محمد علي التسخيري
يستدعي بسط الحديث إلى حد ما في موضوع الإسلام والحكم مراجعة بعض الأقوال الشاذة التي نفت أن يكون الإسلام قد جاء يرسي نظاماً للحكم ثم التعقيب عليها بالنظرة المخالفة وبيان الحق والواقع.
ولعل "علي عبد الرزاق" مؤلف كتاب "الإسلام وأصول الحكم" هو الذي أثار هذه الضجة، وان كنا نستطيع أن نجد ثمة من أيده كخالد محمد خالد وبعض الكتاب والمستشرقين أيضاً. وتتلخص نظريته في أن الإسلام لم يخطط نظاماً ـ ولو بنحو المبادئ العامة للنظام ـ في مجالات الحكم، وأنه ليس إلاّ دعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة، وإذا كان الرسول (ص) زعيماً فليست زعامته زعامة حكم وسلطان، بل هي زعامة دينية لا ربط لها بالزعامة السياسية.
وقد استند في نفيه هذا لتخطيط الإسلام للحكم إلى الأمور التالية:
أولاً: القرآن:
كما في قوله تعالى: {وما أرسلناك عليهم وكيلاً}(1) و{وان عليك إلا البلاغ}(2)، {وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً}(3)، و{فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر}(4).
وخلاصة الاستدلال أن من لم يكن مسيطراً ولا وكيلاً وإنما هو مجرد مبلغ ومبشر ونذير ليس حاكماً أيضاً(5).
ثانياً: السنة الشريفة:
ويستتند فيها إلى أحاديث ووقائع من مثل ما يلي: {هون عليك فاني لست بملك، ولا جبار، وإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة}.
ب ـ قول الرسول (ص): {انتم اعلم بشؤون دنياكم}.
ثالثاً: الدليل العقلي:
ويتخلص في ادعاءات ثلاثة:
أ ـ من المعقول أن ينظم العالم في وحدة دينية، ولكن ليس من المعقول أن ينظم العالم في حكومة واحدة، فذلك يوشك أن يكون خارجاً عن الطبيعة البشرية.
ب ـ مساًلة الحكم غرض دنيوي خلى الله بينها وبين عقولنا.
ج ـ دولة الرسول خلت من كثير من أركان الدولة.
وهو يقول: "ولماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى، ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه"(6).
هذا وقد نقل عبد الحميد متولي بعض الاستنادات الأخرى لبعض العلماء والمحدثين تدعيماً لوجهة النظر هذه وهي:
أولاً: إن المؤسس الحقيقي للدولة الإسلامية هو أبو بكر.
ثانياً: إن الدين حقائق ثابتة لا تتغير، والدولة نظام متغير.
ثالثاً: فشل الحكومات الدينية واستبدادها وعدم القبول للتطوير و"القوة تحتل من طبيعة الحكومة الدينية مساحة واسعة، وهي تستمد تبرير قسوتها وبطشها من نفس الغموض الذي تستمد منه سلطتها" كما يقول خالد محمد خالد في كتاب (من هنا نبدأ).
دوافع القول بهذه النظرية
يختلف الباحثون حول دوافع القول بهذه النظرية، فبينما يعتبرها بعضهم نظرية قائمة على البحث النزيه، يرى بعض آخر انها جزء من مخططات الاستعمار. ولكن الاستاذ متولي يرى ان الطرفين جانبا الحق، وان الدوافع تكمن في ما يلي (بتخليص):
1 ـ ان علي عبد الرزاق كان يريد ان يثبت هدفه الاساس، وهو ان الخلافة ليست اصلاً من اصول الحكم في الإسلام، وذلك ليضرب به هدف الملك فؤاد ـ ملك مصر ـ الذي اراد الاحتلال البريطاني ان يجعله خليفة للمسلمين، بعد ان قام اتاتورك بعزل الخليفة العثماني، واقامة النظام الجمهوري في تركيا.
2 ـ خشية بعضهم من ان يسيطر الفقهاء على شؤون الدولة ويبثوا روح الجمود فيها، وهو ما اصيب به الفقه الإسلامي بعد سد باب الاجتهاد.
وقد ناقشه بقوله: "ولقد فات اصحاب هذا الرأي انه كان مما لا يمكن انكاره ان الاخذ بالرأي الآخر (القائل بان الإسلام دين ودولة) مما يؤدي بلا ريب إلى الاعلاء من مقام رجال الفقه الإسلامي، فليس من شأنه ان يؤدي حتماً إلى ان يكون رجال الفقه أو الدين من الحكام، فلم يكن هذا هو الشأن حتى في صدر الإسلام. فمعاوية ويزيد وعمرو بن العاص (وكثير غيرهم من رجال الحكم في ذلك العهد) لم يكونوا من علماء الفقه والدين".
3 ـ التأثر بالفكرة الغريبة القائلة بـ "فصل الدين عن الدولة".
ويمكننا ان نكوّن الرأي الحق بملاحظة نقاط ثلاث:
النقطة الاولى:
ان النظر المنصف إلى الإسلام ونصوصه وتاريخه وضروراته لا يدع مجالاً للمكابرة في انه يجعل مسألة الحكم في عداد اهم المسائل التي يعالجها ويضع مبادئها، فلنلاحظ هذا بشيء من التفصيل:
أ ـ طبيعة الإسلام:
اذا تفحصنا خصائص الإسلام عرفنا ان اهم الخصائص وابعدها غوراً في وجوده هي الواقعية؛ فالإسلام دين واقعي ينسجم مع الفطرة الانسانية والواقع التكويني الذي يعيشه الانسان، ولا يتناقض مع نفسه ومع هدفه مطلقاً. وهذه الواقعية هي التي تفرض ان يهتم الإسلام بمسألة الحكم تمام الاهتمام وذلك:
أولاً: لان الإسلام جاء ديناً شاملاً لكل نواحي الحياة الانسانية، مخططاً لكل سلوك، ومعيناً لكل نظام، وليس هناك في حياة الانسان سلوك ولا فرضية لا يدخل تحت نظام خاص وحكم معين. وهذا ما نستكشفه من سعي الإسلام لإعطاء رأيه في كل مجال، والروايات تؤكد هذا المبدأ مثل:
1 ـ الرواية الصحيحة التي رواها الكليني في الكافي عن علي بن ابراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد:
قال: سمعته ـ أي ابا عبد الله الصادق (ع) ـ يقول: "ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة"(7).
وما رواه الكليني في الكافي أيضاً عن عدة من اصحابنا، عن احمد بن محمد، عن ابن فضال، عن عاصم بن حميد، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: "خطب رسول الله (ص) في حجة الوداع فقال: يا أيها الناس، والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا قد امرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه".
والرواية صحيحة أيضاً، وغيرهما من الروايات التي تؤكد رأي الإسلام حتى في "ارش الخدش".
ولعل وجود مفهومي "الحلال والحرام"، اللذين لا يخرج عنهما أي فعل، اكبر دليل يوضح ان الإسلام اعطى رأيه بالعموم أو بالخصوص في كل سلوك انساني، وعيّن مذاهبه السياسية والاقتصادية والتربوية وغيرها، واقام نظمه فيها على اساس من مذاهبه العامة. ولا يمكن مع هذا ان نفترض الإسلام غافلاً عن مسألة الحكم، أو تاركاً اياها للظروف والتطورات والتقلبات التي تفرض نفسها على المجتمع الإسلامي، وتحكمه وتفرض سيطرتها عليه، دون ان تستمد منه ولايتها ومبادئها العامة على الاقل.
ثانياً: فانا حتى لو غضضنا النظر عن مسألة الشمول التي اقتضتها الواقعية الإسلامية، نجد ان الإسلام اعطى الامة ـ بلا ريب ـ نظاماً اقتصادياً كاملاً يقوم على مذهب محدد، كما اعطاها نظاماً للعقوبات، وآخر للشؤون الشخصية، ورابعاً للامر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، وكل هذه النظم يمتلك الحكم فيها مساحة مهمة بحيث لا يتصور قيام كل منها ـ كنظام ـ إلا بافتراض وجود الدولة الإسلامية التي تحتل ذلك الموقع وتسير على هدى الإسلام وتعيينه لوظيفتها.
يقول محمد المبارك: "ان مجموع هذه الاحكام الجنائية والمالية والدولية والدستورية لا يمكن ان يعقل ايرادها والالتزام بها التزاماً يعتقد المؤمن بالإسلام بوجوبه والاثم بتركه إلا اذا كان القرآن يفرض على المسلمين تنظيم الحكم واقامة الدولة.
ولا يعقل ان يقدم الإسلام في قرآنه هذه الاحكام لدولة لا تؤمن به أو لا تقوم على اساس عقيدته ومبادئه، ولا يقول بهذا إلا من فقد رشده أو غالط نفسه أو قصد المراوغة والخداع"(8).
والطريف ان نجد "جان جاك روسو" يسوّغ رفضه للدين العالمي الذي يتدخل في الشؤون المدنية بان ذلك يؤدي إلى الاعتراف برئيسين وسلطانين وقانونين، وهو ما لا ريب في سخفه وعدم امكانه فيقول: "قد ينقسم الدين على ضوء علاقته بالمجتمع ـ التي تكون اما علاقة عامة واما خاصة ـ إلى نوعين: وهما دين الانسان ودين المواطن.
الاول: وهو بلا معابد ولا هياكل ولا طقوس، مقتصر على العبادة الداخلية المحضة لله الاعلى، وعلى الواجبات الاخلاقية الابدية؛ يكون دين الانجيل النقي والبسيط التوحيد الحقيقي، وهو ما يمكن ان نسميه القانون الالهي الطبيعي.
الثاني: وهو مدون في بلد وحيد يمنحه آلهته وشفعاءه الخاصين وحماته، وله عقائده وطقوسه وعبادته الخارجية المفروضة بالقوانين، وفيما عدا الأمة التي تعتنقه يكون كل انسان بالنسبة له كافراً، أجنبياً، بربرياً، وهو لا يحدد هياكله. كانت هذه هي اديان الشعوب الاولى جميعها التي يمكن ان نطلق عليها اسم القانون الالهي المدني أو الوضعي.
ثمة نوع ثالث من الاديان اكثر غرابة، اذ انه بتقديمه للبشر تشريعين ووطنين يخضعهم لواجبات متناقضة، ويمنعهم من ان يكونوا في آن واحد مؤمنين ومواطنين. ذلك هو دين اللاميين، ودين اليانيين، والمسيحية الرومانية، ويمكن تسمية هذا الدين بدين الكاهن، وينشأ عنه نوع من القانون المختلط والانطوائي لا اسم له اطلاقاً.
واذا ما نظرنا سياسياً إلى هذه الانواع الثلاثة من الاديان وجدنا انها تنطوي على اخطاء. فالثالث واضح كل الوضوح انه سيئ، ومن العبث اضاعة الوقت في البرهان على ذلك، اذ ان كل ما يفرق الوحدة الاجتماعية لا قيمة له، وجميع المؤسسات التي تضع الانسان في تناقض مع نفسه لا قيمة لها"(9).
و"روسو" هنا ينظر للدين نظرة المشرع الوضعي المؤمن بالديموقراطية والنظام المدني وهو يحاسب الدين في ضوء خدمته لهذا النظام، فيقسم الدين الى: دين روحاني عالمي لا ربط له بالحياة، وآخر اقليمي ذي هياكل وهو يسند القانون الوضعي، وثالث عالمي متدخل في شؤون الانسان، ويرى ان الثالث واضح البطلان.
والواقع ان الدين العالمي المتدخل لو كان يعترف بقانونين وسلطانين ووطنين احدهما للدين والآخر للدولة، فما ابعده عن الواقع. ولكن الإسلام وهو الدين العالمي المنظم لشؤون الانسان في ضوء علم وحكمة الهيين واسعين لا يسمح بقيام نظام وسلطة أخرى إلى جنب سلطته وحكومته، والا القى الانسان في تناقض مع نفسه كما فعلت المسيحية المحرفة بتدخلها القليل في شؤون الانسان واعترافها بالنظم المدنية. ان الإسلام يعتبر نفسه هو الحاكم وهو المسيطر، وهو المطاع وهو الموجه لشؤون الحياة، كما ستأتي بعض النصوص في ذلك. وهو الذي يربط بين شؤون الدنيا والآخرة ربطاً تاماً حتى انه دعا لأن تكون الحياة بمفهومها الواسع عبادة وقربةً إلى الله، فلا معنى للقول بعد ذلك بان هذا من امور الدنيا وذاك من امور الآخرة، وهذا من امور الدين وذلك من امور الدولة والدنيا، وامثال ذلك.
ثالثاً: ان القرآن والإسلام دعوة ثورية تربوية تريد ان تربي الانسانية العابدة، وتلغي كل بذور الجاهلية في العقيدة والنظام والاخلاق والتقاليد وغيرها. والتربية تعني ـ اول ما تعني ـ مسك أزمّة الامور، ثم وضع برنامج تربوي عام، وخلق التلاؤم بين مختلف نواحي الحياة ونظمها، خدمةً لذلك الهدف التربوي العام الذي بينته الآيه الكريمة {وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون}(10)، تحقيقاً لمدارج التكامل الانساني. ومن هنا يتغير هدف الحكومة في الإسلام، ويختلف عن اهداف الحكومة في المجتمعات الوضعية ـ كما قلناه ـ حيث ركزت على تحقيق رفاه المواطنين وراحتهم، في حين يطلب الإسلام من (الامام) وهو عنوان الدولة الإسلامية ان يراقب تحولات المجتمع، ويسوقه نحو كماله في مختلف الجوانب، كما سيأتي مزيد توضيح لهذه النقطة.
رابعاً: ان طبيعة العقيدة الإسلامية تقضي ان تستمد الحكومة ولايتها وقدرتها ومبادئها من الإسلام، فأساس الإسلام هو التوحيد الخالص وولاية الله الحقيقية ومالكيته للكون والانسان، ولن يملك أي انسان ولاية على آخر، إلا ان يسمح الله له. وقد رأينا من قبل ان الحكومة بطبيعتها تحتاج إلى من يمنحها هذه الولاية، ووفقاً للعقيدة الإسلامية واساسها التوحيدي الحنيف، لا يملك حتى الناس انفسهم سلطة تولية الآخرين عليهم إلا باذن الهي. من هنا كان النبي (ص) اولى بالمؤمنين من انفسهم، كما في حديث الغدير المتواتر، وكان الامام طبقاً له اولى بالمؤمنين كما سيأتي. هذا بيان موجز عن اقتضاء طبيعة الإسلام وواقعيته لان يضع الإسلام اسس دولته الخالدة خلود رسالته.
ب ـ النصوص الإسلامية:
والنصوص الإسلامية التي تشير من قرب أو بعد إلى التحام مسألة الحكم بالإسلام كثيرة نلاحظ منها ما يلي: يقول تعالى: {انا انزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله}(11)، و{ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتّبعها ولا تتبع اهواء الذين لا يعلمون}(12)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}(13). وروي عن الرسول (ص) قوله المقطوع به: "من مات وليس في عنقه بيعة لإمام فقد مات في جاهلية".
وحديث الغدير الذي اكد فيه (ص) انه اولى بالمؤمنين من انفسهم، وامثال ذلك. بل اذا لاحظنا الادلة القاطعة التي تؤيد وجهة النظر هذه التي استقي بعضها من الروايات، عرفنا ان مسألة الحكم تشكل معلماً بارزاً من معالم الإسلام، وبدونها لا يكمل الدين، بل يشكل نظام الامامة امتداداً للنبوة مع فوارق بينهما، ولكنا نكتفي هنا بذكر نص واحد عن الامام الرضا (ع) يقول فيه:
"يا عبد العزيز، جهل القوم، وخُدعوا عن اديانهم، ان الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه (ص) حتى اكمل له الدين، وانزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء؛ بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والاحكام وجميع ما تحتاج اليه الأمة فقال عز وجل: {ما فرطنا في الكتاب من شيء}(14)، وانزل في حجة الوداع وهي آخر عمره: {اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}(15)، وأمْرُ الامامة من تمام الدين، ولم يرحل (ص) حتى بيّن لأمته معالم دينهم واوضح لهم سبيلهم"(15).
ج ـ التاريخ الإسلامي:
ولا تجدنا بحاجة إلى استعراضه لوضوح قيادة النبي (ص) والصحابة والائمة لشؤون الحكم. وما كان الهدف المعلن للامام الحسين (ع) إلا اسقاط يزيد لكونه مغتصباً للحكم، ومن ثم ممارسة الامام لحقه في الخلافة واقامة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
د ـ الضرورة الإسلامية:
فان مسألة الحكم وارتباطها بالإسلام لم يختلف فيها احد، فحتى الخوارج الذين رفضوا حكام عصرهم نسبوا الحكم إلى الله، غافلين عن ان الله لابد وان يعين من يطبق شريعته على الارض، ويقود عملية التربية الكبرى.
النقطة الثانية:
بالنسبة إلى الدوافع التي ذكرت للقول بفصل الإسلام عن مسألة الحكم، نود ان نقول: ان علائم التعمد والتحريف واضحة في كتاب (الإسلام واصول الحكم)، ولعل مؤلفه كان ادرى بأن ما يستدل به لا يتجاوز ما لا تستقيم دلالته على مدلوله، أو ما لا يعدو كونه قصة تاريخية لا تملك سنداً شرعياً، أو ظناً لا يغني عن الحق شيئاً.
اما الدوافع التي ذكرت بعد ذلك، فالدوافع الاول منها سياسي محض وفرض وهم؛ اذ كيف يمكن ان نتصور بريطانيا تعمل على ارجاع الخلافة الإسلامية ولو في شخص رجل منحرف مثل الملك فؤاد، وهي التي عملت المستحيل وتوسلت بكل السبل لالغاء الخلافة العثمانية، بفعل تحريك العميل الصهيوني الكبير اتاتورك، وتحريك نفر من العرب واثارة الروح القومية فيهم وامثال ذلك فلا يعدو هذا إلا وهماً.
نعم، يمكن ان نتصور الاستعمار البريطاني نفسه يدفع امثال "علي عبد الرزاق" لفصل الإسلام عن مسألة الحكم، وبالتالي خلق روحية الحكم المدني، وجعل الدين ذا دور هامشي، غير أساسي في التشريع، وهو ما طبقه الاستعمار فعلاً في الدويلات التي شكلها بشكل غير مباشر، وصاغ قوانينها الوضعية، معطياً للإسلام بعض المجالات القليلة كالشؤون الشخصية من زواج وطلاق وامثالهما.
واما الدافع الثاني: وهو التخوف من سيطرة الفقهاء على الدولة وتجميدها، فقد رأينا الدكتور متولي يرده بأن الحكم الإسلامي يعزز مكانة الفقيه ولكنه لا يجعله رجل الدولة الوحيد، ثم يذكر مثلاً للحاكم الإسلامي مجسداً في حكام مثل يزيد ولم يكن يزيد بن معاوية من الفقهاء مطلقاً.
والرد قد يمكن توجيهه إلى حد ما طبقاً للاطروحة التي تعتمد الشورى اساساً، وان امكن القول بأن اهل الحل والعقد المتدينين سوف يميلون بالطبع إلى رجال الفقه والدين، فاذا افترضنا هؤلاء ممن ابتلوا بالجمود كان من المتوقع للدولة الجمود على وضعها، وعدم تطورها، وهذا ما يفرضه المنطق الاجتماعي، ولكن النقص الأساس في الرد يكمن في تمثيله بحكام امتلكوا الامر بالجور والقهر والقتل، وشوّهوا وجه التاريخ الإسلامي بالظلم والهتك والمكر. فهل يرضى الدكتور ان يمتلك امر الأمة امثال يزيد؟ إنها والله الداهية الدهياء، على ان الرد لا ينسجم مع النظرية التي تعطي الفقيه الدور الأساس في الاطروحة ضمن شروط خاصة كما سنبين.
واما الدافع الثالث: فهو دافع متوقع جداً بعد انتشار نفوذ الغرب وتصوره عن الدين، وتشبع بعض المثقفين العرب بذلك وانبهارهم بنظام الغرب الديمقراطي الذي يفصل بين الدين والسلطة، وهو امر ينسجم مع الدين المسيحي المنحرف، والذي لم يعد سوى دين ينظم جوانب العبادة الشكلية لا غير، وسنوضح هذه النقطة في البحث التالي عن العلمانية.
والشيء المهم الذي نود التنبيه عليه في هذا المجال هو أن نقاط الضعف الكبرى الموجودة في بعض التصورات لنظام الحكم في الإسلام كان لها أكبر الاثر في موقف هؤلاء، إن لم تكن هي الدافع الرئيس لذلك. ولكنا هنا نلخص بعضها الذي يحتمل قوياً تأثيره في هذا الموقف:
أ ـ ضعف الادلة المقامة على نوعية نظام الحكم (الشورى) المستقل عن عنصر الولاية وقبولها كلها للمناقشة الدلالية وبعضها للمناقشة السندية، ولعل كلمة خالد محمد خالد تشير إلى ذلك.
ب ـ غموض نظام الشورى وعدم احتوائه ـ على الاقل ـ على المبادئ الضرورية لتكوين أي نظام.
ج ـ تأرجح تطبيق هذا النظام بين تطبيقات مختلفة.
د ـ تعميم عنوان (ولي الامر) لكل من أمسك بأزمّة الامور، وتعيين وجوب طاعته حتى لو كان فاسقاً.
هـ ـ وجود نقاط ضعف لعل أهمها ما جاء في تفسير حديث "انتم أعلم بشؤون دنياكم".
فاذا ضممنا إلى ما تقدم: المستوى الفكري غير المقبول الذي وصل اليه بعض الفقهاء في العصور الاخيرة، والجمود الذي ابتلوا به إثر اغلاق باب الاجتهاد، والتبعية المطلقة للرئاسة الدينية للدولة القائمة، وحدوث الكثير من العقبات في وجه من يدعي الفقه، اذا ضممنا اليه كل ذلك عرفنا جانباً مهماً من جوانب هذه الدعوة الخطيرة.
النقطة الثالثة:
وهنا لا بأس ـ في اطار مناقشة ادلة هذا الاتجاه ـ بالتعرض للرد بإيجاز على الأدلة المذكورة:
اولأ: الآيات القرآنية:
من قبيل {لست عليكم بوكيل}، ومن الواضح لكل من لاحظ هذه الآيات انها آيات مكية إلا الآية الكريمة {ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً}(17)، ولاحظ أسباب نزولها، انها كانت تطيب من خاطر النبي (ص) الذي كان يتألم كثيراً لإعراض بعض المشركين ووقوفهم بوجه دعوته الكبرى، فتخبره أن لا يبخع نفسه على ان لا يكونوا مؤمنين، فليس عليه إلا البلاغ، اما اذا رفضوا الإسلام، فليس هو بوكيل حفيظ عليهم، وبالتالي فانها لا تدل على المدعى المذكور، وليست بهذا الصدد.
ويوضح هذا ـ بالاضافة لملاحظة سياق الآيات وأسباب نزولها ـ الآيات الكثيرة التي ذكرنا بعضها والتي تؤكد أن الرسول هو الشهيد على هذه الأمة وتوجب طاعته وقيادته {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}(18)، {اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم}(19)، {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}(20).
وكلها تتحدث عن قيادته ومسؤليته تجاه أمته وانه أولى بها من نفسها.
أما الكافرون المكذبون فليس هو بمسؤول عن تكذيبهم وانما سيجزون بما كفروا يوم القيامة. وكذلك يوضح ذلك موقف الرسول العملي وقيادته للحياة العامة وعدم اقتصاره على مجرد التبليغ والانذار بالضرورة.
ثانياً: الاحاديث النبوية:
فلو غضضنا النظر عن اسانيدها ولم نناقش رواتها واحداً واحداً ـ وهو طبيعي ـ فان الحديث الأول واضح الدلالة على أن الحاكم الإسلامي حتى ولو كان هو النبي (ص) ليس ملكاً جباراً مستبداً يحكم هواه ويقتل بغير حساب، ويقهر رعيته بالرهبة والجبروت، وانما ينبغي ان يكون الرحيم العطوف الودود برعيته كما كان النبي (ص) وقد كان علي (ع) في اصحابه كأحدهم وهو يكتب إلى عامله على مصر (مالك الاشتر) كتاباً رائعاً يقول فيه من جملة من يقول:
"وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فانهم صنفان: إما اخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق …"(21). اما حديث "أنتم اعلم بشؤون دنياكم …" فانه أقوى دلالة على المطلوب لو صحّ، وإن كان من الممكن النقاش فيه على أساس أن المقصود من امور الدنيا الامور التجربية التي يدركها الانسان بالممارسة، وليست مسألة الحكم أمراً من هذا القبيل، بل هي العمود الرئيس للمجتمع الذي يعمل الإسلام على بنائه وخصوصاً بالنسبة لفترة ما بعد الرسول (ص)، ولكن الكلام كل الكلام في صحة هذا الحديث، وذلك:
أ ـ كيف يعقل ان لا يعلم النبي (ص) امور الدنيا، وهو الذي يعيش في مجتمع أهم زراعة فيه هي زراعة النخل، وان تأبيره ضروري لا نتاجه، حتى لو فرضناه غير متصل بالسماء في هذه الامور على الاقل. وكيف لم يرد عليه الفلاحون؟
ب ـ إن الإسلام كما قلنا أعطى رأيه في مختلف الشؤون الدنيوية بعد ان ضبط تصرفات الانسان تحت عنواني الحلال والحرام كما مر، وقد تدخل النبي (ص) في مختلف شؤونهم الحياتية حتى بصفته ولي الامر، فقاد الجيوش ووجههم في مختلف الامور كما في المجال الصحي وفي المجال الاقتصادي وأمثال ذلك.
ج ـ وقد قام بعض العلماء بمناقشة هذا الحديث سنداً ودلالة فأغنونا عن البحث فيه أو التعرض لجوانبه.
ثالثاً: الادلة العقلية:
وكلها لا تصلح دليلاً على المدعى، اما استبعاد امكان الحكومة العالمية، فهو قائم على اساس انه يفرض على الجميع نمطاً واحداً من السلوك بالرغم من اختلاف المناطق بينهم، وان يكون الموجه الواحد للعالم والحكومة الواحدة متمثلاً بحكومة الإسلام والامام، ولا يوجد أي مانع عقلي أو واقعي من ذلك، بل إن بعض كبار المفكرين والسياسين في العصر الحديث يعدون ذلك احدى الضرورات التي لا غنى للبشرية عنها، على انه لا يهمنا رأي هؤلاء، بعد ان وعد الله المؤمنين بالدولة العالمية التي تملأ الارض قسطاً وعدلاً {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم}(22).
ان الإسلام ـ كما هو واضح من مختلف جهاته ـ يريد أن ينسق مسيرة الارض الواحدة نحو تكاملها، وهذا لا يفرض إلاّ وحدة عامة ولا مانع فيه من الاختلاف في بعض التطبيقات مراعاةً للظروف.
واما مدّعاه في أن مسألة الحكم أمر دنيوي خلى فيه الرسول بيننا وبين عقولنا فقد توضح أمره مما سبق.
واما المدعى الثالث في أن الرسول لم يبنِ الدولة، ولا وضع مبادئ الحكم، ولم يوصِ بشيء ولا عيّن تفصيلات الشورى، فالواقع فيه ان الرسول لاحظ كل ما يتعلق بهذا الامر فخطط لإقامة الدولة الإسلامية أروع تخطيط يتناسب ـ طبعاً ـ ومستوى الاحتياجات في عصره، ثم بين أهم مبدأ في نظام الحكم بأن جعل الحاكم الاول في الدولة هو الانسان العالم السائر على خط الإسلام الذي يعين شكل التنظيم الاداري، وهو يختلف باختلاف الظروف.
واما ما ذكره بعض الأشخاص تأييداً له فهو أيضاً غير صحيح، إذ المؤسس الحقيقي لنظام الحكم الإسلامي هو النبي (ص).
واما ما قيل من أن الدين نظام ثابت والدولة نظام متغير، فهو أمر يخلط فيه بين جوانب الدين الثابتة التي تعالج أموراً ثابتة، وجوانب الدين المرنة التي تعالج أموراً متغيرة كمسألة نوعية التنظيم والادارة؛ فان الجوانب المتغيرة من الحياة كعلاقة الانسان بالطبيعة تنظمها قواعد مرنة تختلف تطبيقاتها باختلاف الظروف، مثل قواعد (منع الضرر) و(التزاحم بين الاهم والمهم) وأمثال ذلك.
ومن تلك الجوانب أسلوب الادارة المختلف باختلاف الظروف، ولذا شكلت منطقة فراغ يملؤها الامام، وربما عمد إلى الشورى في ذلك، اما الشكل العام الذي ينسجم مع الضوابط العامة فهو امر ثابت لا يتغير وسيأتي مزيد حديث عن هذا في البحث التالي.
اما مسألة فشل الحكومات الدينية فليس يعني ان كل حكومة دينية فاشلة مطلقاً، خصوصاً بعد أن وجدنا النظام الإسلامي الكامل، وتحيد عن الصيغة الإسلامية بأي شكل تصورناها، وهل يتحمل الإسلام وزر عمل الطاغية يزيد والحجاج وباقي حكام الجور وبعض الخلفاء العثمانيين وامثالهم؟
وربما يحلو لبعض الكتّاب مثل (طه حسين) ان يجعل الزمان غير مناسب للحكومة الإسلامية التي ارادها الامام علي (ع) ولذلك لم ينجح في انشاء دولة العدل بعد ان مال الناس إلى ملكية معاوية، فيقول: "كان علي (ع) يدير خلافة وكان معاوية يدير ملكاً، وكان عصر الخلافة قد انقضى وكان عصر الملك قد اطل".
ولكن طه حسين لم يلتفت إلى ان وجود العقبات في وجه الامام علي (ع) لم يكن من مقتضيات التطور الاجتماعي، وانما هي حالة طارئة وجدت بفعل عوامل معينة، ولم تكن لتستطيع الثبات بوجه العدل العلوي لو فقدت احد مقوماتها صدفة، كأن لم يخدع بعض الناس فيعلن الثورة على الامام (ع)، مما خلق الضعف الكبير في الدولة الإسلامية التي يقودها، وافشل التطبيق الإسلامي النظيف وحرمنا الكثير من الخيرات.
وبالرغم من كل هذا فان الفرص التي اتيحت للحكم الديني كي يشمل المجتمع شكلت اروع تجربة بشرية على الاطلاق، بل ان هناك انماطاً من التطبيق المنحرف لنظام الحكم الإسلامي هي افضل بكثير من تطبيق أي نظام لا إسلامي بشهادة التاريخ.
الفرع الثاني: العلمانية الغربية وآثارها على العالم الإسلامي:
والمقصود بالعلمانية: المأخوذة من كلمة (العالم) ـ أي (الزمان) ـ ان يكون الحكم بيد قادة زمنيين لا يلتزمون بالدين تشريعاً وتنفيذاً. ومن الخطأ تفسيرها بانها مذهب يدعو للاستفادة من العلم الحديث مثلاً أو انها مجرد مذهب يدعو لاقامة التنظيم الاداري والاجتماعي على اسس علمية مدروسة وامثال ذلك.
وقد نشأ هذا المذهب من خلال ارهاصات عديدة وصراعات بين السلطة الدينية والسلطة المدنية في الغرب، وهو ما اعترفت به المسيحية بادئ الامر، مما خلق هذا التناقض المرير، وأدى في النهاية إلى هذا المذهب.
وقد ذكر بعض الكتاب ان دعاة العلمانية يسوقون الحجج التالية لضرورة بناء الدولة العلمانية واستمداد التشريع والتنفيذ من غير الدين، بل عدم اعطائه محلاً لائقاً في المجتمع، وهي:
1ـ ان الدولة الدينية تعني سيطرة رجال الدين، مما يعني تحكمهم بمصائر الناس.
2ـ ان قوانين الدولة ثابتة كنظرتها إلى الحقيقة، وهي تؤدي بالتالي إلى جمود المجتمع وعدم تطوره، وهذا شبيه بما قاله الماركسيون لرد الفلسفة المثالية، والقول بتطور الحقيقة نفسها.
3ـ ومن النادر وجود دولة ينتسب جميع مواطنيها إلى دين واحد، فاذا كانت الحكومة دينية وقع التمييز بين المواطنين.
4ـ ان الدين له تصورات معينة عن الكون والحياة والانسان والتاريخ، والدولة الدينية تتبع تلك التصورات، مما يعرقل التقدم العلمي، ويقود إلى فجائع حفل بها التاريخ.
5ـ جاء في تصريحات بعض القادة العلمانيين ان المناداة بدولة دينية تعني اعطاء اسرائيل مسوغاً لقيامها واعتدائها، وهي بالتالي خدمة للصهيونية العالمية.
هذا في حين تتمتع الدولة العلمانية بالخصائص التالية:
1ـ الحركة والاستمرار والتطور الاجتماعي.
2ـ مركز حقوقي متساوٍ لجميع المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية.
3ـ سيطرة الشعب على الحكم وكونه مصدر السلطات.
4ـ فسح المجال لحركة التقدم العلمي.
العلمانية والإسلام
لا ريب في ان المسيحية قنعت بنصيب ما منحتها اياه بعض العلمانيات المعتدلة بحيث تقوم بنشاط معين في اطار الدولة العلمانية، في قبال العلمانية الماركسية التي رفضت أي نشاط متصور لها، وهذا ما حدث اخيراً في ايطاليا مثلاً. ولكن ما هو موقف الإسلام منها؟ وهل تمتلك مسوغاتها في الحقل الإسلامي؟ اننا نرى ان الإسلام لم يدع ـ منذ البدء ـ مجالاً لحدوث هذه النتيجة بعد ان قرر:
أولاً: وحدة السلطتين الدينية والسياسية، بل جعل تعيين الامام (وهو القائد السياسي والديني في آن واحد) اتماماً للدين واكمالاً للنعمة السماوية على الارض كلها، ولم يسمح بأي انفصال جوهري بينهما، واي انفصال رُئي بعد ذلك فانما كان يعبر عن تطبيق غير سليم للإسلام.
واذا رجعنا إلى ملاحظة صفات الامام أو الحاكم في الإسلام لم يبق مجال مطلقاً لتصور عملية تكريس للذات ومصالحها، بعد فرض علمه الفقهي الواسع والتزامه الكامل بتطبيق الشريعة الإسلامية المقررة. هذا والتاريخ يشهد على السيرة الممتازة التي سار فيها قادة المسلمين، بغض النظر عن بعض الذين تمادوا وطغوا. واذا نظرنا إلى نظام (نيابة الفقيه عن الامام) وولايته وجدنا ان الفقيه لا يمتلك هذا المقام إلا بعد توافر شروط اهمها (الكفاءة، والعدالة، والفقه العميق) ويفقد أي قدرة بفقدان أي منها، والأمة المشبعة بروح هذه الشروط هي المراقبة لسير هذا الفقيه، كما ان مجلس الفقهاء العدول الاكفاء هو الحارس الامين على السير الصحيح(23).
وحتى اذا نظرنا لنظام الشورى ـ بدون ولاية لشخص ما ـ نجد انه افضل بكثير من أي نظام زمني يسلم اموره كلها لآراء الشعب، لانه يسير وفق تشريع سماوي مسبق وطبق ضوابط شرعية.
على أي حال، فان الإسلام لم يفسح المجال مطلقاً لظهور هذه الثنائية بين السلطة والمدنية والسلطة الدينية، وهي من افدح الاخطاء التي تفقد السلطة السياسية دورها الحقيقي، في نفس الوقت الذي تشوّه حقيقة الدين وتوجهه للحياة.
ثانياً: خطط الإسلام للجانب المتغير من الحياة، فوضع القواعد العامة، والاحكام الظاهرية والاضطرارية، وفتح مناطق فراغ يملؤها الحاكم الإسلامي الفقيه العادل في ضوء مشورته ومتطلبات الظروف، إلى جانب اشباعه للجانب الثابت في الحياة الانسانية ـ وهو الجانب الفطري الاصيل ـ بقوانين ثابتة، فلا مجال اذن للجمود وامثال ذلك.
واذا تصور هؤلاء ان الدولة الدينية لما كانت تقوم على الايمان بحقائق فلسفية مطلقة ثابتة، بل وتؤمن بلزوم الاطلاق في الحقيقة بمعنى (مطابقة الفكرة للواقع الخارجي)، فهذا يعني الايمان بقوانين اجتماعية ثابتة لا تتغير مطلقاً، وهو لا يعدو مجرد خلط وسخف، فالايمان بالحقيقة المطلقة شرط لان نفترض امكان المعرفة وحصول اليقين بالواقع الموضوعي الخارجي، ولا ربط له بالايمان بثبات كل النظم الاجتماعية، أو عدمه. ان الإسلام يؤمن بتطوير كثير من الجوانب الاجتماعية في نفس الوقت الذي يؤمن فيه بثبات الحقيقة الفلسفية، لانهما مجالان لا ربط بينهما ولا يخلط بينهما إلا جاهل أو مغالط.
ثالثاً: ان الإسلام اعطى الدين مفهومه الصحيح، فلم يعد مجرد شأن شخصي يمكن ان يتنازل عنه الفرد لصالح النظام الاجتماعي العام ـ كما اعتبره الغربيون ـ ومن هنا قالوا بأن اقامة الدولة الدينية تعني اعطاء امتيازات شخصية لاتباع الدين دون غيرهم، وانما عاد الدين كل شيء في حياة الانسان، لانه تصورات واقعية عن الكون والانسان يثبتها المنطق الصحيح، ونظم تعالج مسيرة الانسان في ضوء علم الهي غير محدد وحكمة شاملة. ومع التصور والمبدأ يختلف التقييم.
ان الدين حينئذ يحاول ان يبني الانسانية الصالحة لا ان ينظم مجرد علاقة روحية شخصية للفرد بخالقة. وانطلاقاً من هذا المبدأ، فمن الطبيعي ان نتوقع للإسلام ان يقود الحياة كلها، ولا يسلم اموره بيد دولة تؤمن به، ومن الطبيعي بحكم كونه ديناً مخولاً من رب الانسانية ان يدعو الناس جميعاً للدخول تحت سلطته، كما ان من الطبيعي ان يكون المسلم المنسجم مع الهدف اوسع حقوقاً كما يكون اكثر تحمّلاً للمسؤوليات في الدولة المسلمة.
وهذا لا يعني ان الإسلام يعمل في وضع تمايزات كبرى في دولته بين المسلم وغير المسلم، وانما يقيم توازناً بين الحقوق والمسؤوليات، كما هو مبين في متون الفقه الإسلامي.
وربما نجد بعض المفكرين المسلمين يعالجون المسألة من سبيل آخر، فيدّعون ان وجود دولة مسلمة في الاقطار الإسلامية امر طبيعي وسائر وفق القوانين الديمقراطية بعد انتخاب الاكثرية المسلمة لها. وهذا الاصلاح امر لا مسوغ له بعد ملاحظة التصور الإسلامي للحكم، وان الإسلام لا يحكم من خلال هذا المنطق، وليس لمبدأ الاكثرية تأثير إلا في اطار سماح المذهب الإسلامي للحكم.
والواقع اننا يجب ان لا نجعل الديمقراطية هي الاصل الذي يقرر مصير الحكم الإسلامي والتشريعات الإسلامية، فالعكس هو السبيل المنطقي الصحيح.
رابعاً: ولا نجد هنا حاجة لتوضيح موقف الإسلام من التقدم العلمي واحتضانه للعلماء في مختلف المجالات، ويكفيه انه صنع رغم الانحراف في تطبيقه ـ الحضارة العلمية الناصعة في عصر كانت اوربا تغط فيه في سبات قاتل. والواقع انه لا يمكن تقديم مثل واحد يوضح وقوف الإسلام امام أي تقدم انساني، في حين يمكن تقديم الامثلة الكثيرة على تنمية الإسلام لروح التقدم الانساني والبحث. وقد فرض الإسلام ـ كفاية ـ العمل على كون المجتمع الإسلامي دائماً في طليعة المجتمعات، نعم كان التقدم العلمي في الإسلام انسانياً، أي منسجماً مع التقدم الاخلاقي لا متعارضاً معه، وهذا له مجاله الرحب من الحديث.
وعليه، فان العلمانية تفقد أي مسوغ لها في الاطار الإسلامي، وانما حمل لواءها الاستعمار وعاونه بعض المسيحيين والمسلمين المتفرنجين، ورفعوا لواء الاصلاح ونجحوا في ما قالوا به على اختلاف في درجات النجاح، ولكن النتيجة لم تكن إلا التخلف وربط مسيرة الأمة بعجلة الغرب وفقدان الأمة جل خصائصها الايجابية وتحكم الطغاة فيها بمختلف الالوان.
الإسلام والسيادة في الدولة
اتضح من البحوث السابقة ان الإسلام يعتبر نفسه هو المسؤول الاول والاخير عن نظام الحكم في الأمة المسلمة، ولهذا لا يبقى أي شك في ان السيادة في تصور الإسلام لله تعالى باعتباره المولى الحقيقي، وبهذا الاعتبار نستطيع ان نقرر الحكم الإسلامي ووجدانيته.
ولذا فلسنا مع الدكتور عبد الحميد متولي في رده العنيف على طرح (مشكلة السيادة) في البحوث الإسلامية، مدعياً انها نظرية نشأت في ظروف فرنسية، وان الظروف التي دعت لطرح المشكلة هي ظروف اوربية محضة وقد زالت فعلاً، ومؤكداً ان العلماء المسلمين لم يبحثوها، وان بحثها الحديث يولد اضراراً منها: نسبة بعض الاخطاء إلى بعض الخلفاء والعلماء، ومنها ادعاء الثيوقراطية للنظام الإسلامي، مع أن الثيوقراطية في نظر علماء الغرب تعتبر الشكل المعروف للدولة في حياة البشرية في حالتها البدائية، كما انها تعني في بعض صورها (نظرية التفويض الالهي) التي استند اليها السلاطين لتسويغ استبدادهم. واخيراً يقول: "مما تقدم يتبين ان الإسلام في غير حاجة إلى اثارة تلك المسألة، أو المشكلة التي لا تؤدي اثارتها إلى حل مشكلة من مشكلاته، وانما تؤدي إلى خلق مشكلة جديدة، الإسلام عنها في غنى"(24).
والواقع: اننا لم نتفهم كيف عادت هذه المسالة امراً غير ذي بال، وكيف لم تطرح من قبل المسلمين بالرغم من انهم استدلوا جميعاً على صحة ما يقولون بدليل شرعي يثبت في نظرهم ان الله منح السيادة لهذا الشخص مباشرة أو لمن يصل إلى هذا المنصب عن طريق معين وبشروط معينة، ولو كان ذلك عن طريق انتخاب الأمة واهل الحل والعقد.
اننا اذا عزلنا الحاكم عن هذه المسألة لم يكن يملك فرض أي حكم عام، ولعل وضوح كون السيادة في الإسلام لله هو الذي صور للدكتور المذكور ان المسلمين لم يعرفوا هذا المبدأ.
اما ما ذكره من الاخطاء (في تصوره) فليست إلا اخطاء في البحث أو النسبة، وكشفاً لفضائح كان ينبغي ان تكشف، كما في مجال عمل بعض حكام السوء والمتملقين لهم. وواضح ان النظام الإسلامي يختلف تمام الاختلاف عن الثيوقراطية، وقد اشار إلى ذلك المودودي في احد كتبه.
نعم لم يكن هناك إلاّ نزاع صوري بين من جعل حق السيادة لله ـ من السنة ـ كالمودودي، ومن جعلها حقاً للامة كالخفيف، فان هذا، الأخير أيضاً إنما يتصورها حقاً للأمة باعطاء الله هذا الحق لها، اذ يستدل على مبدأ الشورى بمثل {وشاورهم في الامر} و{امرهم شورى بينهم} مع فرض ان المولى هنا في مقام التشريع لا الاخبار عن حق مسبق للامة، بل حتى لو كان يخبر فانما يخبر عن جعل الهي مسبق لهذا الحق للامة.
وعلى أي حال فالاتفاق الإسلامي حاصل على ان حق السيادة لله لا غير، وانما يبحث عمن اعطاه الله هذا الحق.
خامساً: اما ما ذكر من قبل بعض القادة العلمانيين فهو امر غريب حقاً، ذلك اننا اذا استندنا إلى هذا المنطق تجاهلنا:
أولاً: كل التعاليم الإسلامية الداعية إلى الحكم الإسلامي، واقامة نظام الحياة الاجتماعية على اساس ديني:
{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}(25).
{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}(26).
{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}(27).
وتناقضنا مع ايماننا:
{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم}(28)
وثانياً: فان اسرائيل لم تقم على منطق سوى السيف والقوة والاعتداء، ومثل هذا التقول يكاد يعطيها الحق في القيام، باعتبار انه يشكل الدليل التالي:
اسرائيل تقوم على اساس الدين الواحد.
وفكرة كون الدين اساساً للحياة هي فكرة صائبة.
فاسرائيل تقوم على حق.
في حين ان الواقع في المسألة الاسرائيلية:
1 ـ انها لا تؤمن باي دين حتى اليهودية، وليست سوى قاعدة استعمارية استكبارية زرعها الكفر ليفجر المنطقة الإسلامية، ويسوقها إلى اهدافه الرخيصة.
2 ـ انها لم تستند في قيامها إلى مثل هذا المنطق، استناداً حقيقياً، بحيث يفسح لها المجال في القيام، وانما كانت ذريعة سبقتها القوة والغصب.
3 ـ ان فلسطين هي ارض إسلامية منذ مئات السنين وحتى اليوم، فلابد ان يدعو هذا المنطق (منطق قيام الحكم على اساس ديني) إلى قيام حكومة إسلامية فيها، خصوصاً اذا علمنا ان اكثر يهودها قد جاء من اماكن اخرى، وان اكثر مواطنيها الحقيقيين قد شردوا في البلاد الاخرى.
وثالثاً: اذا كان هناك من يستغل مبدأ صحيحاً ويطبقه تطبيقاً خاطئاً، فهل هذا يعني ان نرفع ايدينا عن المبدأ الصحيح؟
فمثلاً: اذا كان من ادعوا (المهدوية) في التاريخ اناساً منحرفين، فهل هذا يعني ان نرفع ايدينا عن الإيمان بفكرة (المهدوية) التي كثرت الروايات وتواترت على صحتها، لا لشيء إلا لان بعض الاشخاص استغلوها غاية الاستغلال؟ أو فلنقل: ان كان هناك انبياء مزيفون، فهل هذا يلزمنا بعدم الايمان بمبدأ النبوة مطلقاً؟
نموذج متطرف من كتابات العلمانيين
في ختام حديثنا عن العلمانية رأينا ان نقدم نموذجاً واحداً من كتابات العلمانيين العرب وهو نموذج يطفح بالالحاد رغم ادعاء صاحبه بانه لا يتنافى والحقائق الدينية، وينافح ويكافح في سبيل تأصيل الفكرة العلمانية وبنائها على اسس فلسفية، مدعياً ان المنطق العقلي يرفض ان يكون الدين والحقائق الدينية (حتى لو قبلناها ولم نناقش فيها) اساساً للنظام الاجتماعي، في حين لا يمانع من قيام العقل الانساني الناقص أو قيام الماركسية أو الرأسمالية مثلاً ببناء مثل هذا النظام.
وسنبدأ حديثنا بالاشارة إلى مباحث كتاب (الاسس الفلسفية للعلمانية) لعادل ظاهر ثم نعقب عليه باختصار، مشيرين إلى بعض نقاط الضعف التي يزخر بها رغم كونه من انضج الكتب العلمانية.
في مطلع الكتاب يؤكد الكاتب على مبدأ (اسبقية العقل على النص)(29) وينعى على اولئك الذين يلتمسون مبرراً للعلمانية من الدين ويرى انهم يقعون في تناقض.
ويعلن ان العلمانية قد تراجعت امام الدين في حياتنا. ويعلل ذلك: بانها لم تقم في سياق حركة نقدية شاملة لذلك نشأت هشة، وسرعان ما هزمت.
ويؤكد انه يسعى لبيان قدرة الانسان بمفرده لتحديد موقفه من الحياة بعيداً عن الدين، وان العوامل المعرفية والميتااخلاقية والميتاسياسية تؤكد ذلك. وانه لا يمكن ـ عقلاً ـ ان تكون المعارف الاجتماعية العلمية مشتقة من المعرفة الدينية. وهذا يعني ان علينا ان نؤول كل النصوص القرآنية والدينية التي تدل على العلاقة بين المعرفتين (الدينية والاجتماعية) لتعود العلاقة علاقة تاريخية محضة، لها مبرراتها التاريخية لا مبرراتها المفهومية والمنطقية.
وفي مطلع بحثه يفترض امكان المعرفة الدينية ـ وان كان يشكك فيها في الاصل ـ كما يفترض امكان المعرفة الاجتماعية ليدرس العلاقة بينهما.
وقبل ان يدرس هذه العلاقة يرد على بعض العلمانيين والإسلاميين جعلهم الظروف الغربية المناخ المناسب لنشوء العلمانية، الامر الذي لا يسمح لها بالظهور في التربة الإسلامية(30)، مذكراً بان هناك معاصرة بينهما لا غير، وان جوهر العلمانية هو رفض وجود أي مرجع تشريعي سوى العقل الانساني، ومهما تصورنا من مرجعية (مرجعية الوحي، نظام الكنيسة، دار الافتاء و…) فانها تتنافى مع العلمانية، حتى ولو كانت بمستوى الهيمنة الروحية على الافراد(31).
ويؤكد ان الالزام السياسي يجب ان لا يأتي إلاّ من العقل الانساني، بعيداً عن الدين، وان اللجوء إلى الاعتبارات الدينية لإضفاء الشرعية على الدولة مرفوض مبدئياً(32).
ويرى ان بعض الكتاب الإسلاميين يقعون في تناقض حينما يؤمنون بـ(الدولة الإسلامية)، كما يؤمنون بأهمية (العقل العملي)، نعم لو أن شخصاً اقتضى العقل العملي لديه ان كل ما يقول به الدين في الحياة الاجتماعية صحيح فلا يمكن حرمانه من لقب (العلمانية)(33).
ويؤكد: ان العلمانية اللينة هي التي تدعو إلى اقامة دولة لا دينية على اساس من اعتبارات اجتماعية أو نفسية أو سياسية أو تاريخية، أو على اساس انه لا يمكن ان تكون ديموقراطية اذا كانت دينية، ويصنف العلمانيين الذين يستندون إلى النصوص الدينية إلى هذه (الليونة). اما العلمانية الصلبة والاصيلة فهي تلك التي تقيم تناقضاً عقلياً بين المفهومين، فتؤكد ان المعرفة الاجتماعية لا يمكن ان تجد اساسها الاخير في المعرفة الدينية(34). وان المعرفة القيمية العلمية تسبق بطبيعة الحال المعرفة الدينية، ويعتبر هذه المقولة هي اطروحة الكتاب(35)، ولا يرى ذلك منافياً للايمان بالله.
وتقوم فكرته الفلسفية على قضيتين، هما: المعرفة الدينية يجب ان تكون ضرورية، والمعرفة العلمية الاجتماعية يجب ان تكون جائزة (أي تحتمل البدائل المتنوعة)، ولا يمكن ان تكون القضية الجائزة مستنتجة من القضية الضرورية عقلاً.
ويدخل هنا في بحث مطول عن وجود الله وصفاته، سواء صفات الذات أو صفات الفعل ـ دون ان يميز بينها ـ مناقشاً الاطلاق في هذه الصفات؛ فالقدرة المطلقة لا تشمل المستحيلات ولا تشمل الامور غير العقلانية أيضاً.
وربما دخل في البحث الفلسفي الموجود عن تقدم الماهية على الوجود أوالعكس.
كما يبحث في المعرفة العلمية ويرى انها مكونة من امرين: علمي واخلاقي معياري، لينتهي إلى انه لا يمكن اضفاء طابع الضرورة على الاحكام الاخلاقية(36)، وهذا يشمل حتى المبادئ الاخلاقية الاساسية كمبدأ العدالة والحرية والمنفعة، فهي غير مطلقة، لانها قد تتعارض، فيتم تقييدها.
وهكذا يصل إلى ما يسميه بالمقولة المنطقية الاساسية، وهي انه لا يمكن اشتقاق الجائز من الضروري، والقرآن لا يمكن ان يعطينا معرفة علمية جائزة(37)، ولا يمكن ان يعطينا معرفة معيارية من أي خطاب ديني(38)، متعرضاً بشكل سطحي جداً إلى قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وقاعدة (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر)، معتبراً القاعدة الاخيرة تحصيل حاصل لا يحتاج منا إلى وحي. وعن العلاقة بين الاخلاق والدين: يطرح مسألة التحسين والتقبيح العقليين ليؤيد فكرة المعتزلة والامامية القائلين بان الحسن والقبح ذاتيان، ويستنتج ان العقل يسبق الوحي بل يعتمد عليه الوحي.
وفي ما يسميه بالاطروحة الابستمولوجية الثانية يفترض ان الانسان قادر على تكوين المعرفة الاجتماعية، ولكن هناك معوقات تمنعه من استكمال المعرفة الاخلاقية من قبيل: (الانانية والميول والعجز عن التنبؤ، والطبيعة الخاطئة)، ثم يسعى لبيان امكان غلبة الانسان على هذه الموانع، متسائلاً: لماذا نقبل ان تقف هذه عقبة امام المعرفة العملية دون ان تمنع من تكوّن المعرفة الدينية؟
وفي نص آخر يتحدث عن موجبات طاعة الله ويحصرها في كونه حاكماً وكونه مالكاً، ليؤكد ان هاتين الحيثيتين لا تؤديان إلى الالتزام المطلق بعد ان كانت هناك اعتبارات عقلائية، لينتهي إلى جعل المرجع النهائي هو (الاعتبارات العقلائية)(39)، ويطرح في مسألة الالزام الديني شبهات من قبيل:
أولاً: الدين انما يبين لنا واجباتنا الاولية لا واجباتنا بالفعل، وهي مقيدة بالظروف الزمانية والمكانية.
ثانياً: ان واسطتنا في الاطاعة هي النصوص، وهي لا تنفع اذا تطابقت مع الاعتبارات العقلائية.
ثالثاً: ان رجوعنا إلى الله عن طريق هذه النصوص هو اصعب من رجوعنا مباشرة إلى هذه الاعتبارات، لتعرضها للتحريف.
وهو في الواقع يعمل جاهداً على نفي مرجعية الوحي والعودة إلى ما يسميه بالاعتبارات العقلائية في عملية التشريع كلها.
ويطرح هنا ما يمكن ان يطرحه المؤمنون من افتراضات ليناقشها وهي:
اذا كان النص قطعي الثبوت، واذا كانت النبوة ثابتة، واذا كان الوحي يعني الطريقة المباشرة (غير الاستدلالية) للمعرفة، فأمر الله معروف ولا شك فيه(40). ويركز في المناقشة على عملية (الوحي) ويحاول ان يحللها، مثيراً شبهة توهم النبي للوحي. وهي شبهة قديمة معروفة تحاول ان تبقي على صدق النبي فيما يقوله ولكنها تشكك في المدعى، من جهة ان هناك فرقاً بين الاحساس بالالم وما يبدو انه احساس بالالم.
ومن هنا فهو يؤكد ان الوحي ليس من مقولة الحدس ولا من مقولة الحس، لينتهي إلى انه (تجربة داخلية) لدى النبي، وهذا يعني بالتالي فقدان اثر العصمة، لان معطى الوحي يمثل تمازجاً بين معطى الله والنوازع الداخلية للنبي، ثم ان الذي يميز عملية الوحي ودقتها هو العقل.
ثم يؤكد انه لما لم تكن هناك مقولة للتمييز بين الانبياء الصادقين والكاذبين سوى العقل، فالمرجع اذن العقل.
الإسلام والعلمانية
هذا الفصل يعمل على جعل العلاقة مجرد تقارن تاريخي لا غير، ويعمل هذا الفصل على مناقشة ما يطرحه من قضايا من قبيل:
1 ـ ان الله يأمر بتنظيم الحياة السياسية ولا يمكنه إلا ان يكون آمراً بذلك.
2 ـ ان الله يأمر بالنظام رغم اختلاف الظروف الزمانية والمكانية.
3 ـ ان المسلم هو وحده المأمور باقامة الدولة الإسلامية.
4 ـ ان الانسان عاجز عن تنظيم حياته بمفرده.
وهي قضايا يطرحها نيابة عن القائلين باطروحة الصحوة الإسلامية، ثم يبدأ بالرد عليها بإيرادات من قبيل:
أ ـ ان الظروف هي التي جرت الرسول إلى التقنين، فلو لم يعاند اهل مكة ولم يهاجر النبي إلى المدينة لكان هناك احتمال آخر. (وهي قضية يرددها علمانيون آخرون من قبيل الدكتور سروش).
ب ـ ان الإسلام صفة عامة لكل الاديان، ولو كان يلازم الدولة لما وجدنا المسيحية مثلاً ترفض الفكرة.
ج ـ الاشارة إلى قاعدته: ان الجائز لا ينتج من الضروري.
د ـ ان ثبات النظام مع تغير الظروف مستحيل، ولا يأمر الله بالمستحيل. وهنا يهاجم القائلين بمسألة خلود النظام هجوماً مراً(41).
كما يهاجم فكرة (لا اجتهاد مع النص) وفكرة (ان النصوص المطلقة يجب العلم بها وفق اطلاقها) ثم يعمل على التشكيك في النصوص القرآنية(42).
ويفرق بشكل غريب بين اطلاق النص واطلاق مضمونه، وهو القاعدة، ثم يطرح فكرة (واجبات الوهلة الاولى)، ولعله يقصد بها فكرة الواجبات بالعنوان الاولي التي يمكن ان تتغير بطرح العنوان الثانوي.
ويحاول طرح فكرة (تحريم لحم الخنزير لضرره) فاذا زال الضرر حل ذلك. ويعتبر الايمان بالمصالح المرسلة نقضاً لاطلاق الاحكام الالهية.
ويعمل على التفريق الاعتباطي بين القواعد العامة كحرمة شهادة الزور وحرمة القتل، والأخرى كجلد الزانية وارث الانثى، فيرى امكان اثبات الاولى دون الثانية.
واخيراً يطرح فكرة (الطبيعة الكونية للإسلام) مستبعداً كل ما يراه انه يعارضها، ويستفيد من كلام بعض الكتاب الإسلاميين ان الإسلام جاء بتوجيهات عامة وكليات، ان مرادهم هو الايمان بالمبادئ المعيارية(43)، إلا انه يستدرك على ذلك أيضاً باعتبار:
1 ـ ان هذه المبادئ ليست ذات مضمون سياسي ولا تبنى به المؤسسات الاجتماعية.
2 ـ ان العمل بها هو عمل بالعقل لا بالوحي، لاننا اذا اردنا ان نجعلها كونية كان علينا ان نجردها من خصوصياتها الإسلامية، فهي تتنافى مع مبدأ ان الإسلام هو وحده المكلف باقامة الدولة الإسلامية، والا كان علينا ان نؤمن بالنسبية الاخلاقية.
واخيراً يطرح فكرة ان استقلالية الانسان في تعلقه وفي كونيته الاخلاقية تتعارض مع فكرة الدولة الدينية، لينتهي إلى غرضه الاصلي من الكتاب وهو الاعتماد على العقل المجرد من الدين في صياغة الحياة.
ملاحظات عامة
واذا كان لنا ان نلاحظ على الكاتب بشكل موجز قلنا:
أولاً: ان الكتاب رغم ما يبدو فيه من اتباع للمنهج العقلي المنطقي يفقد الكثير من المصداقية المنطقية وخصوصاً عند محاولته المغالطة.
فان اهم ما يعتمد عليه هو قوله: ان القضية الضرورية لا تنتج القضية الجائزة، جاعلاً اياها قضية منطقية صدقت مقدماتها فلا بد ان تصدق نتائجها بنفس المستوى. وليس الامر كذلك، فانه يريد من القضية الضرورية (القضية الدينية العقائدية) وهي قضية ضرورية قطعية حتماً، اما القضية العملية الاجتماعية فلها حلول عديدة ولا الزام بالحل الواحد، ونلاحظ هنا:
1 ـ ان الايمان بالله ووحدانيته وصفاته لا يستلزم مطلقاً الايمان بوحدة النظام الاجتماعي بكل ابعاده، رغم اختلاف الظروف والمكان؛ فمن الجائز منطقياً ان الله تعالى يخير الانسان بين حلول متعددة لمشكلته الاجتماعية، والفقهاء كلهم يطرحون فكرة الواجب التخييري، وفكرة القاعدة التي تتعدد مصاديقها التنفيذية، بل من الجائز ان يبيح الله للانسان ان يعمل فكره وعقله في منطقة معينة ليملأها بتشريعاته المتغيرة، وهو ما عبر عنه المرحوم الشهيد الصدر بمنطقة الفراغ التشريعي أو ما يمكن ان يسمى بالمنطقة الولائية أو منطقة المباحات ـ كما اشرنا لذلك في بحث مستقل ـ ولا يتنافى كل ذلك مع ضرورية القضية الدينية وبهذا ينهار اساس استدلاله الفلسفي في مجمل الكتاب؛ فليست القضية هي من الشكل الاول المنطقي ليقال ان ضرورية المقدمات تنتج ضرورية النتائج.
2 ـ ان القضية الاجتماعية قد تكون ضرورية وذلك اذا كانت المشكلة مشكلة ثابتة لا تغير فيها وكان حلها ثابتاً لا تغير فيه، فليس امامنا إلا الحل الثابت للمشكلة الثابتة، وهو ما يمكن ان نطلق عليه بمنطق الكاتب اسم القضية الضرورية.
فالمشكلات الانسانية التي تعود إلى الفطرة وهي ما نعتقد انه العنصر الثابت في حياة الانسان هي مشكلات ثابتة وسبل علاجها قد تكون ثابتة لا تغير فيها، كما ان الحقائق الفيزيائية هي حقائق ثابتة، فعلاجها اذن هو العلاج الثابت الذي لا يتغير بتغير الظروف والاماكن، ويمكن ان نضرب لهذه امثلة من قبيل:
أ ـ وجوب الصلاة وباقي انماط العبادات لاشباع حاجة الانسان الثابتة للتدين والارتباط بالمطلق.
ب ـ النهي عن قتل الانسان.
ج ـ النهي عن كل انماط الظلم.
د ـ النهي عن الخمرة لأنها مضرة دائماً بالانسان من وجوه شتى.
هـ ـ النهي عن اكل لحم الخنزير لعلاقته السلبية بالحياة الانسانية (ولا نعلم نحن ابعاد هذه العلاقة).
و ـ النهي عن الغرر والغش في المعاملة وغير ذلك.
هذا وقد صادر الكاتب على المطلوب حين ادعى ان المعرفة العقلية الكاملة ممكنة؛ فالمدعى ان المعرفة الاجتماعية الكاملة غير ممكنة لانها تعني معرفته بكل الغايات الانسانية بتفاصيلها ومعرفة كل الوسائل الموصلة إلى تلك الغايات، وهي أيضاً غير ممكنة للعقل، فكيف نفترض ابتداءً امكان هذه المعرفة العملية؟
ثانياً: ان الهدف الذي يرمي اليه هو فصل الدين عن الحياة، من خلال افتراض العقل أن والمبادئ المعيارية تتقدم رتبة على الوحي فهي كافية لتنظيم شؤون الحياة.
ونحن نعلم ان العقل هو نبي الباطن ـ جاء في الحديث عن هشام بن الحكم قال: قال لي ابو الحسن موسى بن جعفر (ع): "… يا هشام، إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة؛ فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (ع)، واما الباطنة فالعقول …"(44) ـ وبه تتم المعرفة الدينية، سواء كان عقلاً نظرياً، أي المبادئ الأولية الضرورية كاستحالة التناقض ومبدأ العلية، ام كان عقلاً عملياً كما في مسألة طاعة الخالق تعالى.
ولكن المشكلة تكمن في ان العقل وحده لا يقدر على معرفة كل العلاقات الانسانية فيما بينها اولاً، والعلاقات الانسانية بالطبيعة، والعلاقات بين الماضي والحاضر والمستقبل والعدالة الدقيقة في الاشباع المتوازن للحاجات الانسانية، وبالتالي كل السبل للوصول إلى الكمال الانساني (الذي تعبر عنه النصوص الإسلامية بالتقرب من الله)، ولذا يحتاج الانسان إلى الدين وتعاليمه وذلك:
أ ـ لكي ينمي العقل نفسه ويهديه إلى الاسلوب التكاملي الافضل.
ب ـ لكي يوضح له ما ابهم عليه من علاقات وما ينبغي ان يصنعه لمواجهة كل المواقف، ومنها المواقف الاخلاقية التفصيلية التي قد يمكن ان يعلم اصولها اجمالاً. والحقيقة ان السير الطبيعي الذي يصوره الدين يتم على النحو التالي:
(الذات الانسانية المنطوية تدرك ـ عبر العقل ـ الحقائق الدينية لتصل من خلالها إلى الخطة الحياتية الكاملة التي تسير بها نحو التكامل).
فالعقل بمبادئه يقود الانسان إلى الله، وضرورة طاعته. والله بفضله وكونه الخير المطلق وبمقتضى علمه وقدرته ولطفه يرسم للانسان كل معالم حياته الفردية والاجتماعية التشريعية وكل الحلول الانجح لمشكلاته ليسير هذا نحو الغاية.
وبتعبير آخر: العقل نبي الباطن الذي يرشده إلى خالق الكون، ونبيه هو عقل الخارج الانساني الذي يبلغه الخطة الالهية للحياة.
فأين التناقض؟ ولماذا نعتبر اسبقية العقل وان العقل هو كل شيء في الحياة، وهل يمكن ان نعتبر السراج الكاشف عن المنظار كاشفاً عن كل العوالم التي يكشف عنها المنظار، فلا حاجة اذن للمنظار ونكتفي نحن بالسراج؟
وبهذا ينهار الاساس الثاني الذي سعى اليه الكاتب واكده مئات المرات، وهو دلالة اسبقية العقل على الوحي والنبوة على استقلالية الانسان في كل حياته.
ان الاوامر الالهية قد تكون اوامر ارشادية لحكم العقل الذي قد يغفل عنه الانسان نتيجة طغيان النوازع الحسية عليه، ولكنها لا تعني التكرر والمرجعية العقلية، بل تعني الانسجام بين الدين والفطرة الانسانية، وتبيين مكنونات هذه الفطرة التي قد يعمى عنها الانسان.
كما اننا نعبر ان الارادة الالهية بمقتضى عدلها ولطفها تنسجم مع الاعتبارات العقلانية، ولكن هذا لا يعني تقييد الارادة المطلقة، فهي مطلقة لا يحدها شيء، ولكنها بمقتضى العدل واللطف لا تأمر الانسان إلا بما يصلحه ويحقق له تكامله، ولا يعني هذا المرجعية العقلية بقدر ما يعني الانسجام مع الفطرة والواقع الانساني. بالاضافة إلى ان هذه الارادة تتعلق بكثير مما يجهله الانسان بعقله من المصالح والالطاف، فلا يمكن الاستغناء عنها مطلقاً واعتبار الاوامر الدينية امراً مكرراً؛ فالمغالطة تكمن في جعل العقل الانساني مدركاً لكل الغايات والمبادئ والعلاقات الواقعية واساليب العلاج، وهي قضية معلومة البطلان، وما اكثر المجهولات في الحياة.
اننا نؤمن كالكاتب بان الحسن والقبح ذاتيان للاشياء، ولا نوافق على مقولة ان الحسن آت من تحسين الشارع، لان هذه المقولة كما قال الكاتب تواجه مشكلات عديدة طرحها باسهاب ليسجل انتصاره دون ان يذكر الفكرة القائلة بالحسن الذاتي للأشياء، فهي تكون حسنة حتى لو لم يوجد المكلف نفسه … وانما الذي ننعاه على الكاتب ان العقل العملي يدرك حسن بعض القضايا العامة من قبيل ادراكه لحسن العدالة مطلقاً، فهي معيار دائمي (لا يمكن خلطه مع بعض المعايير التي تمتلك حسناً اولياً للوهلة الاولى كالمنفعة والحرية)، وكذلك ادراكه لحسن طاعة المولى الخالق الحاكم المالك، وهي مفاتيح تنقلنا إلى عالم العلم الالهي والطاعة لله، حيث تنكشف امام العقل نفسه آفاق الحسن بتفاصيلها ليسجل عجزه امام الله تعالى ويركع له ويسجد.
ثالثاً: بغض النظر عن العلاقة بين المعرفتين، لنفرض ان المعرفة العملية ممكنة، إلا ان هناك مسألة الطاعة لله الآمر بالنظم الاجتماعية المختلفة التي لا نستطيع انكارها؛ فنحن اذ نعرف الله تعالى بكل صفاته ونعرف الإسلام بأبعاده لا يمكننا ان نعصي الله تعالى بأوامره بعد ان كانت النصوص ثابتة والنبوة معصومة والله تعالى هو الآمر. ان الكاتب هنا يطرح الكثير من القضايا لنفي هذه العلاقة:
1 ـ يدعي ان بعض الكتاب قد رفضوا وجود نظم إسلامية للحياة أو ذكروا ان هناك مبادئ عامة كلية لا غير.
2 ـ يدعي ان الله اعطى الانسان القدرة على المعرفة الكاملة بالمعايير الأخلاقية التي يعرف الله بها، وهذا لا ينسجم مع مسألة اقامة المجتمع على اساس من التعاليم الإسلامية، لان ذلك لا يبقي مجالاً لاعمال العقل والعمل باستقلاليته.
3 ـ يعمل بشتى الاساليب على التشكيك في ثبوت النصوص، وفي اطلاق النصوص وفي سلامة الوحي من الخداع والوهم، ثم يؤكد انها لو تمت فانها تعطينا واجباتنا (لاول وهلة) والذي نسعى اليه هو واجباتنا الفعلية.
4 ـ يعمل على الاشكال في مسألة اقتضاء حاكمية الله وملكية الطاعة له.
ونلاحظ على هذا الاسلوب:
1 ـ ان الامر الثاني قد تمت الاجابة عنه، واكدنا ان قدرة العقل على معرفة الله ولزوم اطاعته لا تستلزم مطلقاً قدرته على المعرفة العملية بكل الغايات الانسانية والوسائل التي تحققها، على ان الشارع المقدس يبقي للعقل مجالات واسعة للابداع التشريعي في الجانب المتغير من حياة الانسان، وكذلك في اختيار الاسلوب التطبيقي للحكم الشرعي، فلا يؤدي اذن القول باقامة الحياة على اساس من شريعة إلى تعطيل العقل الانساني، وانما لسد عجزه في المعلومات وتقوية نشاطه الفعال في المعلومات وتقوية نشاطه الفعال في المجالات الانسانية من المعوقات التي ذكرها الكاتب في اطروحته (الابستمولوجية الثانية حقيقة قائمة)، ولكن يجب ان يضاف اليها جهل الانسان باكثر المعلومات والعلاقات الداخلية في شكل النظام، بل هو يجهل ذاته نفسها، فكيف يمكنه التغلب على هذه النقائص؟
والغريب انه يقول اذا كانت هذه معوقات عن المعرفة العملية، فلماذا لا تعيق المعرفة الدينية؟ متغافلاً عن ان المعرفة الدينية هي من مقتضيات الفطرة بميولها نحو التدين ونزوعها نحو الكمال وبامكاناتها العقلية الكلية، فهي تكفي للوصول إلى الله، وهذا شيء يختلف عن معرفة كل ابعاد النظام الاجتماعي والتشريعي للانسان.
2 – النقاش في الامر الاول صغروي؛ فنحن ندعي ان النظم التي طرحها الإسلام هي نظم متكاملة وشاملة لمجمل المشكلات الحياتية وتمتلك كل مقومات (النظام)، فهي ابعد من ان تكون مجرد تعليمات كلية ومبادئ عامة. وقد رأينا الكاتب نفسه لا يكتفي بهذه الحجة التي منحها هؤلاء له، وانما يعمل على انتزاع الخصيصة الإسلامية لهذه المعايير وتجريدها من خصوصياتها لتنسجم مع ما يسميه بـ(الكونية الإسلامية) وكأن الكونية الإسلامية لا تنسجم حتى مع طرح المعايير الكلية بخصوصياتها الإسلامية.
إن التعامل المنطقي يقتضي ان نناقش القضية على المستوى الانساني فنقول: هل تستطيع هذه المبادئ ان تطبق على المستوى الانساني العام بغض النظر عن الاختلافات العرقية أو اللغوية أو المكانية أو الزمانية ام لا، بدلاً من ان نفترض ضرورة تطبيقها مع حذف صفتها الإسلامية؟ انها معايير تنسجم مع الفطرة الانسانية، وهي واحدة في الجميع لان الفطرة هي الشاخص الانساني الاول. والغريب انه يدعي ان رجوعنا إلى الاعتبارات العقلائية هي اسهل من الرجوع إلى النصوص. وقد اشرنا من قبل إلى ان الاعتبارات العقلائية مبتلاة بمعوقات كثيرة تجعل المعرفة العلمية الكاملة شبه مستحيلة بل مستحيلة فعلاً.
3 ـ اما مسألة الوسيلة إلى الله تعالى وأوامره فنلاحظ فيها:
أ ـ ان الكاتب اغفل الامور المعلومة لدى المسلمين أو ما نسميه ببديهيات الفقه، وكذلك ما تجمع عليه الأمة الإسلامية، فلا يبقى أي مجال للتشكيك لانها معلومة (والحجية ثابتة للعلم)، وكذلك اغفل النصوص المتواترة المعلومة أيضاً وفي طليعتها النصوص القرآنية. اما النصوص غير المتواترة فقد ركز عليها مشككاً وطارحاً فكرة التحريف، ومشككاً في الدلالة والظهور، إلا ان علم اصول الفقه الإسلامي قد حل هذه المشكلات وفقاً لأسسه المتينة. فليس لنا ان نشكك في حجية خبر الواحد بعد ان كانت سيرة العقلاء الممضاة شرعاً على العمل به، وليس لنا ان نقيد ظهوراً مطلقاً بشكل اعتباطي إلا ان تقوم قرينة متصلة أو منفصلة على ذلك، حسب القواعد المعروفة التي لا مجال للحديث عنها هنا، كما انه ليس لنا ان نخترع من انفسنا ملاكات معينة للاحكام وانما نتبع في ذلك ما يصرح به الشرع العظيم، فضلاً عن ان نقوم بانتخاب احكام معينة لا تنسجم مع اذواقنا لاعطائها صفة مؤقتة وتفقد بذلك خلودها.
ب ـ ان ما يسميه بـ(واجبات الوهلة الاولى) امر مبهم؛ فقد يقصد انها واجبات لاول وهلة، أي واجبات بدوية سرعان ما تفقد وجوبها، وهو امر تافه لا محصل له، وقد يقصد بها ما نسميه نحن بالواجبات الاولية، أي الواجبات التي تأتي في حد ذاتها على المكلفين (ما لم يعارضها عنوان ثانوي) كوجوب الصلاة، وحرمة الخمر، واذا جاءت هناك عناوين ثانوية كالحرج والاضطرار والتزاحم مع الواجبات الاهم قدمت هذه العناوين الثانوية وصارت واجبات فعلية؛ فهذه أيضاً لها قواعدها الرصينة وهي تعبر عن مرونة الشريعة، وكذلك يتقدم الامر الصادر من ولي الامر، وهو الامر الحكومي على العناوين الاولية المباحة ـ في تفصيل يذكر في محله ـ فلا يشكل هذا الجانب اية مشكلة تشريعية.
ج ـ والاغرب من كل ذلك ما يصرح به من ان اطلاق النص لا يستلزم اطلاق القاعدة المتضمنة فيه، وما النص إلا كاشف عن مضمونه ومعرّف له.
د ـ والايمان بالمصالح المرسلة لا يعبر عن نقض لنظام الاحكام الالهية وانما يعبر عن مرونة تشريعية، حيث يلجأ ولي الامر إلى ما تقتضيه المصالح في اطار المقاصد الشرعية وفي اطار المؤشرات التي يمنحه الشارع اياها، يلجأ لعلاج الحالات المتغيرة باصداره الاحكام المصلحية. ونحن هنا لا نؤمن برجوع الفقيه إلى ذلك.
هـ ـ أما فكرة (الاجتهاد في قبال النص) فهي غريبة عن الإسلام، ولا معنى لأن يعمل الانسان رأيه في قبال النص الالهي المعصوم؛ انه بذلك ينقض ايمانه بالنص الديني وعصمته ويقع بالتالي في تناقض في ايمانه.
و ـ اما التشكيك في عملية الوحي فهو امر مرفوض تماماً، وهي فكرة غريبة على الروح الإسلامية؛ فالوحي حضور قطعي لدى النبي وهو بدوره يوصله إلى الأمة دونما أي تصرف {ولو تقوّل علينا بعض الاقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين}(45). اما فكرة التجربة الداخلية فقد انطلقت في الغرب، وتأثر بها المفكرون المسلمون.
وهي امور لو شككنا فيها شككنا في كل النبوة، والمفروض اننا اطمأننا بعصمة الرسول (ص) اما مطلقاً أو على الاقل في مجال التبليغ (كما هو رأي بعض المسلمين).
ز ـ وقد ذكرنا اننا لا نستطيع التعامل مع النصوص إلا اذا تطابقت مع الاعتبارات العقلائية، فلا ندري ماذا يقصد بها؛ فان قصد ان النص يخالف في ظهوره معلومة قطعية عقلية من قبيل قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى}(46) وحينئذ يجب تأويله فهو امر صحيح، ولكنه لا علاقة له بالجانب التشريعي اولاً، وتقل موارده ثانياً، وليس في المجالات التشريعية ثالثاً.
وان قصد ان النص قد يخالف ما تستحسنه ظنوننا واذواقنا واعتباراتنا العرفية، فلا قيمة لهذه الاستحسانات بعد ان كانت مبتلاة بالمعوقات التي ذكرها هو، وفي طليعتها الجهل الانساني بالحقائق … نعم لو بلغت هذه الاعتبارات حداً واسعاً وامتدت امتداداً تاريخياً إلى عصر النص وشكلت قرينة عرفية عليه، ولم يكن هناك ردع شرعي لها، امكن القول بأنها قد تقيد ظهور النص واطلاقه، ولكن ذلك لا يؤدي إلى ما يريده الكاتب من جعل الاعتبارات العقلائية مرجعاً للنصوص.
وهكذا نجد ان هذه الشبهات تتساقط الواحدة بعد الاخرى، ويبقى السبيل إلى معرفة اوامر الله تعالى سليماً بوجه عام.
اما ادعاء ان الرجوع إلى الاعتبارات العقلائية اسهل من الرجوع إلى النصوص، فقد قلنا انه غريب سخيف، وأنى لهذه الاعتبارات المبتلاة بضعفها ان توصلنا ـ عبر التجربة الاجتماعية ـ إلى المعرفة العلمية المطلوبة؟! وقد اشرنا لهذا من قبل.
والحقيقة ان من يدرك الفرق بين التجربة الطبيعية والتجربة الاجتماعية يلاحظ عجز الانسان عن الوصول إلى المعرفة الاجتماعية الشاملة الدقيقة(47).
ح ـ مسألة الإلزام الإلهي:
يرى الكاتب ان صفة القدرة الإلهية لا تكفي للإلزام بطاعة أوامر الله، حتى ولو كانت إرادته خيرة دائماً، إلا ان تقود الانسان إلى ذلك اعتباراته العقلائية.
ومن هنا فما الذي يقودنا للإلزام؟ يطرح هنا فكرة الحاكمية الالهية للعالم، وفكرة الخالقية والمنعمية، وفكرة المالكية الالهية، للعالم ويناقشها بانها جميعاً تتحرك في اطار الاعتبارات، فالتشكيك اذن ينصب على عنصر الالزام الالهي.
والحقيقة ان كل تلك الافكار تعود إلى فكرة اعلى منها، هي فكرة المولوية الالهية؛ فالله تعالى هو المولى الحقيقي للانسان، والانسان بالتعبير الديني هو العبد المحض لهذا المولى الحقيقي، ويكمن سيره التكاملي في عبوديته التكاملية، ولذا اطلق على الاعمال التي تنظم مظاهر هذه العلاقة اسم (العبادات).
وينطلق الالزام في مقام المولوية من حكم العقل القطعي الالزامي (وهو من اهم الاعتبارات العقلائية) بلزوم طاعة المولى الحقيقي والعمل باوامره المعلومة واستحقاق الثواب والعقاب على اساس من هذه الطاعة. وقد ذهب بعض العلماء إلى ان احتمال ارادة المولى الحقيقي ـ أيضاً ـ ملزم للطاعة لدى العقل، ولا يحتاج الامر إلى التحقق قطعاً من صدور الامر الالهي؛ يقول الشهيد الصدر متحدثاً عن ان البحث عن الحجية هو بحث عن حدود المولوية:
"لأن المولوية عبارة عن حق الطاعة، وحق الطاعة يدركه العقل بملاك من الملاكات كملاك شكر النعم أو ملاك الخالقية، ولكن حق الطاعة له مراتب، وكلما كان الملاك اكثر تأكيداً كان حق الطاعة اوسع… وقد تكون مولوية المولى اوسع دائرة، بان كانت منعميته بدرجة عليها حق الطاعة حتى في المشكوكات والمحتملات من التكاليف... ومظنوني انه بعد الالتفات إلى ما بيناه لا يبقى من لا يقول بسعة مولوية المولى الحقيقي بنحو تشمل حتى التكاليف الموهومة"(48).
رابعاً: مما يردده الكاتب كثيراً مسألة استحالة ان يكون هناك نظام خالد لان الظروف الزمانية والمكانية متغيرة، فحتى لو جاء الامر الالهي بذلك فهو مستحيل ومخالف للمعايير العقلائية، فيجب رفضه أو تأويله.
وهذا الاشكال معروف وقديم، ويكفي ان نشير إلى ان الكتّاب الإسلاميين اجابوا عليه في بحوث مفصلة، وخلاصة الرد عليه هي:
ان الجوانب الانسانية ليست كلها متغيرة، وانما بعضها ثابت والآخر متغير، اما الجانب الثابت فيشمل مثلاً الجوانب الفطرية الثابتة في الانسان ومنها الثوابت الاخلاقية التي يؤكدها الكاتب ومنها الحقائق الفيزياوية الكونية الثابتة أيضاً.
وعلاج هذه الجوانب يبقى ثابتاً.
اما الجوانب المتغيرة فيجب مواجهتها بعناصر مرنة (هي بدورها الكلي تشكل قواعد ثابتة)، وللإسلام تخطيطه الواسع في هذا المجال ويشمل:
أ ـ الايمان بتقسيم الاحكام إلى اولية وثانوية وحكومية.
ب ـ تعيين المجالات المتطورة وتعيين دور الحاكم في ملئها، مع ملاحظة اختلاف الظروف الزمانية والمكانية.
ج ـ اعطاء بعض القواعد الثابتة التي تتغير مصاديقها بتغير الظروف؛ من قبيل قاعدة (منع الاسراف) و(اعداد القوة) و(ضرورة العمل على رفع المستوى المعاشي للافراد للوصول بهم إلى حد الغنى) وامثال ذلك.
د ـ فتح باب الاجتهاد لاستيعاب مختلف الظروف في اطر معينة ثابتة.
وبهذا نؤمن ان فكرة استحالة خلود النظام، وهي من الافكار الاساسية في الكتاب، فكرة باطلة. وللتفصيل هنا مجال.
خامساً: وهناك مجالات كثيرة للفقه نعرض عنها، ولكن نشير إلى انه يستند إلى هذه النصوص المسيحية المحرفة ليؤكد انها لا تتدخل في الحياة الاجتماعية، ويعتبر ذلك نقضاً على تدخل الإسلام في هذه الحياة باعتبار ان الإسلام يشمل كل الاديان التوحيدية، فلماذا نقض هذا الامر في المسيحية. والحقيقة هي ان الاديان كلها تتدخل في الحياة الاجتماعية وتصوغها، فطبيعة الدين ذلك، وحتى المسيحية المحرفة نجدها تنظم الحياة وان لم تصلنا كل النصوص الدالة على ذلك إلا ان بعض نصوصها يؤكد ذلك.
وكذلك نشير إلى ان فكرة تأثير الظروف على دعوة الرسول (ص) وانها دفعته للفكرة العالمية أو (الفكرة الاجتماعية) وامثال ذلك، هذه الفكرة تتناقض مع ما آمنا به سلفاً من نبوة النبي (ص) وقدسية الوحي.
والغريب ان نجد بعض المثقفين يستجيبون لمثل هذه التشكيكات من قبيل (الدكتور سروش في ايران) في مقاله المعروف (الصراطات المستقيمة).
وكذلك نشير إلى فكرة (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) والتي اعتبرها تحصيل حاصل، مؤكدين ان الفهم العام لها يختلف تماماً عما فهمه هو؛ فهذا النظام هو نظام الاشراف على عملية تطبيق الشريعة الإسلامية ومقاصدها على الصعيد الفردي والاجتماعي، وليست الرقابة الاجتماعية مما يمكن ان يوصف بانه تحصيل حاصل، إلا ان يفسر المعروف بالمعايير الاخلاقية وتكون الجملة لديه (علينا الالتزام بما علينا الالتزام به) كلا، فالقاعدة هي الزام الافراد والجماعات بواجباتها الدينية وليست كما يتصور.
(الهوامش)
(1) سورة الإسراء، الآية 54.
(2) سورة الشورى، الآية 48.
(3) سورة الفرقان، الآية 56.
(4) سورة الغاشية، الآية 21 ـ 22.
(5) عبد الرزاق، علي، الإسلام وأصول الحكم، بيروت، مكتبة الحياة، 1978، ص 71 ـ 75.
(6) المصدر نفسه، ص 78.
(7) الكليني، الأصول من الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، ص 59، ح 4.
(8) المبارك، محمد، نظام الإسلام.. الحكم والدولة، ص 13.
(9) روسو، العقد الاجتماعي، ص 206 ـ 207.
(10) سورة الذاريات، الآية 56.
(11) سورة النساء، الآية 105.
(12) سورة الجاثية، الآية 18.
(13) سورة المائدة، الآية 44.
(14) سورة الانعام، الآية 38.
(15) سورة المائدة، الآية 3.
(16) الصدوق، عيون اخبار الرضا (ع)، ج 1، ص 216.
(17) سورة النساء، الآية 80.
(18) سورة البقرة، الآية 143.
(19) سورة النساء، الآية 59.
(20) سورة الفتح، الآية 29.
(21) الامام علي (ع)، نهج البلاغة، ضبط الدكتور صبحي الصالح، الكتاب: 53.
(22) سورة النور، الآية 55.
(23) يراجع كتابنا (حول الدستور الإسلامي) اصدار منظمة الاعلام الإسلامي ـ معاونية العلاقات الدولية.
(24) متولي، د. عبد الحميد، مبادئ نظام الحكم في الإسلام، ص 165 ـ 193.
(25) سورة المائدة، الآية 44.
(26) سورة المائدة، الآية 45.
(27) سورة المائدة، الآية 47.
(28) سورة النساء، الآية 65.
(29) ظاهر، عادل، الأسس الفلسفية للعلمانية، بيروت، مكتبة الحياة، ص 5.
(30) المصدر نفسه، ص 43.
(31) المصدر نفسه، ص 51.
(32) المصدر نفسه، ص 52 .
(33) المصدر نفسه، ص 61.
(34) المصدر نفسه، ص 73.
(35) المصدر نفسه، ص 74.
(36) المصدر نفسه، ص 156.
(37) المصدر نفسه، ص 171.
(38) المصدر نفسه، ص 175.
(39) المصدر نفسه، ص 281.
(40) المصدر نفسه، ص 292.
(41) المصدر نفسه، ص 339.
(42) المصدر نفسه.
(43) المصدر نفسه، 350.
(44) الكليني، مصدر سابق، 1 ص 106.
(45) سورة الحاقة، الآية 44 ـ 46.
(46) سورة طه، الآية 5.
(47) الصدر، محمد باقر، مقدمة كتاب فلسفتنا.
(48) الصدر، محمد باقر، مباحث الحجج والأصول العملية، تقريرات السيد الهاشمي، ج 2 ص 24.
تعليقات الزوار