمهمة بيان الخطوط الكلّية للاقتصاد في النظام الإسلامي، وتحديد السياسة المالية وفقاً للشريعة الإلهية.
وإضافة إلى دعوة الناس وحثهم على الزراعة والاهتمام بالجانب الاقتصادي في إطار من العمل الحلال والنشاط المشروع، فإنهم يتحملون مسؤولية الأمن الاقتصادي، والإشراف على التوزيع العادل للثروة، وكل ذلك وإنما يتم من خلال اقتصاد معافى، ومجتمع متوازن والذي سنشير إلى بعض ملامحه.
الإسلام يعترف بأصالة الملكية الخاصّة على أن يكون معنى ذلك أن الإنسان الذي حصل على المال من خلال العمل هو وحده يملك ذلك المال ولا يجوز لأي كان أن يتصرّف به دون إذنه ورضاه.
ولكن هذه المالكية الخاصّة ستتوقف وينتهي مفعولها في حدود مالكية الله، وما الإنسان هنا سوى أمين على المال والمخوّل بالتصرّف به في حدود الشرعية.
قال تعالى: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[22]وقال عز وجل: {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[23].
ومن هنا فإن حق التصرّف بالمال لا يجوز إلاّ في إطار رضا الله وإذنه.
الإسلام ينظر إلى مجموع الثروة على أساس الرفاه الاجتماعي العام، ومن هنا فإن الملكية الخاصّة يجب ألاّ تتحول إلى ورم مالي يؤدي إلى الحرمان الاجتماعي ويشطر الأمة الإسلامية إلى شطرين أثرياء متخمين وفقراء حفاة.
الإسلام يعتبر الثروة العمود الفقري والدماء التي تجري في عروق المجتمع الإسلامي.
فالمجتمع لا ينهض مادام فيه فقراء بائسين.. لأن الفقراء هم فقرات الظهر الاجتماعي فأي انزلاق فيها يؤدي بالمجتمع إلى عجز عن القيام والنهوض، فضلاً عن الحركة والنشاط.
ولأن الثروة بمثابة الدماء التي تجري في العروق فلذا يجب ألا تكون في تصرّف السفيه والجاهل.. لأن ذلك يعني منح قدرة النهوض الاجتماعي والقيام إلى من لا يحسن التصرّف بهذه الإمكانات، ومن هنا نفهم هذه الآية المباركة في قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاما}[24].
لأنه يمكن نسبة المال إلى عموم المجتمع واعتباره سبباً في القيام ولذا لا ينبغي أن يكون تحت تصرّف السفهاء والصبيان.
الإسلام يمنع الاحتكار وكنز المال، لأن الكنوز واحتكار السلع بمثابة حبس الدماء في العروق مما يؤدي إلى إصابة أعضاء الجسم بالشلل.. ولذا يجب أن تتدفق الثروة وأن تجري الأموال وتتحرك البضائع في عروق الجسم الاجتماعي لتحقيق النمو المطلوب: {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[25].
والإسلام لا يذكر تدفق المال في عروق الجسم الاجتماعي بشكل محدود وإنما يشدّد على توسيع نطاقه إلى أبعد الحدود وعدم الاقتصار في حركته على مجال ضيق، بل يجب أن يسلك دورة كاملة تامّة: { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ}[26] لأن أي محاولة لحصر المال في نطاق محدود ستؤدي إلى الحرمان وبالتالي تمزق النسيج الاجتماعي.
لأنه ليس المطلوب لا النظام الرأسمالي في الغرب حيث هيمنة الرأسماليين وليس المطلوب أيضاً زعامة الدولة والمذهب الماركسي الذي انهار مؤخراً في الشرق.
وفي كل الأحوال يجب ألاّ يكون المال تحت تصرّف شخص أو أشخاص حقيقيين أو شخصيات حقوقية، بل يجب أن يتحرك ليشمل في حركته كل شرائح المجتمع.
وهذا هو منطلق الإسلام في بناء الاقتصاد السليم والمعافى فمن بين (فرث) الرأسمالية و(دم) زعامة الدولة الماركسية يتدفق لبن سائغ طيب مبرأ من إفراط الأول وتفريط الثاني، ليحقق هدفه المركزي في العدالة الاجتماعية على أساس الإسلام والإنسانية.
ويؤطّر الإسلام حركة المال بين جماهير الشعب في إطار التجارة التي تحظى برضا الجميع، وهذا هو المسار الأصلي ثم تأتي طرق أخرى كتوزيع الميراث ومنح الهدايا والهبات.
ومن هنا يجب أن يوفر بعدان، فأي تجارة دون رضا كما أن أي رضا بدون تجارة كالقمار مثلاً يخرج من نطاق الشرعية، وترسم الآية الكريمة إطاراً واضحاً في هذا المضمار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ}[27].
وخلاصة البحث:
1ـ إنّ سليمان الذي بسط حكومته الإسلامية على مساحات شاسعة من الأرض ودعا أحد حكام عصره إلى الإسلام، ونجح في ذلك كانت تحت تصرّفه إمكانات واسعة وقد أشار القرآن الكريم إلى جوانب تلك المملكة الكبرى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ}[28] الله سبحانه أسال له النحاس وكانت هناك حركة صناعية وفنية كبيرة: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[29] ففي ظل ذلك الحكم ظهرت حركة عمرانية وفنية كبرى، فبنيت قصور منيفة، ونحتت تماثيل رائعة تصوّر الملائكة والأنبياء، لتكون وسيلة إلى شدّ الناس إلى الفن وإدخال السعادة في قلوبهم وفي صناعة الفلزات فقد صنعت قدور ضخمة جداً للإفادة الاجتماعية.
وكانت تلك الفترة من الفترات التي شهد فيها الإنسان حضارة العلم إلى جانب الإيمان، فإزاء هذه النعم في اكتشافات المواد الخام ووجود الذهنية التي تؤهلهم للاستفادة منها كانوا يشكرون الله الذي وهبهم هاتين النعمتين، وسنجد أن هذه الحضارة والنهضة الصناعية الكبرى كانت موظفة من أجل الدعوة إلى الإسلام والإيمان: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ}[30].
2ـ إنّ داود أبو سليمان عليهما السلام وهو الذي هيأ أرضية الحكومة الإسلامية بعد أن قاد الثورة والمواجهة ضد الظلم في عصره، وأفاد من الإمكانات المناسبة ومنحه الله عز وجل الإفادة من نعم الغيب من خلال تطويع الحديد له. بحيث يصبح كالشمع بين يديه فأمر أن يصنع منها الدروع يقول القرآن الكريم: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}.
{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}[31]{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ}[32].
والنقطة الجديرة بالاهتمام أن صناعة الدروع من العلوم العملية والفنية القابلة للانتقال والاكتساب، ولذا استخدم القرآن مفردة (التعليم) أما تطويع الحديد ليصبح كالشمع في اليدين فإنه لا ينتمي إلى العلوم النظرية والعملية أبداً.
ذلك أن هذه المسألة ترتبط بكرامة ولي الله ونزاهة نفس الرسول والنبي.
ولذا لم يستخدم القرآن مفردة (التعليم) وإنما قال: {وألنّا له} لتبقى هذه الظاهرة جزء من قدرة الغيب، أما تطويع وتليين الحديد بالنار فهذا من العلوم العملية العادية والمعروفة قديماً.
3ـ لم يكن سيدنا نوح عليه السلام شيخ الأنبياء رائداً في الرسالة والوحي والنبوّة فحسب بل ورائداً في الإفادة من العلوم والصناعة. الله سبحانه علّمه كيف يصنع السفينة وعهد إليه العمل في صناعتها.
قال تعالى: {اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}[33] {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}[34].
وخلاصة ذلك:
1ـ إنّ أصل التقدم الصناعي في الحكومة الإسلامية أمر ممدوح تحثّ عليه الشريعة.
2ـ ضرورة الإفادة الصحيحة من ذلك من خلال سيرة زعماء الدين.
3ـ إنّ في طليعة الفوائد الصحيحة من الصناعات المتطورة هي تأمين الحاجات العلمية والعملية.
4ـ إنّ ما أورده القرآن في هذا الخصوص على سبيل التمثيل لا التعيين، يعني أن القرآن مثل لنوع الإفادة الصحيحة لا أن الإفادة الصحيحة منحصرة في ما ذكره من أمثله.
5ـ إنّ صناعة سفينة نوح عليه السلام هو قدوة من أجل صناعة كل أشكال وسائل النقل البحري والغواصات، وحتى وسائل النقل البرّي والجوي.
كما أنّ صناعة داود للدروع قدوة لتصنيع كافة الوسائل الدفاعية المضادة للرصاص وفي قبال الهجمات الكيميائية والجرثومية.
كما أن ما تم إنتاجه في حكومة سليمان، قدوة لإنتاج كافة الوسائل الحياتية التي تلبّي حاجات الفرد والمجتمع وعلى الأصعدة الاقتصادية والفنية والأدبية.
وما دام الحديث قد ساقنا إلى بحث سيرة قادة الحكومة الإسلامية في مضمار الإفادة من الصناعة، فمن المناسب أن نتأمل في ما ورد عن ذي القرنين.
وبالرغم من أنّ القرآن لم يتحدث عن نبوّة ذي القرنين، ولكن الله سبحانه مجّد سيرته في الإفادة من الصناعات والعلوم وفي طليعتها بنائه سداً عظيماً لا يمكن نقبه أو اجتياز أو هدمه ولم يكن هذا السد مصنوعاً من الآجر والاسمنت، بل من الحديد والنحاس وقد ورد ذكر ذلك في القرآن في قوله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}[35].
ولنا أن نتصوّر سداً هائلاً يتألف من سبيكتين من الحديد بينهما طبقة من النحاس ليؤلف من كل ذلك سدّاً فلزّياً لا يمكن اجتيازه.
ومن مجموع هذه النماذج يمكن استكشاف منهج الحكومة الإسلامية في مضمار الإفادة من التصنيع والتكنولوجيا في جميع المجالات... بتعبير أكثر وضوحاً في الدائرة المشروعة والعمل والبناء.. أما الاتجاه بالتصنيع إلى ميادين التخريب والهدم وتدمير البيئة وإنتاج أسلحة الدمار الشامل، فإن كل ما يلحق أضراراً بالبحار والفضاء والنبات والحيوانات والناس والمناطق السكانية وسائر ما هو أخضر فإن ذلك مستنكر بشدّة في منهاج الحكومة الإسلامية.
وهنا يمكن فهم الفرق بين الكادر الصناعي في المدينة الفاضلة، الذي هو هدف الحكومة الإسلامية، وبين الكادر الصناعي في الدول التهاجمية والمخرّبة والتي تدّعي التمدّن والحضارة.
د ـ النمو الحقوقي على الصعيدين الداخلي والدولي حيث يتحمل مسؤولو النظام الإسلامي بيان وتدوين وتنفيذ القوانين الحقوقية.
ذلك أن المجتمع الإنساني ومهما حقق من رقي في كل المجالات الاقتصادية وما يحققه من تقدم في ميادين التصنيع والإنتاج، فإنّ كل ذلك وفي غياب القوانين الحقوقية التي تضمن الحقوق الكاملة والمتقابلة فإنه لن يحقق أمله المنشود في الحياة.
لأن هذا الرقي الاقتصادي والتقدم الصناعي وفي غياب المؤهلات الأخلاقية سوف يكون سلاحاً للتدمير والفناء.
ولنا في الحربين العالميتين والحروب المحدودة هنا وهناك عشرات بل مئات الشواهد... مما أفرز وضعاً عالمياً مؤسفاً جعل الأشرار والمخربين في مواقع السلطة والقرار، والطيبين في المواقع المحاصرة دوماً والمستهدفة بالغارات والعدوان.
فالحكومة الإسلامية تعتمد أصولاً في هذا المضمار منها:
1ـ رفض كل حالات التسلّط والقهر الذاتي والأجنبي: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}[36].
2ـ احترام القوانين والمواثيق الدولية: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}[37].
وهذا لا يقتصر على دائرة محددة من العهود بل يتضمن منطوق الآية الكريمة إطلاقاً في واجبية الالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات.
قد جعل القرآن الكريم من هذا الشرط مقياساً للمؤمنين في بلوغهم مرحلة الأبرار: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ}[38] كما اعتبر الغدر ونقض المواثيق والمعاهدات من ملامح الشخصية المشركة والكافرة: {الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ}[39].
فاحترام الحكومة الإسلامية للمعاهدات والقوانين والعمل بالمواثيق، هو من أجل تأسيس مجتمع ملتزم يرفل بالحرّية والأمن، اللذين هما من مقومات الحضارة ومن أسس المدينة الفاضلة.
فالمجتمع الذي لا يرعى المواثيق، سوف يقضي على حرّيته وأمنه ويدمّر حضارته.
وقد حدد القرآن الكريم إطاراً إنسانياً عامّاً لا يتأثر أبداً بأي من متغيرات الزمان والمكان واللغة والعرف والعرق واللون والتقاليد والعادات وهو قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[40]
فليس هناك من مجال للشعور بالتفوق العرقي والتمييز العنصري والاتجاهات العدوانية بسبب القومية ومحاولات السيطرة على شعوب وأمم بسبب ذلك.
ومن هنا نرى القرآن الكريم يهاجم الاستكبار لأن في طليعة سلوكه الاجتماعي وسياساته الغدر ونقض العهود والقوانين وعدم احترام المواثيق.
{وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}[41].
ففي طليعة مبررات الحرب ضد الاستكبار، هو نقض المستكبرين المواثيق وعدم احترامهم المعاهدات، ولذا فإننا لا نرى (الإيمان) سبباً في الحرب وإنما (الأيمان) أي العهود والمواثيق.
ومن هنا يمكن التعايش مع الكافر الذي لا إيمان له أما المستكبرين فلا يمكن التعايش السلمي معهم لأنه: {لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ}. ففي غياب احترام المواثيق والمعاهدات لا يمكن لأجنحة السلام أن ترفرف في سماء الحدود.
لقد كان الغدر من سمات الجاهلية الأولى، وهو اليوم من سمات جاهلية القرن العشرين، وعصرنا الحاضر مثقل بانتهاك الحقوق الدولية والمواثيق الإنسانية العالمية.
3ـ احترام الأمانة وشجب الخيانة في الأموال والحقوق: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا}[42] وقال سبحانه يمتدح الأمناء: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[43]. وسورة الشعراء زاخرة ومعبّرة عن هذه الصفة الحميدة من صفات الأنبياء والمرسلين.
وهي الأمانة وأداء الأمانات والاحترام المتقابل في هذا المُضمار الذي يلعب دوراً مؤثراً جداً في إرساء دعائم الأمن والحرية وتحقيق المدينة الفاضلة.
والقرآن الكريم يقرّر قانوناً إنسانياً شاملاً وثابتاً لا يقبل التغيير.. ولذا فهو يهاجم ويستنكر الرؤية الصهيونية التي تنطلق من التمييز العنصري: {وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}[44]. فهناك فريق من اليهود لا يمكن أن يؤتمن حتى على دينار واحد إلاّ باستخدام القوة وهم يبرّرون لأنفسهم ذلك على أساس شعورهم بالتفوق على غيرهم، فهم شعب الله المختار وباقي الناس أميين وحيوانات فلا بأس بعدم الوفاء لهم.
تاسعاً: إنّ سلالة الأنبياء الإبراهيميين أقاموا لسنوات متمادية الحكومة الإسلامية ويقول القرآن في هذا المضمار: {اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا}[45].
فالخطوط الكلّية للإمامة والقيادة والأصول السياسية في الحكم حددها مؤسس الكعبة وباني البيت العتيق.. وهو لم يلتزم بها فحسب بل وجعلها ميراثاً في ذرّيته، ودعا الله سبحانه أن يبعث خليفته والإنسان الكامل من أجل بناء المدينة الفاضلة.
وهذه كلمات إبراهيم عليه السلام كما وردت في القرآن الكريم وهو يدعو الله: {رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}[46] فالأمن والخصب من مقومات المدينة الفاضلة.. ثم يتضرّع إلى الله سبحانه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}[47]. إنه طريق التكامل الإنساني الذي يؤهل في صياغة خليفة الله، وخليفة الله هو من يعلّم البشرية أسلوب الحياة المثلى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}[48].
عاشراً: إنّ الإمام علي عليه السلام توفّر على تجربة طويلة في الحكومة الإسلامية، فقد كان إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله في المرحلة التأسيسية لسياسة الإسلام في الحكم، كما تولّى مسؤولية الحكم بعد ذلك لسنوات، وقد بين خلال تلك الفترة أهداف الحكومة الإسلامية التي أشرنا إليه بشكل موجز ومضغوط.. كما أشار عليه السلام إلى أسباب السقوط السياسي والاضمحلال الاجتماعي، إضافة إلى الأفول الاقتصادي أيضاً وقد علل هذا السقوط في عدم رعاية الأصول المذكورة.. ففي مضمار السقوط السياسي والاجتماعي يقول عليه السلام: (يستدل على إدبار الدول بأربع، تضييع الأصول والتمسّك بالغرور وتقديم الأراذل وتأخير الأفاضل)[49].
فهذه أسباب أربعة هي العوامل في السقوط:
1ـ ضياع الأصول الأساسية.
2ـ الغرور.
3ـ تقديم الأوباش والأراذل ومنحهم مسؤوليات هامّة.
4ـ إهمال وإقصاء الناس الطيبين والأفاضل، مما يؤدي فشل إداري وسياسي.
أما في مضمار السقوط الاجتماعي والاقتصادي فيقول عليه السلام: (سوء التدبير وقبح التبذير وقلّة الاعتبار وكثرة الاعتذار)[50].
فالسقوط في الجانب الاقتصادي وراؤه أسباب أربعة أيضاً:
1ـ ضعف الإدارة.
2ـ التبذير وبعثرة الإمكانات الاقتصادية.
3ـ عدم الإفادة من أخطاء التجارب السابقة.
4ـ الاعتذار المتكرر الناجم عن الفشل، وعدم المبادرة إلى إصلاح الأخطاء.
فسقوط الدولة اقتصادياً إنما هو نتيجة لغياب الإدارة الناجحة والتوازن في الإنفاق وتكرار الخطأ.
ندعوا الله سبحانه إلى أن تلتفت مجتمعاتنا الإسلامية إلى الأهداف العليا للحكم الإسلامي الإلهي، في تحقيق الجهاد والاجتهاد وتمهيد الطريق، لإقامة العدل الإلهي في ربوع المعمورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] طه، الآية: 71 ـ 72.
[2] طه، الآيتان: 71 ـ 72.
[3] إبراهيم، آية: 1.
[4] البقرة، الآية: 257.
[5] الأنعام، الآية: 122.
[6] الحديد، الآية: 28.
[7] نهج البلاغة، الخطبة: 184.
[8] المصدر السابق: الحكمة 124.
[9] المصدر السابق: الخطبة 183.
[10] النور، الآية: 40.
[11] آل عمران، الآية: 19.
[12] آل عمران، الآية: 85.
[13] الحديد، الآية: 25.
[14] البقرة، الآية: 251.
[15] النساء، الآية: 163.
[16] الأنبياء، الآية: 79.
[17] النمل، الآية: 15.
[18] النمل، الآية: 16.
[19] ص، الآية: 17.
[20] ص، الآية: 26.
[21] الجمعة، الآية: 2.
[22] النور، الآية: 33.
[23] الحديد، الآية: 7.
[24] النساء، الآية: 5.
[25] التوبة، الآية: 34.
[26] الحشر، الآية: 7.
[27] النساء، الآية: 29.
[28] سبأ، الآية: 12.
[29] سبأ، الآية: 13.
[30] النمل، الآية:44.
[31] سبأ، الآية: 10 ـ 11.
[32] الأنبياء، الآية: 80.
[33] هود، الآية: 37.
[34] المؤمنون، الآية: 27.
[35] الكهف، الآية: 96.
[36] البقرة، الآية: 279.
[37] الإسراء، الآية 34.
[38] البقرة، الآية: 177.
[39] الأنفال، الآية: 56.
[40] الحجرات، الآية: 13.
[41] التوبة، الآية: 12.
[42] النساء، الآية: 58.
[43] المؤمنون، الآية: 8.
[44] آل عمران، الآية: 75.
[45] المائدة، الآية: 20.
[46] البقرة، الآية: 126.
[47] إبراهيم، الآية: 45.
[48] البقرة، الآية: 129.
[49] الغرر والدرر للآمدي/342 ط قم.
[50] المصدر السابق/354.
تعليقات الزوار