"غاب عنّا بجسده؛ ونحن كأهل وكمحبّين له أكثر المتأثّرين بغيابه عنّا.. ولكنّنا جميعاً معتقدون أنّ روحه صعَدت إلى السماء، إلى بارئها، وأنّ الشهادة هو طلبها فاستحقّها، ونالها.. هو فخرٌ لنا ولكلّ أهل البلد ولكلّ شريف".
حين تسمع هذه الكلمات، لا بدَّ أن يتبادر إلى ذهنك صَبر عوائل الشهداء، فما قاله الأستاذ "محمد النمر" بحقّ شقيقه، العالِم المجاهد الذي كرّس حياته لخدمة الدين والدفاع عن الحقّ، الشيخ نمر باقر النمر، يؤكّد أنّ ساحة الشهادة يختار الله أهلها بعناية. وكيف إذا ما كان الشهيد مدرسة بحدّ ذاته، فتغدو هذه الكلمات مثالاً بسيطاً على الصبر والسلوان في حضرة الإرادة الإلهيّة.
ويكفيك أيّها القارئ العزيز أن تقرأ بعضاً من تفاصيل حياة الشيخ النمر، كما رواها شقيقه، والتي ترسم في الذهن صورة عن حياة من لا يتوفّون إلّا والشهادة وسامهم.
* مسيرة نضال وكفاح
في العواميّة، محافظة القطيف، سنة 1959م كانت ولادة الشيخ "نمر باقر النمر". وفي سنّ السادسة عشرة تخرّج من الثانوية ووضع أوّل خطوة في الطريق الذي كان قاطعاً في وضوحه بالنسبة إليه. في ريعان الشباب أسّس أوّل مكتبة في البلدة، في أحد المساجد، وهو ما كان في ذلك الوقت أمراً مميّزاً، كما يلفت الأستاذ "محمد النمر"، مضافاً إلى كونه من ضروب المخاطرة؛ إذ إن المملكة السعوديّة كانت تمنع كتباً معيّنة من الدخول إليها.
ومن القطيف إلى إيران، ذهب الشيخ الشهيد في سبيل العلم حيث التحق بحوزة القائم وقطع شوطاً كبيراً من الدراسة، ثمّ بدأ رحلته مع التدريس، فتتلمذ على يده عدد كبير من التلامذة من العالم العربيّ والغربيّ... ويذكر الأستاذ محمد أنّ من بين تلامذته، على سبيل المثال، رئيس دولة جزر القمر السابق "أحمد عبد الله محمد سامبي".
* مشروعه الإصلاحيّ السلميّ
يقول السيّد محمد: سنة 1994م عاد الشيخ النمر إلى المنطقة الشرقيّة في المملكة، واضعاً نصب عينيه مشروعه الإصلاحيّ الذي كان بدوره مطلب عموم الإصلاحيّين.
ولعلَّ بناء قبور البقيع في السعوديّة، ورفع التمييز الطائفيّ، مطلبان أساسيّان ملحّان لم يغيبا عن دعوة الشيخ الشهيد. دعوات، بالتأكيد، قوبلت بالرفض العلنيّ أحياناً وبافتعال الصدامات من قِبَل السلطات مع أهالي القطيف أحياناً أخرى.
بيد أنّ الشيخ الشهيد، كان يصرّ على أن تكون كلّ التظاهرات التي تخرج في المنطقة مطالبة بالإصلاحات سلميّةً، بل كان يؤكّد أنّ العمل السلميّ أساس هذا الحقّ المشروع.
ويؤكّد الأستاذ محمد أنهم، في القطيف، جزءٌ من مكوّن ثقافيّ، فكريّ إصلاحيّ في المملكة بالدرجة الأولى قائلاً: "هذا ما لم يَرُقْ للبعض، بل ذهبوا لاتّهامنا بأننا دعاة انفصال وهو أمر مرفوض بالنسبة إلينا".
بعد سنة 2009م أصبح الشيخ النمر مطلوباً من قِبَل السلطات، فتوارى عن الأنظار وألقى خطابات شجاعة، ولكن ظلّ يشدّد على عدم حمل السلاح، حتّى الحجارة في المظاهرات التي تخرج في القطيف، ولكن، على الرَغم من ذلك، اعتُقل تعسّفاً ووصلت العقوبة إلى الإعدام بسبب آرائه.
يُبدي الأستاذ محمد استغراباً كبيراً من الحكم بالإعدام على الشيخ، ويشير إلى أنّ وضع اسم الشيخ النمر من ضمن قائمة تتألّف من سبعة وأربعين مطلوباً من مرتكبي الجرائم (بحسب قولهم) يُعدّ خلطاً للأوراق، فالشيخ النمر لم يقتل أحداً، بل هو منع إراقة الدماء.
* شخصيّته الإنسانيّة
يقول الأستاذ محمد: "الشيخ النمر قضى أربع سنوات وحده في زنزانة صغيرة، حفظ خلالها القرآن، فقد كان يقضي جلّ وقته في قراءة القرآن وتدبّره إلى جانب كتب أخرى، كنت قد أحضرتها له، منها كتابان لـ"نيلسون مانديلا" و"مارتن لوثر كينغ" محرّر العبيد في أميركا".
ويضيف الأستاذ محمد: "كنّا نذهب إليه من فترة إلى أخرى. وحتّى بعدما ذهبنا لتقديم واجب العزاء له بوفاة زوجته ظلّ متماسكاً ومتمسّكاً بالطريق الذي سلكه متمنّياً أن ينال الشهادة".
* عاشق للشهادة
وكيف لا يكون الصبر صفة من صفات من عرف الإمام السجاد عليه السلام وتأسَّى به؟... فإلى جانب الصلابة والثبات كان الشيخ النمر قدوة في التواضع. فلم يملك الشيخ أيّ حساب ماليّ، ولم يملك منزلاً في القطيف، بل كان مستأجراً، كما يشير الأستاذ محمد.
كان الشيخ النمر عاشقاً للصلاة يقصد مسجداً بعيداً عن منزله كلّ فجر؛ ليصلّي صلاة الصبح دائماً حتّى في الشتاء. أمّا صلاة الجماعة فلم تكن لديه أيّ مشكلة أن يصلّي خلف أيّ إمامٍ يُكلَّف بإمامة الصلاة، إذ اتّسمت شخصيّة الشيخ الشهيد بالتواضع والزهد.
كما كان الشيخ الشهيد يحتلّ مكانة كبيرة في وجدان الشباب، وكان قريباً منهم، يسعى إلى حلّ مشاكلهم، ويبثّ في نفوسهم روح الجهاد والمثابرة. لذا، نزل خبر إعدام الشيخ كالصاعقة عليهم، كما يؤكّد الأستاذ محمد، على الرَغم من أنّهم كانوا على علم بأنّ الشهادة هي ما تمنّاه الشيخ وهو ما دفعهم إلى تحويل المأتم إلى تقبّل التبريكات وتوزيع الحلوى بهذه المناسبة الجليلة في البلدة.
وكان الشيخ الشهيد يعمل باستمرار على أن يكون بادرة صلح في أغلب المشاكل الاجتماعيّة، التي كانت تواجه عائلات القطيف. لذا، كان بمثابة القدوة لهم والموجّه، حاضراً في المساجد، وساحات الجهاد، وفي عائلته أيضاً، وفي ميادين العلم كافّة.
* نملك الحسين في تضحياتنا
لعلّ الشجاعة هي الصفة التي ميّزت شخصيّة الشيخ الشهيد، كما سبق وأكّد الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، وهذا ما يختصر بالقول الشهير الذي أطلقه الشيخ "إن كنتم تملكون فرعونَ في ظُلمكم فنحن نملك الحسين في تضحياتنا".
الشيخ الشهيد أعطى درساً للعالم أجمع كيف يكون الإنسان مظلوماً فينتصر، وكيف يكون الإنسان نموذجاً في الصبر والثبات على طريق الحقّ.
الرسالة العظمى التي وجّهها الشهيد النمر ليست إلى المجتمع الإسلاميّ فقط، بل إلى العالم أجمع أنْ: "ضعوا حدّاً للاستبداد والظلم وكونوا أحراراً في دنياكم ولو كان الثمن بذل الدماء".
المصدر: مجلة بقية الله
تعليقات الزوار