منهجية الثورة الإسلامية

أفضل مشروع لتقديم أساسيات الفكر التغييري للإمام الخميني (رض)

ينقل السيد هادي خسروشاهي صاحب المؤلفات الكثيرة في مقدمة كتابه "الإمام الخميني والإحياء الديني" أنه التقى مع آية الله السيد الخامنئي ودار الحديث عما كتب عن قائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني، فأبدى آية الله الخامنئي ملاحظة مفادها: إنه لم يكتب حتى الآن كتاب عن الإمام الخميني يمكن توزيعه خارج إيران، على اعتباره كتاباً شاملاً يتوفر على استيفاء المعالم الأساسية لفكر الإمام التغييري ومنظومته في النهضة وما تنطوي عليه من أساسيات ومنهجيات.

هذه الملاحظة تتأكد من خلال سياق آخر؛ فإذا ما استعرضنا الكتب التي تصدر عن الإمام الخميني خارج إيران ترى أغلبيتها الغالبة تفتقر إلى الثراء على مستوى أفكار الإمام ونصوصه، إذ يكاد الباحثون يحيلون إلى بضعة مصادر بعينها هي تلك التي صدرت باكراً عن وزارة الإرشاد، من بينها أربعة أجزاء تحمل "جوانب من أفكار الإمام الخميني" وكتاب ضخم آخر يحمل عنوان " توجيهات الإمام الخميني إلى المسلمين " وهكذا إلى بقية العناوين.

ومع أن هذه الكتب قدمت خدمة مهمة ولولاها لبقي الفراغ كبيراً على هذا الصعيد، إلا أن الملاحظ فيها أنها تفتقر لمقومات العرض المنهجي لفكر الإمام، إذ يقتصر جلها على ترجمة خطابات الإمام الراحل وعرضها أحياناً حتى بدون فهرسة داخلية وتوزيع لمحتوى الخطاب على فقرات دالة تشير إلى مضمونه.

لهذا تضاءلت أهمية هذا الكم بالأخص بعد أن تجاوزت دراسات الباحثين الجانب الوصفي وراحت تتوغل في فكر الإمام الخميني لاكتشاف الاساسيات المنهجية في هذا الفكر، والمعالم الذي تنتظمه كمدونة تغييرية تدل على تجربة نهضوية ناجحة تحركت من الصفر إلى أن بلغت النصر، واستطاعت أن تشق طريقها في أقليم الانتصار، وحتى خارجه، بتأثير يتراوح بين مكان وآخر.

وإذا شئنا الأمانة والإنصاف في الحفاظ على جهود الآخرين فإن الكم المترجم من نصوص الإمام إلى اللغة العربية ــ التي نتحدث في مجالها ــ ربما يوفر بمجموعه ومن مختلف الجهات التي بادرت لذلك، ربما يوفر مجموعة ضخمة قد تصل إلى ما يزيد عن خمسة مجلدات ضخمة. ولكن ما يقلل أهمية هذه المادة هو تعدد جهات الإصدار، وتداخل المادة وتكرارها، وافتقارها لمنهجية العرض، لاسيما وأن لهذه المنهجية، حال توفرها، دوراً كبيراً في دعم جهود الباحثين للكتابة عن الإمام الخميني وفكره في النهضة على أسلوب آخر، نطلق عليه الأسلوب الإحيائي. تماماً كما حصل ذلك مع كبار رموز الإصلاح والنهضة ورواد الإحياء الديني في العالم الإسلامي خلال القرن ونصف القرن الماضي.

 

فلو سلطنا الأضواء على المادة المكتوبة حيال شخصية السيد جمال الدين الحسيني المشهور بالأفغاني، لرأينا أن أقلام الباحثين قاربت أفكار السيد من جوانب متعددة، بحيث بلغت غزارة الانتاج حياله حداً استوفى جميع مؤشرات وتفاصيل حياته وفكرة وبمختلف المستويات والرؤى والمناهج.

والمفارقة المذهلة أن شيئاً يسيراً مما حظي به السيد جمال الدين أو من هم سواه من رموز الإصلاح، لم يحظ به الإمام الخميني برغم تفاوت الإنجاز وضخامة ما حققه الإمام الراحل قياساً ببقية رادة النهضة في العالم الإسلامي.

بديهي لا يكمن الخلل في الجانب النظري وحده وعجز أدوات الأداء الفكري في إعطاء فكر الإمام عبر منظومة منسجمة ومدونة، وإنما هناك أسباب وعوامل أخرى.

ولكن مادمنا نتحدث في الجانب النظري فليس هناك ما يمنعنا أن نشير إلى التقصير الفاحش الذي ألمّ به، وعاد بأضرار جسيمة على فكر الإمام  ومنظومته التغييرية.

استقطاب مؤسسي

بعد وفاة الإمام الخميني اختلف الأمر نسبياً، وإن كان لم يشهد تغييراً كبيراً على صعيد عرض أفكار الإمام باللغة العربية؛ فالذي حصل هو أن بادر نجل الإمام الأكبر السيد احمد الخميني إلى تأسيس مؤسسة متخصصة بنصوص الإمام وآثاره بدأت تعمل فعلاً تحت عنوان "مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني"، عمدت هذه المؤسسة إلى إصدار عدد من الأعمال باللغة العربية، ثم شهدت وتيرة الإصدار تصاعداً نسبياً خلال المدة الأخيرة إذ وصلنا منها عدد من الكتب مثل "المرأة في فكر الإمام الخميني" و "تصدير الثورة في فكر الإمام الخميني" وغير ذلك. ومع ما تمثله هذه الخطوات من تقدم كبير باتجاه توفير مادة للباحثين والدارسين كي يتوفروا على إطلالة أشمل على فكر الإمام ومنظومته التغييرية، إلا أنها لم ترتق بأجمعها إلى مستوى المحاولة التي صدرت للتو بعنوان "منهجية الثورة الإسلامية".

أفضل مشروع

ليس من الصحيح المبادرة إلى إطلاق الأحكام في الجوانب الفكرية والثقافية ــ لاسيما إذا كان المسار مايزال مفتوحاً على نتاجات جديدة ــ بيد أن كل شيء في تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني يشجع على إطلاق حكم يفيد بأفضلية هذه المبادرة وتفوقها على كافة النتاجات التي سبقتها.

فمع كتاب "منهجية الثورة الإسلامية" مقتطفات من أفكار وآراء الإمام الخميني" (586 صفحة من القطع الكبير) يكون القارئ العربي، بل الدارس والباحث، أمام عمل متكامل ينطوي على ثراء عريض في تقدير أساسيات الفكر الخميني.

مع هذه المبادرة تكون الجهات المعنية عن فكر الإمام ونهضته قد استطاعت ولأول مرة أن تسجل خطوة فكرية كبيرة جاءت مستوفية لوفرة وافرة من عناصر العمل الناجح، سواء على مستوى المنهج أو على مستوى المفهوم والمقومات الفنية؛ فللمرة الأولى تستطيع الجهات المعنية أن تسجل دون مبالغة أنها قدمت عملاً عن منظومة الفكر التغييري للإمام جاءت في مستوى يواكب متطلبات هذا الفكر، وطبيعة الطلب عليه في العالم العربي. كما أن المنهجية والمحتوى جاءا يماشيان مستوى القدم المنهجي والنظري الذي قطعه مسار البحث العلمي في العالم العربي في المجال المرتبط بدائرة رجال الإحياء والنهضة.

فالذي يتابع عن كثب الإنتاج العربي في مضمار استعراض حياة وأفكار رجال الإحياء الديني في العالم العربي يسهل عليه أن يلمس ثراءً باهظاً على هذا الصعيد؛ فالأقلام العربية خبرت عدداً وافراً من المنهجيات، واستخدمت هذه الخبرة مجتمعة في دراسة الموضوع.

فما كتب عن السيد جمال الدين الحسيني المشهور بالأفغاني ومحمد عبده وعبد الحميد بن باديس ورشيد رضا ومالك بن بني ومحمد باقر الصدر وعبدالحسين شرف الدين ومحسن الأمين العاملي وغيرهم تحول إلى مدرسة في الفكر والثقافة توفرت على أذواق ومنهجيات ورؤى ومشارب متعددة، كل واحد منها يصدر من موقف فكري أو اتجاه في النهضة ينتمي إليه.

وكنا ومانزال نلحّ على أن الإمام الخميني لم ينل ــ مع عظم إنجازه في الفكر والواقع ــ شيئاً يسيراً مما نالته بقية الرموز؛ وبعض الأسباب تعود إلى عقم المناهج المسؤولة عن عرض هذه الشخصية خارج إيران وإلى ضيق أفقها في استيعاب التطور الحاصل في الساحة العربية على هذا الصعيد.

لقد مر على انتصار الثورة الإسلامية ــ وهي إنجاز الإمام الخميني على الأرض ــ قرابة العقدين من السنين وعلى وفاته قرابة العقد، ومن ثم لم تعد لغة وأسلوب الكراريس بالتي تنفع في تقديم صورة شاملة عن فكر الإمام وإنجازه.

بعبارة أوضح أن باحثاً من طراز حسن حنفي أو محمد عمارة أو سمير سليمان أو حسن ضيقة وغيرهم ممن درس أو يريد دراسة الإمام الخميني يتطلع إلى مادة خصبة تنمّ عن احترام شخصية الباحث فضلاً عن احترام فكر الإمام نفسه، وهذا التطلع المشروع تؤمنه إلى حد كبير المبادرة الجديدة المتمثلة في كتاب "منهجية الثورة الإسلامية"، إذ من الأكيد أنه سيملأ فراغاً كبيراً إذا توفرت له ــ هذه المرة ــ شروط التسويق الجيد، ولم تنحسر همة المعنيين على الإنتاج وحده دون استكمال الشوط بإيصال العمل إلى الساحة العربية.

ثم لا ادري ما الذي يمنع مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام من طبع الكتاب خارج إيران، بالأخص وأنا أقدر أن محتواه ووزنه المنهجي والفكري يسمح بطبعه في العديد من العواصم العربية التي تكن احتراماً للعمل الثمين ذي الطابع الأكاديمي، ربما كان في طليعتها دمشق والقاهرة وبيروت.

مزايا العمل الجديد

تتعاضد المزايا المنهجية والمضمونية في منح المشروع شخصيته الخاصة؛ فكما أن العمل يتوفر على مقومات منهجية رفيعة من الناحية الفنية فكذلك بالنسبة إلى المحتوى؛ فالكتاب يمتد على ثلاثة أقسام:

يتضمن الأول تقديم منظومة متراصة من افكار الإمام الخميني ونصوصه حيال الأصول، أصول الإسلام بالمعنى المتداول في أصول الدين، وأصول الفكرة الإسلامية وما تقوم عليه من مرتكزات، أو ما يعبر عنها بالرؤية الكونية ومقومات الأيديولوجيات الإسلامية .

 وفي القسم الثاني يتوفر الكتاب على تقديم صورة متكاملة عن الثورة الإسلامية من حيث الخلفيات التي ساهمت في الانتصار، بالإضافة إلى تفسير الإمام الخاص لهذا الحدث .

إمام القسم الثالث والأخير فقد توفر على تقديم عناصر أساسية في مشروع الإمام بإدارة المجتمع بالمعنى العام لإدارة الذي يشمل الجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وكل ما له دخل في تشييد الاجتماع الديني المعاصر.

لقد جاءت الأقسام مستوفية لعناوينها، بالأخص القسمين الأول والثالث، حافلة بالرؤى والنصوص، موزعة على فصول وفقرات وعناوين دالة على المطلوب، بحيث تكفّل كل قسم عرض منظومة متراصة من الفكر الخميني يعز العثور عليها مجتمعة في المحاولات السابقة التي قدمت فكر الإمام باللغة العربية.

ففي القسم الأول الذي حمل عنوان "الأصول" عرض الكتاب أولاً لأمهات الفكر الخميني على صعيد أصول العقيدة الإسلامية بادئاً بالتوحيد، ثم راح يتدرج بالبحوث بالصيغة التالية: صفات الله، أسماء الله، المعاد، النبوة، حيث أشار البحث إلى ضرورة الرسل وفلسفة النبوات وأهدافها. ثم انتقل إلى بعثة النبي محمد ( ص) والقرآن، ثم الإمامة والتشيع وخصائص الإسلام.

وفي أصول الفكر الخميني تناول هذا القسم أطروحة الإمام في الحكم الإسلامي بدءاً من ضرورة تشكيل الحكومة وانتهاءً بما يرتبط بها من قضايا نظرية، مثل شروط القيادة ومسألة ولاية الفقيه، ثم صلاحيات الحكومة وفيما إذا كانت تتحرك في دائرة تطبيق الأحكام الأولية والفرعية أم تتعدى هذه المساحة لملء منطقة الفراغ، والعمل بالأحكام الثانوية في حال التزاحم وما إلى ذلك من الأفكار الأساسية للإمام في هذا المضمار.

القسم الثاني يعكس ــ  كما ألمحنا ــ قراءة الإمام لحدث الثورة الإسلامية، إذ يستعرض أولاً الخلفيات التي ساهمت في انفجار الوضع وكيف أفضت تبعية النظام البائد واستبداده والفساد الأخلاقي وغياب التنمية وشيوع ثقافة العلمنة والتغريب إلى تأكّل النظام وانبثاق الثورة.

وفي عوامل الانتصار أفلح الكتاب في رصد أفكار أساسية للإمام تدخل في نظريته للتغيير، وذلك على صعيد التكوين الاجتماعي والنفسي والثقافي والديني للشعب.

أما القسم الثالث ــ وهو أوسع أقسام الكتاب وأهمها من الوجهة النهضوية والتغييرية ــ فقد توفر على استعراض أساسيات الفكر الخميني في قضايا خطيرة تشغل الإنسان المسلم، ليس في إيران وحدها بل في كل مكان داخل العالم الإسلامي وخارجه.

وفي أساسية الثقافة والمجتمع طالعنا المشروع بالمحاور التالية: الإنسان والتربية، الخصائص المكتسبة للإنسان، تزكية النفس وعلاقة التدين بالتخصص أو العلاقة بين أهل الفقه وأهل الخبرة، مبادئ تربية الإنسان وأساليبها، العوامل التربوية والثقافية، مؤسسات الثقافة والتربية، الجامعة والجامعيون ــ حيث انطوت هذه الفقرة على رؤى نافذة حيال التغريب والنخبة والمثقف والمثقف الديني ــ العلماء، الحوزات العلمية، الفن ووسائل الترفيه والتسلية.

وفي أساسية الشعب أو الإطار الاجتماعي استعرض المحاور التالية: الشعب الإيراني، المستضعفون والمستكبرون، العمال، النساء، الأقليات القومية، الأقليات الدينية.

وفي إطار فصل حمل عنوان: "السياسة: مفاهيم أساسية" عرض لمكونات تأسيسية مهمة من خلال المحاور التالية: الاستقلال، الحرية، موقع الجماهير، الانتخابات، مجلس السلطة القضائية، مسؤولو النظام، الأحزاب والتنظيمات الإسلامية.

وفي فصل السياسية الخارجية عرض المشروع لأساسيات الفكر الخميني على هذا الصعيد كاشفاً عن رؤية الإمام للنظام العالمي ولعلاقة المسلمين مع هذا النظام، ماراً بمفاهيم ملتبسة مثل: تصدير الثورة، حماية المظلومين، وغير ذلك.

وبدلاً من أن ينساق الكتاب وراء ردود الفعل في معالجة مقولة "الإرهاب" عرض لقضية الجهاد الإسلامي في ضروراته ووسائله وأماكنه راهناً.

وفي الجانب الاقتصادي تناول أفكار أساسية على صعيد صياغة رؤية مذهبية (منهج أو طريقة) للتعاطي مع هذا الموضوع الخطير، ماراً في ثنايا ذلك على قضايا أساسية مثل: التبعية، التخلف، الاكتفاء الذاتي والمجال المفتوح لحركة الاقتصاد في مجتمع المسلمين.

مع هذا الكتاب لا تبقى حجة لباحث أو دارس يود أن يتوفر على إطلالة متكاملة على فكر الإمام التغييري ويرغب برصد أساسيات هذه النهضة والبارز من منهجياتها.

ولكن تبقى إشارة مجددة إلى أهمية عنصر التوزيع وإعادة طبع الكتاب خارج إيران بغية وصوله ليد المعنيين من الباحثين والدارسين. كما تبقى هناك إشارة إلى خلل فني صاحب قضية المصادر؛ فمع أن مصادر النصوص مذكورة بأجمعها آخر الكتاب إلا أنه ليس هناك هوامش في الداخل تشير إلى موقع كل نص من تلك المصادر! وهذا خلل نأمل أن يتم تداركه في الطبعة اللاحقة أن شاء الله.