ينشر موقع KHAMENEI.IR الإعلامي تقريراً يعرض قوّة المجتمع المقاوم ودوره في ربط قلوب المجاهدين عند مواجهتهم العدوّ، ويقارن هذا المجتمع بمجتمع الكيان المُحتلّ في فلسطين المحتلّة الذي لا يملك أيّ مُثل ومبادئ يتمسّك بها وتجعله مستعدّاً للتخلّي عن الأرواح وبذل التضحيات.
«لا أملكُ منزلًا... لا أملكُ سيّارة... لكنّي أملكُ موقفًا، وعليهِ أموت»
هي عبارةٌ لشابٍّ حرّم منذ أمدٍ طويل النومَ والطعامَ على عناصر الأمن والجنود الصهاينة في الضفّة الغربيّة. هو شابٌّ لم تنقضِ من عمره عقودٌ ثلاثة، لكنّه عرّى حقيقة العدو، وأراق ماء وجه جيشٍ متوحّشٍ ومدجّجٍ بالأسلحة وأجهزة المراقبة، فقد باءت محاولات القوى الأمنية المتكرّرة لاغتياله أو اعتقاله بالفشل. لكنّ السؤال المهمّ هنا هو: ما الذي يُفضي إلى ارتقاء شباب مثل «أبوشجاع» في الضفّة الغربيّة، وبروزهم في كلّ أرجاء جبهة المقاومة؟ وما هي الركيزة التي يرتكز إليها شبابٌ مثله في مقابل هذه العصابة الإرهابيّة، بحيث يُوجّهون إليها ضرباتٍ بهذه القوّة والقسوة؟
في واحدة من أحدث المحاولات التي جرت في شهر تمّوز/ يوليو، وبعد مرور عشرة أشهر على معركة «طوفان الأقصى»، دخلت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية مستشفى في طولكرم؛ بهدف اعتقال «أبو شجاع». ولكن، في تلك اللحظة، تدخّل الأطباء والممرضون والمواطنون، واندلعت مواجهات بين هؤلاء القوات والموظفين في المستشفى، مما حال دون تمكّن قوات الأمن من القبض على «أبو شجاع»، وقد رافق عدد من الأشخاص «أبو شجاع» إلى مخيم «نور شمس» لحمايته. نفس أهالي الضفّة الغربيّة هؤلاء، الذين جرى - حتى الآن فقط - اعتقالُ أكثر من 10 آلاف شخص منهم بواسطة عناصر الأمن الصهاينة، دفعوا أثمانًا كبيرة في سبيل دعم المقاومة، وقاوموا بنحوٍ يوميّ - وقبل «طوفان الأقصى» أيضًا - الاحتلالَ المستمر والظلمَ الجليّ والواضح للكيان، وتحوّلوا إلى أعظم تهديد لوجود الكيان الصهيوني الغاصب.
وفي مكانٍ آخر من ساحات المقاومة، أي في إحدى القرى الحدوديّة بين لبنان وفلسطين المحتلّة، والتي تعرّضت لقصف كبير من الكيان الصهيوني، ولحقت بها أضرارٌ جسيمة، ودُمّر العديد من بيوتها، لا تزال الحياة قائمة. المحالّ مفتوحة، والناس يتردّدون إلى القرية بنحوٍ طبيعي، كما تُسمع أصوات قطعان الأغنام. يقول أحد الأصدقاء الذين شهدوا هذه المشاهد: سألتُ رجلًا عجوزًا في القرية، وقلت له: يا حاج، انظر إلى تلك الجهة من الحدود، كلّ قرى ومستعمرات الصهاينة فارغة، وقد لاذوا بالفرار هربًا من نيران حزب الله، ما الذي تفعله هنا إذًا؟ لماذا لا تُخلون القرية كما فعل الصهاينة؟ أجاب العجوز قائلًا: سأبقى حيث أنا، رغم أن الصهاينة دمّروا القرية تقريبًا. سأبقى حتى يتمكّن مجاهدو حزب الله من التنقّل بسهولة أكبر، فنكون أنا وعائلتي غطاءً لتحرّكاتهم. أنا لا أستطيع القتال، لكن هذا أدنى ما يمكنني فعله لمساعدة المقاومة.
يُمكن ملاحظة روح المقاومة في كل فرد من أعضائها. فعلى سبيل المثال، بعد القصف الذي تعرّضت له اليمن من قبل القوات الأمريكية، ردّ «نصر الدين عامر» اليمني على فلسطيني قال له إنهم لم يرغبوا في أن تتعرّض اليمن للقصف بسبب دعمها لهم، قائلًا: "الآن، بعد أن تعرّضنا للقصف مثل غزة، شعرنا بالراحة للتوّ. كنا نشعر بالخجل من شعب فلسطين؛ لأنهم يتعرّضون للقصف، بينما نحن لم نكن نتعرّض له."
نعم، هذا هو ما يمنح المجاهدين الأمل والجرأة في ميادين النّزال. هذه هي قوة المجتمع المقاوم التي تربّي أبناءً مثل «أبو شجاع»، وتعتني بهم كأبناء لها، أبناء فلسطين. إنها مقاومة تنبثق من أعماق المجتمع، وهي الداعمة للمجاهدين. المقاومة غايةٌ وهدفٌ ومثالٌ أعلى تتوارثه الأجيال، وتبني به المجتمع وتعمره؛ والكيان الصهيوني يعرف تمامًا أنّه عاجزٌ عن التغلّب على هذا الهدف، وأنّه لا يمكن قتل المُثل العليا في النفوس. إنه هدفٌ يُقدَّسُ؛ لتحقيقه الموت في سبيل العقيدة، ومن أجل مقاومة الظلم، ويُؤمن الساعون وراءه بأن الدم يكفلُ الحياة الأبديّة. وقد جسّد هذا المجتمع الذي يسعى لتحقيق هذا الهدف الجبهةَ الحسينية، وجعلها ملموسة ومرئية للعالم أجمع.
وقد سبق أن قال الإمام الخامنئي، خلال لقاء مع جمعٍ ضمّ عائلات الشهداء، في وصف مقاومة الشعب الفلسطيني وأهالي غزّة: «تبيّنَ أن الإيمان الإسلامي هو ذاك العامل الذي يصنع الاقتدار والمقاومة على هذا النحو، فقد صمد الناس تحت القصف، ولم يستسلموا، ولم يرفعوا أيديهم أمام العدو، رغم الفجائع كلها التي ارتكبها. لقد عرّفت المقاومة [الناس] إلى الإسلام. هذا هو الإسلام، وهذا هو الإيمان الإسلامي». هذا يعني أنّ قائد الثورة الإسلاميّة يرى في هذه المقاومة الشعبيّة نموذجًا لأعظم راية إسلاميّة، تُقدّمها للعالم أجمع عمومًا، وللأمّة الإسلاميّة خصوصًا.
على الجانب الآخر من المشهد، تتجلى الصورة بشكل مغاير تمامًا. هنا، لا نواجه مجتمعًا متّحدًا، بل نرى مجتمعًا يهرع إلى الهروب عند أدنى أزمة. فعند وقوع أي أزمة صغيرة، تتزايد صفوف الهاربين في مطار «بن غوريون»، وتُطفأ أضواء المستوطنات القريبة من غزة ولبنان، وكأنها لم تكن مأهولة بالسكان يومًا. وفي الوقت نفسه، ترتفع أصوات احتجاجاتهم على أوضاعهم كلاجئين، وعلى امتداد أمد الحرب لزمن طويل، ويطالبون الكيان الغاصب بتقديم الدعم الكامل. هذا، بينما يحصل هؤلاء اللاجئون على إقامة مجانية في فنادق منتشرة على طول الأراضي المحتلة، ويستفيدون من دعم المجتمع الدولي بأسره، بما في ذلك الدول الإسلامية في المنطقة.
مجتمعٌ لطالما عانى من مشكلة نقص القوى البشرية اللازمة لحروبه، وها قد بات مضطرًّا الآن لتحمل تداعيات استدعاء «الحريديم» إلى الخدمة العسكرية، وفرض مشاركتهم في الحروب، رغم وجود المخاطر الكبيرة التي قد تؤدي إلى انهيار الحكومة. كما قد بات مضطرًّا إلى تمرير قوانين تُجبر «الحريديم» على المشاركة في الحرب.
يختلف الأمر تمامًا بين مجتمعين: مجتمعٌ يسعى للحصول على كل شيء من أجل البقاء، ويرى الحياة الدنيا أقصى ما يمكن تحقيقه. ومجتمعٌ يُفضّل الإيمان والغاية المُثلى على الحياة القصيرة في هذا العالم. هناك فرقٌ كبيرٌ بين مجتمع يُقاتل من أجل العودة إلى وطنه، وآخر يكون مستعدًّا للتشرد في أي مكان من العالم للبقاء، حتى وإن تطلب الأمر ارتكاب جرائم واسعة النطاق، وعمليات إبادة جماعية.
قدّم عاموس يادلين، الرئيس السابق لجهاز "أمان" (معاون الاستخبارات العسكرية للجيش الإسرائيلي)، وأحد أبرز المحللين الأمنيين والعسكريين في الكيان الصهيوني، الذي يُعرف بدعمه القوي لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، شرحًا مفصّلًا لمقترح تبادل الأسرى، وأهمية ذلك بالنسبة للكيان الصهيوني، من خلال سلسلة تغريدات، وفي مقابلات منفصلة مع وسائل الإعلام الصهيونية. وهو يقول في إحدى أهم عباراته في هذه التغريدات:
"لا انتصار دون إعادة الأسرى. نحن قومٌ نُقدّس الحياة، لا الموت. هكذا كان الحال دومًا، وينبغي أن يستمرّ على هذا المنوال...".
ربّما يجعلنا التعمّق في هذه الجملة نتعرّف على سبب كلّ هذه الفروقات بين مجتمع المقاومة والمجتمع المُحتَلّ. القوّة التي تريد كلّ شيء مُسخَّرًا لحياتها الدنيويّة، بل وتقدّسها، وتظنّ أنّ أمّة المقاومة تنظر إلى العالم من نفس منظارها. بينما هي لا تعلم أنّ المقاومة تحوّلت إلى هويّة لدى أعضائها، وتتوقّع هذه القوّة أنّها - بزيادة وحشيّتها وهجماتها - ستتمكن من جعل المقاومة تضمحلّ في المجتمع، إلا أنّها في كلّ مرّة تحصل على نتيجة معاكسة، وتلمس آثار جرائمها في تعزّز قوّة المقاومة، واتساع رقعتها في أرجاء فلسطين، بل وفي لبنان، واليمن، والعراق، وسوريا، وكلّ المنطقة.
ليس عبثًا أنّ السيّد العزيز، السيّد حسن نصرالله، قال في كلمته التاريخيّة: أنّ الشعب الذي يملك الشهادة شعبٌ لا يُهزم. المستقبل الحتمي ملكٌ للرجال الذين تعلّموا دفع الأثمان في حرب غير متكافئة في سبيل أهدافهم ومُثُلهم، وهم يتناقلون هذا المبدأ جيلًا بعد جيل، بجِهادهم وتضحياتهم.
تعليقات الزوار