ينشر موقع KHAMENEI.IR الإعلامي مقالاً يشرح مقصود الحضارة الإسلاميّة الحديثة التي يكرّر الإمام الخامنئي الحديث عنها بصفتها الحضارة التي ينشدها الإسلام، ويتمّ في هذا المقال عرض أمثلة لما ستؤول إليه الحياة البشريّة في حال تحقّق هذه الحضارة.
ما هو وضعنا نحن البشر المعاصرين وفي العصر الحاضر؟ هل سبق لنا الضغط على الفرامل للتوقف والتأمل؟ هل جلبت لنا الحياة السعادة والهناء بكل ما أحرزته من تقدم في البعد المادي؟ لا تمر لحظة على العالم إلا وتصدع أخبار عن اكتشاف واختراع من منطقة ما في العالم. تتطور التكنولوجيا يوماً بعد يوم، وتظهر الهواتف المحمولة لحظة بلحظة بميزات جديدة. تصبح السيارات أسرع وأكثر جاذبية يوماً بعد يوم، وأجهزة التلفاز المنزلية أعرض وذات انحناء أكثر غرابة. تُقدم الجامعات تخصصات جديدة، ويقوم الملحّنون بإدخال أنماط جديدة من الموسيقى. يسعى بعضهم لاكتشاف وصفات الطبخ القديمة، بينما يسعى بعضهم الآخر إلى ابتكار مواد غذائية للإنسان ليتذوق الإنسان طعماً جديداً.
يتم اختراع رياضات جديدة، وتنفق شركات ألعاب الكمبيوتر الكثير من المال لجعل تصرّفات شخصياتهم أكثر شبهاً بالمخلوقات الطبيعية. الأسلحة ومصانع الأسلحة العسكرية ليست بعيدة عن الركب، فهي تصنع أسلحة جديدة بمرور الوقت وتعدّ اللحظات وهي تحلم بوقوع الحرب في أحد أنحاء الكرة الأرضية لفتح السوق أمام أسلحتها وذلك من خلال السياسيين. كما تطورت الموجات الاجتماعية بمرور الوقت. لا يهم أيّ كان اتجاه هذا التغيير، بغض النظر عن مدى اختلافه، يكفي أن يُبقينا منشغلين. يصبح الزواج الذي يعدّ رابطة دينية تتمثل وظيفتها في بناء رجال ونساء ملتزمين وبناء أسرة ومجتمع، فريسة للرغبات. يروّج بعضهم لزواج المثليين ويحاول بعضهم للآخر جعل الزواج التكنولوجي أكثر أنواع الزواج إمتاعاً عن طريق صنع دمى بشرية. في الوقت نفسه، تشير الإحصائيات إلى أن الفقراء يزدادون فقراً يوماً بعد يوم، ويتزايد عدد السكان الجياع. يتم اكتشاف أمراض جديدة، وأنواع المخدّرات الجديدة تصطاد الشباب. الانتحار وجرائم القتل والفساد الأخلاقي والسياسي والمالي تحتل صفحات الصحف. تسود العنصرية بقوة جديدة و... وفي النهاية يصبح هذا الإنسان أكثر معاناةً واكتئاباً وضعفاً. ميزات تجعله أكثر خواءً من القيم الجميلة. هذه ليست سوى بعض التأملات التي يمكن أن تستذكرها في خلواتك، وتصادفها في حياتك اليومية أو في ذروة مشاكلك واستعجالك.
«الهدف بناء حضارة إسلاميّة جديدة، هذا هو هدفنا النهائي». هذا ما قاله قائد الثورة الإسلاميّة قبل أسابيع قليلة. إنها كلمة يمكن اعتبارها رغبة وأمل وأساس استراتيجياته وكل جهوده وجهود الثورة الإسلامية الإيرانية. إذا ما سأل أحد: ما السبب الذي من أجله حدثت الثورة الإسلامية، وما هو هدفها الأعلى حتى لا تقبل أفكار اليسار واليمين والأفكار الكلاسيكية والحديثة وما بعد الحداثة، فالجواب هو فهم هذه الكلمات الثلاث: الحضارة الإسلامية الجديدة.
هذا ليس حديثاً جديداً وطارئاً اليوم في إيران وفي فكر قائدها. على سبيل المثال، قبل أكثر من ثلاثين عاماً، عبر الإمام الخامنئي عن مثل هذا الهدف الأعلى في لقاء مع رجال دين مسلمين أفارقة. يقول في ذلك الاجتماع: في بداية الإسلام، استطاع الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه وخلفاؤه الكرام إقامة حضارة تاريخية عظيمة بالتوكل على الله. كانوا فئة صغيرة في مواجهة القوى العظمى في عصرها، لكن الإيمان عزّزهم واستطاعوا أن يصنعوا المجد في التاريخ لعدة قرون. «لماذا لا نستطيع نحن؟» هذه الـ«لا نستطيع»، أي لماذا لا نستطيع بناء حضارة جديدة. حضارة جديدة تنقذ الإنسان من الجاهلية الحديثة، تماماً كما حارب نبي الإسلام (ص) كغيره من الأنبياء الجهل والجاهلية من أجل توفير الأرضية لتطور الإنسان الذي يعاني الصعاب.
ولكن ما الذي تسعى إليه الحضارة الإسلامية الجديدة؟ يُطرح هذا السؤال لأن الكثيرين يقولون إن كل مجتمع يسعى إلى النمو والتقدم، وبالتالي فإن كلامه ومطلبه والثورة الإسلامية أيضاً، هي شبيهة بالدوافع والبرامج التنموية للمجتمعات الأخرى. لكن ملاحظتنا تكمن في هذه النقطة تحديداً. إذا كان مُراده التنمية كما هي اليوم، فإنه بالتأكيد سيستخدم هذا الاصطلاح والتعبير، لكن الحديث عن «حضارة جديدة» شيء مختلف تماماً ويتعدّى حدود التنمية. في التنمية، هناك سعي للوصول إلى النظام الأمثل من خلال تغيير أساليب الإدارة والبرامج، يتم العثور على النظام الأمثل ومن ثم يتمّ العمل على تعزيزه، ولكن في الحضارة الجديدة، وبما أن لازمتها الثقافة، والثقافة تتغير، وبالتالي يصبح الإنسان إنساناً جديداً ويخلق حياة جديدة.
الحضارة الإسلامية الجديدة التي يسعى إليها الإمام الخامنئي والثورة الإسلامية في إيران تطالب بهذا التغيير. تحوّل ثقافي يتبعه إنسان جديد. سبب هذه الرؤية، يجب البحث عنه في حقيقة الحياة السريعة والمخادعة، التي شغلتنا للغاية وأغفلتها عنّا. وهي نوع من الحياة أشرنا إليه في أوّل فقرتين.
هل من الممكن تخيّل نوع آخر من الحياة للبشر والمجتمع أساساً؟ هذا السؤال يطرحه أولئك المنبهرون بالحياة الحديثة، وليس لديهم فرصة واهتمام في القراءة والتعمّق والتفكير في تاريخ البشرية.
يوضح لنا التاريخ أن المنافسة البشرية يمكن أن تتحول من الاستيلاء على المزيد من الممتلكات المادية إلى التنافس على المزيد من الحب بين البشر. هذا يعني أنه بدلاً من محاولة إضافة شيء ما إلى نفسه، يحاول المرء إضافة شيء إلى الآخر. لقد أوضحت لنا حياة السيد المسيح (ع) وبعض أصحابه ونبي الإسلام (ص) ودولته (مدينته) مثل هذه الأمور من قبل.
افترض أنك وجيرانك ليس لديكم طعام تأكلونه، وبمجرد رغبتكم في النوم جائعين ليلاً، يوقظك صوت خارج منطقتك. تسحب ستائر منزلك جانباً، وترى كثيراً من الناس يأتون إليك من مسافة أربعين داراً بأطباق ووجبات مختلفة. هل يمكن أن لا يكون هذا الأمر مجرد خيال؟ أو لنفترض أنك شاب لا تملك من المال والجمال والمظهر الجذاب، لكن الفتيات الجميلات والثَريات ذوات العقل السليم على استعداد للزواج منك. هل هذه أيضاً قصة خيالية من قصص ألف ليلة وليلة. أو تخيّل أنّ المهاجرين والنازحين والمتضررين من الحرب يذهبون إلى مدينة في مكان ما، ويتنافس أهل تلك المدينة مع بعضهم البعض على استضافتهم، يتنافسون مَن منهم يستضيف أناساً أكثر ويوفّر المزيد من الراحة لضيوفه، ويتقاسم ثروته معهم وغيرها من الأشياء التي قد تكون أسطورة بالنسبة لنا.
لكن من المثير للاهتمام معرفة أن كل ما سبق قد حدث بطريقة ما في التاريخ. المثال الأخير وقعت بين المهاجرين والأنصار في بداية الإسلام. واضطر المهاجرون الفارون من ظلم المشركين في مكة إلى الهجرة إلى المدينة المنوّرة، حيث هرع أهل المدينة لنجدتهم، وإيوائهم في منازلهم ومشاركتهم بها. وقصة الزواج هي أيضاً قصة حدث ناتج عن ثقافة نبي الإسلام (ص). لكن حكاية الجيران مأخوذة من حديث النبي محمد (ص) حيث قال: حد الجوار أربعون داراً من كل جانب. كما أن النبي (ص) يوضح لأصحابه حق الجار على الجار على النحو التالي: «إنْ مَرِضَ عُدْتَهُ، وَإِنْ مَاتَ شَيَّعْتَهُ، وَإِذَا اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ، وَإِذَا افْتَقَرَ عُدْتَ عَلَيْهِ، وَإِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّأْتَهُ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْته، وَلا تَسْتَطِلْ عَلَيْهِ بالبُنْيَانِ فَتَحْجُبَ عَنْهُ الرِّيحَ إلا بِإِذْنِهِ، وَلا تُؤْذِهِ بقتار ريح قِدْرِك إلا أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا، وإن اشْتَرَيْتَ فَاكِهَةً فَأَهْدِ لَهُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَأَدْخِلْهَا سِرًّا، وَلا يَخْرُجُ بِهَا وَلَدُك لِيَغِيظَ بِهَا وَلَدَهُ، ولا تُؤذِه بقُتارِ قِدْرِكَ إلَّا أنْ تَغرِفَ له منها».
هذه وآلاف الحالات الأخرى التي لا يتّسع المجال لذكرها الآن، تشير إلى أنّه نعم يمكننا العيش بطريقة مختلفة ونجمع المواطنين بطريقة تجعلهم يعملون مع بعضهم البعض. يأخذون الحضارة في اتجاه آخر وتوفّر الأرضية لسلام وسعادة جميع البشر. تسعى الحضارة الإسلامية الجديدة، التي يؤكد عليها الإمام الخامنئي، إلى خلق مثل هذا الجو. كما رأينا في الحديث أعلاه، في هذه الحضارة، سيكون للمنزل والعمارة أيضاً حكمهم. للحيوانات حقوق خاصة، ويحظى رعاتها باحترام وتقارب خاصّين، تماماً كما قال النبي الأكرم عن المرأةِ الباغية التي سقتْ كلباً عطشاناً، أن الله غفر لها.
في الحضارة الجديدة، المرأة امرأة والرجل رجل، لا ينبغي تجاهل المواهب والاختلافات والسعي لجعلها متشابهة بين الرجل والمرأة. لا تسعى الحضارة الإسلامية الجديدة، كما يؤكد قائد الثورة الإسلامية الإيرانية، إلى أن تكون مصدر إحباط للعالم والآخرين، على عكس الحضارة الغربية الحديثة. في الحضارة الإسلاميّة الجديدة، لا ينبغي للإنسان أن يُستعبد للآخر، ولا للأشياء ولا للأفكار.
يقول سماحته في لقاءاته وخطاباته المختلفة حول الحضارة الإسلامية الجديدة والسعي لبنائها، ما يلي: يجب أن نسعى وراء الحضارة الإسلامية الجديدة للبشرية، وهذا يختلف اختلافاً أساسياً عما تفكر وتعمل به القوى بشأن الإنسانية. هذا لا يعني احتلال الأراضي والبلدان والاعتداء على حقوق الشعوب ولا يعني فرض أخلاق وثقافة الذات على الشعوب الأخرى، بل هو بمعنى عرض الهدية الإلهية على الشعوب، لتختار الشعوب بحريتها واختيارها وتشخيصها الطريق الصحيح. الطريق الذي تجرّ القوى العالمية الشعوب نحوه اليوم طريق خاطئة ومُضلّة. هذا هو واجبنا اليوم.
ذات يوم استطاع الناس في أوروبا، بفضل علوم المسلمين وفلسفتهم، تأسيس حضارة لأنفسهم. تلك الحضارة كانت طبعاً حضارة مادية. بدأ الأوربيون من القرن السادس عشر والسابع عشر للميلاد بإرساء أسس حضارتهم الجديدة، ولأنها كانت مادية فقد استخدموا مختلف الوسائل بلا وازع، فاتجهوا من ناحية صوبَ الاستعمار ونحو الإجهاز على الشعوب ونهب ثرواتها، ومن ناحية أخرى عززوا أنفسهم في الداخل بالعلم والتقنية والتجربة، وسوّدوا هذه الحضارة على عالم الإنسانية.
هذا ما فعله الأوربيون طوال أربعة أو خمسة قرون. هذه الحضارة التي عرضوها على العالم قدّمت تجلّيات جميلة من التقنية والسرعة والسهولة وأدوات الحياة، لكنها لم توفر للإنسانية السعادة ولم تُقم لهم العدالة، بل على العكس؛ طعنت العدالة في رأسها، وضربت أغلال الأسر على الشعوب، وأفقرت الشعوب وأهانتهم، وراحت تعاني في داخلها أيضاً من التضاد والتعارض، ففسدت من الناحية الأخلاقية، وصارت خاوية عبثية من الناحية المعنوية.
إن الحضارة الإسلامية الجديدة، تستخدم الإنجازات البشرية «ولكن بروح الإسلام والمعنوية»، على حد تعبير قائد الثورة الإسلاميّة لكنّ قائد الثورة يعتبر الشرط الأول لتحقيق حضارة إسلامية جديدة، وهو «تجنب التقليد الغربي في الدرجة الأولى».
تعليقات الزوار