لا يحقّ لأحدٍ بأن يُعرضَ عن الدّنيا. هذه من مسلّمات الدّين ومعارفه الجليّة. وضمن هذه الرؤية الفرديّة للإنسان، يُبيح الإسلام للبشر التمتّع بملذّات الحياة؛ لكنّه يعلّمهم أيضاً التمتّع بلذّة أسمى هي لذّة الأنس بالله عزّوجل ولذّة الذّكر الإلهي.
مجموعة من الدروس القرآنية للإمام الخامنئي التي فسّرها سماحته وشرحها ضمن خطاباته.
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
سورة الأعراف المباركة ﴿٣٢﴾
الفرق الأساسي بين التقدّم الإسلامي والغربي
الإسلام ينظر إلى المرء على أنّه مخلوق ذو ساحتين؛ فهو يملك [ساحة] الدنيا و[ساحة] الآخرة؛ هذا هو أساس كلّ المباحث والنقاشات الذي ينبغي أخذه بعين الاعتبار عند الحديث عن موضوع التقدّم؛ فإذا نظرت حضارة، ثقافة أو منهج معيّن إلى الإنسان على أنّه مخلوق ذو ساحة واحدة، واعتبرت سعادة المرء محصورة بالحياة الدنيويّة الماديّة، فلا شكّ أنّ التقدّم في منطقها سيختلف كليّاً عن التقدّم في منطق الإسلام الذي ينظر للإنسان على أنّه مخلوق ذو ساحتين.
إنّ بلدنا ومجتمعنا الإسلامي لا يكون متقدّماً عندما يعمّر دنيا الناس فقط، بل عندما يعمّر آخرتهم أيضاً. وهذا ما يرومه الأنبياء: الدنيا والآخرة. فلا ينبغي التغافل عن دنيا الإنسان بأن يتوهّم الإنسان تحصيل الآخرة بهذا الأسلوب، ولا أن يتمّ تجاهل الآخرة بسبب الاهتمام بالدنيا. هذه نقطة بالغة الأهميّة. ذلك التقدّم الذي نتحدّث عنه فيما يخصّ المجتمع الإسلامي، هو تقدّمٌ كهذا.
قد تبرز عدّة أوجه من الانحراف هنا:
إحداها أن يعتبر البعض الدنيا أساساً وينسون الآخرة؛ أي أن تنصبّ كلّ جهود المجتمع وواضعي السياسات والحكومة على إعمار حياة النّاس من الناحية الدنيويّة، ويقتصر الأمر على ذلك! لكن لا يتمّ إيلاء الاهتمام أبداً بما يكون عليه حالهم من الناحية المعنويّة. هذا انحراف.
أحد أنواع الانحراف الأخرى هو أن يغفلوا عن الدنيا؛ والغفلة عن الدنيا تعني الغفلة عن مواهب الحياة وعدم الاكتراث لها. فالإقبال على الشؤون الدينيّة والأخرويّة، وعدم الاكتراث لهبات عالم الحياة والمواهب التي جعلها الله في هذا العالم؛ هذا أيضاً أحد أنواع الانحراف. ”هو الّذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها“(١)؛ لقد أمركم الله بأن تعمّروا هذه الأرض، ما الذي يعنيه الإعمار؟ يعني أن تكتشفوا المواهب المكنوزة في عالم المادّة الواحدة تلو الأخرى، وتسخّروها لخدمة الإنسان وتجعلوها وسيلة لتقدّمه وتطوّره. قضيّة العلم وإنتاجه هذه وسائر القضايا التي نتحدّث عنها، نابعة من هذا الفهم.
وهناك انحرافٌ آخر بأن يستسخف الإنسان في حياته الشخصيّة مواهب الحياة والحاجات الماديّة ولا يكترث لها؛ وهذا ما لم يرد في الإسلام أيضاً، بل ورد نقيضه: ”ليس منّا من تركَ آخرته لدنياه ولا من ترك دنياه لآخرته“(٢).
الافتتان ممنوع، والتخلّي ممنوع!
ينظر الإسلام إلى الإنسان كفردٍ أيضاً، ويوصيه بالزّهد. والزّهد يعني عدم الافتتان والغرق في الدنيا؛ لكن رغم توصيته بالزهد، إلّا أنّه يذمّ ويمنع قطع العلاقة بالدنيا والتخلّي عنها. ما هي الدنيا؟ الدنيا هي هذه الطبيعة، هي جسدنا، هي حياتنا، هي مجتمعنا، هي سياستنا، هي اقتصادنا، هي علاقاتنا الاجتماعيّة، هي أولادنا، هي ثرواتنا وهي بيوتنا. التعلّق بهذه الدنيا عملٌ مذموم. وعدم التعلّق والافتتان هذا، يُسمّى الزّهد؛ لكن ينبغي عدم التخلّي عن هذه الأمور أيضاً. ”قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيّبات من الرّزق قل هي للّذين آمنوا“(٣)؛ أي لا يحقّ لأحدٍ أن يُعرض عن الدنيا. هذه من مسلّمات الدين ومعارفه الواضحة. وضمن هذه الرّؤية للإنسان كفرد، يبيح الإنسان له الاستفادة من لذائذ الحياة؛ لكنّه يضع أمامه لذّة أسمى وأرفع هي لذّة الأنس بالله عزّوجل وذكره، ويعلّمه هذا الأمر أيضاً. (٤)
صادف أمير المؤمنين (عليه السلام) رجلاً تخلّى عن زوجته وحياته ومنزله وكلّ شيء وانهمك بالعبادة؛ فقال له: ”يا عدوّ نفسه“(٦)، أنت تعادي نفسك؛ والله لم يطلب منك هذا الأمر. (…) لذلك حفظ الاعتدال بين الدنيا والآخرة وفي النظر إلى الدنيا والآخرة -في وضع الخطط وفي الأعمال الشخصيّة وفي إدارة البلاد- ضروريّ وواجب. هذا هو المؤشّر الرئيسي للتقدّم.(٥)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) سورة هود؛ الآية ٦١
2) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج ٣، ص ١٥٦.
3) سورة الأعراف؛ الآية ٣٢
4) كلمته في لقاء مع طلاب جامعة فردوسي في مشهد ١٥/٥/٢٠٠٧
5) نهج البلاغة؛ الخطبة ٢٠٩
تعليقات الزوار