عن أحداث اعتقال سماحة الإمام الخامنئي دام ظله
د. حوراء حمدان
يمكن تَلمّس أبعاد شخصيّة الإمام القائد السيّد عليّ الخامنئيّ دام ظله بشكلٍ جليّ من خلال العودة إلى فترة ما قبل انتصار الثورة ودوره الأساسيّ في ترشيد أحداثها.
"في المنفى" هي إحدى الروايات التي تُخبر عن تلك الفترة الزمنيّة، وتُبيّن مقدار التأثير الاجتماعيّ والنهضويّ الذي بلوره سلوك ذلك العالِم المنفيّ. يعود الجزء الرئيس من الرواية إلى مقابلة أجريت مع سماحته، بيَّن خلالها ما جرى في فترة نفيه إلى مدينتَي "إيرانشهر" و"جيرفت"(1).
* حادثة الاعتقال(2)
خريف 1977م، ساد إيران حالة من التوتّر إثر الرحيل المشبوه للسيّد مصطفى الخمينيّ. فُجع القائد ذو الثمانية والثلاثين عاماً بهذا المصاب، إذ كانت تربطه به علاقة وطيدة، إلّا أنّ حالة الألم العميق التي اجتاحت مشاعر الناس، سرعان ما تحوّلت إلى اعتراض على السلطة. اتّخذ السيّد القائد المواقف اللازمة من "مشهد"، فأقام عدداً من الأنشطة، وأرسل برقيات تعزية ضمّت عبارات تحدٍّ للسلطة.
هاجم السافاك بيته في إحدى ليالي ذلك العام. كسروا زجاج الباب ودخلوا، وشرعوا بضربه بعنفٍ وقسوة، فجُرحت قدماه بشدّة، بحيث لم يتمكّن من المشي الطبيعيّ ما يقرب شهرين. في تلك الساعات، كان السيّد القائد متّجهاً بوجوده كلّه إلى الله، "وفي ذلك الشعور لذّة ما بعدها لذّة"، كما يُخبر سماحته.
* النفي إلى "إيرانشهر"
كان النفي وسيلة النظام لكبح نشاطات السيّد القائد دام ظله، حيث لم تُحجم الاعتقالات والسجن والتعذيب من أنشطته، بل صنعت منه مناضلاً يمارس نضاله بطريقة لا يُمكّن النظام من العثور على وثيقة ضدّه. اتُّخذ القرار، مكان النفي والإقامة الجبريّة لمدّة ثلاثة أعوام في "إيرانشهر"، وهي منطقة حارّة وطقسها جافّ، وغالبيّة أهلها من أبناء السنّة. وُصف الإمام الخامنئيّ دام ظله في نصّ القرار بأنّه أحد رجال الدين المتطرّفين، تحريضه ضارّ ويمهّد الأرضيّة للإخلال بالنظام. حينما شاهد سماحته ورقة القرار، كتب أسفل الصفحة: معترض على الرأي الصادر (17121977م)(3).
* أوّل الاهتمامات: إحياء المسجد والوحدة الإسلاميّة
أول اهتماماته في "إيران شهر" كان إحياء مسجد آل الرسول عليهم السلام، وهو المسجد الوحيد للشيعة الذي كان مهجوراً طوال السنة. كان السيّد القائد دام ظله يذهب من منزله إلى مسجد آل الرسول عليهم السلام مشياً برفقة جمع من السادة والشباب، بما يُشبه مظاهرة صامتة اتّسمت بالهيبة، ممّا أدخل الرعب في قلوب السافاك. بدأ السيّد القائد إقامة الجماعة في المسجد بالتعاون مع الشيخ راشد يزدي الذي تجمعه به علاقة أنس، وبعد الصلاة، كانت تُبثّ المحاضرة التي يُلقيها القائد عبر مُكبّر الصوت، وكانت هذه المحاضرات وصوته الحَسَن والنافذ عاملاً جاذباً لأبناء السنّة.
نشأت علاقة طيّبة بين الإمام القائد وعلماء الطائفة السنيّة، الذين كان أبناؤها يقيمون العزاء في شهر محرّم. فكّر الإمام دام ظله في عددٍ من الأنشطة التي من شأنها إزالة الحواجز النفسيّة بين الطائفتَين، من قبيل إقامة مهرجان مشترك في مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من 12 إلى 17 ربيع الأول. وفي يوم المهرجان، حصل فيضان لأحد السيول، وسُمِع صوت انهدام البيوت واستغاثة الناس. ألقى السيّد القائد تربة سيّد الشهداء في السيول، وما هي إلّا لحظات حتّى توقّف السيل، وهبّ سماحته لنجدة الناس.
رفع دام ظله شعار "أنقذوا المدينة الجائعة"، وأعدّ مسجد آل الرسول عليهم السلام كي يكون مركزاً للإغاثة، فاتّجهت الأنظار كلّها إليه. استمرّت عمليّات الإغاثة نحو خمسين يوماً، عاين السيّد خلالها آلام الناس وتلمّسها عن قرب، ممّا زاده عزيمةً على مقارعة حكومة الطاغوت.
* معارف المنفى
تعرّف الإمام القائد دام ظله على العديد من الأفاضل الذين جاؤوا لزيارته من المناطق المختلفة، كالشهيد كريم بور، والحاج علي شمقدري، والشيخ محمّد صدوقي، والشهيد عبد الحسين برونسي. وكان عدد الزائرين يزداد كلّ يوم، ممّا ضاعف حساسيّة منظّمة أمن الشرطة، فوضعوا الجواسيس في أماكن مختلفة، وفي كثير من الأحيان، كان الزائر يتعرّض للاعتقال والملاحقة. وبعد مجزرتَي "قم" و"تبريز"، ازدادت المظاهرات المواجهة للنظام، واعتُقل الشيخ راشد يزدي ونُفي إلى "إيرانشهر"، فكانت تلك فرصة ليتعرّف القائد على أهالي "يزد" بعد أن توافدوا جماعاتٍ إلى "إيرانشهر".
* الرسائل والمحاضرات
حاولت التيّارات اليساريّة الحدّ من توزيع رسائل السيد الخامنئيّ إلى الناس، والحيلولة دون انتشار الأيديولوجيا الإسلاميّة الصحيحة. وكانت أغلب الرسائل تُركّز على موضوع الحكومة الإسلاميّة، ومسألة تدخّل العلماء في الشؤون السياسيّة وإدارة البلد.
أمّا محاضرات المسجد، فكان يكشف فيها للناس الكثير من الحقائق، ويعلّمهم الشعور بالمسؤوليّة تُجاه ما يجري في أطراف العالم، وما يُحاك من مؤامرات، الأمر الذي أثار قلق السافاك، وأشعرهم بالخطر، دون أن يتمكّنوا من وضع حدّ لنشاطاته.
* الانتقال إلى المنفى الجديد(4)
أُخبر السيّد الخامنئيّ دام ظله أنّ المنفيّين سيتوزّعون على مدن ثلاث، وسيغادرون ليلاً بسبب خشية الشرطة من ردّ فعل أهالي المدينة، وذلك بعد أن اتُخذ القرار بإبعادهم عن "إيرانشهر".
تتكشّف من خلال كلمات الإمام الخامنئيّ دام ظله الذائقة الجماليّة لديه، حيث لا يخلو حديثه من تبيان تجلّي الجمال الإلهيّ في كلّ ما يراه. يقول عن "جيرفت"، وهي المدينة الثانية التي نُفي إليها: "يُخيَّل إليك حين تراها أنّها كانت في الأصل بستاناً ثمّ بُنيت فيها البيوت وشُيّدت المحلات".
كان السيّد دام ظله المنفيّ الثاني إلى "جيرفت" بعد الشيخ الربّانيّ الأملشي. بلغ عدد المنفيّين تسعة، فقد اقتضت سياسة النظام جمعهم في عدد قليل من المدن كي لا ينتشر نشاطهم. إلّا أنّ محاولات النظام كلّها باءت بالفشل؛ لأنّهم بدأوا بإقامة جلسات في المسجد يتقدّمهم شيخ المنفيّين سنا الربّانيّ الشيرازي، وكانوا يذهبون إلى المسجد بصورة جماعيّة، ممّا شكّل تظاهرة تلهب عواطف الأهالي.
* أخبار مفرحة
وصلت أخبار قم إلى "جيرفت"، وكان الحدث الأبرز هو عزل رئيس الحكومة، ممّا دفع الأمور إلى الانفلات، وخفّت الضغوط بالتوالي.
لم يترك القائد "جيرفت"؛ لأنّه لم يُرِد أن يُلقى القبض عليه فارّاً، إلّا أنّ خبر إطلاق سراحه جاء سريعاً. خشي السيّد أن يكون في المسألة مؤامرة تستهدف حياته، فقرّر الخروج ليلاً دون علم السلطة. كانت سفرة العودة ممتعة مليئة بذكريات جميلة، سمعوا خلالها خبر توجّه الإمام الخمينيّ قدس سره إلى باريس.
(1) "في المنفى"، رواية عن نفي سماحة الإمام الخامنئي دام ظله إلى مدينتي إيرانشهر وجيرفت في فترة ما قبل الثورة الإسلامية، ترجمة سيد مقداد الحيدري، مؤسسة صهبا، قم 2018م.
(2) المصدر نفسه، ص 59/ 18/ 47.
(3) المصدر نفسه، ص 51.
(4) المصدر نفسه، ص 33/ 37/ 39/ 154.
المصدر: مجلة بقية الله
تعليقات الزوار