نهى عبد الله
قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 242). هل يُمكن أن يخطئ العقل أو يتعطّل؟
وقع كثير من الناس ضحيةً لهذا السؤال، واستغلّه آخرون لتبرير بعض الأفعال غير المقبولة، وثمّة من شكّك في قدرة العقل ووظيفته؛ ليعيث فساداً ويشيع مجموعةً من القضايا الفاسدة. في حين أنّ العقل هو «مَا عُبِدَ بِه الرَّحْمَنُ واكْتُسِبَ بِه الْجِنَانُ»(1).
لنتّفق أوّلاً أنّ «العقل» الذي نتحدّث عنه ليس كيف أفكّر أنا أو أنت، بل هو الجزء المسؤول لدى كلّ إنسان عن إدراك الحقّ والباطل، العدل والظلم، الصواب والخطأ، الإنصاف والانحياز، الحُسن والقبح، الحقيقة والوهم. كلّنا ننادي بالقسم الأوّل مّما ذكر وننبذ الثاني، لكن في الواقع يكثر من يخلط بين المصاديق عمداً أو خطأً، ويصوّر الأبيض أسودَ. فهل يُخطئ العقل الذي يمثّل آلةً لتمييز الحقّ عن الباطل؟ طرح القرآن الكريم إشاراتٍ لصيانة هذه الآلة عن الوقوع في الخطأ، وبدقّة أكثر، لعدم تعطيلها.
* وظيفة العقل في القرآن
العقل هو القوّة التي يميّز بها الإنسان بين الخير والشرّ، والحقّ والباطل، ويقابلها الجنون والسفه والحمق والجهل باعتبارات مختلفة. والألفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أنواع الإدراك بلغت العشرين تقريباً، منها: الظنّ، والحسبان، والشعور، والذكر، والعرفان، والفهم، والفقه، والدراية، واليقين، والفكر، والرأي، والزعم، والحفظ، والحكمة، والخبرة، والشهادة، والعقل، ويلحق بها مثل: القول، والفتوى، والبصيرة ونحو ذلك(2).
أمّا وظيفته، فيرى السيّد الطباطبائي قدس سره أنّ لإدراك العقل أبعاداً عدّة، تتجاوز ما نألفه من وظيفة التفكير المنطقيّ، يقول: العقل يطلق على الإدراك من حيث إنّ فيه عقد القلب بالتصديق، ذلك أنّ الله سبحانه خلقه خلقةً يقوم من خلالها على: إدراك نفسه في أوّل وجوده، وإدراك ظواهر الأشياء بحواس ظاهرة، وإدراك معانٍ روحيّة معنويّة كالإرادة والحّب والبغض والرجاء والخوف، من خلال حواس باطنة، ثمّ ترتيب المدركات وتنظيمها وتخصيصها أو تعميمها، وإنتاج نظريّات في الأمور المجرّدة، ثمّ التشخيص والتطبيق والعمل. كلّ ذلك يعتمد على ما تشخّصه له فطرته الأصيلة(3).
* عناصر ترشيد العقل
في تتبّع لفظَي «يعقل» و«يعقلون» في القرآن الكريم، الواردَين نحو 23 مرّةً، يمكن تحديد ما عدّه القرآن الكريم عناصرَ قوّةٍ للعقل، منها:
1. تدقيق النظر والبصر: قال عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 164). تلفت الآية الكريمة نظر الإنسان إلى حقائق يعيشها، لو نظر إليها بدقّة ستشكّل علامة هادية إذا أعمل فيها عقله. وبمعنى آخر، تشكّل هذه الحقائق مواد حقيقيّة لإعمال العقل وحثّه على التفكير الصحيح.
2. حُسن الإصغاء: ليس المقصود من الإصغاء السمع فقط، بل السماح للمسموع أن يدخل حيّز الإدراك والتفكير من زوايا عدّة، وهذه الحالة تزيل مانع «الإنكار والرفض المسبق» وتفتح نافذة للعقل لتنفذ الفكرة إليه، فيبدأ العقل في قبول احتماليّة صواب الفكرة، فيعمل فيها بالتأمّل والتدقيق بدل رفضها؛ لذلك نرى ربطاً لافتاً في القرآن الكريم بين السمع والعقل، مثل قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ* إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ (الأنفال: 21- 22)، بل تُصرح الآية الثانية بأنّ تعطيل السمع كنافذة للإدراك يجعل الإنسان في مصاف الدواب.
3. تقييم نتيجة القضية: في إشارة قرآنيّة لافتة في سورة الأنفال بعد الآيتين المذكورتين في الفقرة السابقة، أنّ واحدة من مساعدات عمل العقل للتفكير والهداية هي إدراك العاقبة وأهميتها ودورها لتقييم أي قضية، حين قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال: 24)؛ فقد أوضحت الآية أنّكم عندما تستجيبون وتقبلون ما يدعو إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهو لأنه «يُحييكم» وأنكم «تحشرون» إلى الله في النهاية؛ لذلك فإن نتيجة هذه القضية مصيريّة، وذكر ذلك هو نموذجٌ قرآني لاستدعاء عمل العقل وإقناعه بجلل القضية ونتيجتها.
4. البصيرة: قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 46). ليست البصيرة أمراً سهل التحصيل لتكون عنصراً مساعداً لعمل العقل، فغالباً يُستعان بالعقل لتحصيل البصيرة، لكن الآية الكريمة تشير إلى مبدأ أساس لتفعيل حواس العقل أو مجسّاته «الآذان والأبصار»، وهو توجه القلب عند البحث، فهل القلب يبحث عن الحقيقة كما هي، أم يبحث لإثبات ما يريده الإنسان فقط، وهو الفرق بين الانحياز والتجرّد المتوخى عند كل بحث، عندها تتفعّل تلك الحواس ليعمل العقل بسلامة. وهنا إشارة قرآنية يُبنى عليها في العلاقة بين القلب والعقل في تعقّل الأمور.
5. الاعتبار: قال تعالى: ﴿إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ* وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (العنكبوت: 34- 35). تربط الآيتان دور أخذ العبرة والعظة ممّا وقع على الأقوام السابقة بالتعقّل وفهم الرسالة والغاية التي تدفع العاقل إلى الالتزام بما ينجيه ويبعده عن ما يهلكه.
6. العلم والمعرفة: قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ (العنكبوت: 43). إنّ الأمثال التي يضربها الله تعالى للناس هي من أجل أن يتفكّروا فيها ويستلهموا العبر، وتصرح الآية أنّ العلم والمعرفة والإحاطة بالأمور شروط لفهم العبرة، فكثير من الإنجازات الكيمائية أو الهندسية مثلاً، لن يفهمها شخص لم يحصّل معرفةً أوليةً بهذا المجال، كذلك بعض الحقائق الكونيّة تحتاج إلى معرفة محددة لإدراك عمقها. وبعبارة أخرى، يحتاج العقل إلى بعض المقدمات المعرفيّة ليقوم باستخراج نتائج صحيحة، ولذلك في البداية يبني العقل عمله على بعض المقدمات البديهية: (أنا موجود، إذاً ثمّة من خلقني)، ثم تزداد نتائج عمله تعقيداً وعمقاً عندما تتطوّر تلك المقدمات التي يرتكز عليها في التحليل والتفكير.
7. الأدب والأخلاق: ثمّة إشارة قرآنيّة لافتة تربط بين الأدب والتعقّل، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (الحجرات: 4) حيث يصف الله تعالى المسلمين الذين يرفعون صوتهم بنداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو داخل حجرته بأنّهم لا يملكون وعياً وتعقلاً؛ لعدم مراعاتهم واحترامهم مقام النبوّة. وهي إشارة إلى أنّ الأخلاق ذات جذور عقليّة واضحة.
* معطلات عمل العقل
ترتبط وظيفة العقل بهداية الإنسان تُجاه الحقّ والخير والصلاح. وقد نبّه القرآن الكريم ممّا يعيق عمله، كما أشار في المواطن السابقة إلى عناصر صيانته وقوّته، من هذه المعيقات:
1. التقليد الأعمى والتعصّب: قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ* وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 170- 171). بيّنت الآيتان بالنتيجة أنّ الاختيار السيّئ للكافرين باتباعهم أسلافهم السفهاء مقابل ما فيه صلاحهم، هو ما يجعل حالهم كالأغنام الذين يصيح بهم الراعي فهم يسمعونه لكنهم لا يفقهون ما ينطق، لذلك لا يصل إلى أسماعهم الهدى ولا إلى أبصارهم بسبب الحاجز الذي وضعوه على عقولهم وإدراكهم وفهمهم بتقليدهم وتعصّبهم الأعمى.
2. اتّباع الهوى وغلبة الغرائز: قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا* أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ (الفرقان: 43- 44). تصرّح الآيتان الشريفتان بآفة تُعطّل العقل والإدراك، وتميت قدرة التمييز بين الحقّ والباطل، وتسد الحواس، وتحوّل الإنسان إلى أقل من الدابة في الإدراك والتمييز، وهي اتّباع الهوى وسيادته واتخاذه بوصلةً لتوجه الإنسان في حياته، فإذا ألقيت أمامه الحقائق لم يستطع فهمها أو إدراكها.
3. الاستهزاء والسخرية: قال تعالى: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ﴾ (المائدة: 58). أحد معطلات عمل العقل هو السخرية من الأمور والاعتبارات وإن بدت غير واضحة للإنسان في البداية، فالتقليل من شأن الأمور والسخرية منها يشكلان مانعاً حقيقيّاً لعمل العقل؛ لأنهما حكمٌ مسبقٌ بسخف الأمر، فكيف سيُعمل النظر فيه والتدقيق بعد الحكم بسخافته؟!
4. الكذب والافتراء: قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ (المائدة: 103). تصف الآية الذين كفروا ويفترون كذباً على الله بأنه حرّم بعض المسائل التي اعتادتها الجاهلية بأنّهم لا يعقلون، حيث إنّ في الكذب خلطاً بين الحقّ والباطل، وبين الدخيل والأصيل، يميّزه العاقلون فيدركون كذبهم، أمّا الذين اعتادوا هذا الخلط فلم يمكنهم التمييز، وإلّا لما خلطوا وما كذبوا. قد يكون الافتراء مُحكماً مُتقناً بحيث ينطلي على بعض الناس، لكنّ الآية الكريمة تحمل تلميحاً إلى أنّ الكذب يرتبط بتخفيف قوّة العقل لدى صاحبه، ومنه يُقال: «لا يوجد كذبة كاملة» و«الكذب حبله قصير»؛ لأنّه قابل للكشف غالباً.
5. الإنكار والحجود: قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (العنكبوت : 63). الإنكار والجحود هما آفة المعرفة، فالآية تشير إلى كفار مكّة الذين يؤمنون بأنّ الله تعالى هو مدبّر الكون، لكنّهم لا يلتزمون بتوحيده، إنكاراً منهم وجحوداً لما يعلمون وبما يعترفون. وهذا الإنكار بدوره يعطّل عمل العقل في الاستفادة ممّا يعلم به، فتبقى تلك المعرفة جامدةً عن الاستفادة منها في السلوك والعمل.
يتبين أنّ دور العقل في تحديد مصير الإنسان يتجاوز عملية التفكّر المجردة حين عدّ القرآن القلب يعقل أيضاً: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ (الحج: 46). وربما في ذلك إشارة إلى ضرورة نقاء النيّة ليعمل العقل، أو إشارةً إلى ترسّخ ما نصدقه بالعقل ليكون إيماناً في القلب أيضاً.
(1) الكافي، الشيخ الكليني، ج1، ص 11.
(2) يراجع: الميزان، العلامة الطباطبائي، ج2، ص 247.
(3) يراجع: المصدر نفسه، ج2، ص 248.
المصدر: مجلة بقية الله
تعليقات الزوار