إن أوضاع الأمة في هذا المفصل الدقيق من الصراع تقتضي من بعض حركات التحرر الوطني والإسلامي أن تستفيد من الخصائص القيادية عند الإمام الراحل (قدس سره)، وأن تعيد بناء علاقتها بالثورة انطلاقا من هوية الثورة كما صاغها قائدها وفيلسوفها، لا من منطلق التأثر بمفردات الحملات المغرضة التي تريد أن تحشر الثورة في العنوان المذهبي أو تقحمها في الحساب الإقليمي والمصلحي الضيق.
نعيش هذه الأيام في أجواء عشرة الفجر المباركة، عشية انتصار الثورة الإسلامية في ذكراها الثلاثين؛ وهي الذكرى التي في العادة تـُستعاد فيها المسيرة الثورية للإمام الراحل، ويـُلقى فيها الكثير من الضوء على مشروعه الإحيائي والاستنهاضي في أبعاده الحضارية والتحررية، وعلى مميزات شخصيته القيادية، كما هي فرصة أيضا للنظر والتأمل في خصائص مدرسته الفقهية ومنهجه الاجتهادي, ولأن المناسبة تستدعي كل هذا وأكثر بما لا يسعه المجال هنا، فإننا ولدوافع منهجية سنقصر الحديث عن ملامح من الأداء القيادي للإمام قبل وبعد عودته من منفاه الاضطراري، ونلقي بعض الضوء حول طبيعة وهوية المشروع الثوري للسيد الإمام (قدس سره)، فالأداء القيادي وهوية الثورة هما عنصران محوريان في واقعة الثورة الإسلامية، وأوضاع الأمة في هذا المفصل الدقيق من الصراع تقتضي من بعض حركات التحرر الوطني والإسلامي أن تستفيد من الخصائص القيادية عند الإمام الراحل (قدس سره)، وأن تعيد بناء علاقتها بالثورة انطلاقا من هوية الثورة كما صاغها قائدها وفيلسوفها، لا من منطلق التأثر بمفردات الحملات المغرضة التي تريد أن تحشر الثورة في العنوان المذهبي أو تقحمها في الحساب الإقليمي والمصلحي الضيق.
ملامح من النهج القيادي للإمام الخميني (قدس سره):
منذ بداية حركته الثورية كان المحدد عند الإمام (قدس سره) هو التكليف الشرعي، فلم يلجأ الإمام إلى تكتيكات مرحلية تـُخضع مشروعه الثوري والمتمثل في إسقاط نظام الشاه الفاسد وإقامة الحكومة الإسلامية إلى إكراهات الواقع وما أكثرها في مسيرة الإمام، بل كان مصمما وواضحا في رؤيته ومشروعه، وكان يجيّر كل مواقفه المتصلة بهذا التطور أو ذاك لصالح تعزيز مظاهر الحالة الثورية واستقطاب أوسع الجماهير إلى صفوفها، كان كل موقف، كل تحرك، كل فداء يصب توسعة وتعزيزا للحالة الثورية وبناءً لها.
ليس خافيا أنه لم يكن في مقدور الثورة أن تستفيد من رأسمال كبير في الحوزة، لأن البعض كان لا يرى مشروعية في القيام والثورة، لكن الإمام وبمعية الفئة المؤمنة التي آمنت بخطه ونهجه راهن على الجماهير، ونجح الإمام في ذلك نجاحا عظيما، استطاع الإمام بثباته ووضوح رؤيته وشجاعته وضبط إيقاع حركته على وفق خط تصاعدي نحو الثورة، لم يزحزحه ضغط أو إرهاب قيد تكتيك مرحلي عن الهدف الأساس؛ وهو التحرر من الاستبداد وبناء حكومة العدل الإلهي.استطاع الإمام من خلال كل هذا أن يخلق الشرط الثوري الجماهيري لنجاح مشروعه الإحيائي، حيث تحررت الجماهير من القيود الوهمية على حركتها، والتي كانت أحيانا تأخذ لباس الدين، وحطمت حاجز الخوف واستلهمت الشجاعة من إمامها الذي بلور استعدادتها الثورية بعمق، وربط نهجها الاستشهادي بعاشوراء الحسين (عليه السلام).
كان حاصل هذا التلاحم بين الإمام والجماهير الوصول بالمسيرة الثورية إلى (عشرة الفجر) المباركة، والتي ابتدأت مع عودة الإمام إلى طهران رغم أنف النظام، ومن ثم خطبته التاريخية في (بهشت زهراء) التي رسم فيها عناوين التحرك؛ إسقاط النظام وتشكيل الحكومة، حيث قال: «فإن ملكية محمد رضا غير قانونية أولاً، لأن ملكية أبيه كانت خلافاً للقانون وقامت بالقهر وقوة السلاح.... إنني سأشكل الحكومة وألقم الحكومة الحالية حجراً! إني سأعيّن حكومة بمساندة هذا الشعب..».
ومن الحكومة الانتقالية، إلى القرار الشجاع؛ والذي يمثل مفصلا هاما وحاسما في مسيرة الثورة؛ بدعوة الجماهير إلى الخروج إلى الشوارع لإجهاض مخطط الانقلاب فيما سمي في يوميات الثورة بالجمعة الدامية، فكان الفداء عظيما وفي فجر الحادي عشر من شباط 1979م، أشرقت شمس انتصار الثورة الإسلامية على البشرية جمعاء.
هوية الثورة الإسلامية:
أما في موضوع هوية الثورة فان الحاجة تدفع إلى إبراز الهوية العقائدية والسياسية للثورة أمام ما تعيشه الأمة من امتحان عسير على صعيد وحدتها بفعل المخطط الأمريكي وملحقاته التكفيرية والسياسية في المنطقة، الامتحان الذي تبدت خطورته ـ مرة أخرى ـ في سياق التطورات الأخيرة بغزة. فالذي حمل دول محور الاعتدال على التورط في العدوان على غزة اعتبارها حركة (حماس) طرفا في محور الممناعة الذي تقوده إيران، وأن (حماس) متورطة في رهن القضية الفلسطينية بالقرار الإيراني!، ومن كون رفض (حماس) لتجديد التهدئة المذلة يخدم الأجندة الإيرانية الإقليمية، وكأن إيران طارئة على دعم القضية الفلسطينية، وكما لو أن هذه القضية شأن عربي أو حتى سنـّي كما تلمح إلى ذلك بعض الأطراف الإقليمية.
إن ما تتعرض له (حماس) من هجمة هو نفس ما تعرض له (حزب الله) في أعقاب حرب تموز، حيث أتهـِم الحزب بأنه يحول لبنان إلى ساحة لمعارك الآخرين؛ والقصد هنا إيران بالطبع.
إن هوية الثورة ناصعة وجلية، إنها التعبير عن الإسلام المحمدي الأصيل، وهي بالطبيعة والمبادئ والشعار خارج الأطر المذهبية الضيقة، حتى وإن لعبت بعض الرموز المذهبية دورا في انتصارها، وتكفي هنا الإشارة إلى موضوع الوحدة في علاقته بالثورة، والذي هو أعمق بكثير مما يعتقده البعض، وإذا سلمنا أن بعض المقاربات المنهجية لفكرة (الوحدة) وموقعها في المشروع الفكري للسيد الإمام (قدس سره) أو على صعيد الحركة السياسية للثورة، هي مقاربات صائبة وتقود إلى نتائج مهمة، لا اقلها إثبات أصالة فكرة الوحدة في المشروع الإسلامي الثوري الذي أسس له الإمام الراحل، إلا أنها مع ذلك تظل قاصرة لجهة انتمائها لجنس تلك الرؤى والمقاربات التي تتمثل حركة الثورة بما هي نهضة شيعية بالأساس وهو التوصيف الذي يفتقر إلى العمق والدقة.
فالثورة الإسلامية لم تكن تحويرا جذريا في الخارطة الجيوسياسية للمنطقة والعالم فحسب, ولا كانت انقلابا في موازين القوى لصالح حركة المستضعفين فقط، بل كانت الثورة فوق ذلك ومع ذلك، تحويرا وتجاوزا لمعطيات دينية وتاريخية نشأت وترسخت وفق ثنائية سنة/ شيعة منذ أن انقسم المسلمون في تجربتهم السياسية والتاريخية إلى سنة وشيعة, نعم لا أحد يستطيع أن يناقش في كون الخلفية العقائدية والعمق الإيديولوجي للثورة يقع ضمن مدرسة أهل البيت عليهم السلام، إلاّ أنها مع ذلك تجاوزت وخرجت عن حد الأطر المذهبية الضيقة والتقليدية، واتخذت من الوحدة الإسلامية هوية لها, ومن هذا المنطلق فتحت على سيرورة دينية (فوق مذهبية) بامتياز لامست أفق الإنسانية الرازحة تحت خط الحرمان والاستضعاف.
لقد قدمت الثورة صورة ناصعة عن الإسلام المحمدي الأصيل, إسلام العزة والكرامة، الإسلام المحرّر لإرادة الشعوب في مقابل الإسلام الأمريكي كما كان يسميه الإمام الخميني (قدس سره)، وأعادت صياغة خارطة التموضعات وأعطتها هوية جديدة فأضحى الصراع صراعا بين المستضعفين والمستكبرين.
إن الإمام الخميني (قدس سره) لم يشب أبدا مشروعه التحرري بأية نزعة مذهبية ضيقة، ودفعا لكل التباس فالحديث هنا عن النزعة الضيقة لا عن أصل الانتماء والانتساب، فهو يقول في وصيته السياسية الإلهية: «.. نفخر أن مذهبنا جعفري وأن فقهنا ـ وهو البحر اللامتناهي ـ واحد من آثاره (عليه السلام) نحن فخورون بجميع الأئمة المعصومين (عليهم صلوات الله) ملتزمون بالسير على نهجهم..» وهو- أي الإمام - لم ينظر إلى نهضته و إنجازه الثوري على أنه انتصار على استبداد محلي، بل كانت حركته مشروعا تحرريا ذي أبعاد إنسانية، سعت لأن تبني نمطها السياسي والاجتماعي على أسس من الدين الحنيف كما تبلورت العناصر الجوهرية لذلك النمط في كتابه (الحكومة الإسلامية)، وليقدمه كنموذج للبشرية وكتجربة في الخلاص من الاستبداد والاستلحاق بالدوائر الإستكبارية, كانت الثورة ولازالت نقيضا للهيمنة والاستبداد.. تطلعت في نهجها وفي شعاراتها إلى الإنسانية المعذبة، وانفتحت بصدق على عالم المستضعفين في كل أرجاء المعمورة من منظور إسلامي وتحرري، و وضعت كل إمكانياتها في دعم وإسناد كل حركات التحرر في العالم وفي مقدمتها حركة التحرر الوطني الفلسطيني .
إن الارتكاس عن أفق الثورة العظيم وتشوش هويتها في بعض مظاهر الوعي السائد, سواء بالمزايدة بها على اعتبار أنها منجز تاريخي ومكسب استراتيجي للشيعة والتشيع ـ وإن كان في ذلك بعض الحقيقة ـ، أو بالتعسف بقراءتها وفق معادلة المعايير الإقليمية الضيقة ؛هو في الواقع تبخيس لعظمتها وتقزيم لأبعادها الإنسانية، و تعـدّ على جوهرها وحقيقتها، وسقوط في عدم الفهم لخط ونهج قائدها وفيلسوفها، ولعل ذلك مدعاة لإعادة قراءة واقعة الثورة قراءة جديدة.
إن استحضار ذكرى الثورة الإسلامية هو استحضار للقيم الإسلامية الكبرى، هو استحضار لخط الثورة ومبادئها الثابتة والراسخة, انه استحضار لهوية الثورة الإسلامية في بعديها الإنساني والتحرري والآبية على كل تنميط مذهبي، أو إسقاط في نسيج ما هو مصلحي إقليمي ضيق.
عبدالرحيم التهامي
تعليقات الزوار