كشف العلامة الشيخ محمد رضا النعماني، آخر من فارق المرجع الكبير والإمام الشهيد محمد باقر الصدر عما جرى من مفاوضات خلال الساعات والأيام الأخيرة التي سبقت استشهاد الإمام الصدر.
واشار الى انّ آخر المفاوضات التي جرت ، واستشهد رضوان الله عليه بعدها بأيام قليلة ، كانت بينه وبين مبعوث خاص ومفوض من قبل القصر الجمهوري . وقد طال كل لقاء من هذه اللقاءات أكثر من ثلاث ساعات ، وقد كان الامام الشهيد ثابتا على موقفه معلنا استعداده للشهادة ورفضه لأي تراجع .
وتحدث الشيخ النعماني صاحب كتاب "سنوات الجمر وايام الحصار" ، عن تلك الايام والساعات قائلا : بدأت المفاوضات الاخيرة بالشكل التالي :
اتصل فاضل البراك مدير الأمن العام بالسيد الصدر وقال له: انّ القيادة ستبعث لكم اليوم ممثلاً ليبحث معكم كافة القضايا ، وأرجو ان تكون النتائج طيبة وايجابية.
وبعد ساعة واحدة جاء «المبعوث» الخاص محاطاً بعدد من قوات الحماية، وطلب من الشهيدة بنت الهدى «رحمها الله» الاذن بلقاء السيد الشهيد وكان مؤدباً حسن المعاملة والتصرّف قياساً بغيره من المسؤولين . دخل الى البيت بعد أن طلب من حمايته البقاء خارج المنزل ، ومنعت قوات الامن التي تطوق منزل السيد الشهيد المرور من الزقاق، بما في ذلك السكان الذين تقع دورهم فيه. التقى هذا الشخص بالسيد الشهيد وعرّف نفسه بأنه مبعوث خاص من قبل رئاسة الجمهورية ومخوّل من قبلها، وكنّى نفسه بأبي علي . وبدأ خطوته بمجاملة حارة ! وقال : يصعب على السيد الرئيس وعلينا هذا الوضع الذي لم نكن نرغب فيه ، ولم نكن نتمنّى لكم هذا الوضع ، وأرجو أن نتوفّق لحلّ هذه المشكلة ، فأنت عربي منّا، ومفكّر اسلامي كبير .
السيد الشهيد : اذا كنت تقصد الحجز فأنا لست متضايقاً منه
المبعوث : لا أعني الحجز وحده، بل الحالة غير الطبيعية بيننا
ثم قال : سيدنا، انني مخول من قبل القيادة لبحث كل القضايا والمشاكل، وان شاء الله سنتوصل الى حلّ لها في هذا اليوم يرضي الطرفين، وتعود الأمور الى طبيعتها، بل وتحدث بيننا محبة وصداقة.
السيد الشهيد: تفضل.
المبعوث : سيّدنا، إنّ ما حدث ـ في رجب ـ كان تحدياً للدولة، وقد اُهينت كرامتها، وهُتكت حرمتها، انّ مسؤولية ذلك تقع عليكم . وأحبّ أن أخبركم أنّ القيادة لم تتسامح مع أحد ـ بما في ذلك رفاق قياديين في حزب البعث ـ كما تسامحت معكم، انّ من أصحب الامور بالنسبة لنا هو كيفية التعامل معكم، انّ هذا من الأمور المعقّدة بالنسبة للقيادة، إنّ ما صدر منكم ممّا لا يمكن للقيادة تحمله.
السيد الشهيد : وما الذي صدر منّي ؟
المبعوث: أشياء كثيرة، العلاقة بإيران، وفود المعارضة للسلطة، تحريم الانتماء لحزب البعث..
السيد الشهيد: علاقتي بإيران لا تتجاوز علاقتي بالسيد الخميني، وهي علاقة العالِم بالعالِم، وأمّا تأييد الثورة الإسلامية فهو موقف ينسجم مع موقف السلطة، فأنتم أيضاً أيدتم الثورة الاسلامية.
المبعوث : ولكن يجب أن يكون ذلك بموافقتنا، ومشورتنا، وما سوى ذلك يعتبر تحدياً لنا، وليس من حق أي مواطن أن يقيم علاقة بدولة، اننا نعتبر ذلك عمالة للأجنبي، وعلى كلّ حال فلأجل حلّ هذه المشكلة وضعت القيادة شروطاً، فإن استجبتم لها فسوف تنتهي هذه الأزمة وتعيش معزّزاً مكرّماً.
السيد الشهيد : وما هي الشروط ؟
المبعوث :
1ـ عدم تأييد الثورة الاسلامية في ايران، والاعتذار عمّا صدر منكم من مواقف بهذا الخصوص من خلال بيان يصدر منكم.
2ـ وأن يتضمّن البيان شجباً صريحاً للوفود التي جاءت لتأييدكم في رجب.
3ـ أن تُصدر فتوى خطّية تعلن فيها حرمة الانتماء لحزب الدعوة.
4ـ التخلي عن فتواكم حول حرمة الانتماء لحزب البعث.
5ـ إصدار بيان تؤيد فيه السلطة ولو في بعض منجزاتها كتأميم النفط، او منح الأكراد الحكم الذاتي، او محو الأمية.
السيد الشهيد : وإذا لم أستجب لهذه المطالب؟
المبعوث : الاعدام.
السيد الشهيد: تفضّل، أنا الآن مستعد للذهاب معك الى بغداد لتنفيذ حكم الإعدام. وحينما سمع جواب الامام الصدر بقي متحيّراً مذهولاً، تارة ينظر اليّه، وتارة يطرق برأسه الى الأرض، وتغيّر لونه وكأنّه تفاجأ بالجواب، ثم التفت إليّ ، وقال : هل هذا هو الجواب الأخير؟
السيد الشهيد: نعم، لا جواب آخر عندي.
المبعوث : ألا تفكّر بالأمر؟
السيد الشهيد: لا فائدة.
وانتهى اللقاء .. لكنه جاء في يوم آخر بمشروع جديد، كان يعتقد أنّ السيد الشهيد «رحمه الله» سيقبل به لما يحمل من إغراءات كبيرة فقال المبعوث : سيدنا، انّ السيد الرئيس يعدكم في حال قبولكم بهذه الشروط بما يلي :
1ـ سيقوم بزيارتكم، وتغطّى الزيارة من خلال وسائل الاعلام، ومنها التلفزيون.
2ـ في خلال الزيارة سيقدّم السيد الرئيس صدام حسين سيارته الشخصية هدية لكم، وهذا أعلى مراتب التكريم والحفاوة، ولكي تطمئنوا الى صحة نوايانا فسوف لا نطلب منكم نشر البيان قبل أن تشاهدوا ذلك من التلفزيون.
3ـ تكون أوامركم وطلباتكم نافذة في دوائر الدولة، وبهذا نكون قد بدأنا صفحة جديدة من الصداقة والمحبة، لأننا أقرب إليك من الخميني، وأنت أقرب الينا منه.
السيد الشهيد: موقفي هو الموقف السابق.
المبعوث : نحن لا ندري ماذا تريد، والله (بشرفي) إنّ القيادة لم تتنازل لأحد بهذا المقدار، والله لقد نفّذنا الإعدام بأشخاص عارضونا أقلّ من هذا، وكان منهم رفاق في الحزب فلماذا هذا الإصرار؟ ماذا تريد أن نفعل؟
السيد الشهيد: أنا لم أطلب منكم شيئاً، وكما قلت لكم إذا كان الحلّ لهذه الأزمة هو الإعدام فأنا مستعد لذلك، ولا كلام آخر عندي.
ظلّ هذا المبعوث ساكتاً، ولم يتكلّم بشيء ، وبعد فترة عاد الى الحديث، ففاوض السيد الشهيد «رحمه الله» على الشروط متنازلاً عنها الواحد تلو الآخر، والسيد الشهيد مصرّ على موقفه .
بعدها قال المبعوث : سيّدنا، بقي شيء لابدّ منه ، كما أنّه ليس من حقّي أن تنازل عنه مطلقاً .
السيد الشهيد : ما هو؟
المبعوث: أن توافق على اجراء مقابلة مع صحيفة أجنبية، وان شئت أن تكتب الاسئلة بنفسك فلا مانع ـ حتى لو كانت فقهية ـ ، ولكن بشرط أن تؤكّد في المقابلة أن لا عداء بينكم وبين السلطة او تشيد ببعض انجازاتنا كمحو الأمية، او تأميم النفط، او منح الأكراد الحكم الذاتي، وفي مقابل ذلك نتعهّد بتنفيذ كلّ التعهّدات السابقة .
السيد الشهيد: وإذا لم أفعل؟
المبعوث : الإعدام، بشرفي لا حلّ غيره.
السيد الشهيد : أنا مستعد، ولا كلام آخر عندي.
وتحيّر المبعوث، وظلّ ساكتاً فترة طويلة، ثم قام وودّع السيد الشهيد، وجرت دموعه على وجهه، وقال بلهجته العامية: «حيف مثلك تاكله الكاع ـ أي الأرض ـ حيف، والله حيف».
وكانت هذه المفاوضات قد جرت في آخر شهر من أشهر الحجز .
بعد أن انتهى هذا اللقاء قلت للسيد الشهيد «رحمه الله» وكانت اخته الشهيد بنت الهدى حاضرة : إنّ الشرط الأخير لا يعتبر مهماً، ولا يُفسّر قبلوكم به على أنّه تنازل، ثمّ مَنّ لا يعذركم وأنتم تعيشون هذه الظروف القاسية وقد تخلى عنكم الجميع. إنّ حياتكم أهمّ للإسلام وللعمل الإسلامي في العراق، واذا كان الحجز قد كشف لكم عن حقائق هامّة ، وغيّر من تصوّراتكم عن بعض القضايا، فمن سيستفيد من هذه التجربة ان أنتم استشهدتم . انني أرى أن نستفيد من هذه الفرصة ونهيئ أنفسنا للفرار من العراق، واذا كنتم لا ترغبون بالخروج من العراق فلنذهب الى منطقة آمنة في شمال العراق، فمن هناك يمكن أن تقودوا العمل بشكل أفضل مما هو في الحجز.
لقد تحدّثت معه «رضوان الله عليه» كثيراً حول هذا الموضوع، وتحدثت معه أيضاً الشهيدة بنت الهدى ، ولكن دون جدوى، فقد أجابني بأن رفع رأسه الى السماء وقال : «اللهم إنّي أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد أن ترزقني الشهادة وأنت راض عنّي، اللّهمّ أنت تعلم أنّي ما فعلت ذلك طلباً للدنيا، وإنم ا أردتُ به رضاك، وخدمة دينك، اللّهمّ ألحقني بالنبيين والأئمّة والصدّيقين والشهداء، وأرحني من عناء الدنيا» .
ثم كفكف دموعه، وغسل وجهه، وكان يحرص قدر المستطاع أن لا يدخل الحزن على قلوب عائلته وأطفاله، فأمر الشهيدة بنت الهدى أن لا تخبر أحداً بنتيجة هذا اللقاء . وكنت أحس منه بعد تلك المفاوضات أنّه كان ينظر الى أطفاله برقّة وعطف، إذ كانت تعلو وجهه ابتسامة يشوبها الحزن كلما نظر الى أحدهم، وهذه الحالة لم أكن أعهدها منه قبل هذه الفترة، وكأنّه قد أيقن أنّ أجله قد حان.
• الرؤيا
وبعد فجر ذلك اليوم جاء «رضوان الله عليه» فأيقظني للصلاة، فقمت وصلّيت الفجر، ثم قال لي: إنّي اُبشّر نفسي بالشهادة إن شاء الله.
قلت: خيراً إن شاء الله.
فقال : «رأيت في عالم الرؤيا أنّ خالي المرحوم الشيخ مرتضى آل ياسين وأخي المرحوم السيد إسماعيل الصدر قد جلس كل واحد منهم على كرسيّ، وتركوا كرسياً لي بينهما، وهما ينتظران قدومي إليهما، ومعهم ملايين البشر ينتظروني أيضاً، ووصفا لي النعيم وما هما فيه من سعادة لا تتصوّر».
فقلت : لعلّ هذه الرؤيا تدل على الفرج والنصر إن شاء الله.
فقال : إنّ الشهادة أعظم نصر إن شاء الله.
• إرهاصات ما قبل الإعدام
بعد فشل كافة المفاوضات والمحاولات مع السيد الشهيد «رحمه الله» للحصول ولو على أبسط قدر من التنازل للسلطة، لأجل حفظ ماء الوجه ـ حسب تعبيرهم ـ قرّروا تنفيذ حكم الإعدام بشهيدنا المظلوم، ومفجّر ثورتناالعظيم.
وقد مهّدت السلطة لذلك باتخاذ عدة اجراءات وخطوات، كان أهمّها ما يلي:
1ـ أعلن الحزب العميل لكوادره عن عزم السلطة على تنفيذ هذه الجريمة، وطلب منهم الإعلام عن ذلك على نحو الاحتمال لا اليقين، تمهيداً لتهيئة الارضية ولمعرفة ردود الفعل الجماهيرية على تلك الجريمة لو حدثت.
وأتذكّر أنّ الحاج عباس ـ خادم السيد ـ جاء بعد ظهر يوم من تلك الأيام مضطرباً خائفاً وهو يبكي، فأخبر السيد الشهيد «رحمه الله» بأنّ اشاعة قوية انتشرت بين الناس مؤدّاها: أنّ السلطة ستنفّذ حكم الإعدام بالسيد الصدر في المستقبل القريب.
فقال له (رضوان الله عليه): «لقد بشّرتني، بشّرك الله بكلّ خير».
2ـ عرض تلفزيون السلطة مقابلة مع أحد المعارضين ـ ولست أعرف مضمون هذه المقابلة ولا الشخص المتّهم ـ ذكر فيها اسم السيد الشهيد الصدر استطراقاً خلال حديثه عن حزب الدعوة الإسلامية.
3ـ ثم جاء حادث المستنصرية المعروف وما تلاه من ضرب المشيّعين الذين كانوا في موكب تشييع من قتل في ذلك الحادث. ومن خلال شاشة التلفزيون أعلن صدام التكريتي انه سينتقم لتلك الدماء، فقال: «والله.. والله..والله.. إنّ هذه الدماء التي جرت على أرض المستنصرية لن تذهب سدى».
وأثناء زيارته للجرحى في المستشفى قالت له احدى الجريحات: سيّدي سفّر الإيرانيين ، فقال لها: نعم، سنفعل ذلك.
وكان ذلك قبل أن تبثت التحقيقات أنّ منفّذ العملية من أصل ايراني، وما هي الاّ ساعات قليلة حتى شنت السلطة حملة هائلة لتهجير حتى العراقيين الذين يحملون شهادات الجنسية من الدرجة الاُولى! فأحدث ذلك رعباً عظيماً بين الناس. ورافق حملة التهجير عمليات اعتقال كبيرة للشباب المؤمنين الذين كانت السلطة تعتقد أنّ ردّ الفعل سيصدر منهم في حال إعدام السيد الشهيد«قدس سره». وبعد أيّام قليلة من علم السيد الشهيد بتلك المؤشرات أمرني بالخروج من البيت، وقال لي: «إنْ قَتَلك هؤلاء فسوف يضيع تاريخ هذه الفترة من حياتي». وكان من الطبيعي أن لا أستجيب، وقلت له: هل يجوز أن أتخلّى عنك وأنت في هذه الظروف؟! لا والله، لا يكون ذلك أبداً، فقال لي: «إذا حدث، وجاء هؤلاء الطغاة لاعتقالي، فلا تخرج معي، إنّي اُحرّم عليك ذلك».
وكان قد كتب رسالة أشبه ما تكون بوصية عامّة، وقال لي: «يجب عليك أن تسلّم تلك الرسالة الى السيد (محمود)الهاشمي إن تمكنّنت من ذلك وكتب الله لك السلامة من هؤلاء». ثم طلبت منه مسبحة كانت بيده، وقلت له: اُريدها أن تبقى ذكرى ، فقال: «هاك خذها»، وهي عندي مازلت أحتفظ بها.
أما الرسالة فقد بقيت نسختها الأصلية عند سماحة السيد عبدالعزيز الحكيم وقد استنسختها بخطي قبل خروجي من العراق، وأخفيتها في جهاز راديو صغير، ولم أحمل النسخة الأصلية خوفاً من أن اُعتقل، وتضيع آخر رسالة، او وصيّة للسيد الشهيد «رحمه الله»، ولمّا وصلت الى ايران سلّمتها لسماحة آية الله السيد محمود الهاشمي «حفظه الله» حسب وصية السيد الشهيد «رحمه الله».
• اليوم الأسود
في اليوم الخامس من شهر نيسان الأسود عام 1980م وفي الساعة الثانية والنصف بعد الظهر جاء المجرم مدير أمن النجف ومعه مساعده الخبيث (أبو شيماء) فالتقى بالسيد الشهيد «رضوان الله عليه» وقال له: إنّ المسؤولين يودّون لقاءك في بغداد. فقال السيد الشهيد: اذا أمروك باعتقالي فنعم، أذهب معك الى حيث تشاء.
مدير الأمن: نعم، هو اعتقال.
السيد الشهيد: انتظرني دقائق حتى أودّع أهلي.
مدير الأمن: لا حاجة لذلك ففي نفس هذا اليوم او غد ستعود.
السيد الشهيد: وهل يضرّكم أن اُودّع أطفالي وأهلي؟
مدير الأمن: لا، ولكن لا حاجة لذلك. ومع ذلك فافعل ما تشاء.
فقام «رضوان الله عليه» وودّع أهله وأطفاله. وهذه هي المرّة الوحيدة التي أراه يودّعهم من بين الاعتقالات التي تعرّض لها. ثم عاد والابتسامة تعلو وجهه ، فقال لمدير أمن النجف، هيّا بنا نذهب الى بغداد . وذهب السيد الشهيد «رحمه الله الى بغداد لينال الشهادة، ويفي لشعبه بوعده حينما خاطبه قائلاً : «وأنا أعلن لكم يا أبنائي أنّي صممت على الشهادة، ولعلّ هذا آخر ما تسمعونه منّي، وأنّ أبواب الجنّة قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء، حتى يكتب الله لكم النصر، وما ألذّ الشهادة التي قال عنها رسول الله «ص»:«إنّها حسنة لا تضرّ معها سيئة، والشهيد بشهادته يغسل كلّ ذنوبه مهما بلغت..».
كانت أولى بوادر الشؤوم أنّ السلطة قامت بسحب كافّة قواتها من الزقاق، وذهبت الشهيدة بنت الهدى تستطلع الأمر فلم تجد أحداً منهم، فعلمنا أنّ هذا الاعتقال نذير شؤم. وذهبت الشهيدة «رضوان الله عليها» الى غرفتها، فأبدلت ملابسها بأخرى وربطت كمّي ثوبها على معصميها ظناً منها بأنّها ستسترها حين التعذيب،
وقالت لي: أترى أنّ هذا يسترني؟
فقلت لها: سوف لا تتعرضين للاعتقال إن شاء الله، وجرى حديث آخر بيني وبينها لا أجد ضرورة لذكره.
وجاء الليل، وأي ليلة كانت ، فلقد خيّم فيها الحزن على قلوب طاهرة، عانت من العذاب والحرمان أكثر من تسعة أشهر لينفجر صباحها عن تطويق جديد لمنزل السيد الشهيد، فهل جاء هؤلاء لأنّ السيد الشهيد سيعود من بغداد سالماً ويُحتجز مرّة اخرى؟ كُنّا نقول: يا ليت ذلك، إنّها نعمة ما أعظمها.
أمّا الشهيدة بنت الهدى، فقد قالت: كلاّ، إنّ هؤلاء جاءوا لاعتقالي؟
فاستعدت، وتهيأت، وكانت والله كأنّها زينب اُخت الحسين عليه السلام في صبرها، ورباطة جأشها، وشجاعتها.
وفي اليوم السادس من نيسان الأسود جاء المجرم الخبيث مساعد أمن النجف المعروف بـ «أبي شيماء» ولم تسمح له السيدة بالدخول الى الدار،
فقال لها: علوية، إنّ السيد طلب حضورك الى بغداد.
فقالت: نعم سمعاً وطاعة لأخي إن كان قد طلبني، ولا تظنّ أنّي خائفة من الإعدام، والله إني سعيدة بذلك، إنّ هذا طريق آبائي وأجدادي.
ضابط الامن: لا علوية، بشرفي إنّ السيد طلب حضورك.
أجابته الشهيدة مستهزئة: صدقت، بدليل ان قواتكم طوّقت بيتنا من جديد.
ثم قالت له: دعني قليلاً، وسوف أعود اليك، ولا تخف فأنا لن أهرب، وأغلقت الباب بوجهه.
ثم جاءتني وقالت لي:
«أخي أبا علي، لقد أدّى أخي ما عليه، وأنا ذاهبة لكي أؤدّي ما عليّ ، إن عاقبتنا على خير.. أوصيك باُمّي وأولاد أخي، لم يبق لهم أحد غيرك، إنّ جزاءك على اُمّي فاطمة الزهراء، والسلام عليك..».
قلت لها: لا تذهبي معهم.
فقالت: لا والله حتى اُشارك أخي في كل شيء حتى الشهادة.
وشهد الله، لقد صُعقت وأنا استمع اليها، وتحيّرت ماذا سأقول لهذا الجبل الشامخ من الإيمان، والفداء، والشجاعة، وهي تهزأ بالموت والتعذيب من أجل الله تعالى.
• خبر الإستشهاد والدفن
وفي مساء يوم التاسع من نيسان 1980م، وفي حدود الساعة التاسعة او العاشرة مساءاً قطعت السلطة التيار الكهربائي عن مدينة النجف الأشرف. وفي ظلام الليل الدامس تسللت مجموعة من قوات الامن الى دار المرحوم الحجة السيد محمد صادق الصدر «رحمه الله»، وطلبوا منه الحضور معهم الى بناية محافظة النجف، وكان بانتظاره هناك المجرم مدير أمن النجف «ابو سعد»، فقال له: هذه جنازة الصدر واُخته، تم اعدامهما، وطلب منه أن يذهب معهم لدفنهما.
فقال المرحوم السيد محمد صادق الصدر: لابدّ لي من تغسيلهما.
فقال له مدير الأمن: قد تمّ تغسيلهما وتكفينهما.
فقال: لابدّ من الصلاة عليهما.
فقال مدير الأمن: نعم، صلّ عليهما.
وبعد أن انتهى من الصلاة
قال له مدير الأمن: هل تحبّ أن تراهما؟
فقال: نعم.
فأمر الجلاوزة بفتح التابوت، فشاهد السيد الشهيد «رضوان الله عليه»مضرّجاً بدمائه، وآثار التعذيب على كلّ مكان من وجهه، وكذلك كان حال الشهيدة بنت الهدى «رحمها الله».
ثم قال له: لك أن تُخبر عن إعدام السيد الصدر، ولكن إيّاك أن تُخبر عن إعدام بنت الهدى، إنّ جزاءك سيكون الإعدام.
ولما حانت وفاة المرحوم السيد محمد صادق الصدر «رحمه الله» أخبر عن شهادة بنت الهدى.
وقد دفن السيد الشهيد في مقبرة وادي السلام في النجف الأشرف والى جانبه اخُته الطاهرة بنت الهدى في مكان أعرفه على نحو الإجمال.
يذكر ان المجرم صدام التكريتي قام بنفسه بقتل السيد الشهيد الصدر واخته بنت الهدى ـ رضوان الله عليهما ـ فهو الذي أطلق النار عليهما بعد أن شارك في تعذيبهما.
إن مصادر ثلاثة روت لي المأساة واتفقت على كيفية التعذيب والاعدام وهذه هي القصة كما يرويها أحد أفراد قوات الأمن ممن كان حاضراً في غرفة الاعدام والعهدة عليه.
قال: (أحضروا السيد الصدر الى مديرية الامن العامة فقاموا بتقييده بالحديد ثم جاء المجرم صدام التكريتي فقال له باللهجة العامية: (ولك محمد باقر تريد تسوي حكومه). ثم أخذ يهشم رأسه ووجه بسوط بلاستيكي صلب.
فقال له السيد الصدر : (أنا تارك الحكومات لكم)، وحدث جدال بينهما عن هذا الموضوع وعن علاقته بالثورة الاسلامية في ايران مما أثار المجرم صدام فأمر جلاوزته بتعذيب السيد الشهيد الصدر تعذيباً قاسياً. ثم أمر بجلب الشهيدة بنت الهدى ـ ويبدو أنها كانت قد عذبت في غرفة اخرى ـ
جاءوا بها فاقدة الوعي يجرونها جراً فلما رآها السيد الشهيد استشاط غضباً ورق لحالها ووضعها. فقال لصدام: اذا كنت رجلاً .. فك قيودي.
فأخذ المجرم سوطا وأخذ يضرب العلوية الشهيدة وهي لا تشعر بشيء ثم أمر بقطع ثدييها مما جعل السيد الصدر في حالة من الغضب فقال للمجرم صدام (لو كنت رجلا فجابهني وجهاً لوجه ودع اختي ولكنك جبان وأنت بين حمايتك ) فغضب المجرم وأخرج مسدسه فأطلق النار عليه ثم على اخته الشهيدة وخرج كالمجنون يسب ويشتم).
• التكتّم على الجريمة
وضربت السلطة العفلقية المجرمة طوقاً من التعتيم على جريمتها النكراء، فلم يعلم بالحادث الاّ القليل من أبناء النجف الذين تسرّب اليهم الخبر عن طريق بعض (الدفّانة) الذين يعملون في مقبرة النجف المسمّاة بـ(وادي السلام).
وكانت السلطة تنفي في بعض الاحيان وقوع الجريمة، وفي أحيان اخرى تثبتها، وكان النفي والإثبات يتم عن طريق كوادر حزب البعث العميل، فوقع الناس في حيرة شديدة، ولا أحد يستطيع أن يشخّص الموقف العملي المناسب تجاه هذه الجريمة الكبرى. وكانت الاسماع في تلك الفترة متجهة الى اذاعة الجمهورية الاسلامية في ايران ـ القسم العربي ـ فكان أملهم أن تنجلي الحيرة بما سوف يُذاع عن هذا الأمر الخطير من خلالها . ويظهر أنّ خبر استشهاد السيد الصدر «رحمه الله» وصلهم بعد وقوع الجريمة بعدة أيام ، فأعلن الإمام الراحل السيد الخميني «رحمه الله» نبأ الاستشهاد من خلال بيان تأبيني مهم، ومنه عرف الناس بوقوع الجريمة الكبرى.
و هكذا خسر العالم الإسلامي والشعب العراقي خسارة لن تُعوّض ، وفقدا علماً خفّاقاً في سماء الإيمان والعلم والمعرفة. اغتالته يد الطاغية الجبّار، المولع بدماء المؤمنين الأبرار المجرم صدّام حسين التكريتي. فويل لكلّ جبّار أثيم (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
المصدر: قناة العالم
تعليقات الزوار