تعكس الآثار والأماكن المقدّسة المنتشرة في أرجاء العالم، تاريخ أمّتنا، وتُشكّل دليلاً على تطوّر الحضارة الإسلاميّة، التي امتزجت بأحداث وتجارب بشريّة، ومن جهة أخرى، تألّقت بأنواع من الفنون الإسلاميّة طوال القرون المتمادية؛ فهي واحدة من أدوات التعريف بالثقافة الدينيّة الأصيلة وانتقالها.
والمثير للريبة، أنّنا شهدنا في عصرنا الحاضر حوادث هدم لبعض الآثار والمواقع الإسلاميّة، انطلاقاً من تبريرات واهية لا تصمد أمام ما تمثّله هذه الأماكن من تجسيدٍ لحضارة الأُمّة الإسلاميّة، وأصالتها، وتاريخها، وثقافتها، وتجلٍّ لجانبٍ مهمّ من علوم المسلمين وآثارهم، فضلاً عن قداسة أنبيائهم وأئمّتهم عليهم السلام، وامتداد الصلّة المعنويّة بهم عبر الزمن.
تشير هذه المقالة إلى تأثيرات هذه الآثار في توثيق الحضارة الإسلاميّة، وبركاتها في حياتنا.
•ملامح الحضارة
قال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ﴾ (الأنعام: 11). يزخر القرآن الكريم بالآيات التي تشير إلى أهمّيّة المحافظة على آثار الماضين والنظر إليها، وذلك أنّ مشاهدة تلك الآثار تساهم في انكشاف الحقائق أمام الإنسان.
من جهة أخرى، إنّ حضارة الأمم هي حصيلة مجموعة التجارب البشريّة المكتسبة على مدى تاريخها، والتي تساهم عوامل عديدة في ترسيخها وازدهارها، إلى جانب مقوّمات رئيسة لا بدّ من توفّرها ليصحّ إطلاق تسمية "الحضارة" عليها. ومن هذه المقوّمات: وجود نظام اجتماعيّ، وتوفّر المنظّمات السياسيّة والاقتصاديّة الكفيلة بتأمين الأمن والازدهار للمجتمع، التطوّر العلمي، تديّن المجتمع وإيمانه باللّه، وجود القِيَم الأخلاقيّة والعدالة الاجتماعيّة، الفنّ، التعاون، والحرّيّة(1).
إنّ كلّ واحدٍ من الأماكن الدينيّة يعكس جانباً من جوانب الحضارة الإسلاميّة؛ فبعضها يعكس وجود المؤسّسات السياسيّة والاقتصاديّة في صدر الإسلام، وبعضها يعكس غنى الإسلام وعدالته وحاكميّة الأخلاق في المجتمع الإسلاميّ، وبعضها الآخر يوجّه الأذهان نحو عقائد المجتمعات الإسلاميّة وعقلانيّتها، وبعضها يدلّ على تطوّر الفنون البشريّة، وتداخلها مع القيم المعنويّة والإيمانيّة باللّه تعالى.
• قداسة المكان
تحوز بعض الأماكن قداسة خاصّةً بها لأسباب عدّة، وتمثّل هذه القداسة سبباً إضافيّاً للحفاظ على هذه الأماكن، فضلاً عن قيمتها التاريخيّة والدينيّة، ودلالاتها الاجتماعيّة. وقد جرت سيرة المسلمين على ذلك، واعتاد الناس في زمن الأنبياء عليهم السلام على المحافظة على آثارهم والتبرّك بها. وقد ثبت في القرآن الكريم قداسة خاصّة لآثارهم الحسّيّة، كقوله تعالى: ﴿اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (يوسف: 93)، إلى قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً﴾( يوسف: 96).
وهو ما تثبته كذلك بعض الروايات، مثل الرواية التي تذكر أنّ أحد الأنصار طلب من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلّي في بيته؛ كي يجعل من مكان صلاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مصلّىً له؛ فلبّى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم طلبه ذاك(2). تشير هذه الواقعة إلى أنّه حتّى مكان صلاته صلى الله عليه وآله وسلم، تُستمد منه البركة والفضيلة؛ بحيث إنّ الصلاة فيه تعدّ أفضل من الصلاة في ما عداه من الأماكن، وأنّ هذه الفضيلة باقية ما بقي ذلك المكان.
وتحفل الكتب التاريخيّة والرحلات بما يدلّ على وجود المئات من مراقد الأنبياء عليهم السلام والصالحين وأئمّة أهل البيت عليهم السلام، في مكّة والمدينة والعراق وإيران والشام ومصر أيضاً، وغيرها بالتفصيل(3)، ما يؤكّد اهتمام المسلمين كافّة بصيانة الأماكن والآثار الباقية منذ عصور الإسلام الأولى.
•علاقة الأماكن المقدّسة بالحضارة الإسلاميّة
إنّ من الأُمور التي تشير إلى أصالة أيّ مجتمعٍ من المجتمعات وتمدّنه، هي المواقع والآثار الباقية من حضارة ذلك المجتمع بحسب العناصر المذكورة سابقاً. وإذا أردنا تتبّع بعضها، نجد أنّ الأماكن الدينية المقدّسة:
1- تعبّر عن التاريخ الإسلاميّ: إنّ تلك الآثار الباقية من العصور الماضية، تنقل لنا أشكالاً وصوراً ورسوماً تعبّر عن روح شعوبها وتفكيرهم، مثلما تعبّر عن قوّتهم وعظمتهم وضعفهم؛ لذلك، يمكن القول إنّ الأماكن والآثار الإسلاميّة ما هي إلاّ (التاريخ المجسّم للإسلام)، فكلّ واحدٍ من تلك الأماكن يعيد إلى الأذهان إحدى الحقائق التاريخيّة للمسلمين، من أمثال: مسجد قبا، ومسجد ذو القبلتين، ومسجد المباهلة، وأعمدة المسجد النبويّ، وأماكن غزوات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومقابر شهداء الإسلام، وبيوت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأضرحة الأئمّة عليهم السلام في البقيع، وموقع بستان فدك، والمراقد المقدّسة في كربلاء وواقعة الطفّ الخالدة، ومدينة مشهد؛ إذ تنطق كلّ واحدةٍ منها بواقعةٍ من وقائع التاريخ الإسلاميّ، وتجيب عن مجموعة أسئلة، وتعطي دلالات لمعرفة ما.
2- تقدّم الثقافة الإسلاميّة وترسّخ العقائد: تلعب تلك الآثار دوراً موثّراً في انتقال الثقافة الإسلاميّة والعقائد إلى الجيل المعاصر. ومن وظائفها المهمّة: تذكير مَن يشاهدها بالعقائد الإسلاميّة، خاصّة الأماكن التي ترتبط بمناسك عبادية كالحجّ، بطوافه وسعيه ورجم الشيطان؛ حيث يغرق الحاجّ بمشاعر التوحيد والنبوّة والمعاد. كما الزيارة، بأبعادها الروحيّة والتوسّل ومعرفة مقام الإمامة. كذلك أماكن العبادة الخاصّة بالأنبياء والأئمّة عليهم السلام في أماكن حضورهم، كغار حراء الخاصّ باعتكاف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ومحراب أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة، ومواقع الأنبياء المنتشرة في مسجدَي الكوفة والسهلة، حيث يذكّر كلّ واحدٍ منها بلزوم الارتباط بالخالق الواحد، كمحوريّة لحركة الحياة. وفي مسجد السهلة خصوصاً، تذكير بالارتباط بعقيدة الظهور الشريف، وتكليف المؤمن في زمن الغيبة.
كذلك مواقع حروب الحقّ على الباطل كقبور شهداء أُحد، وكربلاء المقدّسة، حيث تؤثّر مشاهدة هذه الأماكن في النفوس، وتذكّر بوجوب الدفاع عن الحقّ ومجابهة الباطل، وانتهاج سلوك المخلصين ممّن ضحّوا بأنفسهم دفاعاً عن الحقّ.
3- تُذكّر بأخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام: تربط آثار رسول الإسلام وأهل بيته عليهم السلام الناس بحياة تلك الشخصيّات الرساليّة، فتؤدّي بالتالي دوراً في هداية الأجيال اللاحقة وتوجيهم، مثلا: البيوت البسيطة والأماكن المتواضعة التي عاش فيها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، والتي اندرست آثارها مع الأسف، إذ كان يمكن لها أن تكون دافعاً قويّاً للترغيب بثقافة بساطة العيش والزهد، والابتعاد عن البذخ والترف.
4- تُسهّل فهم القرآن الكريم والروايات الشريفة: امتزجت بعض الشواهد القرآنيّة والروايات الشريفة بأسماء أمكنة محدّدة وبعض المواقع الجغرافيّة ممّا يرتبط بالتاريخ والحضارة الإسلاميّة؛ بعضها ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالماضي الثقافيّ لهذا الدين الإلهيّ الطاهر وأتباعه وسلوكهم، حتّى صارت الإشارة إلى أيّ مكانٍ وموقع مدعاةً لتذكّر بعض الوقائع المصيريّة. فصار التعرّف على هذه الأمكنة عاملاً مساعداً يسهّل فهم إحدى الآيات أو الأحاديث، أو الأحكام الإسلاميّة. مثلاً: عندما نشاهد الآثار الفرعونية وضخامة البناء، وتقانة الهندسة في ذلك الزمن، نفهم حين يصف القرآن الكريم غطرسة فرعون وكيف علا في الأرض، واعتداده الشديد بنفسه، وتوهم أنّه قابضٌ على كل شيء، وكيف تستحيل القدرة غطرسةً وتكبراً في يد الطاغوت.
5- تدلّ على رقيّ النظام الإداريّ الإسلاميّ: يمكن تلمّس بعض أركان النظام الإداريّ لمجتمع تلك الفترة من الآثار الباقية منذ صدر الإسلام، مثل مسجد الكوفة، الذي كان مركزاً للحكومة، ومقرّاً لإدارة أمور الناس آنذاك، إذ يحتوي على رحبة أمير المؤمنين عليه السلام، حيث كان الإمام عليه السلام يجلس قبل الصلاة ليتولّى الإجابة عن أسئلة الناس، و(دكّة القضاء) حيث كان يعقد محاكمات وفصل الخصومات، فيتصوّر لمن يشاهدها قصص قضائه المُبهرة.
6- تعكس رقيّ الفنون الإسلاميّة: إنّ ما تحتويه المزارات والمساجد من الإبداعات الفنّيّة، يساهم في نقل المفاهيم الإسلاميّة إلى الآخرين بلغة الفنّ المتمثّلة بالصورة واللون. وهكذا تنطق الأعمال الفنّيّة المنفّذة بالكاشي أو الآجر أو الجبس، ولوحات التزجيج والرسم والنقش والنحت وغير ذلك، بلسانٍ فنّيٍّ يُفصح عن مدى تطوّر الثقافة والحضارة الإسلاميّة(4).
كما يستند فنّ العمارة الإسلاميّة إلى خلفيّة علميّة عالية، حيث يستفيد استفادة واسعة من المقاييس الرياضيّة والهندسيّة الدقيقة، منها ما شيّده العالم الشيخ البهائيّ من توازن هندسيّ بين إسطوانتين في مسجد في إيران، إضافةً إلى الاهتمام بشكل قبّة المسجد التي تشبه قوس الهلال في رمزٍ إلى الدين الإسلاميّ، أو تشكيل قبّة أبي الفضل العبّاس والإمام الحسين d كهيئة قلنسوة محارب لخصوصيّة شهادتهما. فيما تأخذ شكل قباب الأئمّة عليهم السلام في الغالب انحدار قوس يشبه العمامة دلالة على علمهم، بينما تميّزت قبّة الإمام عليّ عليه السلام في النجف بارتفاع أكبر عن باقي القبب بوضعيّة هندسيّة، تشبه وضعيّة أسد رابض(5). من هنا، كانت الأمكنة، التي زيّنها الفنّانون المسلمون، طوال القرون المتمادية بهذا الفنّ الراقي، شاهدة على أمرين: بلوغ الفنّ الإسلامي قمّة التطوّر، وازدهار العلوم المختلفة لديهم كالرياضيّات والهندسة، وهذا بدوره أضاف بُعداً آخر.
7- تُحيي السياحة الثقافيّة: تعدّ السياحة واحدةً من المميّزات المهمّة للحضارة، والتي لها تأثيرها في تعلّم العلوم وتبادل الأفكار، مثلما تؤثّر في النموّ الاقتصاديّ والأمن الاجتماعيّ أيضاً.
قال تعالى: ﴿أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾، (الحج: 46). تفيد الآية أنّ مثل هذا النوع من السياحة المعنويّة والسير على وجه الأرض يجعل قلب الإنسان واعياً، وعينه بصيرةً، وأُذنه سامعة، وينتشله من مهاوي الخمود والجمود(6). وتعدّ آثار الأنبياء عليهم السلام ومقاماتهم أفضل المواضع لاستذكار سيرتهم التوحيديّة، وخصوصاً رؤية الآثار والأماكن التي تشرّفت بحضور رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام فيها.
ومن مزايا وجود الأماكن والآثار:
1- ازدهار الشعوب الإسلاميّة اقتصاديّاً، الأمر الذي يعدّ ركناً مهمّاً من أركان التطوّر الحضاريّ.
2- التوظيف الثقافيّ، حيث يمكن للمسلمين الاستفادة من هذه الأماكن للتعريف بالثقافة الإسلاميّة في أوساط غير المسلمين، وتوعيتهم بتاريخ المسلمين وآدابهم وعاداتهم.
3- التبليغ الدينيّ، حيث يمكن في هذه الأماكن تنبيه الآخرين إلى حقّانيّة الدين الإسلاميّ وتعاليمه.
•الأثر قصّة حضارة
ترقى الأمم بحسب توفّرها على عناصر حضارتها، ثمّ قدرتها على المحافظة عليها واستمرارها، وهي وثائق حيّة يبعثها السابقون إلى أبنائهم اللاحقين. ويبقى السؤال، حول نوايا من يخلق مبرّرات غريبة لطمس هذه الحضارة: فإن لم تكن هذه النوايا لصالح إسلامنا، فهو يعمل لصالح من؟
1. دور الأماكن و البقاع الدينيّة في الحضارة الإسلاميّة، قادر سعادتي، مقال مترجم. نقلاً عن موقع دار الإعلام لمدرسة أهل البيت عليهم السلام.
2. عتبان بن مالك، وهو من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ممّن شهد بدراً، قال: يا رسول الله، إنّ بصري قد ساء، وإنّ الأمطار إذا كثرت واشتدّت وسال الوادي، حال بيني وبين الصلاة في مسجد قومي، فلو صلّيت في منزلي مكاناً اتّخذه مصلّى...". تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج 24، ص 463.
3. مثلاً كتاب رحلة ابن جبير.
4. يراجع: تاريخ التمدّن الإسلاميّ، جرجي زيدان، ج5، ص623.
5. يراجع: الشيخ عليّ الشرقيّ، مجلّة السفير، العدد 30، 1928م، نقلاً عن شبكة بحوث وتقارير جغرافيّة.
6. يراجع: تفسير الأمثل، مكارم الشيرازيّ، ج3، ص104.
المصدر: مجلة بقية الله
تعليقات الزوار