فالآن نرجع ثانياً إلى روايات أخر في هذا الموضوع ونقول:
7. ومنها قول أمير المؤمنين عليه السلام في رواية جابر الطويلة الماضية: فقال عليه السلام في كلماته في الصورة الثانية عند التعرض لتخلف بعض رجال أمروا بأن يكونوا مع جيش أسامة فتخلفوا ورجعوا فقال عليه السلام فيهم: فخلّفوا أميرهم مقيماً في عسكره وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ولرسوله صلى الله عليه وآله في أعناقهم فحلوها وعهدٍ عاهدوا الله ورسوله فنكثوه، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم واختصت به آراؤهم من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب أو مشاركة في رأي أو استقامة لما في أعناقهم من بيعتي[1].
فإن تعبيره عليه السلام بحل عقدة وعهد عقدها وعاهده الله في أعناقهم عبارة أخرى عن وجوب التزامهم بهذا العقد والعهد، وقوله الأخير: (من غير... استقالة لما في أعناقهم من بيعتي) دليل على وجوب الوفاء بالبيعة وعدم جواز نقضها.
8. ومنها قوله عليه السلام في تلك الرواية أيضاً في الصورة الثالثة، قال عليه السلام: وأما الثالثة يا أخا اليهود فإن القائم بعد النبي صلى الله عليه وآله كان يلقاني معتذراً في كل أيامه ويلوم غيره ما ارتكبه من أخذ حقي ونقض بيعتي ويسألني تحليله فكنت أقول: تنقضي أيامه ثم يرجع إليَّ حقي الذي جعله الله لي... .
ولو لم أتّق هذه الحالة ـ يعني عليه السلام تفرّق عصبة المسلمين ـ يا أخا اليهود ثم طلبت حقي لكنت أولى ممن طلبه لعلم من مضى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن بحضرتك... فضلاً عن استحقاقي ذلك بالوصية التي لا مخرج للعباد منها والبيعة المتقدمة في أعناقهم ممن تناولها...[2].
فقوله عليه السلام في أولها: (يلقاني معتذراً... من أخذ حقي ونقض بيعتي ويسألني تحليله) يدل على أن له عليه السلام حق الوفاء بتلك البيعة على الولاية التي بايعه بها أبو بكر وغيره من أمة الإسلام يوم الغدير مثلاً، فلا محالة تكون البيعة واجبة الوفاء.
كما أن قوله عليه السلام ثانياً: (فضلاً عن استحقاقي ذلك بالوصية... والبيعة المتقدمة في أعناقهم ممن تناولها) دليل على أن البيعة توجب الاستحقاق فيجب الوفاء بها ورد حقه إليه عليه السلام.
9. ومنها قوله عليه السلام في تلك الرواية يذكر بعض ما قاله لأهل الشورى بعد وفاة عمر:... وأوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم وذكرتهم عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إليهم وتأكيد ما أكده من البيعة لي في أعناقهم دعاهم حب الإمارة و... إلى تناول ما لم يجعل الله لهم...[3].
فتراه عليه السلام قد جعل البيعة المتقدمة له زمن الرسول صلى الله عليه وآله وجهاً من وجوه استحقاقه للولاية وهو لا يكون إلا إذا كانت البيعة واجبة الوفاء لازمة الرعاية.
وكلامه هذا ـ كما ترى ـ جعل عهد الرسول عليه بالولاية جنب البيعة وهو دليل على استقلال كل منهما وجهاً للاستحقاق، وهذا هو الذي قد نبّهنا عليه كراراً من أن فعلية ولايتهم عليهم السلام غير مشروطة بالبيعة بل هم أولياء الأمر واجبوا الطاعة، والبيعة تنعقد مع من هو وليٌّ واجب الإطاعة وهو لا ينافي أن تكون البيعة نفسها أيضاً سبباً تاماً لوجوب الوفاء.
10. ومنها ما في كنز الدقائق عن ثواب الأعمال للصدوق بإسناده إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن في النار لمدينة يقال لها: الحصينة، أفلا تسألوني ما فيها؟ فقيل له: وما فيها يا أمير المؤمنين عليه السلام؟ قال: فيها أيدي الناكثين[4]. ورواه المجلسي في البحار أيضاً[5].
فقد حكم عليه السلام بأن في تلك المدينة التي في جهنم أيدي الناكثين وهو لا يكون إلا إذا كان النكث حراماً ذكر الأيدي فيها دليل على أن عمرة المراد بها نكث البيعة التي تنشأ بالأيدي، فلا محالة يكون نكث البيعة ذنباً يوجب دخول النار.
11. ومنها ما رواه في أصول الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا﴾ ﴿لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ قال: نزلت في فلان وفلان وفلان، آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله في أول الأمر وكفروا حيث عرضت عليهم الولاية حين قال النبي صلى الله عليه وآله: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين عليه السلام، ثم كفروا حيث مضى رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يقروا بالبيعة، ثم ازدادوا كفراً بأخذهم من بايعه بالبيعة لهم، فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء[6].
فالرواية كما ترى قد عد عدم الثبات بالبيعة لولاية أمير المؤمنين عليه السلام زمن الغدير وعدم الوفاء بها كفراً وعدّ الدوام على هذا النكث والبيعة لغيره عليه السلام عدم بقاء الإيمان فيهم، فلا محالة يكون الوفاء بالبيعة والثبات عليها واجباً.
12. ومنها قوله صلى الله عليه وآله في جواب علي عليه السلام حيث قال: (فاسأل الله أن يعطيها ـ يعني الشهادة ـ لي بين يديك) فأجاب صلى الله عليه وآله: فمن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين؟![7].
قد جعل قتال الناكثين من وظائفه عليه السلام فلا محالة يكون النكث محرّماً مجوزاً أو موجباً لقتال الناكث.
13. ثم إنه قد روى البحار في باب أمر الله ورسوله بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين... روايات خمس أخر تدل على ذلك، فراجع[8].
فقد تحصّل من جميع ما مر وجوب الوفاء بالبيعة وأن نقضها ونكثها ذنب عظيم.
وهذه الأدلة كما عرفت مطلقة لم يقيد وجوب الوفاء فيها بشيء إلا أن في رواية رواها البحار عن أمالي الشيخ الطوسي قدس سره تعبيراً ربما يقال به بتقييد ما لتلك الأدلة قال: وكتب عليه السلام إلى أمراء الأجناد:
من عبد الله أمير المؤمنين علي إلى أصحاب المسالح، أما بعد، فإن حقاً على الوالي أن لا يغيره عن رعيته فضل ناله ولا مرتبة اختص بها وأن يزيده ما قسم الله له دنواً من عباده وعطفاً عليهم، ألا وإن لكم عندي أن لا أحجبن دونكم سراً إلا في حرب، ولا أطوي دونكم أمراً إلا في حكم، ولا أؤخر لكم حقاً عن محله وأن تكونوا عندي في الحق سواءاً، فإذا فعلت ذلك وجبت لي عليكم البيعة ولزمتكم الطاعة، وأن لا تنكصوا عن دعوة ولا تفرطوا في صلاح، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق...[9]. ورواه في قسم الكتب من نهج البلاغة وتمامه[10].
فذيل هذه الفقرات من الكتاب كما ترى قد اشترط وجوب البيعة ولزوم الطاعة بأن يعمل ولي الأمر بالوظائف المذكورة وحيث إن أخذ البيعة من الرعية التي منها أمراء الأجناد وأصحاب المسالح إنما هو في أول إرادة القيام بالولاية فلا محالة يراد من وجوب البيعة هنا وجوب العمل بها، ويكون قوله: (لزمتكم الطاعة) عطف تفسير له، وعليه فمفهومه أن لا يجب الوفاء بالبيعة مع فقد الشرط المذكور.
أقول: لكنك خبير بأن مفاد الأمور المذكورة ليس شيئاً أزيد من العمل بما هو وظيفة الوالي، وإذا كان المفروض عصمة هؤلاء الولاة المعصومين فهذا الشرط دائماً حاصل مفروض، وليس مفاد الكتاب تقييداً لتلك المطلقات.
فالمتحصل من جميع الأدلة الماضية وجوب الوفاء بالبيعة للأئمة الولاة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين على كل من بايعهم على الولاية ولم يستفد من شيء منها اشتراط فعلية ولايتهم ولا وجوب الإطاعة لهم بالبيعة كما عرفت.
ويبقى لنا البحث عن الأمر الثاني وهو أنه هل الإقدام بالمبايعة لمن هو ولي الأمر واجب على الناس شرعاً؟ فنقول:
الأمر الثاني: هل يجب على المسلمين أن يبايعوا من كان من المعصومين عليهم السلام ولي أمر الأمة؟
والمراد منه أنك قد عرفت ثبوت الولاية لإدارة الأمة من الله تعالى لكل من النبي والأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام، كما عرفت وجوب الإطاعة لهم عليهم السلام في كل ما يرتبط بأمر البلاد وإدارة أمور الأمة، كما عرفت عدم اشتراط فعلية ولايتهم ولا وجوب الإطاعة لهم ببيعة المكلفين معهم عليهم السلام والمسلمون إذا بايعوا ولي الأمر منهم فيجب عليهم بسبب البيعة أن يفوا بهذه البيعة، فكل هذه الأمور ثابتة مفروضة.
وكلامنا في هذا الأمر بعد فرض الأمور المذكورة يقع في أنه هل يجب على كل مسلم أن يبايع ولي الأمر المعصوم عليه الصلاة والسلام أم لا؟ فنقول:
إنا بعد التتبع الكثير لم نقف على دليل عام لإثبات هذا المطلب وإنما وقفنا على الأمر بالبيعة في بعض الموارد، ويمكن تقسيمه قسمين:
الأول: ما ورد من الأمر ببيعة أمير المؤمنين عليه السلام يوم الغدير، فقد مر في صحيحة صفوان بن مهران الجمال المروية في قرب الإسناد عن أبي عبد الله عليه السلام بأن رسول الله صلى الله عليه وآله بعد ما نصبه بالولاية: (ثم أمر الناس يبايعون علياً عليه السلام فبايعه الناس...[11]. كما مر قوله عليه السلام في مرسل صفوان المروي في تفسير العياشي عن أبي عبد الله عليه السلام بأنه صلى الله عليه وآله بعد نصبه بالولاية أمر الناس ببيعته وبايعه الناس...[12]. كما مر أيضاً ما رواه القمي في تفسيره عن أبيه مرفوعاً عن الصادق عليه السلام أنه لما نزلت الولاية كان من قول رسول الله صلى الله عليه وآله بغدير خم: سلموا على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين...[13]. فهذه الروايات الثلاث أو الروايتان متضمنة لأمره صلى الله عليه وآله الناس ببيعتهم لعلي عليه السلام بناءاً على أن التسليم عليه بالإمرة عبارة أخرى عن البيعة له بها.
فهذه الروايات متضمنة لأمر النبي صلى الله عليه وآله للناس بالبيعة، ولا محالة تكون عليهم واجبة، إلا أنه لا عموم لها لجميع الموارد أولاً، ويحتمل فيه أن يكون أمراً سلطانياً منه صلى الله عليه وآله ثانياً.
14. وروى الشيخ المفيد قدس سره في أماليه بالإسناد عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عن أبيه عن جده عليهم السلام قال: إن الله جل جلاله بعث جبرائيل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وآله أن يشهد لعلي بن أبي طالب عليه السلام بالولاية في حياته ويسميه بإمرة المؤمنين قبل وفاته، فدعا نبي الله صلى الله عليه وآله تسعة رهط فقال: إنما دعوتكم لتكونوا شهداء الله في الأرض أقمتم أم كتمتم.
ثم قال: يا أبا بكر قم فسلم على علي بإمرة المؤمنين فقال: أعن أمر الله ورسوله؟ قال: نعم، فقام فسلم عليه بإمرة المؤمنين. ثم قال: قم يا عمر فسلم على علي بإمرة المؤمنين فقال: أعن أمر الله ورسوله نسميه أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فقام فسلم عليه. ثم قال للمقداد بن الأسود الكندي: قم فسلم على علي بإمرة المؤمنين، فقام وسلم ولم يقل مثل ما قال الرجلان من قبله. ثم قال لأبي ذر الغفاري: قم فسلم على أمير المؤمنين، فقام فسلم عليه. ثم قال لحذيفة اليماني: قم فسلم على أمير المؤمنين، فقام فسلم عليه. ثم قال لعمار بن ياسر: قم فسلم على أمير المؤمنين، فقام فسلم عليه، ثم قال لعبد الله بن مسعود: قم فسلم على علي بإمرة المؤمنين، فقام فسلم عليه. ثم قال لبريدة: قم فسلم على أمير المؤمنين ـ وكان بريدة أصغر القوم سناً ـ فقام فسلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنما دعوتكم لهذا الأمر لتكونوا شهداء الله أقمتم أم تركتم[14].
وفي ذيل صفحة الأمالي: (قال بعض الأعلام: قد سقط من الحديث ذكر تسليم تاسعهم وهو سلمان الفارسي...).
فهذا الحديث المبارك قد نص نفسه أن أمره صلى الله عليه وآله كان امتثالاً لأمر الله تعالى فلا يجيء فيه احتمال أن يكون أمراً سلطانياً بل هو أمر إلهي، إلا أن دلالته على وجوب البيعة لولي الأمر مبتنية على أن يكون هذا التسليم كما جاء في الحديث مجرد شهادة منهم عليها وكان ما قام به النبي صلى الله عليه وآله إشهاداً لهم عليها ليكونوا شهداء الله عليها بعده صلى الله عليه وآله للناس كما صرح به فيه فليس مفاد الحديث أمراً بالبيعة له عليه السلام.
مضافاً على أنه لا عموم فيه لجميع المسلمين المكلفين، كما أنه لا يشمل ولاية غيره من المعصومين عليهم السلام.
15. وروى صاحب الاحتجاج بالإسناد المذكور فيه إلى علقمة بن محمد الحضرمي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام خطبة طويلة خطب بها النبي صلى الله عليه وآله بغدير خم وبلّغ فيه نصب علي عليه السلام بولاية أمور الأمة بعده من الله تعالى ففي بعض فقراتها: معاشر الناس، قد بينت لكم وأفهمتكم وهذا علي يفهمكم بعدي، ألا وإني عند انقضاء خطبتي أدعوكم إلى مصافقتي على بيعته والإقرار به ثم مصافقته بعدي، ألا وإني قد بايعت الله وعلي قد بايعني، وأنا آخذكم بالبيعة له عن الله عز وجل ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ الآية.
ثم ذكر صلى الله عليه وآله بعض أحكام الله ثم قال: فأمرت أن آخذ البيعة منكم والصفقة لكم بقبول ما جئت به عن الله عز وجل في علي أمير المؤمنين والأئمة من بعده الذين هم مني ومنه أئمة قائمة ـ منهم المهدي ـ إلى يوم القيامة الذي يقضى فيه بالحق.
ثم ذكر أموراً أخر ودعا الناس إلى البيعة كراراً إلى أن قال صلى الله عليه وآله: معاشر الناس ما تقولون؟ فإن الله يعلم كل صوت وخافية كل نفس ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ ومن بايع فإنما يبايع الله ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾. معاشر الناس، فاتقوا الله وبايعوا علياً أمير المؤمنين، والحسن والحسين والأئمة كلمة طيبة باقية، يُهلك الله من غدر ويرحم الله من وفى ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ الآية. معاشر الناس، قولوا الذي قلت لكم، وسلموا على علي بإمرة المؤمنين، وقولوا: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ وقولوا: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ﴾[15].
فهو صلى الله عليه وآله قد أمر الناس كراراً بأن يبايعوا أمير المؤمنين عليه السلام بالإمرة على المؤمنين وعطف عليه سائر الأئمة المعصومين عليهم السلام وصرّح بأنه صلى الله عليه وآله أمره الله تعالى بأخذ البيعة من الناس لعلي وغيره من الأئمة المعصومين عليهم السلام بإمرتهم وقبول ما جاء به فيهم من الله تعالى، وقال: من بايع فإنما يبايع الله وإن الله يُهلك من غدر ويرحم من وفى.
فبهذه التوضيحات ربما يقال بدلالة قوله صلى الله عليه وآله في هذه الخطبة على أن الله تعالى أوجب على المسلمين بيعة علي وغيره من الأئمة المعصومين عليهم السلام على أن يكونوا ولاة أمر الأمة. فالخطبة تامة الدلالة على جميع المطلوب.
وقد أخرج عنه كنز الدقائق الفقرة الأولى والثالثة بتقديم الثالثة في النقل على الأولى، فراجع[16].
أقول: لكن التأمل في الخطبة المباركة يعطي: أن مراده صلى الله عليه وآله من أخذ بيعة الناس له ولهم عليهم السلام ليس خصوص المبايعة باليد بل المقصود الأصيل هو أن يقر الحضّار ويبلّغوا ولاية علي عليه السلام ومن بعده من الأئمة المعصومين عليهم السلام إلى سائر المسلمين ممن غاب عن محضره واستماع خطبته حتى تتم حجة الله وحديث ولايتهم الإلهية الإسلامية لجميع المسلمين بل الناس لكي يقوم أساس الإسلام ونظامه الأصيل على ما يريده الله وإلا فالبيعة باليد ليست بمراد، بل ربما أمكن جعل هذه الخطبة بهذا المعنى الذي ذكرناه دليلاً على أنه لا يراد بالبيعة في غيرها من الأحاديث أيضاً هذا المعنى كما مضى قريب منه ذيل ما قلناه في رواية الأمالي.
والشاهد على ما ذكرناه هو ملاحظة ما أفاده صلى الله عليه وآله بعد سطور من الفقرة الثانية وقبل الفقرة الثالث، فقال صلى الله عليه وآله: القرآن يعرّفكم أن الأئمة من بعده ولده وعرّفتكم أنهم مني ومنه (وأنا منه ـ خ ل) حيث يقول الله في كتابه: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ وقلت: (لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما).
... معاشر الناس، إنكم أكثر من أن تصافقوني بكفٍّ واحدة وقد أمرني الله عز وجل أن آخذ من ألسنتكم الإقرار بما عقدت لعلي عليه السلام من إمرة المؤمنين ومن جاء بعده من الأئمة مني ومنه على ما أعلمتكم أن ذريتي من صلبه، فقولوا بأجمعكم: إنا سامعون مطيعون راضون منقادون لما بلغت عن ربنا وربك في أمر علي وأمر ولده من صلبه من الأئمة عليهم السلام نبايعك على ذلك بقلوبنا وأنفسنا وألسنتنا وأيدينا، على ذلك نحيا ونموت ونُبعث ولا نغيّر ولا نبدّل ولا نشك ولا نرتاب ولا نرجع عن عهد ولا ننقض الميثاق ونطيع الله ونطيعك وعلياً أمير المؤمنين وولده الأئمة عليهم السلام الذي ذكرتهم من ذريتك من صلبه بعد الحسن والحسين اللذين قد عرفتكم مكانهما مني ومحلهما عندي ومنزلتهما من ربي عز وجل فقد أديت ذلك إليكم وإنهما سيدا شباب أهل الجنة وأنهما الإمامان بعد أبيهما علي وأنا أبوهما قبله.
وقولوا: (أطعنا الله بذلك وإياك وعلياً والحسن والحسين والأئمة الذين ذكرت، عهداً وميثاقاً مأخوذاً لأمير المؤمنين من قلوبنا وأنفسنا وألسنتنا ومصافقة أيدينا من أدركهما بيده وأقر بهما بلسانه ولا نبتغي بذلك بدلاً ولا نرى من أنفسنا عنه حولاً أبداً، أشهدنا الله وكفى بالله شهيداً وأنت علينا به شهيد وكل من أطاع ممن ظهر واستتر وملائكة الله وجنوده وعبيده، والله أكبر من كل شهيد.
معاشر الناس، ما تقولون؟... إلى آخر ما مر من الفقرة الثالثة[17].
فهذه العبارة واضحة الدلالة على إرادة ما استظهرناه منها، ولذلك فقد عدل صلى الله عليه وآله عن البيعة باليد بمجرد أن يقولوا ويقروا بالسمع والطاعة بقلوبهم وألسنتهم إقراراً موافقاً للواقع عليه يحيون ويموتون، ولولا هذا الذي ذكرناه فاحتمال أن يكون مراده صلى الله عليه وآله أن الواجب على المسلمين هي المبايعة باليد والعدول عنها إلى هذه الإقرارات إنما هو لعدم إمكانها كثرة الجماعة المخاطبين ووحدة المبايَع الذي هو النبي صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام احتمال بعيد لا مجال لاحتماله لمن هو عالمٌ بظواهر الكلمات.
وقد عرفت أن منهما يعلم المراد بالأمر بالبيعة في غيرها من العبارات الماضية والآتية وغيرها.
القسم الثاني: ما ورد في خصوص البيعة لأمير المؤمنين عليه السلام عندما قام بإدارة أمر الأمة وهي أيضاً موارد:
1. فمنها ما في كتاب له عليه السلام إلى معاوية أول ما بويع له: من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد، فقد علمتَ أعذاري فيكم وإعراضي عنكم حتى كان ما لا بد منه ولا دفع له، والحديث طويل والكلام كثير، وقد أدبر ما أدبر وأقبَلَ ما أقبل، فبايع من قِبلك وأقبل إلي في وفد من أصحابك، والسلام)[18].
فهو عليه السلام كما ترى بعد ما بايعه الناس على الولاية قد أمر في الكتاب أن يأخذ معاوية بيعةً من قِبله من أهل الشام له عليه السلام وأن يقبِل هو نفسه في وفدٍ من أصحابه الذين هم حوله ويعينونه في أمر إمارته إليه عليه السلام.
فقد أوجب عليه السلام أخذ بيعة الناس له ولازمه أن تجب على الناس أيضاً مبايعته، لكنه لا عموم فيه بالنسبة إلى غير من قبل معاوية من أهل الشام من المسلمين الساكنين في سائر البلاد الإسلامية، كما لا إطلاق فيه بالنسبة إلى غيره من الأئمة المعصومين عليهم السلام.
ولعل الأمر فيه أمر ولائي صدر منه عليه السلام بالنسبة لمن قبل معاوية لأمور خاصة به وبهم، مضافاً إلى أن المبايعة المذكورة فيه لا يراد منها المبايعة بوضع اليد بنحو خاص في يد من يبايعه لبعد المسافة وعدم إمكان إرادة المعنى الحقيقي من البيعة، اللهم إلا أن يكون عليه السلام في مقام جعل معاوية نائباً عنه عليه السلام في هذه الجهة.
2. ومنها ما في كتاب له عليه السلام إلى جرير بن عبد الله البجلي بعد ما تأخر في أخذ البيعة من معاوية: من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى جرير بن عبد الله، سلام عليك، أما بعد، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل وخذه بالأمر الجزم، ثم خيره بين حرب مجلية أو سلم مخزية، فإن اختار الحرب فانبذ إليه، وإن اختار السلم فخذ بيعته وأقبِل إليَّ، والسلام[19].
فذيل الكتاب ـ كما ترى ـ أمر جريراً بأخذ البيعة من معاوية له عليه السلام، فأخذه منه واجب على جرير، والبيعة من معاوية واجبة عليه.
لكنه مختص بمعاوية والبيعة له ولا عموم فيه لغيره من الأئمة عليهم السلام ولا لغير معاوية من سائر الناس، ولعل كون معاوية والياً من قِبل الخلفاء السابقين ومظنّة لأن يكون بصدد الحرب أوجب عليه البيعة. وبالجملة فلا يستفاد منه عموم أصلاً.
على أن بيعته بيعة مع جرير النائب عن ولي الأمر، مضافاً إلى ما عرفت ذيل خبر الاحتجاج من قوة احتمال أن يكون الواجب ولاسيما على مثله إعلام قبول الولاية وإن لم يكن في لباس البيعة باليد.
3. ومنها قوله عليه السلام في كلام له لكليب الجَرَمي وكان قد أرسله قوم من أهل البصرة لمّا قرب أمير المؤمنين عليه السلام منها ليعلم لهم حقيقة حاله عليه السلام مع أصحاب الجمل لنزول الشبهة من نفوسهم، فبين عليه السلام له من أمره معهم ما علم به أنه على الحق، ثم قال عليه السلام له: بايعني.
فقال: إني رسول قوم ولا أحدث حدثاً حتى أرجع إليهم، فقال عليه السلام: (أرأيت لو أن الذين وراءك بعثوك رائداً تبتغي لهم مساقط الغيث فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء فخالفوك إلى المعاطش والمجادب، ما كنت صانعاً؟) قال: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء، قال عليه السلام: (فامدد إذن يدك، فقال الرجل: فوالله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة علي، فبسطت يدي وبايعته عليه السلام، وقال: علي عليه السلام من أدهى العرب)[20].
فأمره بالمبايعة باليد له بعد ما تبين له أنه عليه السلام على الحق، فإذا أظهر عذراً عنها أصر عليه بالمثال حتى بسط يده وبايعه، فظاهر الأمر هو الوجوب.
لكنه لا ظهور في كلامه أن وجوبه إلهي فلعل أمره عليه السلام أمر سلطاني مع أنه لا إطلاق ولا عموم له لسائر الناس ولا لغيره من الأئمة المعصومين عليهم السلام مضافاً إلى ما مر في الخبرين الأولين.
4. ومنها قوله عليه السلام في كتاب له إلى معاوية أرسله مع جرير بن عبد الله البجلي: (من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد، فإن بيعتي وأنا بالمدينة قد لزمتك وأنت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد... واعلم يا معاوية أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا تعقد معهم الإمامة ولا يدخلون في الشورى، فادخل للبلاء فإن تعرضت له قاتلتك واستعنت بالله عليك... وقد أرسلت إليك وإلي من قبلك جرير بن عبد الله البجلي وهو من أهل الإيمان والهجرة السابقة فبايع...)[21].
قد يستدل به على أنه عليه السلام حكم على معاوية بالدخول في البيعة التي بايعوه بها في المدينة وأن يدخل فيما دخل فيه المسلمون فقد أمره بالبيعة، والأمر دليل الوجوب.
إلا أنك تعرف ضعف هذا الاستدلال فإنه ليس في كلامه عليه السلام أمر ببيعته له وإنما أمره باتباع بيعة غيره من القوم الذين بايعوه كما بايعوا قبله الخلفاء الثلاثة، واحتج عليه السلام عليه بهذا وأمره بأن يختاره ولي الأمر ويدخل فيما دخل فيه غيره من المسلمين وإلا استعان الله وحاربه، فليس المأمور به من البيعة بشيء.
نعم قوله عليه السلام في آخر الكتاب: (فبايع) أمر له بالبيعة وهو حجة في الوجوب، إلا أنه مع عدم شموله لغيره من الأمة ولا لسائر الأئمة عليهم السلام تأتي فيه أيضاً الشبهات الأخر التي مرت في سابقه، فتذكر.
هذه عمدة الروايات التي وقفنا عليها مما قد يمكن الاستدلال بها على وجوب البيعة، وقد عرفت أن التأمل فيه بقسميها يقتضي عدم الجزم بتمامية دلالة شيء منها على وجوب البيعة بنحو الإطلاق بل أصلاً.
ثم إن هنا نكتة يجب التنبه لها وهي: أنه قد يقال: إنه بناءاً على قبول تمامية دلالة هذه الأخبار على وجوب البيعة فلا ينبغي الشك في أنها مطلقة من حيث أي شرط يفرض فإن تمام موضوعها هو ولي الأمر الإسلامي بلا أي قيد آخر، إلا أن هنا بعض الأخبار الذي يدل على اشتراط وجوبها بعمل ولي الأمر بوظائفه الدينية، فإن لم يعمل بها فلا تجب بيعته.
وهذا هو ما مر من كلام علي عليه السلام في كتاب كتبه إلى أصحاب المسالح، قال فيه:... ألا وإن لكم عندي أن لا أحجبن دونكم سرّاً إلا في حرب ولا أطوي دونكم أمراً إلا في حكم ولا أؤخر لكم حقاً عن محله وأن تكونوا عندي في الحق سواءاً، فإذا فعلت ذلك وجبت لي عليكم البيعة ولزمتكم الطاعة...[22].
فهو كما ترى قد شرط وجوب البيعة عليهم بأن يعمل هو عليه السلام تلك الأعمال التي هي نماذج من وظائف الوالي الإسلامي فيكون مفهومه أن البيعة ليست بلازمة مع انتفاء هذا الشرط، فالخبر دليل على اعتبار هذا الشرط في وجوب البيعة وبه يقيد إطلاق ما سبق من الأدلة.
لكنك خبير بأن البيعة أمر يتحقق أول أمر يقوم ولي الأمر بأمر الولاية فلا محالة إذا فرض وجوبها، فأصحاب المسالح المخاطَبون بالكتاب قد بايعوه عليه السلام أول الأمر، وعليه فالمراد من وجوب البيعة هنا هو لزوم الطاعة الذي قد عطف عليه، وحاصل مفاده أن أثر البيعة الذي قد مر أنه وجوب الوفاء بها مشروط بعمل الوالي بوظائف الولاية وقد عرفت أنه متحقق في الأئمة الولاة المعصومين عليهم السلام.
فلا يقتضي الخبر تقييداً في أدلة وجوب البيعة إن سلمناه إلا أنك عرفت أن دلالتها غير تامة.
[1]الخصال: باب السبعة ص372 ـ 374، وقد مر ذكرهما في ص104 و 105 من الكتاب.
[2]الخصال: باب السبعة ص372 ـ 374، وقد مر ذكرهما في ص104 و 105 من الكتاب.
[3]الخصال: باب السبعة ص375، وقد مر ذكره في ص106 من الكتاب.
[4]كنز الدقائق: ج9 ص547.
[5]البحار: ج32 ص306 عن إكمال الدين.
[6]الكافي: ج1 ص420 الحديث42.
[7]تمام نهج البلاغة: الخطبة47 ص452.
[8]البحار: ج32 ص289... الباب7.
[9]البحار: ج33 ص76 الباب16. الأمالي: المجلس8 ص217 الحديث381/ 31.
[10]نهج البلاغة: الكتاب50، تمام نهج البلاغة: الكتاب8 ص775 ـ 776.
[11]مر في ص60 تحت الرقم4 (من الكتاب).
[12]مر في ص67 تحت الرقم14 (من الكتاب).
[13]مر في ص62 تحت الرقم6 (من الكتاب).
[14]الأمالي: المجلس8 ص18 ـ 19 الحديث7 طبع مؤسسة النشر الإٍسلامي ـ قم.
[15]الاحتجاج: الفقرة الأولى ص155، والثانية ص157. والثالثة ص159 ـ 160 طبعة الأسوة.
[16]كنز الدقائق: ج9 ص547.
[17]الاحتجاج: ص157 ـ 159.
[18]نهج البلاغة: الكتاب75، تمام نهج البلاغة: الكتاب6 ص774.
[19]تمام نهج البلاغة: الكتاب30 ص809، نهج البلاغة: الكتاب8.
[20]نهج البلاغة: الخطبة170، تمام نهج البلاغة: الكلام113 ص642 ـ 643.
[21]تمام نهج البلاغة: الكتاب29 ص807 ـ 808، نقل بعضه نهج البلاغة: الكتاب6.
[22]تمام نهج البلاغة: الكتاب8 ص775 ـ 776، نهج البلاغة: الكتاب50 وقد مر نقله ذيل القسم الأول من الأخبار تحت الرقم11 ص182.
تعليقات الزوار