بقيت شعوب العالم المختلفة وعلى مدى عقود طويلة مشدودة إلى عدد من الثورات التي حدثت في بعض الدول، ورغم أن تلك الثورات كانت عميقة الجذور وأفرزت تأثيرات كبيرة على الصعيد العالمي، إلاّ أن ذلك الانشداد العالمي لتلك الثورات لم يكن طبيعياً في بعض أجزائه، ذلك أن القوى العالمية وتحديداً الغربية كانت تعمل دائماً على تضخيم تلك الثورات وإبقائها حية بشكل مستمر من اجل بقاء ذلك الانشداد والانبهار. ولا شك في أن الهدف الاستراتيجي من هذه العملية واضح جداً، فالغرب يريد أن تكون ثقافته اياً كان اتجاهها هي القدوة لجميع شعوب العالم.
لكن ومع انتصار الثورة الاسلامية في ايران، فان بريق تلك الثورات بدأ يضمحل كما أن ذلك الانبهار أخذ يتلاشى على الأقل في العالم الاسلامي الذي وجد في الثورة الاسلامية ضالته الكبرى. فالثورة الاسلامية التي كانت آخر الثورات العالمية من الناحية الزمنية، استطاعت أن تخطف الاضواء التي كانت مسلطة على الثورات الأخرى، كالثورة الروسية والثورة الفرنسية والثورة الاميركية وغيرها. وبدون ادنى شك فإن البعد الفكري والقيادي والشعبي في الثورة الاسلامية، هو الذي اعطى للثورة هذه الصدارة العالمية حتى اننا لا نبالغ إذا قلنا بأن العالم ربما لن يشهد ثورة اخرى تفوق الثورة الاسلامية من حيث الخصائص التي تميزت بها وما تزال.
فقائد الثورة، الامام الخميني الراحل، هو قبل كل شيء هو عالم دين، وهذا بحد ذاته، أي هو كونه عالم دين، قد أسقط نظرية كانت سائدة ليس في الوسط الغربي بل حتى في العلام الاسلامي المتأثر بالغرب وهي أن (الدين أفيون الشعوب). لقد كانت انطلاقة الثورة بقيادة علماء الدين كما ان شعاراتها كانت دينية ايضاً، أما الطبقة التي انخرطت في العملية الثورية فهي الأمة برمتها بدون اي استثناء بمعنى انها لم تكن ثورة طبقية كما تروّج الماركسية لها.
حكمة القائد
الشيء الآخر المتميز في قيادة الثورة هو أن الامام الخميني الراحل كان شيخاً مسناً يفترض ان يكون جليس الدار كما هو حال أقرانه، والأهم من كل ذلك هو ما أثاره جميع المعنيين ان اتباع هذا "القائد المسن" هم من الشباب وهذه مفارقة أذهلت (تيرنر) رئيس وكالة المخابرات الاميركية في عهد جيمي كارتر.
أهداف الثورة وشعاراتها دفعت الكثيرين في تلك الفترة الى الشعور بالعطف على قيادتها، بسبب الصعوبة بل المستحيل في تلك المرحلة الصعبة أن يتحقق قيام دولة عصرية على أسس دينية وان لا يكون لها اية علاقة لا بالمعسكر الشرقي ولا بالمعسكر الغربي حيث كان العالم في بداية عهد الثورة يعيش حالة القطبية الثنائية. لقد توهم الكثيرون بأن ايران ستعود الى فترة العصور الوسطى بسبب اصرار قيادة الثورة على اعتماد الدين في تسيير شؤون البلاد. وبسبب الدعاية الضخمة المعادية للثورة وقع بعض اصدقاء الثورة تحت تأثير تلك الدعاية خاصة بعد أن رأى هؤلاء أن حكومة الثورة تتجه بالفعل نحو الاستقلال الكامل عن الشرق والغرب.
ومما زاد في قناعة الكثيرين بأن الثورة لن تعمر طويلاً وأن ايران ستعيش اضطراباً ربما يستمر طويلاً وتتحول الى حرب أهلية، فالاغتيالات التي تعرض لها عدد من الوجوه البارزين في قيادة الثورة في بداية انتصارها من امثال الشهيد مرتضى مطهري والشهيد محمد مفتح وكذلك الفتن الداخلية التي قامت بها بعض العناصر والأحزاب المرتبطة بالخارج، ثم جاءت الحرب التي شنّها رئيس النظام العراقي السابق ضد الجمهورية الاسلامية في عام 1980 والثورة لم تخرج بعد من عامها الثاني لتزيد في قناعة هؤلاء بأن ايران تتجه في احسن الأحوال نحو التقسيم.
لكن الشيء الذي أذهل الأعداء وكذلك الأصدقاء هو أن قيادة الثورة وبنفس الارادة التي استطاعت بها أن تسقط أعتى الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة والمدعومة بشكل مباشر من قبل الولايات المتحدة والغرب، تمكنت في القضاء على الفتن الداخلية وهذه قضية في غاية الأهمية، تغيير ميزان الحرب بعد اقل من عامين على اندلاعها وبشكل أثار استغراب الجميع.
المؤسسات الدستورية
ورغم انشغال الثورة الاسلامية بالحجم الهائل من المشاكل المتعددة الأشكال والاتجاهات، فانها لم تغفل عن اقامة المؤسسات الدستورية التي قلّ نظيرها في دول المنطقة والعالم مع أن قيادة الثورة كانت بامكانها أن تؤجل إقامة تلك المؤسسات الدستورية وكذلك الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وغيرها بسبب الأزمات الحادة التي كانت تواجه الثورة في تلك المرحلة الصعبة. لكن الامام الخميني الراحل كان يصر على ضرورة اقامة تلك المؤسسات برغم المشاكل من قاعدة ان الشعب هو صاحب الحق الأول في هذه الثورة وانه من الواجب عدم التفريط بهذا الحق المقدس لذلك، فان الامام الخميني الراحل كان حريصاً جداً على أن يعرف رأي الشعب باسم النظام السياسي الذي يريده فتم اجراء انتخابات عامة حول اسم النظام السياسي رغم ان بامكان الامام الخميني أن يحدد هذا (الاسم)، وبالفعل تمّ التصويت على "الجمهورية الاسلامية" ثم جرت انتخابات اخرى لانتخاب مجلس الخبراء ليقوم بصياغة دستور للبلاد بعدها جرت انتخابات لاحقة على نفس الدستور. وبعد فترة قصيرة جداً جرى انتخاب اعضاء مجلس الشورى الاسلامي ومن ثم انتخاب رئيس للجمهورية. هذه هي باختصار شديد وسريع تجربة الثورة في اقامة المؤسسات الدستورية رغم ضخامة المشاكل والصعوبات. جدير ذكره أن تجربة الانتخابات لم تتوقف حتى اثناء الحرب التي استمرت ثماني سنوات سواء لانتخاب رئيس للجمهورية أو أعضاء البرلمان.
هذه الخصائص التي تميّزت بها الثورة الاسلامية ابتداءً من طبيعة القيادة ومروراً بالأهداف والشعارات وإقامة المؤسسات الدستورية وانتهاءً بقدرة الثورة على تجاوز الصعوبات، كلها تجعل من الثورة "استثناءً" فريداً بين جميع الثورات في العالم.
البعد الانساني
وربما كان من بين أهم ما تميزت به الثورة الاسلامية عن باقي الثورات، الطابع الانساني، ذلك ان جميع الثورات اتسمت بالطابع الدموي الذي لم يفرّق بين ابنائها وقيادتها واعدائها. فالثورة الفرنسية حوّلت باريس والمدن الفرنسية الأخرى الى ساحات اعدام تنصب فيها المقاصل لتقطع فيها رؤوس اعداء الثورة أمام الملأ، وحسب بعض الاحصائيات الرسمية، فان عدد الذين قطعت المقاصل رؤوسهم يزيد على اربعين الف فضلاً عن اولئك الذين صدرت بحقهم احكام السجن، كل ذلك حدث قبل مئتي عام من انتصار الثورة الاسلامية في ايران.
أما الثورة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي السابق فان المؤرخين ما يزالوان يختلفون حول عدد اولئك الذين صدرت بحقهم قرارات الاعدام والتي تصل الى الملايين حيث لم تتوقف ماكنة الاعدام الشيوعية حتى عهد ستالين الذي مات في بداية الخمسينات من هذا القرن. إن الدموية التي تميزت بها الحقبة الشيوعية على مدى حوالي سبعين عاماً، لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ورغم ذلك استهوت قلوب الكثيرين في دول العالم المختلفة ومنها العالم الاسلامي.
لكن الثورة الاسلامية التي كانت حريصة على اقامة المؤسسات الدستورية منذ بداية الانتصار خدمة للشعب، تعاملت بحذر شديد حتى مع اعداء الثورة ولم تنزلق الى المزالق التي انحدرت اليها باقي الثورات، ذلك انها، اي قيادة الثورة كانت تنظر الى اعداء الثورة بشكل يختلف جوهرياً عن نظرة الآخرين. لذلك، فقد حرضت الثورة على اجراء محاكمة حتى لأولئك الذين كانت ايديهم ملطخة بدماء الشعب، وهو ما أثار بعض الانتقادات، بمعنى انه حتى اولئك الذين لا يتعاطفون مع الثورة كانوا مستغربين من طريقة التعامل التي مارستها قيادة الثورة مع رجالات النظام الشاهنشاهي. إنه البعد الانساني الذي افتقدته الثورة الفرنسية وكذلك الشيوعية والتي دفع بها في نهاية المطاف الى الزوال والانقراض. وبسبب الطابع الانساني للثورة الاسلامية، لم يبرز بين رجالاتها مثل دانتون وروبسير الذين نصبوا المشانق في فرنسا أو مثل ستالين في الاتحاد السوفيتي كما أن الثورة لم تشهد بين قيادتها رغم مضي اعواماً على انتصارها شخصية غير متوازنة مثل خروتشوف الذي كانت تصرفاته تتسم بالطيش وعدم الاتزان، وبعبارة أخرى فان الثورة كانت وما تزال سليمة من شخصيات دكتاتورية مثل ستالين وروبسير أو طائشة مثل خروتشوف أو ضعيفة مثل غورباتشوف. انها الثورة التي لا تشبه إلا نفسها ولا يمكن مقارنتها بأي من الثورات الأخرى وذلك بسبب الطابع الديني الذي تميزت به منذ بداية انطلاقتها الأولى.
وتبقى ميزة أساسية أخرى للثورة الاسلامية وهي قدرتها على ان تتعافى من الأزمات والصعوبات. ففي بداية انتصار الثورة، كانت ايران تعتبر دولة ضعيفة بالمقاييس العادية إذا ما قورنت بباقي دول المنطقة الأخرى بسبب المشاكل السياسية والأمنية والاقتصادية التي كانت تواجه حكومة الثورة. ولا شك في أن هذا الضعف هو الذي أغرى النظام العراقي وبتحريض اميركي ودعم اقليمي الى شن هجوم عسكري مباغت كان الحد الأدنى من اهدافه تحجيم الثورة، لكن وبعد اعواماً من عمر الثورة تبدو ايران اليوم اقوى دول المنطقة وأكثرها استقراراً بل انها استطاعت ان تلحق الهزائم المتلاحقة بالولايات المتحدة الاميركية وهي في عز شعورها بانها القوة العالمية الأولى في العالم.
انها الثورة المعجزة في انتصارها وفي بناء مؤسسات الدولة العصرية وفي مواجهتها للأزمات المتلاحقة وكذلك في تحقيق الانتصارات المتلاحقة.
تعليقات الزوار