الشيخ د. عليّ زين العابدين حرب*
كان التيهُ عقوبةَ بني إسرائيل؛ لمّا فسقوا عن أمر ربّهم ورفضوا دخول الأرض المقدّسة. وكان العجل، الذي صنعوه وعبدوه، مجسّداً لأسقام نفوسهم وأصنامها، تلك النفوس الحسّيّة المفرطة، القائمة على التعجّل والتهوّر، والجحود والنكران، والجهل المقنّع ونقض العهد والميثاق؛ تاهوا أربعين سنة في الأرض، دون أن يهتدوا إلى أرضهم الموعودة. وبدل أن يتوبوا إلى الله، صارت قلوبهم مشحونة بالبغضاء والكراهية، تضيق بكلّ هدى بشريّ واستقامة إنسانيّة وصلاح آدميّ وخضوع عباديّ لله.
إنّ قصّة التيه هذه نموذج واضح عن الضلال الذي قد يصل إليه الإنسان في أيّ عصر من العصور. ولكن يأبى لطف الله بعباده ورحمته بهم أن يدعَهم لا يهتدون سبيلاً، فقدّر أن تكون هدايته للإنسان بكلماته التامّات الباقيات في كتابه الكريم. فكيف يهدي كتابُ الله سلوكاتِ الناس في عصر التيه هذا؟
* سُبل الهداية في القرآن
يتّبع القرآن الكريم سُبل الهداية والرشاد من خلال دعوته إلى:
1. تبيان الهداية: لمّا كان القرآن الكريم آخر كتب الله إلى العالمين، فلا بدّ من أن نتفطّن إلى عظَمة هدايته وسعتها واستغراقها. وبلوغُ ذلك أمرٌ يستحقُّ بذل الأعمار والطاقات. فالكتاب كتاب الله سبحانه، والهداية غايته وهدفه لأجل عموم خلقه. يقول ربُّنا الهادي: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (الإسراء: 9)، ليؤكّد بذلك على أنّ رسالته إلى الناس هاديةٌ على الدوام «للتي هي أقوم». فماذا تعني هذه العبارة؟ لقد ذكر الله الصفةَ «أقوم» وحذف الموصوف تفخيماً وتعظيماً وإيغالاً في السعة والشمول. من هنا، فإنّ «التي هي أقوم» تعني أقوم العقائد والأعمال والأخلاق والطرق والحالات والعلاقات، في الظاهر والباطن، وفي المشاعر والسلوك، وفي الأفراد والجماعات(1)، وهي تُطلق «فيمن يهديهم وفيما يهديهم».
2. اكتساب الفضائل: ينظر جملة من أعلام المسلمين إلى طبيعة الأخلاق في أنّها «هيئة في النفس راسخة»(2)، وتصدر عن هذه الهيئة الأفعالُ والسلوكات؛ فليست الأخلاق ما يصدر عن الإنسان من هذه السلوكات، إنّما هي أمرٌ باطنيّ راسخٌ في النفس، وهي صورة النفس أو تشكّلها الاكتسابيّ، الذي ينعكس في السلوكات. غير أنّ هذه الأخيرة، ليست مجرّد مرآة صافية حاكية، بل هي ممرٌّ حقيقيٌّ لاكتساب النفس للفضائل، من خلال مداومة الآثار السلوكيّة الطيّبة للفضيلة المقصودة، فمن أراد صفة الجود، تكلّف فعل الجود، ومن أراد صفة التواضع، تكلّف صنائع المتواضعين؛ حتّى يصير ذلك هيئة راسخة في نفسه وحليةً لها.
ومن ناحية أخرى، إنّ العلم داعٍ للعمل والسلوك ومقدّمة لهما. فإذا أضاء العلمُ بيتَ العقل، وبلغ شعاعه ساحةَ القلب مستقرّاً فيها، نبض القلب وتقلّب على إيقاع العلم. فالعلم بالفضائل وفضلها، قد يبعث القلب على الاستجابة بالسلوك الفاضل؛ ممّا يفضي إلى انطباع النفس بالفضيلة الجديدة.
نجد لهاتين الجهتين المنهجيّتين، المعرفة والسلوك، شبهاً كبيراً في علم النفس المعاصر، بحيث يقوم العلاج فيه على المعرفة تارةً، وعلى السلوك تارةً أخرى. يسعى المعرفيُّ إلى التأثير في أفكار الإنسان، في أموره العاجلة الحاليّة، وصولاً إلى بناء طريقة تفكير سليمة مع مرور الوقت. أمّا السلوكيّ فيتعامل مع سلوك الإنسان مباشرة من جهة تأثرّه بالبيئة الخارجيّة؛ لمساعدته على التكيّف أو تعديل السلوك(3).
لا يتطابق هذا المساق تمام التطابق مع رؤية أعلام الإسلام -الذين أشرنا إليهم قبل سطور- إلى ماهيّة الخُلق وكيفيّة علاجه. غير أنّه يلتقي معها في دور المعرفة والفكرة في إحداث تغييرٍ في سلوك الإنسان، ودور هذا السلوك في اكتساب صفات نفسيّة جديدة.
3. اتّباع الحقّ: إنّ فروع كلمة الحقّ واشتقاقاتها تعود إلى جذر معنويّ هو «إحكام الشيء وصحّته»(4). واستعمالاتها القرآنيّة تتوافق مع ذلك أيضاً، فهي ترجع إلى «المطابقة والموافقة»(5)، أي مطابقة العدل أو الحكمة وموافقتهما. والعدل والحكمة أمران محكمان وصحيحان. ولقد وصف الله نفسه بالحقّ: ﴿فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾ (يونس: 32). ووصف بالحقّ خلقه وما أوجده وما أمر به: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ (يونس: 5)، و﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ (آل عمران: 60). فهو -سبحانه- حقٌّ؛ لأنّه أحكم كلّ شيء وأتقنه وأحسنه، وكان بذلك مصنوعه العلميّ والعمليّ حقّاً أيضاً. عندئذٍ، يكون كلُّ بعدٍ عن الله ضلالاً وباطلاً. قال تعالى: ﴿فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ﴾ (يونس: 32)،
﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾ (الحج: 62). لذلك، ليس بين الحقّ والباطل منزلة وسطى، فإمّا الحقّ وإمّا الضلال: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَال﴾.
* الالتزام العمليّ بالحقّ
يلقي الحقُّ-كما يقدّمه القرآن- على عاتق المؤمن التزامات ومسؤوليّات عمليّة متنوّعة. فالحقُّ اسمٌ لله وصفة لفعله كما أشرنا. أمّا العبد، فتتوقّف حقانيّته الأخلاقيّة-التربويّة والسلوكيّة على اختياره وإرادته. نذكر من هذه الالتزامات:
1. المطابقة بين السلوك والشريعة: أي فعل الواجبات وترك المحرّمات وفق أوامر الله ونواهيه، فيكون سلوك العبد حقّاً لإحكامه وحُسنه، والتحصّن كذلك -ما أمكن ودون تطرّف- بدرع المستحبّات والمكروهات؛ فمن اعتاد المستحبّات، لم يترك واجباً قطّ، ومن رتع في المكروه، يوشك أن يرتع في ما حرّم الله، لأنّ المكروهات حمى المحرّمات، ومن حام حول الحمى، وقع فيه.
2. تهذيب النفس: يتأكّد هذا الأمر في النفس الأمّارة؛ لأنها أمّارة بالسوء، وإنّ اتّباعها ضلال وباطل، وابتعاد كبيرٌ عن الحقّ. وكذلك تربية النفس لتكون عصيّة معصومةً عن وساوس الشيطان وهمَزاته وإغراءاته، عندما يمنّيها بطول الأمل والأمن، ويستدرجها في الباطل خطوة بعد أخرى. قال تعالى: ﴿لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ (النور: 21). وقال أيضاً: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ (المائدة: 91).
3. طاعة وليّ الأمر: من الأشكال الجليّة لاتّباع الحقّ في هذا الزمان، طاعة وليّ أمر المسلمين في الأحكام التدبيريّة، إذ إنّه يراعي فيها مصالح المجتمع والأمّة، وقوّة الدين ومنعته. وقد تكون مخالفة هذه الأحكام موقعةً في الضلالة والباطل أكثر من مخالفة الأحكام الفرديّة كالصلوات اليوميّة إجمالاً؛ لأنّ أثرها اجتماعيٌّ عريضٌ. وحينئذ، تكون المخالفة أشدّ ابتعاداً عن «الصحّة والإحكام»، أي عن الحقّ. ومن هنا، نفهم سرّ تشديد النصوص في تحريم الزنا واللواط والسحاق وأشباهها، والربا والغشّ في الكيل والميزان، والكذب ونقض المواثيق، حيث إنّ اقتراف هذه المحرّمات يضرّ ببنية المجتمع والجماعة والأسرة وتماسكها، وهي كيانات يريدها الله ويباركها؛ لأنّها ضروريّة لكمال الإنسان، الذي هو غاية الله في خلق الإنس.
إذا عرفتِ النفس أنّ الحقّ في القرآن اسمٌ لله وصفة لفعله التكوينيّ والتشريعيّ، وأنّه لا حدّ ثالث بين الحقّ والضلال أو الباطل؛ فإمّا الحقّ وإمّا الضلال والباطل، فإنّ ذلك يسبغ عليها فكرةً عميقةً جدّاً تغيّر سلوكها في الحياة، ويجعلها أكثر دقّة ورعايةً لحدوده سبحانه، ولما يدعو إليه. وكذلك، كلّما عملت النفس من عملٍ وافق شرع الله وسلكت سلوكاً مرْضيّاً عنده، صغر أو كبر، فإنّ ذلك يُكسبها صفة الحقّانيّة، ويبعدها عن ضلال الهوى والشيطان وفتنة جنوده.
هكذا نكون قد سبرنا جنبةً من جنبات تأثير القرآن معرفيّاً في سلوك الإنسان، وهدايته من ظلمات هذه الحياة، وإنقاذه من تيه الأفكار والضلالات والأباطيل والحيرة فيها.
* أستاذ محاضر في جامعة المعارف- بيروت، وأستاذ في الحوزة العلميّة.
(1) الميزان في تفسير القرآن، العلّامة الطباطبائي، ج 13، ص 46.
(2) إحياء علوم الدين، الغزالي، ص 611.
(3) Cf. https://www.healthline.com/health/behavioral-therapy
(4) معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، ص 227.
(5) مفردات القرآن، الراغب، ص 246.
المصدر: مجلة بقية الله
تعليقات الزوار