التأصيل الإسلامي؛ الثورة الاجتماعية في النبوة.. المحاضرة الساسة عشر من سلسة محاضرات ألقاها سماحة الإمام الخامنئي بمدينة مشهد قبل 46 سنة
الثورة الاجتماعية في النبوة
الجمعة 17 رمضان المبارك 1394 هجرية 12/7/1353 هجرية شمسية
تحدثنا أمس عن الثورة التي تحدث في شخصية النبي حين يبعث بالرسالة، وما تؤدي إليه هذه الثورة من تغيير اجتماعي أساسي نطلق عليه اسم الثورة الاجتماعية في النبوة. أشير أولًا إلى أن المستشرقين الذين يتناولون النبوة لا يؤمنون بالوحي عادة، لذلك فهم يرون أن انبعاث النبي كان نتيجة تأمل طويل وتفكير مستمر أدى به إلى النهوض بهذا التغيير الاجتماعي. وقد يسايرهم في ذلك بعض الغافلين أو المغرضين. بينما الواقع يشهد أن نبينا(ص) بعد اتصاله بالوحي قد أصبح غير ذلك النبي قبل الاتصال، وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر الأنبياء مثل موسى(ع) كما ذكرنا أمس.
حين نتحدث عن الثورة الاجتماعية في النبوة، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن تكون مصاحبة للعنف وإراقة الدماء. نمثل للثورة في تغيير بيت سكني إلى مسجد، هذا البيت لا يمكن أن نكتفي بترميمه وطلائه وتغيير بعض جدرانه، فذلك لا يؤهله لأن يكون مسجدًا، المشروع الجديد يقتضي أساسًا جديدًا وهندسة جديدة، وتصميمًا جديدًا، وخارطة جديدة. لأن المبني الجديد يختلف تمامًا عن المبنى الآخر. هذه العملية هي الثورة.
هناك في الساحة البشرية نوعان من المجتمعات مجتمع تحكم فيه أقلية مسيطرة على رقاب الآخرين، تمارس الحكم كما تشاء، لا يعارضها معارض، وإذا فتح أحد فمه بالمعارضة ينزلون به أنواع البطش والتنكيل. يدفعون بكل ما في المجتمع ليصبّ في مصلحتهم دون أي اهتمام بمصالح الناس. وإذا واجه ذلك المجتمع خطر يقدّمون الشعب ليكون وقودًا لدرء ذلك الخطر، وهم قابعون في زاوية بعيدين عن المعركة. هذا نوع من المجتمعات سواء كان فيه تمييز طبقي أم لم يكن. أما إذا كان المجتمع يعاني من التمييز الطبقي فإن ذلك يعني عدم وجود المساواة في حقوق الأفراد، وعدم إتاحة الفرص والإمكانيات المتساوية لهم، بعضهم قد استطاع أن ينال من تلك الفرص ما لم ينله الآخرون، فيتضخّمون ويتحكّمون ويطغون، والآخرون مضطرون إلى الرضوخ لهم، والتملّق لهم لنيل عطاياهم وتعفير جباههم بالتراب أمامهم. هذا المجتمع طبقي في تكوينه الاجتماعي وفي اقتصاده، والحكومة في هذا المجتمع تتحرك وفقًا لمصالح الطبقات العليا.
والنوع الثاني: مجتمع ليس من هذا القبيل ولا ذاك. فما هو؟ إنه المجتمع الذي لا يملك أحد الحق أن يستقوي على الآخرين. لا طبقة على طبقة أخرى ولا فرد على فرد آخر. لا يحق لأحد فيه أن يسحق حقوق الآخرين، وينهب أموالهم، ويذلّهم ويظلمهم. أفراد ذلك المجتمع يتجهون في الطاعة لقوة واحدة هي أسمى من قوة البشر.. إنها الله سبحانه. وفي هذا المجتمع الخالي من التمييز الطبقي تسود في اقتصاده عدالة التوزيع وفي حكومته مشاركة الجميع، والحقوق الأساسية فيه عامة. لو واجه مثل هذا المجتمع مكروهًا، فكل أفراده شركاء فيه، ولو نال سرورًا فإنه ينال الجميع. ومثل هذا المجتمع يعيش في أجواء الحرية. وأؤكد على الحرية، إذ توجد بعض المجتمعات في العالم ممن تدّعي أنها قضت على الطبقية لكنها صادرت الحريات.
المجتمعات من النوع الأول هي التي يحكم فيها القياصرة والأكاسرة والجبابرة. ومجتمعات النوع الثاني هي التي أقامها الأنبياء العظام على مرّ التاريخ. وهل الأنبياء أقاموا مجتمعات لأممهم؟ نعم مارسوا ذلك، وفي القرآن الكريم إضاءات كثيرة في هذا الشأن لدى سرده قصص سليمان، وطالوت، وموسى وما فعله تجاه بني إسرائيل، إذ أنزلهم في الأرض المقدسة ليقيم لهم هناك مجتمعًا ومدينة فاضلة.
مهمة الأنبياء تبديل النوع الأول من المجتمعات المفعمة بالموبقات والمليئة بما يتعارض مع العقل والإنسانية، إلى مجتمعات النوع الثاني، وهذا هو مغزى حديثنا في هذه الجلسة.
التصور السائد في الأذهان تجاه النبي هو أنه إنسان يأتي إلى المجتمع باعتباره حكيمًا عالمًا يقبع في مكان لينهل الناس من فيض علمه وحكمته. يتصورون أن إبراهيم خليل الله أو موسى كليم الله حين مارس دوره في مجتمعه فإنه اتخذ بيتًا مناسبًا، وخصص ساعات لمقابلة الناس المؤمنين منهم وغير المؤمنين. وفي هذه المقابلات يقدم إلى الناس استدلالات بوجود الله وبضرورة الخوف من الله، فيصلح من يصلح من الناس ثم يغادر الدنيا بعد أن أدى مهمته!!
لا، ليس النبي بهذه الصورة، حين يُبعث إلى مجتمعه تثور روحه ويغلي صدره، فيصبح إنسانا آخر غير الذي كان عليه، ثم يتوجه إلى مجتمعه فيراه قائمًا على أساس مغلوط، ويرى تصميمه المعماري مخالفًا لتصميم الفطرة الإنسانية، ويرى ضرورة تغييره. يرى أن مجتمعه فيه التمييز الطبقي، وفيه الظلم، وفيه التعسف، ولابدّ أن يتغير إلى مجتمع توحيدي.
وما معنى المجتمع التوحيدي؟ ذكرنا من قبل أنه المجتمع الذي يخلو من التمييز الطبقي، والحكم فيه حكم الله. كل شيء خاضع لقوانين وسنن وقرارات وآداب وثقافة مستوحاة من ربّ العالمين. التوحيد الإلهي يعني أن الناس جميعًا عبيد الله لا لغيره. يعني أن الناس أحرار من عبودية أمثالهم من الناس. حين يحل النبي في مجتمعه الجاهلي بهذا الهدف.. بهدف التغيير يعمد إلى هدم ذلك المجتمع ليقيم مجتمعًا خاضعًا لحكومة ربّ العالمين. النبي مبعوث لهذا الهدف.
يأتي النبي ليقلب ذلك المجتمع، ولا أقول يأتي لإراقة الدماء.. أبدًا!. حين أذكر عملية الثورة التي يحدثها النبي فلا يعني ذلك ضرورة إراقة قطرة من الدماء. لا أقول أنه يثير صراعًا ونزاعًا بين الناس.. ليس الأمر كذلك. طبعًا أحيانًا في الحياة العادية قد يحدث ما يؤدي إلى سفك الدماء. ألا تبعث حادثة طفيفة أحيانًا إلى سفك الدماء؟ ألم تحدث الحرب العالمية الأولى جرّاء حادث بسيط هو اغتيال ولي عهد النمسا؟ في الثورة الاجتماعية أيضًا قد يحدث بعض ما يؤدي إلى إراقة دماء. ولكن الثورة بنفسها لا تتضمن اقتتالًا ولا فيها نزاع.
لو أن النبي أعلن عزمه على إحداث ثورة في مجتمعه، ولم يقاومه من يريد إبقاء الأوضاع الشاذة في ذلك المجتمع لـما حدث أي صراع دموي. لو أن فرعون الطاغية استسلم أمام خطاب موسى وهارون حين وجّها إليه ذلك القول اللين، ووجها إليه الدعوة لإنهاء ما كان ينزله من ظلم ببني إسرائيل، وما كان يمارسه من تمييز طبقي، لما حدث ما حدث من مواجهات حادّة. نعم القرآن الكريم يذكر قتال الأنبياء، من مثل قوله تعالى: (وَكَأَیِّن مِّن نَّبِیٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّیُّونَ كَثِیرٌ)[1] وتتحدث آيات كثيرة عن الجهاد. والسبب في ذلك أن الطبقة المرفهة.. الطبقة المستفيدة من الأوضاع الشاذة في المجتمع لا تتنازل عن تعسفها وغطرستها أمام الثورة الإلهية. ولو أن هذه الفئات المرتبطة مصلحيًا بالأوضاع القائمة تفهّمت الحقيقة وعادت إلى قيمها الإنسانية لم يكن الأنبياء مضطرين إلى إعلان جهادهم. نعم لو أن هذه الفئات المعاندة رضخت إلى نداء الفطرة كما حدث لكثير من الشخصيات السياسية والاقتصادية في التاريخ، إذ تغيّروا فجأة واستنارت ضمائرهم وحدث تحول جميل في أرواحهم، لما حدثت في المجتمع مواجهات دموية.
إذن النبي يُبعث إلى المجتمع كي يغيّره، وما معنى يغيّره؟ أن يقول لمجتمع كمجتمع الحجاز في عصر خاتم الأنبياء: إنّ المال مال الله، فلماذا تحتكره أقلية من طبقة الأشراف؟ والناس جميعهم عباد الله، فلماذا يصبح العبيد آلة طيّعة بيد أهواء الأسياد من أمثال الوليد بن المغيرة وأبي لهب وأبي جهل؟
لماذا لا يكونون جميعًا سواسية كأسنان المشط؟ التوجّه الإنساني للحياة يستدعي أن يكون الناس متساوين «كلكم من آدم وآدم من تراب»[2].
هدف الأنبياء في المجتمعات التي بُعثوا فيها هو تبديل المجتمع من حالته المنحرفة، من حالته غير المتعادلة، من حالة الظلم والجور إلى مجتمع متوازن متعادل عادل خال من مظاهر القبح ومفعم بمظاهر الجمال.
طبعًا، الأنبياء الكبار الذين نعرفهم باسم الأنبياء أولي العزم كانوا أقطاب الثورات الإلهية، وباقي الأنبياء مهمتهم أن يواصلوا مشروع أولئك، أو يكملوه، أو ينضّجوه، أو يعيدوا إلى الرسالة وجهها الناصع على أثر ثورة جديدة، وهذا ما نهض به أوصياء نبينا بعد رحيله.. ما نهض به أمير المؤمنين والحسين بن علي وسائر الأئمة، وعلماء الإسلام ثم ما ينهض به المهدي المنتظر صلوات الله وسلامه عليه.
الموضوع الآخر في أمر الثورة الاجتماعية للبعثة هو الإجابة عن تساؤل قد لا يظهر على الألسن لكنه قد يخطر في الأذهان، وهو ما السبب في كل ما يعانيه الأنبياء من مصاعب وأتعاب لتغيير المجتمع طالما أن الحقّ لمن غلب.
هذا المنطق يتعارض مع منطق الفطرة ومنطق الكون. يتعارض بكلمة واحدة مع منطق الحق.
الحق والباطل مفردتان تردان في القرآن بكثرة، ويرد معهما الصراع القائم بين الحق والباطل.
والحقّ هو ما وافق الفطرة الإنسانية وما انسجم مع قوانين الكون وسننه، والباطل ما خالف ذلك.
الكون خارج الإنسان يسير وفق قوانين وسنن معينة ويتجه نحو غاية مرسومة.. هذا ما نراه في الأفلاك والنباتات والحيوانات. وهي قد تبدو مجزّأة لا ارتباط بينها، لكنها في نظر الإنسان الإلهي وحدة لا تتجزًا. أجزاء العالم كلها أعضاء في جسد واحد.
وفي داخل الإنسان، المعدة تؤدي واجبها في عمل معين، والعين كذلك، وهكذا الكبد والأعصاب، لكنها تعمل في دائرة مشتركة وهي البقاء على حياة الإنسان. العالم بأجمعه يخضع في حركته لنظام معيّن، إلاّ الإنسان. فالإنسان مختار، يستطيع أن ينحرف عن نظام الكون. أما بقية الموجودات فتتحرك وفق مسيرها المرسوم، وإذا رأيت انحرافًا في مسيرتها فإن الإنسان هو الذي غيّر مسيرتها. اليورانيوم يستطيع أن يعالج كثيرًا من الأمراض ويخدم الإنسان في حقول شتى، لكنك لو رأيت أن هذا اليورانيوم قد تحول إلى قنبلة نووية تزهق أرواح الملايين، فإن الإنسان هو الذي غير مسير هذه المادة. وكثير من المواد المخدرة مثل مادة «ال سي دي» والمورفين يمكن استعمالها في المعالجة وإجراء العمليات الجراحية لكن الإنسان يتجه بها إلى الإدمان على المخدرات، فيخرجها عن مسيرها بما يملك من اختيار.
ولما كان هذا الكائن البشري له خاصية الاختيار والخروج عن المسير الطبيعي الحقّ فلابدّ من قانون يوجّه مسيرته لتكون منسجمة مع مسيرة الكون.. مع مسيرة الحق. مثل هذا القانون منسجم مع طبيعة العالم. ولما كان منسجمًا ومطابقًا لطبيعة العالم، فهو أيضًا منسجم مع طبيعة الإنسان ومطابق لها، لأن الإنسان جزء من أجزاء هذا العالم. وبما أن هذا القانون متطابق مع فطرة الإنسان والعالم، فإن فيه خير الإنسان وصلاحه.
ما هو الباطل، هو المنهج، هو القانون الذي يتعارض مع فطرة الإنسان وطبيعة الكون. الباطل هو ما يضعه المتغطرسون والشياطين وأولئك الذين يريدون أن ينحرفوا عن هذا المسير. الأنبياء يأتون بالحق ليدحضوا به الباطل، المجتمع الذي يصنعه فرعون يقسم الناس إلى طبقات، يرفع طبقة ويخفض طبقة أخرى، ويمارس الظلم بحقّ من يشاء. هذا الوضع الاجتماعي باطل. والأنبياء جاءوا ليقلبوا هذا الشكل الباطل... ليدمغوه.. ليزيلوه.. وليقيموا الحقَّ مكانه. فما يعانيه النبي من شقاء إنما هو من أجل الحق. فلا يقرّ للأنبياء قرار من أجل تحقيق هذا الهدف، لا يهدأون لخطة في سبيله. هذا هو تفسير عمل الأنبياء.
بعبارة موجزة يريدون تبديل النظام الظالم الطبقي اللاإنساني الجاهلي إلى نظام إلهي، في تصميم اجتماعي توحيدي. يريدون أن تكون الحاكمية في المجتمع لله، لا للأهواء والرغبات. من أجل هذا يرفعون شعار التوحيد، ومن أجل هذا يحاربون الطواغيت، وسنتعرض لهذا في جلسات أخرى.
اخترنا آيات من سورة القصص[3] تشرح هذا الوضع الجاهلي للحكم الفرعوني. والمجتمع الفرعوني، والوضع الذي أراد موسى(ع) أن يقيمه، وما جرى من مواجهة بين الوضعين، ثم ما آل إليه أمر جبهة موسى من انتصار، ثم تبشر الآيات كل الموحدين في العالم بالنصر والنجاح. ولماذا هذا الفتح والنصر؟ لأن حركة دعاة التوحيد متطابقة مع الفطرة وطبيعة الكون والإنسان.
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ # طسم # تِلْكَ آیَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِینِ) تبدأ السورة بالحروف المقطعة وللمفسرين فيها آراء لسنا بصددها الآن.
(تِلْكَ آیَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِینِ نَتْلُوا عَلَیْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ) الآية تريد أن تستعرض جزءًا من نبأ موسى وفرعون فيما يرتبط بالمواجهة بين الحق والباطل. وهذه هي الطريقة القرآنية في عرض قصص الأنبياء. يتناول القرآن في كل موضع جانبًا لتقرير حقيقة معينة، وهي غلبة الحق على الباطل. فالقصة هنا موجهة للنبي وللمؤمنين ليفهموا السنّة الإلهية في هذا المجال. وإذا فهموا ذلك فإنهم يعيّنون مسيرهم.(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِی الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَهَا شِیَعًا یَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ) إن فرعون قد استعلى وجعل نفسه في الدرجة العليا، ثم قسّم المجتمع إلى طبقات، طبقة قريبة منه وطبقة أدنى، ثم أدنى. ثم استضعف طبقة منهم، أي فرض عليهم الضعف وقلة الإمكانات والحرمان من النمو والتكامل. وهذه ظاهرة مشهودة اليوم في العالم، وخاصة فيما يسمى ببلدان العالم الثالث، إذ كل إمكانيات النمو والرقيّ متوفرة لدى فئة قليلة، وهذه الفئة فرضت على غيرها الحرمان، واستغلتهم وجعلتهم في حالة ضعف وهزال.
(یُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَ یَسْتَحْیِی نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِینَ) كان يقتل الشباب، لأنه يعلم بأن التحرك المعارض له لابدّ أن يأتي من الشباب. ربّما لم يكن للمرأة في ذلك المجتمع دور في المجتمع، لذلك فإن الضغط الفرعوني كان موجهًا إلى الشباب. وقيل إن كاهنًا أخبر فرعون بظهور فتى من بني إسرائيل يهدد سلطانه، لذلك عمد إلى ذبح أبناءهم. وأما نساؤهم فيستحييها، أي يُبقيهنّ أحياء إما لإفسادهن أو للقضاء على نقاء نسب بني إسرائيل، وذلك بأن يختلط نسب هؤلاء بنسب القبطيين، فيذوبون في المجتمع الفرعوني، بعد أن كانوا يحافظون على هويتهم مدة أربعمائة سنة في ذلك المجتمع. وهذا لون من فساد فرعون «إنه كان من المفسدين» فساد في الفطرة، وفساد في المجتمع، وفساد في العالم. ودأب فرعون وأمثال فرعون أنهم إذا مسكوا بسلطة فإنهم يفسدون يقول تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِی الأَرْضِ لِیُفْسِدَ فِیهَا وَیُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا یُحِبُّ الفَسَادَ)[4] فرعون وأمثاله يَحُولونَ بصور شتى دون أن تؤتي الطاقات المعنوية لهذا العالم أُكلها.
وما هو دور السنّة الإلهية؟في هذا الاصطفاف بين الحق والباطل، يقول تعالى:
(وَنُرِیدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِینَ # نُمَكِّنَ لَهُمْ فِی الْأَرْضِ وَنُرِی فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا یَحْذَرُونَ).
هذه مشيئة الله وسنته. «ونريد» ولم يقل أردنا، إنّها سنة مستمرة في الحياة، أن نمنّ على من فُرض عليه الضعف، بالخروج من هذه الحالة، وأن يكونوا متبوعين وأن نجعل زمام الأمور بأيديهم، بدل أن كانوا تابعين وفي هامش المجتمع قابعين. نريد أن يرثوا الأرض وما عليها من خيرات. نريد أن يكونوا متمكنين مستقرين على الأرض، وأن نري فرعون الذي كان عاليًا في الأرض، وهكذا هامان الذي ينتمي إلى طبقة ممتازة سخّرت كل طاقاتها لخدمة فرعون، وجنودهما الذين يخدمون الجهاز الفرعوني دون أن ينالوا حظًا، «منهم» أي من المستضعفين ما كانوا يحذرون منه.
لقد مُني فرعون وهامان بما كانا يحذران منه، كانا يحذران من سلب سلطتهم، فسلبت وصارت بيد المستضعفين.
والحمد لله رب العالمين.
[1] ـ آل عمران/ 146
[2] ـ بحار الأنوار، كتاب الإيمان والكفر، أبواب مكارم الأخلاق، باب 56، ح 10.
[3] ـ الآيات 1 - 7
[4] ـ البقرة/ 205
تعليقات الزوار