الخُمَيْنِي يُرَتِّلُ فَليَنْصِت العَاشِقُون

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

تمرُّ علينا ذكرى هذا المجاهد العظيم ونحن نعيش ظروفاً صعبة جداً ما أحوجنا فيها إلى الاستنارة والاستضاءة بسيرة هذا الرجل ونهجه علّنا نجد فيها بلسماً لجرحنا النازف وعلاجاً لوضعنا المتأزّم.

إنَّ تعاليم وأحكام الدين على وضوحها إلا أنها قد يعرض عليها الإجمال ويحار الفكر في فهمها بسبب اختلاف آراء الرجال وتضارب الاجتهادات واختلاف السلائق إلا أن في سيرة أولياء الله تعالى ما يزيح ذلك الإجمال، ويرفع الغموض عن أحكام الدين وتعاليمه.

هذه إطلالة سريعة في سيرة هذا المجاهد الكبير أذكِّر بها نفسي وأضعها أمام غيري علّه يستفيد منها؛ فترفع عنه إجمالاً؛ أو توضِّح له منهجاً، أو تكون داعياً له في التعرف أكثر على حياة هذا الرجل وسأحاول أن أقف عند بعض ملامح شخصية صاحب الذكرى.

:: الثبات والصمود: إنه ثبات الأبي الشجاع لا المتهوِّر الجاهل. إنه صمود ينطلق من قيم الدين ومبادئه لا صمود الأنانيات والأهواء. كان "أعلى الله مقامه" دائم التذكير لمسؤولي وأركان النظام الإسلامي بضرورة الثبات والصمود وكان يذكرهم بأن الأعداء إذا ما وجدوا منكم تراجعاً عن مواقفكم بمقدار خطوة طمعوا في التقدم نحوكم خطوات، وأن ثباتكم على مواقفكم وصمودكم فيها يمنع الأعداء من استهدافكم والتقدّم نحوكم.

ولا أراني محتاجاً إلى إقامة دليل و برهان لإثبات صحة هذه المقولة بعد أن صدّقتها الوقائع والأحداث. إنَّ ما حققته الثورة المباركة من انتصارات وما وصلت إليه من إنجازات إنما هو بعد العناية الإلهية ببركة الثبات والإصرار على مواقفها المبدئية وعدم التراجع عنها، وهي اليوم تحصد نتائج ذلك الصمود والثبات.

نعم، إنها تعيش العزة والكرامة وتتفيَّء ظلال الشموخ والعظمة. وما هي النتائج التي يمكن أن

نتصورها لو أنَّها تراجعت وقدمت التنازلات وخضعت للإملاءات وفزعت عند حدوث الملمات؟

أفهل يمكن لها أن تقف موقف الشموخ والتحدّي، أو هل يمكن أن تصل إلى ما وصلت إليه من تقدّم حتى أصبح الكثير من دول العالم ينظر لها بإعجاب وإكبار؟

:: المعيارُ والميزان: كان يُذكِّر "رحمه الله" المسؤولين ويقول لهم: إذا وجدتم أعداءكم راضين عنكم وعن مواقفكم فاعلموا أن هناك خللاً متمثلاً فيكم. إن الأعداء لا يرضون عنكم حباً فيكم فإذا ما رضوا عنكم كأفراد أو جماعات فإنَّ ذلك يكشف أنَّ النهج الذي تسيرون عليه يتلاقى وأهدافهم أو على الأقل لا يهدد مصالحهم. وإنَّ الواقع قد شهد بما يقول"رحمه الله"؛ فإنَّ أعداء الأمة والظالمين لا يرضون عنا كجماعات وأفراد إلا لخلل في منهجنا وفي أساليب عملنا.

إنَّه لمعيار واضح، ومقياس لا يخطئ في الأعم الأغلب. فلنتخذ هذا المعيار من هذا الرجل العظيم ولنطبّقه على سلوكنا ومواقفنا حتى نكون صادقين مع أنفسنا ومع جماهيرنا وسوف نجني ثماراً كثيرة بإذن الله تعالى.

:: التوكّل على الله تعالى والوثوق بنصره وتأييده:

* إنه رجل الأرض المرتبط بالسماء.

* إنه القائد الإلهي.

* إنه المؤمن بالمعادلات الإلهية وغلبتها على معادلات الأرض والمادة.

* إنه يحتقر معادلات الأرض والحسابات المادية أمام وعد السماء.

* إنه يكذِّب معادلة مفادها: « الواحد يقابل واحداً « ويؤمن بقوله تعالى: ﴿... إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ الأنفال/ 65.

* إنه لم يعتمد على العدد والعدّة وحدهما بعد أن سمع قوله تعالى: ﴿... وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ التوبة/ 25. وارتوى من ﴿... حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ آل عمران/ 173.(1)

:: المُحب المحبوب: لقد أحبَّ شعبه فأحبوه. علاقة وطيدة تجاوزت المجاملات والمزايدات واستقرّت في القلوب واستوجبت ثمناً من المحب والمحبين فكان الثمن الذي قدّمه المحب متمثلاً فيما يلي:

1ـ الثقة في الناس والإيمان بهم وبوقفتهم وقدرتهم على مواصلة الطريق.

يقال بأنه قد قيل له بأن الناس قد تعبوا من الحرب وكثرة التضحيات التي بذلوها.

فأجابهم: أنا أعرف هذا الشعب أكثر منكم.

2ـ الاعتراف والإشادة بشعبه: وهو الذي ع عن شعبه بأنه ولي النعمة، وكان دائماً يخاطب المسؤولين بأن هذا الشعب هو ولي نعمتكم وهو الذي أوصلكم إلى هذه المراكز التي أنتم فيها، وهو الذي أخرجكم من السجون وطرد سجّانكم؛ فلا تتنكروا لهذا الشعب وقوموا بخدمته وتواضعوا له. وكان يوصي بإطلاع الشعب على مجريات الأمور وأن لا يكون التعامل معهم على أنهم أجانب وأباعد يتستر الإنسان عنهم وإنما هم أرحام ومن أفراد الأسرة فلا ينبغي التكتم وإخفاء الأمور عنهم.

3ـ الميزان هو رأي الأمة: كان يكرّر هذه العبارة: "ميزان رأي مِلّت" يعني أن الميزان هو رأي الأمة. وهو لا يريد من ذلك إمضاء مبدأ الحكومات العلمانية القاضية بحاكمية الشعب؛ وإنما أراد بتلك العبارة احترام إرادة شعبه في الدائرة التي يحقُّ له أن يبرز إرادته فيها، وأن يقول كلمته فكانت لإرادة الشعب حاكمية ولعبت دوراً مهماً في الساحة السياسية وأثبتت تلك الإرادة فاعليتها في كثير من المحطات المفصلية في مسيرة الشعب المسلم.

وقد تفاعل معه شعبه، وقدّم له الغالي والنفيس، وآمن بقيادته وبحكمته، وسلّم له القِياد وعشقه وهام في حبه، وتعلّق به؛ محققاً بذلك علاقة قلَّ نظيرها في المجتمعات البشرية فيما وصل إلينا وسمعناه من العلاقات التي تحققت بين القادة والشعوب.

:: التكليف الإلهي: كان يقول نحن موظفون أن نعمل بتكاليفنا وأداء المسؤولية الواجبة علينا ولسنا مسؤولين عن النتائج؛ فإن تحققت النتائج كان خيراً وإلا فقد قمنا بالمسؤولية وأداء التكليف. فلا ينبغي للإنسان أن يكون أسيراً للنتائج والمكتسبات إذا ما تعلّق به التكليف، وارتبطت به المسؤولية. ولا ينبغي للحسابات المادية أن تعيق من حركة الإنسان، والنتائج بنظرةٍ دينية مبدئية لا تتخلّف عن أداء التكليف والقيام بالمسؤولية. كثيراً ما تتعلّق بالإنسان

المسؤولية ويلزمه التكليف لكنه يتقاعس عن أداء المسؤولية والقيام بالتكاليف، إما لتردد يقهره، أو لحسابات خاطئة يعوِّل عليها يتضح له خطأها بعد فوات الأوان.

وختاماً لهذه الإطلالة أودُّ الإشارة إلى أننا نحيي ذكر هذا الرجل كلَّ عام ويتكلم الخطباء وتُلقى الخطب ويشاد بذكر الرجل ومواقفه وإنجازاته، ويعتبر الكثير منا هذا الرجل قدوة صالحة للمجاهدين والسائرين في طريق ذات الشوكة.

ولكن لنا أن نسأل ونقول:

:: هل نعتقد نحن بهذا الرجل وبسيرته الجهادية؟

:: وهل نتّخذه قدوةً لنا؟ وكم نتأثر بمواقف هذا المجاهد العظيم؟

:: وهل الدرب الذي نسير عليه والمواقف التي نتخذها تلتقي والخط الذي سار عليه هذا الرجل؟

أترك الجواب للقارئ الكريم.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين.

المكان: قرية بني جمرة. اليوم: يوم السبت وفي ليلة الاثنين. الموافق: 31 / مايو و 1 / يونيو / 2008 م. التاريخ: 27 - 28 / جمادى الأولى / 1429 هج. المناسبة: الذكرى التاسعة عشر لرحيل الإمام الخميني.

ــــــــــــــــ

(1) تمام الآية هو: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ آل عمران/ 173