منذ ثلاثين عاماً، ونحن نتحدّث في مثل هذا اليوم عن الإمام الخمينيّ الجليل. فالإمام الخمينيّ قمةٌ من القمم الشامخة، وسوف يبقى شعبنا وأمّتنا على الدوامّ يتحدّثون عنه، وهذا هو العمل الجدير واللائق؛ لأنَّه رمز الثورة، هذه الثورة التي استمدّها من نهج أهل البيت عليهم السلام، ويأتي في طليعتهم الإمام عليّ عليه السلام، وهذا ما يعيد إلى الذهن التشابه بين هذا الموالي الحقيقيّ لأمير المؤمنين عليه السلام، وذلك المولى العظيم والسامي.
•الخمينيّ قدس سره على نهج أمير المؤمنين عليه السلام
ثمة نقاط تشابه هي مبعث فخر للأمّة الإسلاميّة. وإنّ الانتباه إلى هذه النقاط أمرٌ مهم لتحديد الدرب الصحيح، وكذلك للتعرّف أكثر إلى إمامنا الجليل.
الأوّل: الجمع بين الشدّة والرّقة
أ- جمع أمير المؤمنين عليه السلام بين خصوصيّتين متضادّتَين في الظاهر: إحداهما الصلابة والصمود والشدّة، والثانية اللطافة والصفاء والرقّة. فالصلابة والشدّة ظهرتا جرّاء كلّ فعل مخالف للحقّ؛ كالظلم، والانحراف عن طريق الله، والطغيان، والإغراءات، والوساوس. وفي مقام ذكر الله ومناجاته، وفي تعامله مع المظلومين، والمحرومين، والضعفاء، والمستضعفين، كان يتصرّف ويتعامل بمنتهى اللطف والرقّة. فعلى سبيل المثال: تعامل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مقابل معاوية بتلك الصلابة، وقد أشار بعضهم على أمير المؤمنين عليه السلام أن ينتظر مدّة من الزمن، ولا يعزل معاوية عن ولاية الشام، ولكنّه رفض.
ولكن من ناحية أخرى، نرى منه في التعامل مع الضعفاء والمستضعفين لطفاً، ونقاءً، وصفاءً يتحيَّر الإنسان منه. فقصّة ذهابه إلى بيت زوجة الشهيد والدة الأيتام بشكل مجهول ومن دون أن تعرفه، وإعداده الخبز لهم، وتسليته للأطفال، ما هي إلّا دليل على كلّ هذا اللطف والرقّة!
ب- في إمامنا الجليل تجلّتا أيضاً: لقد وقف الإمام قدس سره كالصخرة الصلبة في وجه النظام البهلويّ المنحطّ والطاغوتيّ والفاسد، ووقف مقابل أمريكا وتهديداتها كالجبل الشامخ، ومقابل صدّام المعتدي في الحرب المفروضة والدفاع الذي استمرّ ثمانية أعوام، وبوجه الفتن الداخليّة.
ومن ناحية أخرى، يلاحظ الإنسان رقّة الإمام الخمينيّ الجليل ولطافته، حيث وصلته يوماً رسالة من والدة شهيد، وقد نقلتُ له أنا العبد، تلك الرسالة بنفسي، فامتلأت عينا ذلك الرجل الصلب بالدموع!
الثاني: ثلاثيّة المسيرة: اقتدار، ومظلوميّة، وانتصار
أ- ثلاث خصوصيّات لحركة أمير المؤمنين عليه السلام: إذا أردنا فهم قوّة أمير المؤمنين عليه السلام واقتداره بصورة صحيحة، فيجب أن ننظر إلى المساحة الواسعة للمنطقة التي كان يحكمها عليه السلام؛ من أقصى شرق أفغانستان الحاليّة إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط ومصر، حيث كانت تُدار من قِبَله، بمنتهى القدرة والمتانة.
كما أنّ هذا الإنسان القويّ هو إنسانٌ مظلوم! تتّضح علامات هذه المظلوميّة في سلوك أعدائه وحُسّاده، وفي التُّهم الدنيئة التي وجّهها له عملاء أعدائه في حياته، وفي الخواصّ الطامعين في الدنيا. وبعد رحيله واستشهاده، وإلى سنين طويلة، بقي أعداؤه المتربّعون على عرش السلطة والحكم، يهينونه على المنابر في أنحاء البلد الإسلاميّ الواسع كلّه.
ومع ذلك، عندما ينظر المرء إلى مُجمل هذه الأمور والأحداث، يرى أنَّ المنتصر النهائيّ في هذه المعركة الطويلة هو أمير المؤمنين عليه السلام. لاحظوا اليوم اسم أمير المؤمنين وشخصيّته أين هما في آفاق الإنسانيّة العظيمة، وفي التاريخ البشريّ! إنّهما في الذروة ولا ذِكر لأعدائه.
ب- في إمامنا الراحل تجلّت هذه الثلاثيّة: كان الإمام الخمينيّ العظيم إنساناً قوياً مقتدراً، استطاع إسقاط الحكم الطاغوتيّ الديكتاتوريّ الوراثيّ بعد ألفي سنة في هذا البلد الكبير الواسع، وهذا دليل على القوّة الاستثنائيّة للإمام الكبير. كما أنّه استطاع طرد وهزيمة أمريكا التي كانت لها مصالح حيويّة هنا، ويفرض عليها التراجع، ويحبط المؤامرات، وينزل الفشل على المخطّطين للحرب المفروضة.
ومع ذلك، فقد كان الإمام الخمينيّ الكبير مظلوماً بسبب الدعايات والإعلام الواسع الذي بثّه الأعداء ضدّه، في زمن حياته، ولفتراتٍ طويلة بعد رحيله.
ورغم ذلك، فقد انتصر الإمام في نهاية المطاف، كما انتصر أمير المؤمنين عليه السلام. وقد كان انتصاره ماثلاً في قوّة النظام الإسلاميّ ومتانته، وبقائه، ورشده، وتقدّمه.
الثالث: أعداء من ثلاث جبهات
أ- أعداء أمير المؤمنين عليه السلام: لاحظوا الجبهة المقابلة لأمير المؤمنين عليه السلام، والمعروفة في التاريخ: القاسطون، والناكثون، والمارقون. القاسطون هم الأعداء الأساسيّون لحكومة أمير المؤمنين عليه السلام، والناكثون هم رفاقه الضعفاء الإرادة، والمارقون هم الجَهَلة الذين تصوّروا أنّهم يتَّبعون الإسلام والقرآن، فوقفوا في وجه القرآن الناطق؛ أي أمير المؤمنين عليه السلام.
ب- هؤلاء واجهوا الإمام الخمينيّ أيضاً: لقد كانت هذه الجبهات الثلاث موجودة مقابل الإمام الخميني العظيم أيضاً؛ أمريكا، والكيان الصهيونيّ، والتابعون لهما في الداخل، فهم القاسطون الذين وقفوا في وجه الإمام الجليل، وعارضوا أصل حكومة الجمهوريّة الإسلاميّة. وهناك في جبهة معارضي الإمام الخمينيّ ناكثون لبيعتهم، وهم الرفاق المتزلزلون وذوو الشخصيّات الضعيفة. والمارقون -الجهلة غير الواعين- هم الذين وقفوا في وجه إمامنا الجليل، ولم يدركوا اصطفافات الأعداء وجبهاتهم، وخططهم وأساليبهم. ولم يكن عداء هذه الفئات الثلاث خاصّاً بزمن الإمام الخمينيّ قدس سره ، إنّما استمرّت واستمرّ عداؤها بعده أيضاً؛ إذ تحاول بقواها كلّها عرقلة الجمهوريّة الإسلاميّة وإحداث الخلل، ولكنّها لا تستطيع الحؤول دون تقدّم هذا الشعب.
•كيف تصرّف الإمام قدس سره مع هذه الجبهات؟!
أذكر خصوصيّات عدّة للنموذج العمليّ لسلوك الإمام الجليل مع هذا الوضع:
أوّلاً: المواجهة الجريئة والفعّالة: كان تعامل الإمام الخمينيّ في مواجهته لهؤلاء الأعداء وحالات عدائهم شجاعاً وفعَّالاً، ولم يكن يتعامل بطريقة ضعيفة ومنفعلة، ولم يتحرّك كردّ فعل.
ثانياً: عدم الانفعاليّة: كان الإمام الخمينيّ يجتنب الضوضاء وافتعال الضجيج، فلم يكن يتأثّر ويثور مقابل الأحداث، ولم يكن يعتمد على المشاعر الخالية من العقلانيّة.
ثالثاً: مراعاة الأولويّات: كان الإمام الخمينيّ يراعي الأولويّات ويركِّز عليها. خذوا مثلاً في مرحلة الكفاح والنضال، كانت أولويّة الإمام الخمينيّ مواجهة النظام الملكيّ، فلم يكن يستغرق في الأمور الهامشيّة على ساحة العمل.
رابعاً: الاعتماد على قدرات الشعب: فقد كان الإمام الخمينيّ يعتبر الشعب الإيرانيّ شعباً كبيراً، واعياً، قديراً، وكان يثق به، ويعتمد عليه، ويُحسن الظنّ به، وخصوصاً بالشباب.
خامساً: عدم الثقة بالعدو: فلم يثق حتّى للحظة واحدة بالعدو طوال عشرة أعوام من حضوره المبارك على رأس النظام الإسلاميّ.
سادساً: الاهتمام بتلاحم الشعب واتّحاده: فكلّ شيء يقسِّم الشعب إلى فئتين وقطبين كان مرفوضاً في نظر الإمام الخمينيّ.
سابعاً: الإيمان والاعتقاد الراسخ بالنصرة الإلهيّة وبالوعد الإلهيّ: فكان يبذل سعيه كلّه، ويحضر في الساحة بوجوده، وكيانه، وطاقاته كلّها، لكنّ أمله منعقدٌ على النصرة والقدرة الإلهيّة.
•إمّا النصر أو الشهادة
كان الإمام الخميني قدس سره يعتقد اعتقاداً حقيقيّاً بإحدى الحسنيَين، وكان يؤمن أنّنا إذا كنّا ننجز العمل لله، فإنَّ أبواب الضرر والخسران مغلقة، بل سوف نتقدّم وننجح، وحتّى لو لم نتقدّم، نكون قد أدّينا الواجب الملقى على عاتقنا، ونكون بذلك مرفوعي الرأس أمام الله عزّ وجلّ.
ــــــــــــ
(*) كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله في الذكرى الـ29 لرحيل الإمام الخميني قدس سره ، 2018م.
تعليقات الزوار